فضيلة الشكر

رحيق المنابر (27)

فضيلة الشكر

محمد جمعة

الحمد لله خلق فسوى ، وقدر فهدى ، ورزق فوسع ، واغدق فأشبع ، وجمَّلَ فأبدع ،ونصلى ونسلم على إمام الشاكرين ، وقدوة الصابرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وبعد :

أيها المؤمنوا اعلموا ان تقوى الله عزل وجل ومخافته هي الخطوة الأولى الموصلة الى الشكر، ولذلك قال الله تعالى { واتقوا الله لعلكم تشكرون } آل عمران. فمن لم يتخلَّ عن حمأة المعاصى فلا يحلم ان يكون من الشاكرين ، لأن العاصى ليس من الشاكرين فيما يعصي الله فيه ، ولو كان ممن يتقي غضب الله لحملته تقواه الى ساحة الشكر ، الم تلحظ أن انوار التقوى ، ولذة العبادة ، حملت نبينا عليه الصلاة والسلام الى مقام الشكر ، فكان يقف - عليه الصلاة والسلام - بين يدي الله في جوف الليل يناجيه ويناديه ويدعوه ويتذلل له ، ومع شدة الإعياء وتورم القدمين الشريفتين يقول صلى الله عليه وسلم : ( أفلا اكون عبدا شكورا ) فهو سيد الشاكرين مع شدة الجوع الذي كان يطوي بطنه ، وهو سيد الشاكرين ورماح اعدائه تناوشه من كل مكان ، وهو سيد الشاكرين والحصير يؤثر على جلده ، وهو سيد الشاكرين ، والتعب والإعياء يبلغ منه مالم يبلغ غيره ومع ذلك يبلغ دعوة الله في كل مكان مرَّ عليه ، وفي كل زمان حلَّ عليه ، فهو سيد الشاكرين واتقى خلق الله أجمعين .

الشيطان يقعد لك في طريق الشكر فيمنعك عنه :

قال الله تعالى إخبارا عن ابليس اللعين : ( لأقعدنَّ لهم صراط المستقيم ) قيل هو طريق الشكر : ويؤكد هذا طعن ابليس وشتمه لنا ، حيث قال الله تعالى : { ولا تجد أكثرهم شاكرين ) ، وبما ان الشكر هو من المقامات السامية التى يصعد لها اهل التوفيق والهمم العالية قال الله تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور ) وفي الحديث الموقوف عن يَزِيد بْن هَارُونَ ، عَنِ الْعَوَّامِ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْقَلِيلِ " فَقَالَ عُمَرُ : مَا هَذَا الَّذِي تَدْعُو بِهِ ؟ ، فَقَالَ : " إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ{ : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } سورة سبأ. فَأَنَا أَدْعُو أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ " , قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : كُلُّ النَّاسِ أَعْلَمُ مِنْ عُمَر ، وهذا من تواضع الفاروق رضي الله عنه وارضاه .

الشكر باب زيادة في كل خير :

قال الله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم ) إبراهيم . لئن شكرت في الصحة ، وفي المال ، وفي الرزق ، وفي العلم ، وفي الأمن ، وقبل ذلك كله في نعمة الإيمان وسلامة المعتقد ، وصحة العبادة ، وحسن الخلق ، فكلما قابلت نعمه صغرت ام عظمت ، قابلَ اللهُ كل ذلك بالزيادة والنماء والبركة ، فمن بخل بالشكر على الواهب ، فقد منع عن نفسه الخير والزيادة والبركة.

ولا تحسبنَّ اخي المؤمن أن مرتبة الشكر يمكن الوصول اليها بقوة العضلاة او النباهة في فهم المعضلاة ، ولكن يعطي الله هذه المرتبة بتوفيقه وتسديده، ولذلك قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) ، فعلى العبد ان يصعد سلالم الخير ،ويلحظ بشفافية المؤمن آلآء الله عليه ، وينطرح بين يدي خالقه ، يزرف دموع المشتاقين ، ويحن حنين العاشقين ،ويخبت إخباة الوجليين الخائفين ، ويسأل مولاه وسيده - جل جلاله – التوفيق ، والعون ، والسداد.

