الهجرة دروس وعبر

رحيق المنابر- 23 -

محمد جمعة أبو الرشيد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه . أما بعد .

بينما رسول الله عليه الصلاة والسلام نائم في مكة أراه الله دار هجرته ، وقد وصفها صلى الله عليه وسلم للصحابة فقال:  (( قد أريت دار هجرتكم رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة.. )). فكان أول الواصلين زينة الشباب ، وفتى الفتيان مصعب بن عمير ، وإبن أم مكتوم الذي تحدى إعاقته ، ونذر نفسه لنصرة دين الله ، وتبعهم عمَار ثم بلال.

أبوبكر يتجهّز والنبي يبقيه :

قال البخاري عن عائشة: (( وتجهّز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السدر - وهو الخبط - أربعة أشهر )).

وهنا تعرف أخي الكريم منزلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحباً له لهجرته من دون سائر الصحابة. روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: (( لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً )).

قد يظن القارئ الذي يعشق قراءة القصص للتسلية فقط،- من غير تصور الحال آنذاك - بأنها مجرد مشهد مؤثر يمر عليه من غير أن يستفيد منه العبرة التي تكمن بين سطوره ، فلو وقفنا وقفة تأمل لدقائق في قول النبي لأبي بكرعندما تجهز للخروج من مكة فرارا بدينه : ( على رسلك .... ) يمكن أن ترد تسآؤلات  لمن قيل له ذلك.

ماذا أنتظر ؟ وكم انتظر ؟ وأين أنتظر ؟ وهل الخروج معك سوف يكون آمن ؟ وماذ لو قبضَ علىَ الكفار وأنا معك ؟  لم يقل أبوبكر – رضي اللع عنه كل ذلك بل أنظر المواقف الصديقية !!! يجهز راحلتين ، ويجند كل أفراد أسرته لخدمة وحماية الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهذه تعدٌ الطعام ، وذاك يعلف الرواحل ، وذلك يزيل أثر الأقدام ، وتلك تحمل المياه ، وهذا يتتبع الأخبار في الأسواق ، إنها من أميز وأبرك الأسر المسلمة في التاريخ. 

جمر العذاب وحب الأوطان :

وقد وصف الله ذلك أبلغ وصف حيث قال جل وعلا:  ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)

عاش - عليه الصلاة والسلام - أيام هي أشبه بمن هو جالس فوق صفيح متقد ، قلبه يكره مفارقة البلد الحرام ، ومسقط الرأس ، وبلاد الآباء والأجداد، والكفار يضيقون عليه وعلى أتباعه الخناق ، حتى وصل الأمر الى نقطة النهاية ، وأكمل الكفرة نسج خيوط المشانق ، وفرغ القتلة من حدِ السيوف ،وقررت القبائل أن تتقاسم دم نبينا الحبيب فيما بينها، وقد إجتمعوا في دار الندوة وإتخذوا القرار الآتية على حسب لغتنا المعاصرة ،عندما نقنن المظالم ،ونبدء بتنكيل الأبرياء :

1- الإعتقال الفوري والسجن والتعذيب.

2- الطرد خارج بلده وسحب الجنسية منه .

3- القتل المباشر وجعله عبرة لمن يتجرأ على هيبة الدولة .

لكن الله سبحانه وتعالى وهو ينقل لنا مباشرة مكر أعداء الإسلام ، يزرع الطمأنينة في نفس نبيه الحبيب ، ويقول له : إن مكروا للنيل منك فأنا أمكر لحفظك ورعايتك ، وإكمال الرسالة لك ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ).

اعلموا أيها الأخوة والأخوات أن حب الأوطان فطرة مركوزة في القلوب ولذلك لمَا أُكرِه – عليه الصلاة والسلام – لمغادرة مكة قال : ( أما و الله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله, وأكرمه على الله ؛ و لولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت) وأنا لست أقارن بين مكة المكرمة وباقي بلاد الله ، فهي أحب بلاد الله الى الله ، وهي أرض الحرم ومأوى الأفئدة ، وقبلة المسلمين ، وخلاف العلماء مشهور في التفاضل بين مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وإن كان الجمهور مع تفضيل مكة المكرمة .

قال الأصمعي ( سمعت أعرباً يقول : إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه) فالإنسان مجبول ومفطور على حب الوطن، والإسلام لايعارض الفطرة وإنما يؤكد على أن يكون ذلك تحت رابطة  الأخوة ، والإيمان ، وقد قرن الله  سبحانه  وتعالى محبة النفس مع محبة الوطن  فقال :  ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلو أنفسكم أو اخرجو من دياركم مافعلوه إلا قليل منهم ) .

