خواطر من الكون المجاور، الخاطرة 159 : حقيقة بابا نويل ( سانتا كلوز)

في كثير من دول العالم وخاصة المسيحية منها وفي اﻷسابيع اﻷخيرة من نهاية العام عندما يأتي موسم إحتفالات عيد الميلاد ورأس السنة تظهر في الشوارع واﻷسواق ومختلف اﻹعلانات شخصية طريفة تمثل رجل عجوز سمين على وجهه علامات السعادة والفرح له لحية ناصعة البياض ويرتدي بزة حمراء بأطراف بيضاء وكأنه يأتي من بلاد الثلوج ، يحمل على ظهره كيس كبير أحمر مليء بالهدايا للأطفال ، أو نجده في اﻹعلانات واﻷفلام يركب مزلاجة سحرية تجرها بعض اﻷيائل تحمل خلفها هدايا كثيرة ليتم توزيعها بعد منتصف الليل على اﻷطفال ، حيث نراه يدخل من مداخن مدافئ المنازل ليضع هدية كل طفل تحت شجرة الميلاد.

هذا العجوز الطريف له أسماء عديدة تختلف من بلد إلى بلد ، منها بابا نويل ، أو سانتا كلوز ، أو سانتا نيكولاس ، أو ايوس باسيليس.او أبو الكريسمس ، أو بابو ناتال ، ديد موروز ، كريست مان ، جانيشا. ....

كثير من المقالات والقصص واﻷفلام تحدثت عن شخصية بابا نويل ، وفي جميعها يبدو لنا وكأنها قصة خرافية صنعها عقل إنسان ولكن رغم ذلك نجدها قد أخذت مكانا هاما جدا في عادات وتقاليد مواسم إحتفالات عيد الميلاد ورأس السنة ، ونجد في الكثير من اﻷحيان أن مكانة شخصية بابا نويل في هذه اﻹحتفالات قد أصبحت - وخاصة عند اﻷطفال - أهم من ميلاد عيسى المسيح نفسه (عليه الصلاة والسلام ) ، لذلك نجد بعض رجال الدين وخاصة غير المسيحيين يعارضون إستخدام هذه الشخصية في إحتفالات رأس السنة ، بحجة أنها من بقايا تقاليد الديانات الوثنية القديمة.

فما هي حقيقة هذه الشخصية وهل هي فعلا من تقاليد وعادات الديانات الوثنية القديمة وأنها تعارض تعاليم الديانات السماوية وأن المشاركة بها يؤثر على إيمان اﻹنسان ويساعد على فساد المجتمع أم أنها من تقاليد الديانة المسيحية وأنها عادة بريئة تساعد على تنمية المحبة والسلام في نفوس أفراد المجتمع وخاصة الأطفال ؟

قبل ان نحلل ونبحث في حقيقة ما يحدث واقعيا اليوم في موسم إحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة ، لا بد لنا أن نتحدث عن جذور ومصادر هذه الشخصية تاريخيا لنأخذ فكرة عن روح هذه الشخصية ودورها في المجتمع وتقاليده. فما يهمنا هنا هو : هل ظهور شخصية بابا نويل كان من روح السوء هدفها الحقيقي تشويه شخصية عيسى المسيح،أم أن ظهورها قد حدث بحكمة إلهية لتضيف إلى شخصية المسيح طابعا جديدا يساهم في فهم دور المسيح عند ظهوره ثانية ، ليأخذ العالم فكرة كاملة عن حقيقة عيسى المسيح ودوره في مصير اﻹنسانية ؟

أول الإحتفالات ببداية السنة في يوم واحد يناير ( كانون الثاني ) بدأت في الشعوب الغربية عام 48 قبل الميلاد في عهد قيصر حاكم اﻹمبراطورية الرومانية ، ومنذ ذلك الوقت أضحت جميع الشعوب اللاتينية وكذلك الشعوب التي تقع تحت سيطرة اﻹمبراطورية الرومانية تقيم هذه اﻹحتفالات . ولكن عندما أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية على يد قسطنطين اﻷكبر ، أراد أن يفصل بين تقاليد الديانة الوثنية والديانة المسيحية ، فأمر بمنع المسيحيين أن يحتفلوا بعيد السنة الجديدة ، ولكن بسبب كون عيد الميلاد يأتي قبل أسبوع من عيد السنة الجديدة وكون عيد الغطاس كذلك الذي يأتي بعد ستة أيام من عيد السنة الجديدة لم يستمر هذا المنع طويلا وسرعان ما عادت احتفالات بداية السنة الجديدة لتصبح عيدا مع اﻷعياد الدينية المسيحية ، وهكذا تم اﻹعتراف بهذا العيد من الكنيسة نفسها ولكن بعد تنقيته من جميع تلك العادات الوثنية التي تناقض تعاليم الدين المسيحي ، وهكذا أصبح عيد رأس السنة عيد شعبي مهم عند الشعوب المسيحية له إحتفالاته الشعبية الخاصة.

