ذرني ومَن خلقت وحيداً

العلامة محمود مشّوح

تفسير آيات

18 / 11 / 1977

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

فإن من أسوء الأشياء أن يكفر الإنسان نعمة ربه ، وأسوء من ذلك أن يتخذ نعمة ربه وسيلة للصد عن سبيله ، وإن هذه النماذج التي تسخّر نعم الله عليها لتصد بذلك عن سبيل الله لهي مظهر من مظاهر المرض الذي تعاني منه الإنسانية منذ كانت وإلى اليوم ، وستظل تعاني من هذا المرض إلى ما شاء الله .

إن الأمر المفترض عند ذوي العقول والألباب أن العبد عليه أن يعرف قدر النعمة ، كما عليه أن يعرف قدر المنعم ، كما عليه بعد ذلك أن يجعل نعمة المنعم في خدمة المنعم وهو الله تبارك وتعالى . والظاهرة التي نقف اليوم عندها والتي عرضنا بشيء من أخبارها فيما سبق ، ظاهرة رجل هو عنوان لمجموعة ، ولكنه من حيث هو رجل منعَم عليه بالمال وبالبنين وبالجاه وبالسمعة إنه من حيث هو كذلك يمثل أشنع النماذج الإنسانية وأشدها جحوداً وكفراً . ذكرنا لكم أن الروايات تذكر أن الوليد بن المغيرة وهو من سادات قريش وثرواتها ووجهائها هو الذي نزلت في شأنه الآيات الكريمة من سورة المدثر رابعة سور التنزيل ( ذرني ومن خلقت وحيداً ، وجعلت له مالاً ممدوداً ، وبنين شهوداً ، ومهدت له تمهيداً ، ثم يطمع أن أزيد ) ولا نستطيع أن نعدو الروايات ولكننا مع ذلك نعود فنكرر ، إن هذا النموذج متكرر ، ليس مقصوراً على عصر الرسالة ، وإنما هو نموذج شائع في الإنسانية تجده حيثما كنت وأينما وجدت .

دعونا أولاً نقرأ ونفهم هذا الذي نقرأ ، يقول الله تعالى والخطاب لمحمد صلوات الله عليه وسلم ( ذرني ومن خلقت وحيداً ) وهذا التعبير وهذه الصياغة يراد بها التهديد والوعيد كما تقول : دعني لفلان ، أي لا تتكل في عذابه والتنكليل به على غيري ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم عبء التفكير في هذا المخلوق ليتفرغ لما ندب له دون أن يلتفت إلى هذا الصغار الذي يتناثر من حوله ، وأن يكل أمر المكذبين والمعاندين إلى الله تبارك وتعالى ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الله تعالى بهذا الكلام يهوّل ويعظم من العذاب الذي أُعدّ لهذا المخلوق ، فحين يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم ( ذرني ومن خلقت وحيداً ) يريد بذلك أن يتكفل جل وعلا بمعاقبة هذا الإنسان وبتأديبه ، فأي شيء أعظم وأهول من يتولى الله تعالى تأديب عبد من عباده ؟ ومن ذا الذي يقوم ويستمسك بمثل هذا التهديد الذي يصدر عن الله تبارك وتعالى ؟ .

