الغربة

أحمد صرصور

[email protected]

أيا لهذه الشجرة الصابرة!!! 

شجرة توت حزينة, شاء قدر الله أن تنبت في ساحة هذا البيت القديم. لا ترى أحداً من البشر سوى صاحبة البيت. امراة هرمت أمامها وحيدة حزينة. لا تسمع اصواتا الا زقزقة عصافير الصباح. ومناجاة هذه العجوز ربها يومياً أن يحفظ ويعيد لها زوجها وابنها المهاجرين الى بلاد الغربة.

شهدت هذه الشجرة زفاف تلك العجوز في صباها على سيد الشباب. الذي ضاقت به ابواب الرزق, فقرر ان يهجر عروسه الحامل؛ ليذهب ويدق ابواب الغربة, عسى ان يجد فيها الرزق المنتظر

رغم الحزن على فراقه, باركت له مسعاه. على أمل أن لا يطيل الغربة ويختصر ايام الفراق. واجتضنته تحت هذه الشجرة مودّعة إياه بقبلة حنان تخالجها حسرة الفراق الموحش. تاركا في احشائها جنينهما البكر.

مرّ العام الاول ورأى بكرها النور. كان لها خير مواسٍ في وحدتها. وترعرع الابن موازٍ لترعرع حنينها لابيه الذي تلاشت اخباره حتى القطيعة.

لم يعد هنالك رسائل تأتي من الغربة تحمل نقود العيش الزهيد. انقطعت اخبار الزوج. ولم يكن هذا الامر الا اخر اهتماماتها. بل مساورة الشك لقلبها بان مكروها اصابه, هو الذي اقلق حواسها وجعلتها تعيش اسوأ ايامها

دامت القطيعة سنوات, اشتدت خلالها سواعد الابن الذي كان يرى القلق الشديد في عيني امه على مصير ابيه. لذا قرر وهو في ريعان شبابه, ان يتخذ قرارا رجولياً اكبر من حجمه. قرر السفر الى الغربة باحثا عن ابيه, الذي لم يره قط. متسلحا بصورة فوتوغراقية( اسود ابيض) بالكوفية. سلاح يكاد أن يعجز الأب أن يميز نفسه فيه, إذا عرضت عليه تلك الصورة. فكيف لقاطني الغربة أن يتعرفوا على شخص بكوفية وشنب من خلال صورة التقطت قبل أكثر من عقدين من الزمن. فيما إذا ابرزها أمامهم لمساعدته قي الوصول إلى أبيه؟؟؟

ومرة أخرى بدموع الألم. تودع الأم ابنها الراحل إلى الغربة أمام ناظري شجرة التوت, تودعه والحرقة الممزوجة ببصيص من الأمل تعتصر قلبها. لعل وعسى في أن يأتيها بأخبار أبيه.

وصل الابن إلى أعماق الغربة, فاحتضنته كما احتضنت اباه سابقا. انبهر بمناظرها الجميلة الخلابة. مناظر لم تألفها عيناه من قبل. حاله حال أبيه عندما وطأت قدماه الغربة لاول مرة.

بدأت لعبة المقارنة في رأسه, بين حياة الغربة وحياة وطنه. كل شيء هنا يبتسم, حتى ليلهم لا تفارق البسمة محياه. تعال يا ليل وطني الحزين. تعال وتعلم من نظيرك في الغربة المرح والفرح عساك أن تبُهج شعبي بأفراحك. عساك أن تنسيهم همومهم.

انغمس الابن في ملذات الغربة ونسيّ ما جاء من أجله. كما نسيّ أباه أمه من قبل. ابتلعته الغربة بلا مقاومة. استسلم لها بسهولة, فهذا ما يتمناه شبابه.

واستمرت شجرة التوت في مزج ثمارها بآلام الأم الصابرة وأحزانها. آلام الحنين والشوق لابنها وابيه. هذه الشجرة التي اقسمت أن تبقى في وطنها مغروسة في أرضه. لا تغادره, ثابتة بأغصانها معطاء بثمارها رغم الألم والحزن.

هذه الشجرة شهدت كل دمعة ذرفتها عيون الأم . شهدت شبابها وكهولتها. شهدت تجاعيد وجهها وشعرها الأبيض وذهاب بصرها. لكنها عجزت أن تشهد نهاية الأم الحزينة التي خرجت كعادتها إلى أطراف القرية تنتظر عودة أعزائها. تتحسس جدران أزقتها بعد أن ذهب بصرها في حال سبيله. وصلت الى ملتقى مغيب الشمس على اوطانها. لكن قدماها خانتاها هذه المرة وقادتاها إلى الهاوية المحيطة بالقرية. هوت بحسمها إلى أعماق الغربة ولكن روحها علت إلى السماء الى غربة الصابرين المحتسبين.