من أمهات الخواطر !

أستغفر الله ، لم أقصد أنها المعضلة الكبيرة التي يعاني منها الناس اليوم ، ولكن الذي يعاني من معضلة خاصة به يراها من أكبر المعضلات ، أو هكذا يُخيل إليه . وكما يقال : كلٌّ يغني على ليلاه ، ويبدو أن ليلى أشغلت معظم الناس من إحدى زوايا النكد المستشري كفيروس كورونا  ، وكأنها ليلى الجميع أو هكذا هــم أردوهـا  ، أو هكذا يخيل إليهم أيضا . وفي ذلك عزاء غير مريب لهم ، مادام الهمُّ واحدا والكرب غطى وجوه الجميع ، فأصبحت شاحبة تناغي حمرة الأفق الباهتة عند ساعات الغروب . على امتداد بيداء مقفرة ، لم تقدر على سكناها حتى وحوش الغاب . وهذا مايجمع الناس في هذا المنحنى ، فيشكو الجار لجاره ، والصديق لصديقه رغم جفوة كانت بينهما لسبب ما :

أجارتنـــا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقــــــــــام عسيب

أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب

يتحدث الناس عن أمور  ترعبهم ، وآخرون  يظهرون لا مبالاتهم رغم أنهم مرغمون على التصديق بما يدور حولهم .  وتختلف رؤية الذي يغشى غمار الحرب ، عن ذاك الذي اكتفى بمراقبتها من بعيد ، ليعيش محروما من شعوره بالفرح أوالحزن أوالخوف. وتثقل كاهل آخر ربما فرحة إنهاء وجبة غسيل الملابس ، أو كيّها قبل انقطاع التيار الكهربائي أوانقطاع المياه! شحن الجوّال، فيحمد الله على إنهاء هذه التي يراها المعضلة . وحتما يستغرب الكثير كون ذلك معضلة! في الوقت الذي يُعتبر أمرا طبيعيًا لدى غيره . حقيقة لن يعرف ذاك الذي يقف بعيدا عن حدود هذه الحياة مشاعر هذه اللحظات التي قد تبدو سخيفة من نظرته الخاصة .

و هناك شعور الرعب حين تستيقظ صباحا على أصوات تغريد طائرة الميغ حين  تتكوّر في سريرك وتغمض عينيك لتعيش في لجة معتمة تعتصر جبينك بيديك ،   تردد بأعماقك كل الأدعية المأثورة ،  والآيات المنجيات من نزول الرزايا لحين سقوط الحمولة! فتفتح عينيك بعد غياب الصوت ، وتنظر حولك تراقب أنفاسك هل لازلت حيّا ! وتطمئن على مَن هم حولك فتردد : الحمد لله لازلنا على قيد الحياة .

ثم شعور الخوف حين يستهلكك طوال الوقت فلست تدري أبستطاعتك تأمين الطعام لعائلتك حين تقف الساعات الطِوال  تتأمل أسعار المواد الغذائية ، وتعدّ مابقي في جيبك وأنت ببداية الشهر !أبمقدورك أن تشعرهم بالأمان؟ هل تقصّر بواجباتك تجاه عائلتك؟ هل فعلت كل ما بالإمكان لأجلهم؟ نعم كل هذه التساؤلات وغيرها تتصارع داخلك طوال الوقت ، وتجلد ذاتك حين يجيب ضميرك أنك مقصّر بل أكثر !  تحاول أن تكذّبَ ما رأته عيناك تود لو تقتلعهما!  تتمنى لو أن مايحدث ليس إلا كابوسا عندما تفتح عينيك سيزول! 

لكنه لا يزال مستمرا ، وتزداد الأوضاع سوءًا ، وينشغل الجميع بالأحداث تارة بجائحة كورونا ، وتارة بهبوط وارتفاع الدولار ، الفقر ، الأوبئة، بالإضافة إلى الحرب التي باتت تفاصيلها معتادة وروتينية . الشهداء ليسوا إلا أرقاما تحصى ، والفقر والأوبئة  والموت!  الجميع قيد انتظار نهاية البؤس ، أو هذا الكابوس المرعب الذي نحياه منذ سنوات ،  ولكن ليخبرني أحدكم هل بنهايته ستعود الحياة كما كانت؟ أولئك الذين هاجروا بعيدا هل سيتقبّلون العودة لوطن نصفه مقابر ونصفه الآخر بكاء على من يصعب عودتهم من تحت التراب ! بيوت نجت لتحكي عمَّن قُتلوا بأرضها ، وعائلات نجت مفترشة العراء بعد أن فقدت بيتها وكل ذكرياتها التي عاشتها فيه .

وعلى الرغم من أن نهاية كل ماذُكر _  إن ساءت الأمور  _ هو الموت ، فالموت حق إلاّ أننا لم نستطع حتى الآن السيطرة على هذا الهاجس . خوفنا على من نحب محاولتنا أن نبعدهم عن الموت ، ونحميهم منه تأمينهم على حياتهم ومحاولة إسعادهم . نحاول بشتى الطرق أن نفتديهم بأرواحنا لو كان ذلك بالإمكان ! لازال يباغتنا ويخطف منّا من اعتدنا وجودهم قربنا ، فنظن برحيلهم أن الحياة توقّفت لكنها مستمرة إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى . ورغم نوبات النكوص والتيه التي نصارعها لايزال الوطن عالقا هناك في صدق ترديد نشيد العلم بنشاط ، في الساعة الأولى داخل المدرسة ، بذاك الأمل الذي نرجوه ونتيقن أنه سيكون يوما حقيقة بإذن الله الذي بيده تجري المقادير سبحانه وتعالى . وبصوت اليقين القادم من كوة ضيقة اعتدنا على النظر من خلالها ساعات الضيق الشديد ، ليؤكد لنا أنه ابتلاء وحتما سينقضي . إشراقة البراءة في وجوه أطفالنا ، وتمتمات الجدَّات ــ وهُنَّ يسألن الله النجاة والخلاص ــ والصوت القادم من وراء الغيوب ، كلها تقدم العزاء للثكالى ، وتفتح أمام الناس صفحة سُنة الله في خلقه ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايلمون .

وسوم: العدد 888