مـن جهة أخـرى فإن الله تعالى يقول ( ذرني ومن خلقت وحيداً ) فكلمة ( وحيد ) ليسـت ـ كما نبّهت في الجمعة الماضية ـ هي الوصف الذي كان يوصف به الوليد في الجاهلية ، فالوحيد هنا شيء والوحيد الذي وُصف به الوليد في الجاهلية شيء مغاير . في الجاهلية وقبل الإسلام كان الوليد يسمى الوحيد ، وكان يسمى ريحانة قريش ، لأنه لا نظير له ولا مثل ولا شبيه في العرب الجاهليين ، كرماً وثراء ورجالاً وشجاعة وسـداد رأي وكل ما تنطبق عليه مناقب الجاهلية ، فالوحيد هناك وصف مدح أُبين به الوليد عن سـائر الناس ، أما هنا فالله تعـالى يقول ( ذرني ومن خلقت وحيد ) مشيراً بذلك إلى واحد من احتمالات ، إما أن يكون وصف الوحيد مردوداً على الله تعالى ويكون المعنى : ذرني ومن خلقته وحدي ، أي لم يشركني أحد في خلقه ، هذا احتمال . أو أن يكون المراد : ذرني ومن خلقته وحيداً ، أي فرداً ، كما في قوله تعالى ( وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً ) ولعل هذا التأويل الثاني هو المتعين لأنه أبلغ في الدلالة ضمن الجو الذي تعرض له الآيات . فالآيات عرضت الوليد ذا مال وذا بنين وذا جاه ممدود ، فناسب أن يُذكّر الوليد وأشباه الوليد بمبدأ الخلقة التي خلقهم الله تعالى عليها من حيث خلقهم فرادى جاءوا على هذه الدنيا دفعتهم أرحام الأمهات لا يملكون شيئاً ولا يقدرون لنفسهم على نفع ولا على خير فما زالت نعم الرب تعالى مترادفة عليهم ومتوالية حتى استووا رجالاً أشداء يذهبون ويجيئون ويتصرفون ويأخذون ويتركون فجمعوا المال والثراء ، وبعد أن كانوا فرادى تزوجوا فإذا هو ذوو أولاد عدة ، وإزاءهم يتعززون من هؤلاء الأولاد الذين يحيطون بهم ، لأن من عادة الإنسان ولا سيما حين يغنى وحين يكثر بعد القلة أن ينسى ، أقول من عادة الإنسان فرداً كما هو من عادة الأمم والجماعات ، فالأمم أيضاً تصاب النكبات وتصاب بانتقاص الأنفس والثمرات حتى إذا جاءتها أوقات رخاء وبعد العهد بينها وبين أوقات الشدة قال الخلائق بوحي النسيان ( قد مسّ آباءنا السراء والضراء ) فمن المناسب أن يُذكَّر الإنسان وهو في أوج العز والجبروت وفي أوج الكثرة ، من المناسب أن يُذكَّر بالحال التي خرج بها إلى الدنيا ، وهذا هو فيما أرجح معنى قوله تعالى ( ذرني ومن خلقت وحيداً ) ولا أحمل الكلام هنا على التأويل الأول : أي ذرني ومن خلقته وحدي ، لأن المشركين الذين يدّعون لله آلهة شركاء معه ما قالوا إن الشـركاء يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ، وإنما قالوا : هم شفعاؤنا ووسطاؤنا إلى الله . ولهذا فأنا أكاد أقطع إن شاء الله تعالى أن المراد بوصف الوحيد هنا هو أن الإنسـان خلقه الله تعالى وحيداً فريداً في هذه الدنيا ، ثم يدرج من بعدها في ميادين الحياة فيكون له المال والبنون والأتباع والأصدقاء والموالون .

ويرشّح لهذا ويؤيده ما يلي : يقول الله تعالى بعد ذلك ( وجعلت له مالاً ممدوداً ) فهو أيضاً تذكير بالنعمة ، الإنسـان الذي جاء إلى الدنيا لا يملك شرو نقير ، مع الزمن يؤتيه الله تعالى مالاً ( وجعلت له مالاً ممدوداً ) لكن إظهار النعمة لا يتوقف على الإخبار بأن الله جعل له مالاً بل يتركز في أن الله وصف هذا المال بأنه ممدود ، ومعنى المال الممدود هو الذي يزداد بالنماء ( والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ) فالمدّ هنا هو الإمداد ومرادفة العطاء ، فمال الوليد بمقتضى النص الذي أمامنا مال فيه قوة النماء وهو ينمو باستمرار ويرى هذا النماء بأم عينه ( وجعلت له مالاً ممدوداً ) .