في عام 270 ولد القديس نيكولاس في مدينة باترا من عائلة يوناني غنية جدا ، وفي سن مبكرة أصبح يتيما وورث ثروة كبيرة ، ولكن رغم ثروته الكبيرة كرس حياته لعبادة الله ، وبعد زيارته للأماكن المقدسة في مدينة القدس عندما عاد إلى وطنه أصبح كاهنا في الكنيسة المسيحية وعندما توفي رئيس المطارنة ، بوحي إلهي - كما يقال - اختاره المطارنة لمنصب رئيس المطارنة ، ومن هذا المنصب بدأ نشاطه في اﻷعمال الخيرية لحماية ورعاية الفقراء والمحتاجين فقام بإنشاء المستشفيات والجمعيات الخيرية وبسبب مساعدته وحمايته للمضطهدين المسيحيين الملاحقين من قبل السلطات الرومانية ، قبض عليه وتم زجه في السجن وهناك تعرض هو أيضا لأشد أنواع التعذيب ، ولكن عندما إستلم العرش اﻹمبراطور قسطنطين اﻷكبر تم تحرير جميع المسيحيين ، وكان هو من بينهم فعاد ثانية إلى رئاسة المطارنة ، وراح يتابع أعماله الخيرية في حماية ورعاية الفقراء والمحتاجين والمرضى والتي كانت هي الأولى في تاريخ المسيحية. لذلك أصبح القديس نيكولاس عند المسيحي ، قديس اﻷطفال الذي يرعاهم ويحميهم. وليصبح فيما بعد بابا نويل شعوب الكنيسة الغربية.

في 6 ديسمبر عام 343 توفي القديس نيكولاس ، وربما يوم وفاته التي تصادف في نفس شهر عيد الميلاد قد أعطى هذا الشهر طابعه المعروف المرتبط بسعادة اﻷطفال ومرحهم.

هناك قديس آخر يمثل شخصية بابا نويل للمسيحيين الاورثوذوكس وهو القديس باسيليوس الاكبر .ولد عام 330 من قيصاريا في آسيا الصغرى ( تركيا اليوم ) قضى ايام حياته المبكرة في تلقي العلوم والمعارف حتى أصبح من كبار الحكماء وعلماء اللاهوت . فعارض البدع والخرافات التي كان يستخدمها بعض رجال الدين . واستطاع أيضا اقناع عدد كبير من الاغنياء أن يساهموا بأموالهم في مساعدة الآخرين . فقام بإنشاء مراكز خيرية أجتماعية صحية تقوم على رعاية الفقراء والمحتاجين وتعالج المرضى منهم بغض النظر عن نوعية إنتمائهم الديني . لذلك عندما توفي سار في جنازته حشد كبير من الناس مسيحيين ويهود ووثنيين .

وشاءت الاقدار ان يكون يوم وفاته 31 ديسمبر اي آخر يوم من ايام السنة وان تكون جنازته في 1يناير في اول يوم من السنة . فاصبح عيد هذا القديس في حياة المسيحيين الاورثوذوكس عيد يجلب البركة والتوفيق والحظ السعيد

في القرن التاسع عشر تم إعتبار القديس نيكولاس ( سانتا كلوز ) ، في معظم البلاد الأوروبية على أنه ( ولد المسيح ) الذي يأتي في الخفاء ويجلب الهدايا للأطفال.

في عام 1809 في كتاب ( تاريخ نيويورك ) للكاتب واشنطن ايرفنج ذكر في وصفه لظهور القديس نيكولاس وهو يركب الحصان ، وفي عام 1812 نقح طريقة ظهوره ، فأصبح القديس نيكولاس يأتي على عربة تطير بين اﻷشجار واﻷبنية ، وفي عام 1823 ، كتب القسيس كليمنت كلارك مور قصيدة للأطفال في صحيفة نيويورك ، في هذه القصيدة يصف القديس نيكولاس بأنه يأتي على عربة سحرية تطير يجرها ثمانية أيائل ، ويدخل من مداخن المنازل بشكل خفي ليوزع الهدايا على اﻷطفال وهم نيام.

الرسام اﻷمريكي توماس ناست هو الذي أعطى الشكل المعروف اليوم للقديس نيكولاس فأصبح شكله رجل سمين ذو وجه مرح له لحية بيضاء . أما البزة الحمراء فهي كانت فكرة شركة كوكا كولا التي إستخدمت شخصية القديس نيكولاس لتروج مشروباتها ، والتي بفضل دعاياتها إستطاعت أن تعطي هذه الشخصية شكلها المعروف اليوم في جميع أنحاء العالم.