أحوال الشكر ومراتبه :

اولا: ينبغي على العبد ان يكون عارفا جلال وعظمة المنعم ، وعارفا بقيمة واهمية النعمة التي حباه الله بها .

ثانيا : ان يمتلأ قلبه بالرضى والفرح والسرور بما حباه الله من النعم ، فالرضا هو باب الله الأعظم ، وهو مستراح المؤمنين ، وجنة العابدين ، وهو من محبوبات الرب ، ودليل قوة الإيمان ، وعنوان حسن الديانة ، وهو امل اللآهثين ، وإنفراج العابثين ، وضياء المكروبين .

ثالثا : عليه القيام العملي بموجبات الشكر ، فتراه يشكر ربه بأفعاله قبل اقواله ، فلا تخلوا منه ساحة الأوامر ومرادات الرب الخالق ، كما لا تجده في ميادين الدعة والكسل والتهاون ، والفجور ، والعصيان ، والوساوس .

والشكر يكون اما :بالقلب ، أو باللسان ،أو بالجوارح .

فأما الشكر بالقلب : أن تفرغ قلبك مما سوا الله تعالى ، ويتربع فيه كلام الله وسنة رسول الله ، فتجده قلبا خاليا من الشوائب ، ومحبا في بذل الخير لجميع الخلق .

أما الشكر باللسان ، فيكون بلجمه عن إيذاء الناس ، وحبسه عن التلفظ بالشر ، وإرطابه بذكر الله ، وتليينه اطايب الكلام ، وحسن الأقوال ، وإظهار الشكر لله بجميع انواع المحامد ، والتسبيحات .

أما الشكر بالجوارح : الا تسخرها لمقارفة الفساد ، وارتكاب المعاصى ، وصرف مالا ينبغي إلاَّ لله لغيره . فإن جلفت نفسك ، وشردت منك بعيدا عن دوحة الطاعة ، والإخلاص ...فذكرها بنعم الله التي تنهال عليك كالمطر في زفرات أنفاسك ، ونظرات لحظك ، وجريان روحك . فإن أبت وخاضت بك في محيط الجحود لنعم الله !! فذكرها بتلك النعم فإن ابت ، فخوفها بنزع النعم ، فإن ابت فأهمس لها بأن المنعم – سبحانه وتعالى - لم يحرمها من آلآئه مع شدة جحودها ، فربما ادركتْ لطف الله بها الذي له العظمة والكبرياء والجبروت، فوالله لو كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ، ما احلمك يا ربنا بارزناك بالمعاصي ، وانت الحليم الرحيم ، لسنا اهلا للنعمة ، ولكنك المنعم المتفضل الذي وسعت رحمتك كل شيئ.

الأنبياء والصالحون قدوتنا فالنقترف من ينابيع شكرهم :

لما علم الأنبياء ، والصالحون بطلب الله منهم أن يذكروه حيث قال جلا جلاله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} وعلموا ان الله لا يعذب الشاكرين حيث قال الله تعالى { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} ، لما علموا ذلك ارادوا أن يكونوا في صف الشاكرين فلزموا سبيل الله { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} كما دخلوا مضمار السباق الى رضى الرحمن جل جلاله {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُم} فكانوا أئمة الشكر ، ومصابيه الهدى فهذا خليل الرحمن يقول الله فيه {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ} ، وكان سيد الخلق يستقبل يومه بقوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر).