يقول العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمة الله ( يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله الا قليل منهم والنادر فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد ولا يشق فعلها )ويؤثر عن عمر رضي الله عنه قوله ( بحب الأوطان عمرت البلدان ) ويقول إبراهيم بن ادهم وهو من الزهاد ( ماقاسيت فيما تركت من الدنيا أشد على من مفارقة الأوطان ) ، بل قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أصيل! كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيتضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي فلم يلبث أن دخل النبي، فقال له: (يا أصيل! كيف عهدت مكة؟) قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق اذخرها، وأسلت ثمامها، وأمشّ سلمها، فقال: (حسبك يا أصيل لا تحزنا).

 جنود قريش تتجمع لقتله وجنود الله تحيط به لحمايته :

إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) .

- خذله قومه فنصره الله .

- ضيقوا عليه بلده الواسعة ، فوسع الله له الغار الضيق.

- غار تسكنه الأفاعي فتلدغ الصديق ، فيجعل الشفاء دعاء من لا ترد دعوته.

- يحزن صاحبه لما راى المخاطر تحيط بأشرف الخلق عليه الصلاة والسلام ، فيزيل عنه ذلك الحزن عندما يبثُ الطُمأنينة في فؤاده ، ويذكره بمعية الله للمؤمنين والمظلومين ، يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما، يا أبا بكر، لا تحزن، إن الله معنا) ، وكيف يحزن من رفيقه الله القادر المقتدر؟ ومم يخاف من معه الواحد الأحد؟ وكيف يقلق من ثالثه أرحم الراحمين؟

- تحملهم اقدامهم الى فم الغار ، فيسده الله عنهم .

- يطاردونهم في الصحراء ، فيلحق بهم سراقة بن مالك المدلفي وقد توشح بسيفه ، وإمتشق حربته ، وجهَز نبله ، فإذا رب العزة يكبه من فرسه على وجهه ، فإذا بالمُطاَرِد يطلب الأمان !! بل عرض عليهما المتاع ، وأنه سوف يكفيهم من جاء من ناحيته !! سبحان الله !!!! وصدق الله العظيم (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)

- يصيبهم الجوع والعطش ، ولم يجدوا عند أم معبد شيئا ، فيفجر الله لهم ضرع الشاة اليابسة العجفاء لبنا خالصا سا ئغا للشاربين .

مكة تطارده ويثرب تنتظر انواره:

يخرج أهل يثرب كل يوم الى الحرة في وهج الشمس الحارقة ينتظرون مقدم الركب الميمون ، وأنوار النبي المعصوم ،قلوبهم تهفوا لطلعته ، وعيونهم تشتاق لتكتحل بالنظر إليه ،يتسلقون فوق النخيل ، ويعتلون فوق الروابي والهضاب ، ولحظات الإنتظار كأنها سنين ، والأوقات كانها سمرت ، والشمس كأنها ثبتت في كبد السماء ، ايدي ممدودة الى الله ، وقلوب مخبتة لجلاله ، والدموع تترقرق في العيون ، والكل تحدوه لحظات اللقاء ، فإذا بنبي الله يهل بأنواره في جنبات المدينة ، ويتسابق الكبار والصغار ، والذكر والأنثى لملاقاة الحبيب ، والسلاح يملأ الفضاء فرحا بمقدمه ، وتمتد المعاصم الى لجام ناقته ، وترحب الأفواه بضيافته ، وتتسابق القبائل للفوز به ، موكب ما شهدت الدنيا له مثيلا ، ولا عرفت الشعوب له نظيرا ، تشرفت به يثرب فاستنارت ، فإذا هي المدينة المنورة تستنير  بنور الحبيب ، وتدخل التاريخ من اوسع أبوابه ، فإن سمعت بمدينة مقدسة فهي التيجان ، وأن اعجبت بأرض فهي أعجوبة الدنيا ، وإن بحث عن راحة فهي مربط السعادة ،وإن فقدت الأمن فهي آمن أرض الله ،وإن فقدت شمائل الخير عند قوم فأهلها أرق وأعذب وأندى خلق الله ، هي عاصمة الإسلام الأولى ، ومنطلق الدعوة الكبرى ،اللهم إنا نسألك شهادة في سبيلك وموتة في مدينة نبيك .

الهجرة تاريخ وحضارة :

إختار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام هجرته المباركة ، لتكون منطلق تاريخ الإسلام ، لأنها فرق الله بيها بين الحق والباطل ، وأعز الله الإسلام بإتمامها ، وأقام دولة الإسلام بنجاحها .