عندما بدأت شخصية بابا نويل المعروف باسم القديس نيكولاس في الغرب تظهر في القصص والافلام والدعايات . راح مسيحيو الشعوب المسيحية الشرقية بدورهم يستخدمون القديس باسيليوس لتعبر عن شخصية بابا نويل الذي يجلب الهدايا والألعاب لأطفالهم .

لذلك نرى ان بابا نويل الشعوب الغربية يأتي ليوزع هدايا الاطفال في ليلة عيد الميلاد الذي يصادف 25 ديسمبر . بينما بابا نويل الشعوب الشرقية يأتي ليلة رأس السنة ليوزع هداياه على الاطفال.

هذا الاختلاف بين موعد قدوم بابا نويل بين عيد الميلاد وعيد السنة الجديدة ليس صدفة ولكن له معنى ان الغربيين يحتفلون بميلاد المسيح الذي حدث قبل ألفي عام ، اما الشعوب الشرقيين فيحتفلون بقدوم المسيح الذي سيأتي في المستقبل .

الآن اذا تمعنا جيدا في صفات بابا نويل العامة يمكننا أن نأخذ فكرة عن المسيح في ظهوره الثاني ..فهو سيأتي وستكون أهم أدواره هو إعادة البسمة الحقيقية على وجوه الاطفال الذين وللاسف اليوم يعيشون في بيئة روحية لا تناسب تكوينهم الروحي على الاطلاق . حيث الظروف من حولهم دفعت بعضهم الى حب العنف وبعضهم الى ارتكاب الجريمة . فلأول مرة في تاريخ البشرية نجد ولادة ظاهرة جديدة تدعى (الجريمة الطفولية ) والتي تحدثت عنها في مقالات عديدة.

عيد بداية العام الجديد والذي يرمز الى المسيح الذي سيأتي في المستقبل يتضمن هذه العادات :

- ربات البيوت خلال الأيام الاخيرة من العام القديم تصنع أنواع مختلفة من الحلويات لتقدمها لكل زائر يدخل البيت.

- في ليلة رأس السنة يجتمع جميع أفراد العائلة الكبيرة ( آباء، أبناء ، أحفاد) حول طاولة رأس السنة وقبل ثوان من الساعة 12 أي قبل الدخول بالعام الجديد يطفئون اﻷنوار وعندما تصبح الساعة الثانية عشر لتعلن إنتهاء العام القديم وبداية العام الجديد تضيء اﻷنوار ثانية ويبدأ أفراد العائلة بإلقاء نشيد العام الجديد ثم يتبادلون التحية والتمنيات السعيدة .

- بعد هذه اﻹحتفالات في رأس السنة ينام اﻷطفال ، عندها يضع اﻵباء الهدايا تحت شجرة الميلاد وكأنها هدايا جلبها لهم بابا نويل، وعندما يستيقظ اﻷطفال ، يرى كل طفل هديته ليعلم أن الله يراه ويسمع دعائه لذلك فهو أرسل له هديته مع القديس بابا نويل. فمعروف عن بابا نويل انه يجلب الهدايا ففط للاطفال الذين قاموا بفعل الاعمال الصالحة طوال ايام العام

- في صباح أول يوم من العام الجديد ، جماعات صغيرة من اﻷطفال يخرجون معا ويذهبون إلى المنازل الحي أو المحلات و ييضربون ضربات خفيفة بقضيب حديدي صغير على مثلث حديدي صغير ليخرج صوت موسيقي ثم يلقون على أصحابها نشيد العام الجديد ليجمعوا بقشيش من أصحابها كنوع من تعاون اﻷهالي في المساعدة بمصروفات أطفال الحي.

- اليوم اﻷول من العام الجديد يعتبر يوم مقدس يجب على اﻹنسان أن يسامح من أساء إليه وأن ينسى كل ما حدث من سوء تفاهم ومشاكل مع اﻵخرين في العام القديم ، لتعود العلاقة بينهم على أفضل حال مع العام الجديد ، وفي هذا اليوم لا يجب ذكر أسماء مخلوقات أو حيوانات شريرة ووكذلك يجب أن تكون مواضيع المحادثات عن الطيبة والمحبة والسلام وعن كل شيء يساهم في تنمية روح الخير في نفوس الناس.

على هذه العادات بدأت الاحتفالات بأعياد الميلاد والعام الجديد ، ولكن اليوم نجد الامور قد خرجت عن شكلها الطبيعي حيث بدأت هذه الاعياد تدخل تحت سيطرة الاستهلاك التجاري بهدف الربح المالي وهذا ما جعل هذه الاعياد تخرج عن شكلها الحضاري لتأخذ شكلا آخر فيه الكثير من الشوائب الوثنية . اتمنى من اخواننا المسيحيين ان ينتبهوا الى هذه التغييرات السلبية التي بدأت تشوه موسم اعياد الميلاد و رأس السنة ..وكل عام وانتم بخير

وسوم: العدد 753