في صحبة سيد الشاكرين :

تعالوا بنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته ، وفي صحبة الصديق والفاروق يقول لهما النبيى – عليه الصلاة والسلام - "ما أخرجكما؟" فقالا: الجوع، فقال: "وأنا ما أخرجني إلا ما أخرجكما"، فذهبوا فأتوا أبا الهيثم بن التيهان -وهو رجل من الأنصار الذين بايعوا بالعقبة ومن النقباء، فهو نقيب عقبي بدري من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فوجدوا امرأته، فسألوها عن أبي الهيثم، فقالت: هو في النخل يأتي الآن، فبسطت لهم بساطاً فجلسوا عليه، فجاء أبو الهيثم، فلما رآهم حمد الله تعالى، وقال: ما أحد أكرم منا ضيفاً اليوم، ثم دخل إلى شياه له فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتنب ذوات الدر أي اللبن،

فذبح شاة عناقاً وأتى بعذق من نخل وبماء بارد، فلما أكلوا وشربوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه"،(ثم لتسألن يومئذ عن النعيم).

اخي المؤمن : هل فكرت يوما ان تناولك قطعة لحم ، ومصك شق تمرة ، ورشف شربة ماء ، هل فكرت ان هذا من نعم الله التى سوف تسأل عنها ؟ نعم والله إنها الحقيقة سوف نسأل النقير والقطمير ، وكيف لا نُسْأل !!! وآلاف المشردين من أبناء الشعب الإرتري لا يجدون لقمة عيش يسدون بها جوعتهم ، ولا قطعة قماش يوارون بها سوؤتهم ، ولا شربة ماء يبللون بها حلوقهم . بل هل ممكن ان تمحى من الذاكرة صور ملايين الجوعى حول العالم ، وملايين المشردين من الأطفال ، وملايين المرضى .

كيف يعتقد المسلم قد ادى شكر الله عز وجل فينام قرير العين هادئ البال!!! والدماء تنزف كل يوم في المسجد الأقصى وأكنافه ، بل تحولت الوان الدماء في حمص وحماة وادلب وغيرها الى طلاء للجدران ،وسقاء للسيقان . فهل من علم وراى كل تلك المحن ، والمصائب ، والمجاعات ، والحروب ، وهو آمن في بيته ، ومعافى في جسده ، وعنده قوت يومه ، هل معقول أن يحرم شكر الله عز وجل !!!! إن لم تشكر الله الآن فمتى تشكر ؟ إذا كان جحود الوالدين أو من احسن اليك أمرا قبيحا ، ومخالفا لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( من صنع لكم معروفا فكافئوه ) فكيف بمن لا يشكر من جميع النعم منه سبحانه وتعالى ؟؟؟

ايها المؤمن اعبد الله وكن من الشاكرين ،و أسال الله ان ينفعني وإياكم بهذه الخطبة ، فيجعلنا بفضله ورحمته من زمرة الشاكرين ، وأئمة المتقيين ، وجنده التائيين الأوابين . اللهم آمين

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

القيت هذه الخطبة في مسجد الرحمن (بريطانيا – مدينة شفلد ).

التاريخ : 15/مارس / 2012م .

أخوكم / محمد جمعة ابو الرشيد .

هو محمد بن عمير، من كندة. وكان من أجمل الناس وجهاً، وأمدهم قامةً، فكان إذا كشف عن وجه لُقِعَ، أي أصيب بالعين، فكان يتقنع دهره فسمى ( المقنع ) وهو القائل في قومه : لا أَحْمِلُ الحِقْدَ القَدِيمَ عليهِمُ ** ولَيْسَ رَئِيسَ القَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْـدَا ولَيْسُوا إلى نَصْرِى سِرَاعاً، وإِنْ هُمُ ** دَعَـوْنِـى إِلـى نَـصْــرٍ أَتَـــيْتُـــهُـــمُ شَـــدَّا إِذا أَكَلُوا لَحْمِى وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ ** وإنْ هَدَمُوا مَجْدِى بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا يُعَيِّرُنى بالدَّيْنِ قَوْمِى، وإِنَّما ** دُيُونِـىَ فـي أَشْـياءَ تَـكْـسِـبُــهُـــمْ حَـــمْـــدَا.