ثم ( وبنين شهوداً ) أما الشهود فهو جمع شاهد ، والشاهد هو الحاضر ، والمن والتفضل على الإنسان أو على الوليد بالذات بكون البنين شهوداً يتمثل في الآتي : تصور : أنا لي أولاد وأنت لك أولاد والآخر له أولاد ، ولا شك أن الأولاد من زينة الحياة الدنيا وقرة عين الإنسان وبضعة من هذا الإنسان يريبه ما يريبهم ويؤذيه ما يؤذيهم ، ليست النعمة في أن تكون ذا ولد ، فكم من ولد كان نقمة ، ولكن النعمة في أن تكون أوضاع هؤلاء الأولاد مما يبث في نفسك الطمأنينة ، أنا عندي أولاد ولكن ليسوا هنا ، يضربون في الأسواق ويأخذون في الأسفار ويضطربون هنا وهناك طلباً للعيش ، قلبي معهم ، أنا معذب من أجل هؤلاء الأولاد ، أنت كذلك حين تكون بالوضع الذي يدفعك إلى أن تسخّر أولادك لكي يشتغلوا تحت الأخطار وتحت الاحتمالات السيئة فليس مناسباً أن يمنّ عليك بالأولاد ، أولادك في هذه الحالة قلق وعذاب ، لكن حينما تكون من اليسر وحسن الحال بحيث لا تكون محتاجاً إلى أن تشتت أولادك وإلى أن تشردهم في جنبات الأرض يطلبون لك ولهم لقمة العيش ففي هذه الحالة فقط يكون الأولاد نعمة لأنهم راحة نفس وطمأنينة قلب وقرة عين ، فقول الله تعالى ( وبنين شهوداً ) أي أنهم حاضرون عنده وموجودون لا يتكلفون الضرب فـي الأرض ، مكفيّون بثراء الوالد ، ومكفيون بما عند الوالد من الخدم والحشم والأجراء والموالي ، وتلك قمة السعادة وغاية الراحة التي يطمع فيها الإنسان .

ثم ماذا ؟ ( ومهّدت له تمهيداً ) وتمهيد الأمر تسويته وتعديله ، والتمهيد للإنسان يكون بماذا ؟ ببسط الجاه ونفوذ الكلمة وبحفظ المكانة العالية بين الناس ، وكذلك كان الوليد في الجاهلية سيداً من سادات قريش ، ومعروف المكانة ، لا ينكر فضله أحد ممن هم حوله من سروات قريش .

ثم ماذا ؟ ( ثم يطمع أن أزيد ) من الذي يطمع ؟ هو الوليد ، بالرغم من كثرة المال وكثرة الأولاد ، بالرغم من كثرة الموالي والخدم يريد الزيادة ، وتلك خصلة من خصال الإنسان ، يُروى أن الوليد كان له ثلاثة عشر ولداً ، وأما الأموال من صامت وناطق فمما لا يقع تحت حصر ولا عدد ، ومع فهو يطمع أن يزيده الله ، هـل يطمع في الزيادة في المال فقط ؟ لا ، وجاء الكلام على الإطلاق ( ثم  يطمع أن أزيد ) إنه يطمع بزيادة المال والولد والجاه واتساع النفوذ ، كل هذه الأشياء مطلوبة للإنسان ومرغوبة للإنسان ولا شيء في ذلك ، فالإنسان يريد بطبعه هذه الأشياء ، والله جل وعلا لم يسق هذا الكلام ليشرّح طبيعة الإنسانية وخليقة بشـرية وإنما ليلفت النظر إلى سـنة من سـننه الماضية . بعد هذا يقول ( كلا ) تأتي بأداة الردع والزجر ( كلا ) إنما يتمناه الوليد من زيادة المال والولد ومن اتساع النفوذ والصول لن يكون ( كلا ) لماذا ؟ ( إنه كان لآياتنا عنيداً ) السبب أنه لن يزداد عزاً ولا مالاً ولن يزداد ولداً ، السبب في ذلك أنه نسي الله تبارك وتعالى ، ونسي أن هذا الذي بين يديه فمن نعمة الله جل وعلا عليه ، ونسي بطبيعة الحال الأدب الذي يجب أن يتأدب به مع الله تبارك وتعالى .

ويُروى أن الوليد منذ نزلت هؤلاء الآيات ما زال في نقصان في المال وفي الولد وفي السمعة حتى أفضى على ما قدّم ( كلا إنه كان لآياتنا عنيداً ) إن الله جل وعلا أيها الإخوة يرزق البر والفاجر ، لا حسيب ولا رقيب عليه تبارك وتعالى ، والدنيا مائدته الممدودة يأكل منها الناس جميعاً ، وما تساوي عنده شيئاً ، ولو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء ، ولكنها لا شيء . ولا يجب أن نقيس أنفسنا على الله ولا أن نقيس الله على أنفسنا ، فالكون ملك الله جل وعلا ، ولكن الله جل وعلا ليس لديه حرص على هذا الكون ، لأن خزائنه تجدد ولا تنفد ، والناس على خلاف ذلك ، يقول الله تعالى ( لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً ) لكن الله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب ، هذا وضع الدنيا بالنسـبة إلى الله ، لكن هل هو كل الوضع ؟ لا ، إنما للدنيا جانب آخر ، الدنيا بما فيها من عطاء ومن إمساك وسيلة من وسائل تهذيب الإنسان وتأديبه وصدق الله ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) ولقد مضت سنة الله تبارك وتعالى أن الروح والريحان والنعيم والطمأنينة للذين يعرفون قدر المنعم جل وعلا ، وأن الخسران والبوار للذين يجحدون هذه النعمة ، بل أن الخسران كله والبوار كله للذين يستخدمون هذه النعمة للصد عن سبيل الله تعالى . الله يعطيهم بغير حساب ليختبرك وليبتليك فإن أنت قمتَ بما يتوجب عليك من رعاية لحرمات الله وقيامٍ بحقوق الله وحقوق عباد الله وسع الله عليك وأخرجك من الدنيا لا تأسى على شيء فاتك أبداً ، لأنك تنتظر من الله ما هو أعظم وما هو أفضل ، وإن أنت لا تعرف قدر المنعم وسخّرتَ نعمة المنعم لإغضاب المنعم فإن الله جل وعلا قادر على أن يسحب نعمته من بين يديك وهذا الذي كان ، وهذا الذي لُفت إليه النظر بقول الله ( كلا ) بهذا الردع العنيف والزجر القاسي والإيقاظ المعنت الذي يقول الله فيه ( كلا ) لتستيقظ النفس إلى ما بعد ( إنه كان لآياتنا عنيداً ) فالسبب الذي من أجله سُحبت نعمة الله من الوليد هو أن الوليد عاند آيات الله وسخّر أولاده وأمواله وجاهه وسمعته بين المكيين والمشركين وبين العرب الجاهليين لمحاربة محمد صلى الله عليه وسـلم وللصد عن سبيل الله تبارك وتعالى ، وهذا كما قلنا سنة ماضية من سنن الله تبارك وتعالى .

سأحكي لكم واقعة تتصل بالموضوع ، حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لا شك أنه عليه السلام كان يؤثر أن يستقر في المدينة وأن يؤسس الجماعة المؤمنة على هينة من أمره دون عجلة ودون تسرع ، ولكن الحوادث أعجلته صلوات الله عليه وسلم فلقي المشركين في بدر وكان بينهم ما كان ، وانتصر المسلمون النصر المؤزر ، وامتنّ الله تعالى عليه بهذا النصر ، تهيّأت قريش لتلملم جراحها وتحاول أن تردّ الكرة على المسلمين ، ونادى أبو سفيان في أغنياء المكيين يهيب بهم أن يرصدوا أموالهم لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأي إنسان يقف على رأس جماعة ناهضة ما زالت في أول الخطوات في حياتها الجديدة لا شك أنه سيهتم وسيأخذ بعمل حسابات كثيرة لما يهمّ به المكيون ، فعندنا معسكران ، محمد والذين آمنوا معه ، والمشركون ، أما الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون فحسبنا أن نعلم أنهم خرجوا في موقعة بدر شبه مشاة ويكاد أن لا يكون عندهم سلاح ، لماذا ؟ لأنهم هاجروا من أهليهم ومن ديارهم لا يحملون معهم شيئاً ، فرّوا إلى الله ورسوله ، ولأن الأنصار ردّوا ما كان بين أيديهم من مال على إخوانهم من المهاجرين ، فالمسلمون في حالة مادية سيئة ، فحينما يقبَلون بمعسكر كمعسكر المشركين ، عندهم المال وعندهم الخيول والسلاح ، ومن ورائهم مدد لا يكاد ينتهي من الطامعين من أعراب البادية ولصوصها وقطاع الطرق بها فلا بد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيحسب لذلك كل حساب ، ومع هذا فالله جل وعلا طمأن نبيه صلى الله عليه وسلم إلى عدم جدوى هذه الخطوات التي يتخذها المكيون المشركون ، قال الله تعالى فيما أنزل عليه ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون والذين كفروا إلى جهنم يُحشرون ، ليميز الله الخبيث من الطيب ) فالسنة الماضية لله تبارك وتعالى أن الإنسان مهما يكن جمعه من مال ومن رجال إذا وقف من الله موقف المعاندة ومن المؤمنين موقف اللدد والخصومة والحرب فلا بد أن ينتهي إلى البوار والخسران سنة ماضية لا تتخلف كما أن الشمس تتطلع من المشرق لتغيب في المغرب كذلك فكل من عاند الله تعالى وكل من قتّل المؤمنين وشردهم فمآله أن يُدحر وأن يخسر ، تلك سنة لا تتخلف ، لكن بعض الناس يفقدون الصبر ويتعجلون الأمر وهنا يتركز مقتلهم ، فالله تعالى يبرز هذه الحقيقة بعد أن يقصّ علينا من شأن الوليد ما يقص ، وبعد أن يبين لنا مبلغ النعم التي ظاهرها على الوليد يذكر أن الوليد مع ذلك يطلع بأن يزيده مالاً وولداً ، ثم يقول الله ( كلا إنه كان لآياتنا عنيداً ) إن الذي أراده الوليد وطمع فيه لن يكون لسبب ظاهر وهو أنه وقف من الله جل وعلا موقف العناد والرفض ووقف من نبيه صلى الله عليه وسلم موقف التكذيب والصد ، واستخدم نعم الله تعالى للصد عن سبيل الله تبارك وتعالى ، وهذا وحده كافٍ لأن يسحب نعمته من بين يديه ، وحقاً ما زال الرجل في نقصان حتى قابله ربه تبارك وتعالى .

ثم يسترسل الله تعالى في اقتصاص ما سيكون للوليد ( سأرهقه صعوداً ) والصعود هو المكان الذي يُصعَد ، والله جل وعلا كان يمكن أن يقول : سأكلفه أن يصعد مكاناً شاقاً ، لكن التكليف قد يكون هيناً وقد يكون شاقاً ، والله تبارك وتعالى يريد لإيحاء الكلام أن يكون جامعاً مانعاً ، قال ( سأرهقه ) وكلمة الإرهاق تعني في لغة العرب أشد التعب ، يعني أن الله سيكلفه من الأمور مشقة وراء مشقة ، كلما خرج من مشقة صادف مشـقة أكبر منها في هذه الدنيا أم في الآخرة لا ضير ، ليكن في الدارين جميعاً أو في إحداهما دون الأخرى ، المهم أن الله جل وعلا تكفل بأن يجعل من حياة الوليد عذاباً دائماً وجحيماً لا يطاق ، بعد النعمة والراحة والسكينة والاطمئنان سـيكون للوليد من الله التعب الدائم ( سأرهقه صعوداً ) .

كذلك لا بد من أن يكون لذلك سبب ، هنا وعيد من الله جل وعلا افتتح بأن طلب الله من نبيه أن يتركه له حتى يتكفل هو بتأديبه وبتعذيبه ، وابتلي بأن قطع الله طمع الوليد للزيادة فصار للبوار والنقصان ، ثم ( سأرهقه صعوداً ) تكفل الله بأن لا ينجيه من مشقة حتى يضعه في مشقة أدهى وأمر لماذا ؟ للسب الذي قال الله فيه ( إنه فكّر وقدّر ) أما التفكير فمعروف ، وأما التقدير فهو وزن الأمور ، فالرجل يفكر ويزن ويحاول أن يقدر الأمور تقديراً صحيحاً ، فأي شيء خرج من هـذه العملية الفكرية ( إنه فكر وقدر ، فقُتل كيف قدر ، ثم قُتل كيف قدر ) كلمة ( قُتل كيف قدر ) جاءت للتهكم لا للوعيد ، وإن كان مخرجها مخرج وعيد ، لكنها للتهكم كما تقول لأحد من الناس : فكّر فـي هذا الأمر . فيفكر فيأتيك بنتيجة سخيفة ، فتقول له : خيّبك الله . كذلك جاء الكلام هنا ( فقُتل كيف قدر ) أهذا كل ما خرج منك يا وليد بعد التفكير والتقدير ( ثم قُتل كيف قدر ) يتهكم الله منه ويهوّن من شأن هذه النتيجة التي انتهى إليها ، بماذا كان يفكر الوليد ؟ كما قلنا من قبل ، كان يفكر في هذا القرآن الذي تلاه عليه محمد صلى الله عليه وسلم ( إنه فكر وقدر ، فقُتل كيف قدر ، ثم قُتل كيف قدر ، ثم نظر ) وهذه الآيات ترسم الحركة النفسية وانطباعاتها على أسارير الوجه ( ثم نظر ، ثم عبس وبسر ) حينما تفكر تفكيراً عميقاً فإن أسارير وجهك تقطب ( ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ) عند هذه الكلمة التي انتهى إليها الوليد نضع أيدينا على النتيجة التي خيّبها الله من أجلها ، بعد كل التفكير والتعب ، بعد المداولات بينك وبين رؤساء قريش والنبي من العرب المشركين تكون عاقبة التفكير أن يوصف كلام الله بأنه سحر يؤثر ، ألا خيّبك الله ( فقُتل كيف قدر ) هل هذا الكلام سحر ؟ السحر لا يخفى ، نفث وعقد وزمزمة وكلام لا يُفهم ، وهذا الكلام الذي تسمعونه من محمد يسمعه العربي الذي هو أقل منكم وأضعف بصراً بأفانين الكلم منكم فيفهمه ويستطيع أن يميزه فوراً من زمزمة السحرة ونفثهم وعقدهم ، أغاية ما انتهيت إليه يا وليد أنت والمشركون معك أن هذا سحر يؤثر ؟ لكن الوليد حين قال هذا الكلام علل هذا الكلام بتعليل قاله للمشركين ، قال : ألا ترون أن هذا الذي جاء به محمد يفرق بين الأب وابنه وبين الزوج وزوجه وبين الإنسان وعبيده ومواليه فكذلك يفعل السحرة ؟ في هذا الكلام دقيقة ، إنه الله تعالى قال ( إنه فكر وقدر ، فقُتل كيف قدر ، ثم قُتل كيف قدر ، ثم نظر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ) فالعطف في هذا الكلام بين الجمل جاء بلفظ ( ثم ) ثم في لغة العرب تدل على التراخي والتمهل ، تقول : دخل زيد ثم دخل عمرو ثم دخل بكر ثم دخل خالد ، تريد أن بين الدخول والدخول فاصلة وزمان يتراخى ، ولكن حينما تقول : دخل زيد فعمرو ، يكون العطف بالفاء معنى ذلك أن واحداً دخل على أثر الآخر فوراً ، ففي هذه الجمل كان العطف بعملية التفكير بـ ( ثم ) لتدل على أن عملية التفكير بأطوارها أخذت من الوليد والذين معه زماناً طويلاً ، لكنه حينما خطرت له الكلمة الشنعاء أن يصف القرآن بأنه سحر فالله جل وعلا عدل عن ( ثم ) ليستخدم الفاء ، قال ( فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ) علامَ تدل في باب التحليل النفسي هذه الصياغة ؟ تدل ؟ على أنه كان وهو في أقصى درجات الانفعال والتلهف لإيجاد وصف يصف به القرآن ، ما كادت تخطر في باله هذه الكلمة الشنيعة حتى أمسك بها فألقاها ( فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ) ما ترك فاصلة ولا مهلة خشية أن تنفلت هذه الكلمة منه وتضيع فيخرج إلى تفكير آخر .

هذا التصوير الذي ذكر الله تعالى شأنه ، ما أظن أنه يخفى على قارئ للقرآن ، ولكن الشيء الذي قد يخفى هو ما ينبغي أن نلفت النظر إليه الآن ، واضح أننا من تجربتنا نعرف أن كل الناس لا ينساقون إلى الحق على سوية واحدة ، من الناس من يستجيب ومن الناس لا يستجيب ، لماذا ؟ لا بد أن نسأل أنفسنا هذا السؤال : ما الذي يمنع الإنسان من قبول الحق واعتقاده والأخذ به ؟ هل في هذا الكلام الذي يسوقه محمد صلى الله عليه وسلم شك وارتياب ؟ لا ، وآية ذلك أنه ومنذ أربعة عشر قرناً تحدى الناس بأن يأتوا بسورة من مثله وما زال التحدي قائماً وما زال عجز الناس قائماً وذلك أبلغ الدليل على أن هذا الكلام المنزل هو من عند الله تبارك وتعالى لم يتقوّله أحد من الخلق لا من الماضين ولا من اللاحقين . فلماذا إذاً بعد الوثوق بأن القرآن كلام الله وبأن الله لا يقول إلا الحق لماذا يعرض الناس عنه ؟ لا بد من سـبب ولا بد من علة ، ولعله في الرسالة ، تخلو الرسالة تماماً إذا سكتت عن بيان العلة ، العلة في هذا أن الإنسان في الدنيا حينما نتعمق في فهمه لا يكفي أن نعرض له الحقيقة وإنما يجب أن نحطّم السدود والقيود التي تمنعه من الأخذ بهذه الحقيقة . ما الذي يشكل هذه السدود والقيود ؟ أعراف الناس وأفكارهم وشهوات الأنفس وما على الأرض من زينة ومتاع ، فالإنسان في الواقع أحد رجلين ، إما رجل قادر على أن يسمو بنفسه فوق الضرورات فهو مستطيع في كل حين أن يلتزم بالحق ، أو إنسان ملوّث بالشهوات مأسور لها ، فهو عاجز أبداً طالما هو هذه الحالة عن رؤية الحقيقة وعن اعتناق الحقيقة والأخذ بها ، هل سكت الله جل وعلا عن بيان هذه العلة ؟ ارجعوا فوراً إلى أول سورة ، ما هي أول سورة نزلت من القرآن ؟ أول نداء صافح سمع النبي صلى الله عليه وسلم ماذا كان ؟ ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ما الذي قال الله في تلك السورة ؟ قال ( كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى ) حينما يشعر الإنسان بأنه مخوّل بنعم كثيرة ، مال وأولاد وجاه وسلطان وما أشبه ذلك ينسى نفسه ، وأية قوة فوف ذاته وخارج ذاته هنا يبدأ مقتل الإنسان ، هنا يدركه العمى ولا يستطيع أن يرى الحق ، لمجرد أن يتجاوز الإنسان حده وأن يشعر بأنه مستغنٍ عن ربه فحينئذ يبدأ الشيطان بالتلعب به تلعباً خطيراً ، هل هي هذه الإشارة فقط ؟ لا ، وإنما قال الله تعالى في السورة الثانية في سورة القلم ( فلا تطع المكذبين ، ودوا لو تدهن فيدهنون ، ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ) ماذا ( أن كان ذا مال وبنين ، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) فذلك الذي يكون ذا مال كثير وبينين كثيرين إذا تليت عليه آيات الله تبارك وتعالى ولى مستكبراً وقال أسـاطير الأولين ، ماذا يقول الله تبارك وتعالى في السورة الثالثة في سورة المزمل ، يقول ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهّلهم قليلاً ) فأولو النعمة هم المترفون والمتنعمون ثم هم المكذبون ، فهذا الاستغناء الناتج عن انغماس الإنسان في الشهوات وضياعه في مسارب النعم المتدفقة عليه من كل جانب هو الذي يعميه وهو الذي يحول بينه وبين رؤية الحقيقة واعتناق الحقيقة وأخذ نفسه بهذه الحقيقة .

قلت إن الرسالة تفرّغ من كل معناها وكل مبرراتها لو سكتت عن تشريح هذا الوضع ، فالله تعالى حين يعرض شأن الوليد وموقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه على الملأ من قريش من هذا القرآن وتكذيبه لأن يكون القرآن منزلاً من عند الله وادّعاءه بأن هذا القرآن سحر يؤثر كان الدافع على ذلك ماله أن الوليد مستغنٍ من جملة المستغنين ، عبد من عبيد الشهوات ، إنسان صرعته النعمة صرعاً فأصبح لا يستطيع أن يرى الحقيقة .

واجب الإسلام كما سنرى بعد التعمق في دراسته وتحليله أن يعيد تنظيم شئون الحياة وتوزيع خيرات الحياة على نحو لا يؤثر على الفطرة الإنسانية ، أن يجعل النعمة في يد الإنسان لا في قلبه ، أن يجعل الإنسان سيد النعمة ولا يجعل النعمة هي سيدة الإنسان ، بهذا يضمن الإسلام للإنسان أن يكون فعلاً متحرراً من جميع الدوافع ومن جميع الجواذب ثم أن يجعله في كل وقت قادراً على رؤية الحقيقة بذاتها .

عند هذا الحد نقف وإن كنت أرغب في أن أفصل الكلام في جانب آخر يتصل بفلسفة الدعوة وبجانبها الحركي ، لكني سأرجئ هذا إن شاء الله تعالى إلى فرصة أخرى ننظر في الآيات التي مرت جميعاً وفي السور الأربعة التي مرت جميعاً نظراً تفصيلياً نهدف من ورائه إلى تقعيد القواعد وتأصيل الأصول ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .