تفسير سورة إبراهيم 7

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة إبراهيم

28 / 6 / 1985

( 7 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

 إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

 فلعلنا نستطيع اليوم وعلى سبيل الإيجاز أن نكمل الكلام على سورة إبراهيم عليه السلام ، وسيكون سرورنا ـ بتوفيق الله جلّ وعلا ـ على إتمام هذه السورة عظيماً ، وسيكون شكرنا له كثيراً ، ونسأله سبحانه أن يزيد من فضله .

 لا حاجة بالطبع إلى أن هذه القضايا التي قررناها أثناء حديثنا على هذه السورة الكريمة ، فقد نظن أنها أصبحت مفهومة . فلنواجه المقاطع الأخيرة من السورة بصورةٍ مباشرة وبغير مقدمات . والذي أحب أن ألفت النظر إليه بدياً أن السورة الكريمة سُميت باسم أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ولكن الحديث عن إبراهيم عليه السلام جاء في آخر السورة تقريباً ، ويلفت النظر كذلك أنه في هذا المقطع الذي سنتلوه عليكم والذي يتناول الكلام على إبراهيم عليه السلام لم يذكر الله جلّ وعلا من هذه القصة ـ من هذه السيرة ، سيرة النبي الكبير ـ إلا الأطراف التي تتساوق مع أهداف السورة التي سيقت في الآيات الكريمة لتقريرها ولبيانها ولوضعها بين أيدي الناس ، يتدبرونها ويتفكرون فيها .

 فاسمعوا رزقكم الله جلّ وعلا وإيانا والمسلمين الفهم عن الله معنى ما أراد في كتابه الكريم ، قال الله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد ) والمقصود مكة المكرمة ( آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ، ربِّ إنهن أضللنا كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ، ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيءٍ في الأرض ولا في السماء ، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميعُ الدعاء ، ربِّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ، ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) بهذا الاستعراض الوجيز الذي جاء الخبر فيه عن طريق المناجاة الخالصة الحارة التي كان الخليل عليه السلام يرفعها إلى ربه ، بهذه المناجاة جاءت إشارات تشد من بناء السورة كلها ، وتلقي أضواءً على أهدافٍ أساسية في هذه السورة الكريمة ، ثم ينقطع الكلام عن إبراهيم تماماً ، لتُعطى على المعروض من معظم سور القرآن ، لتعطى في آخر السورة خلاصات هي العبر التي ينبغي أن يخلص إليها قارئ السـورة ، أي سورة من القرآن الكريم .

 فمن المعلوم كما قلت لكم أن سورة إبراهيم مكية نزلت في ظروف صعبة مرّت بالنبي صلوات الله عليه وآله وبالمسـلمين ، كانوا يُشردّون ويُطرّدون ويُفتنون ، وكان العذاب ينصب عليهم ألواناً لا تريد أن تنتهي ، وكانوا مع هذا كله يُؤمرون بالصبر الجميل وبالصفح الجميل ، لأن المسألة ليست مسألة شخصية لكي يكون للفعل الشخصي مدخل وباب في هذا المجال ، ولكنها مسألة دين ومسأله دعوة ومصلحة إنسانية ، لن تتلقى بعد هذا القرآن من السماء حرفاً واحداً ، ولن يقيض الله له بعدُ رسولاً يأتي من بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فعليهم ـ أي المسلمين ـ وهم يلقون ما يلقون في ذات الله جلّ وعلا أن يرتفعوا فوق الآلام وفوق الدماء وفوق الجراحات ، لأن الإنسان في سياق الدعوة ينتهي بمجرد أن يرى نفسه ، يجب لكي ينجح الداعي إلى الله تعالى أن يرى الله تعالى ويرى مصلحة الدعوة ، وأن لا يرى نفسه بحالٍ من الأحوال . فمن أجل ذلك كانت توجيهات الرب تبارك وتقدس تتوالى لتكفكف من غلواء المسلمين الذين هم حقاً بشر كسائر البشر ، يحسون ويشعرون ويألمون كما يألم سائر الناس . ولكن المطلوب من المسلمين غير المطلوب من سواهم من الناس ، مطلوب من المسلمين أن يُصاغوا صياغةً ربانية ، وأن ينشّئوا تنشئة حضارية ، وأن يكفكفوا غرائزهم حتى يكونوا أليق بالمعاني الإنسانية ، وبهذا كانت أوامر الله وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم حازمةً في هذا الميدان ، مع التثبيت والتطمين والتأكيد والوعد بنصر الله جلّ وعلا الذي سيمضي دون ريب .

 لهذا فنحن حين ننتهي من تلاوة المقطع الذي تحدث عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام نقرأ هذا التطمين الإلهي الذي وُجّه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإلى المؤمنين في أحلك الساعات وأصعب الظروف ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ) كل الذي يجري بعين الله ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السـماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفُهم وأفئدتهم هواء ، وأنذر الناس ) وهذا خطاب وأمر للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ) أي أشــركوا بالله ما ينزل عليهم سلطاناً ( فيقول الذين ظلموا ربنا أخّرنا إلى أجلٍ قريب نوجب دعوتك ونتبع الرسل ، أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) أي أنكم باقون في هذه الدنيا ، فإذا جرى عليكم الموت فهو البلاء الكامل الذي لا قيامة بعده ولا بعث ولا نشور بعده ( أوَلم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) بلاد عاد وثمود والحجر وما أشبه ذلك من الأمم الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، وكان هؤلاء الناس ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) منهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا ، ومنهم من أرسلنا عليه حاصباً من السماء ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ، وقد مكروا مكرهم ) أي تلك الأمم ، اتخذوا كافة الوسائل والسبل لكي يفتكوا بالمؤمنين ويغتالوا دعوة الله ( وعند الله مكرهم ) ومعنى ( وعند الله مكرهم ) أي أن الله عالم ومطلع على ما يدبرون وعلى الأساليب التي يتخذون ( وإن كان مكرهم لتزول منهم الجبال ) يعني والله أعلم أن مكرهم مهما بلغ من الخفاء والشدة والإحكام والإتقان لن يؤثر شيئاً ، لن تزول منه الجبال ، أي أن سنن الله في دحر الباطل ونصر الحق ماضية ولو اجتمع على الحق مَن بأقطارها فإن الله جلّ وعلا قطع على نفسـه ذلك عهداً فقال ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ثم يتجه الخطاب مباشراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يحمل له كل معاني الطمأنينة والتثبيت فيقول ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) إن الله وعد رسله بالنصر والتمكين ( إنا لننصر رسلنا في الحياة الدنيا ويوم يكون الأشهاد ) ( يوم لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو نتقام ) .

 وبعد فماذا ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) أيحسب الإنسان أن يترك سدى ؟ أيظن أن الله خلقه هملاً ليسرح كما تسرح السائمة ؟ أيحسب أنه وُجد لكي لا يؤمر ولكي لا يُنهى ولكي لا يُحمّل تكاليف ولكي لا تترتب عليه واجبات ؟ فهذا هو معنى السدى ، لا بل الإنسان مسؤول ، وإنما وهبه الله الحرية لكي تترتب عليه المسؤولية ، لأن المسؤولية والمؤاخذة لا معنى لهما إذا لم تكن هنالك حرية اختيار ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ، وترى المجرمين ) والمراد بهم أكابر مجرمي الأرض من الكفار والعتاة والظلمة ( يومئذٍ ) أي في يوم الحسـاب ( مقرنين في الأصفاد ، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ، ليجزي الله كل نفسٍ ما كسبت إن الله سريع الحساب ، هذا ) هذا أي هذا القرآن وهذا النبي الذي أنزل عليه القرآن ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكّر أولوا الألباب ) فهذه هي الآية الثانية والخمسون من السورة الكريمة ، وبها خُتمت سورة إبراهيم عليه السلام . ما الذي نريد أن نعقب عليه بعد أن تلوت عليكم الجزء الأخير من السورة بتمامه لكي أنفض يدي منها نهائياً ؟ أريد أن ألفت النظر إلى بضعة أمور باختصار شديد ، يقول الله تعالى في بداية المقطع أي متحدث عن إبراهيم عليه السلام ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد آمناً ) وتعرفون من المقطع السابق الذي تحدثنا عنه في الجمعة الماضية أن الله جلّ وعلا ذكّر العرب الجاهليين حين جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام ، ذكّرهم بنعمه عليهم ، وأنه جعلهم أناسـاً مميزين ، وأسكنهم بقعةً من الأرض مميزة ، فمشوا على أخلاق مميزة رشحتهم وهيأتهم لأن يكونوا في مستوى حمل الرسالة الكبيرة وأداء الأمانة العظيمة ، وهذا الموضوع أشبعناه حديثاً في الجمعة الماضية إن لم تخنِ الذاكرة . وها هنا يُشار إليه مرةً أخرى على أنه دعوة إبراهيم عليه السلام ( اجعل هذا البلد آمناً ) لماذا يُفتتح الدعاء الإبراهيمي كله بالرجاء من الله أن يقضي بالأمن بهذا البلد الذي هو مكة ؟ ذلك لأن الأمن أيها الإخوة أعظم نعمة وأجل فضل يتفضل الله به على العباد ، أي شيء أفضل وأحسن من أن تكون الأمة عزيزةً في بلادها موفورة الحرمة مرعية الجناب ، لا يفكر أحد بالعدوان عليها ؟ وأي شيء أحسن وأطيب وأجلّ وأعظم وأهنأ وأسعد من أن يعيش الناس في ديارهم يرفرف عليهم رايات الأمن ومعاني الأخوة والمحبة والسلام ؟ إن الحياة الإنسانية في الواقع على أي وجه نظرتَ إليها تأخذ قيمتها الحقيقية من مفهوم الأمن ، فإذا انعدم الأمن ساء ظن الناس بعضهم لبعض وفسدت الأرض وتعطلت الرسالة . ولهذا كان فاتحة ما دعا به إبراهيم عليه السلام أن يرزق الله هذا البلد الذي هو مكة الأمن ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) والله تعالى في هذا الكلام يربط بين هذا الكلام الذي قيل هنا وبين ما قبله من التذكير ، تذكير العرب بنعم الله عليهم التي يجب أن يعرفوها ولا ينكروها ، ويشكروها ولا يكفروها ، وشكرها يكون بالإزعان لله الذي أنعم وتفضل ، وبطاعة أنبيائه ورسله ، وبالتزام شرائعه وتوجيهاته ( واجنبني ) أي باعد بيني وبين عبادة الأصنام ، تقول العرب : اجنبني الشيء وجنبني الشيء وجانبني الشيء ، المعنى واحد أي أبعد عني هذا الشيء ، فإبراهيم عليه السلام يدعو الله أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام ، لماذا ؟ لأنه ( ربٍِّ إنهن ) أي هؤلاء الأصنام ( أضللن كثيراً من الناس ) ليس كل الناس على مستوى واحد من النزاهة والتجرد ، وليس كل الناس في مستوى واحد من الخبرة العقلية التي تنفذ إلى بواطن الأمور ، ومن الناس من ينخدع فيعبد الأصنام وهو يظن فعلاً أنها تقربه إلى الله زلفى .

 ولقد مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في إحدى أسفاره برهبانٍ من النصارى في صومعةٍ منعزلةٍ في جوف الصحراء ، فوقف يسمع ترتيلهم وبكاءهم ونحيبهم في جوف الليل ، فأخذ عمر يبكي بكاءً شديداً ، قيل له : ما يبكيك يا أمير المؤمنين من نصارى يرتلون الإنجيل وينتحبونها ؟ قال : أبكي لأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، أرأيتم هؤلاء ودأبهم وتعبهم واجتهادهم وبكاءهم وهم من أهل النار ؟ فالإنسان ربما كان يقبل على عبادة الصنم وهو قانع بالفعل أنه يقربه إلى الله زلفى . لهذا قال إبراهيم ( أضللن كثيراً من الناس ) لكن الفيصل بين الناس ( فمن تبعني فإنه مني ) من تبعني فيما دعوت إليه بأمرك يا رب ، من توحيدك وتقديسك وتنزيهك والالتزام بالإسلام وتطبيق شريعتك التي أنزلتها والتي ستنزلها فهو مني ( ومن عصاني ) فرفض الدعوة ورفض النور الذي أُنزل معي ( فإنك غفور رحيم ) وصلى الله عليك يا أبا الأنبياء ، إن لسانه لم يطاوعه أن يدعو على العصاة وعباد الأصنام بالويل والثبور والعذاب الأليم ، وإنما قال ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) ونحن في هذا المجال نقرأ كذلك في القرآن الكريم على لسان عيسى صلوات الله عليه كلاماً من هذا القبيل ، يقول ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) أسأل أيها الإخوة ، وقلت لكم من قبل إني معني للغاية بأن يتربى المسلمون على منهاج الأنبياء وأن يتخلصوا وبأسرع ما يمكن من كل الرعونات البشرية التي تهوي بهم نحو المزالق الخطرة ، أسأل : أي طيبة وأية إنسانية وأي سمو في هذا الكلام النبوي الرائع الذي يكل أمر العصاة إلى الله ، لأن رحمة الله جلّ وعلا وسعت كل شيء ؟ ولهذا ولأننا لا ندري الغيب ولا ندري بما يُختم للناس مُنعنا نحن المسلمين شرعاً أن نقول : لعنة الله على فلان فيخصص ، لأن العاقبة مغيبة عنا ، فما يدريك لعل الله جلّ وعلا يمنّ على عبده فيتوب في آخر لحظة ، ولكن رُخص لنا أن نقول : ألا لعنة الله على الكافرين ألا لعنة الله على الظالمين ألا لعنة الله على الفاسقين على سبيل العموم والإجمال ، أما التخصيص فهو ممنوع عندنا شرعاً ، وهذا أدب من آداب الإسلام الذي ربانا عليه القرآن .

 ( ربنا إن أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ) والذي ذهب فزار الديار المقدسة يعلم أن مكة بُنيت فـي واد وبين جبال ، وأنه لم يكن فيها ماء ، وبالتالي لم يكن فيها زرع ، لأن الزرع قرين المـاء ، والمـاء غير موجود ، وإذاً لا زرع ( بوادٍ غير ذي زرع ) أين ؟ قال ( عند بيتك المحرم ) ولنعلم أن هذا الكلام الذي قاله إبراهيم عليه السلام كان قبل بناء البيت ، لكن الله جلّ وعلا بوّأ لإبراهيم مكان البيت انتظاراً أن يشبّ إسماعيل عليه السلام فيعين أباه على بناء البيت كما ستعلمون .

 ( ربنا ليقيموا الصلاة ) وهذا الكلام : اللام التي هي للتعليل أي لبيان سبب إسكان هذه الذرية في هذا المكان حددت السبب الذي جعل إبراهيم يتجشم كل هذه المشاق ويتحمل جميع هذه المخاطر ليسـكن قسماً من ذريته في هذا المكان ، قال ( ليقيموا الصلاة ) وإذاً فالعرب الذين هم من ذريتي إسماعيل عليه السلام إنما بُوّء لهم مكان البيت وأعطاهم الله حرماً آمناً يُجبى إليه ثمرات كل شـيء رزقاً من لدنا ، لكي يقوموا على عبادة الله ولكي يتهيأوا لتلقي رسالة الله ، ولكي ينشروا كلمة الله في الخافقين . ولا بد لنا من أجل استكمال هذه القضية أو لإلقاء أضواء جديدة عليها أن نعود إلى شيء من التاريخ ، تاريخ أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام . وقد ذكرت لكم من قبل وأنا أتحدث عن أوائل السورة أن مجيء ذكر بني إسرائيل في بدايات السورة بعد افتتاحها بالإشارة إلى القرآن الكريم وإلى الأمة العربية يُرشح لمعنى وهـو أن بني إسرائيل لم يستطيعوا أن يتحملوا تكاليف الرسالة ، فخافوا ونكثوا بعهودهم مع الله تبارك وتعالى . إبراهيم عليه السلام كان متزوجاً من قبل ، وامرأته كما تعلمون ( سارة ) من نسل أبيه وجده من عمود النسب ، من بيت النبوات ، من النسب الطاهر الكريم ، ولكن الله جلّ وعلا منع عن إبراهيم الذرية ، لم يرزقه الله بولدٍ من سارة ، وفي أثناء هجرته من أورا الكلدانيين مروراً بالشام ودمشق بالذات وانحداراً نحو فلسطين ووصولاً إلى حدود مصر ، كانت خطوب وخطوب ، كان من عاقبتها أن فرعون مصر ، ملك مصر في ذلك الزمان ، أهدى لسارة جاريةً اسمها هاجر ، ودخل بها إبراهيم فرزقه الله جلّ وعلا إسماعيل ، ويقال إن سماعيل وُلد وكان عمر إبراهيم مائةً وسبعة عشر عاماً ، ولهذا قال هنا ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) ويشاء ربه بعد أن وُلد إسماعيل أن تحمل سارة أيضاً فتلد إسحاق ، وحدث بين المرأتين ما يحدث بين الضرائر في مثل هذه الحال ، وهاجر جارية ، وسارة زوجة ، وغضبت سارة فأقسمت على إبراهيم أن يرحّل عنها هاجر ، وعزمت عليه أن يهاجر بها ، وبالفعل أخذ امرأته وابنها الرضيع وانحدر بهم نحـو الجنوب ، وهكذا حتى بلغوا مكة ، وعند موضع البيت لا ماء لا زرع لا شجر لا ناس ، وتركهم هناك ومضى دون أن يودعهم ، وكانت عندها قربة من الماء ، فنادته هاجر : كيف تتركنا في هذا القفر ؟ فلم يردّ عليها ، ومضى مولياً عائداً نحو الشمال ، وحين كاد يغيب عن ناظريها قالت : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : لن يضيعنا الله . وكان ما كان ، نشأ إسماعيل في القفر والفقر ، وفي الشدة وفي الجوع والعطش ، وفي الوحدة ، ونشأ إسحاق في الريف والغنى وفي كل أسباب الحضارة الموفرة آنذاك ، وكان لذلك ذرية وكان لهذا ذرية ، فالذرية المترفة المنعمة كانت أضعف وأقل من أن تتحمل تكاليف رسالة السماء ، والذرية التي صلب عودها واستكملت قُواها من خلال الشدة ومعاركة الصعاب ومن خلال شظف العيش ومن خلال العيش في هذه الصحراء استطاعت أن تنشأ فتحمل أصعب الرسالات وأكبر الرسالات ، لماذا أقول هذا الكلام أيها الإخوة ؟ أقول هذا الكلام لكي أقرر حقيقةً لا تختص بنا نحن المسلمين فقط ، ولا تختص بنا نحن العرب فقط ، وإنما تختص أيضاً بالناس عامة ، في هذه الأيام لا تكاد تسمع دعوةً وكلاماً إلا وهو يضرب على وتر رفع سوية العيش وتوفير أسباب الرفاهية والمتاع ، وهذا السباق المجنون من أجل توفير طيبات الحياة الدنيا شيء مخيف وشيء مدمر ، وأظن أنني في يوم من الأيام وقبل عدة سنوات قلت لكم : إن الإنسان مما يأسف حينما يجد أن رجلاً ليس من المسلمين ولا من اليهود ولا من النصارى يكتشف أن السباق نحو الرفاهية ونحو رفع وتائر مستوى المعيشة لا يقل خطراً على الإنسانية من سباق التسلح ، فلقد كان زعيم الصين ماوسيتونغ يُنبه إلى هذه الحالة ، ويشير إلى أن السباق نحو رفع وسائل التنمية وتقدمها باستمرار سيفرز في المستقبل مجتمعات لا هم لها إلا أن تأكل وتشرب وتنكح ، أي أنه لا فرق بينها وبين أي حمارٍ يمشي في الطريق .

 إن النبوات وإن الرسالات وإن الأهداف الكبيرة والمبادئ العظيمة ، إن ترقية الحياة الإنسانية ليست شيئاً يستطيع أن يتحمله المترفون ، المترفون ناس ترهلوا وفقدوا أية مناعة وفقدوا القدرة على الصمود في أي موقف ، إنما الذين يستطيعون أن يفعلوا ذلك من هم ؟ هم الذي نشأوا في شظف العيش وفي القلة وفي الفقر وفي الظروف الصعبة ، فقويت أجسامهم كما قويت نفوسهم ، وقويت عزائمهم كما ارتفعت هممهم ، وكذلك كان أجدادكم العرب . ومن أجل ذلك اختارهم الله واصطفاهـم لكي يكرمهم بمحمد ولكـي يشـرفهم بالقرآن فيقول لهم ( وإنه ) أي هذا القرآن ( لذكر لك ولقومك ) أي : شرف تُذكرون به بين الناس ، أنت يا محمد وقومك العرب ، فيقولون : قرآنٌ عربي وإسلام عربي ودين عربي ، وسوف تُسألون ، أي إن الله سيسألكم عن هذه النعمة الجزيلة التي أعطاهم إياها .

 إذاً فهذا المعنى الذي أشارت إليه مناجاة إبراهيم عليه السلام معنى عميقاً شديد العمق ، كم أتمنى على أمتي في هذه الأيام الصعاب والظروف الشداد أن تتنبه لها وأن تعلم أنه لكي تتخطى الصعوبات التي تواجهها ولكي تتجاوز العقبات في طريقها ولكي تتغلب على جميع أعدائها فعليها أن تعيش حالة التقشف وحالة الشظف وأن تشد الأحزمة على البطون ، وعلى جميع الأنظمة في العالم العربي أن تدرك جيداً وهي تواجه الخطر اليومي المتمثل بإسرائيل والقابعة امتدداته في كل عواصم الدنيا ، من الواجب عليه أن تتنبه أن اجتثاث هذا الخطر من الجذور لن تُرشّح له هذه الأيدي المترهلة ، إنه يحتاج إلى عزائم كتلك العزائم التي كانت لا تبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليها ، أما الأبطال الحاليون فهؤلاء فاشلون في السلم والحرب على حدٍ سواء ، على كل الأنظمة العربية أن تشد الأحزمة على البطون وأن تتعرف على معنى حياة الشظف والقسوة ، لأننا لا نريد أن نربي نعاجاً للذبح ولا أرانب خرعة ، وإنما نريد أن نربي رجالاً ، وتربية الرجال ليست بالأمر السهل ، تربية الرجال عملية صعبة ، قاسى منها الأنبياء وقاسى منها المرسلون ، وجربتها أمتنا على أوفى وأكمل ما تكون التجربة ، وهذه قصة إبراهيم تكشف لكم عن هذا المعنى .

 ولا أريد أن أقف عند التعقيبات ، لأن التعقيبات واضحة فيما أرى ، سأقفل هذا الموضوع وإن كنت أتمنى لو أن الوقت أتيح لي لكي اعيد تلخيص السورة بالكامل بشكل منسق ومرتب ترتيباً منطقياً ، لكنني أعتذر عن ذلك .

 آخر شيء أريد أن أقوله لكم ، في آخر جمعة من رمضان قلت لكم إنني سأبقى معكم حتى أفرغ من سورة إبراهيم ، وبعدها أمنح نفسي إجازة طويلة أستريح فيها . المؤسف أيها الإخوة والمحزن أنك تأتي بلاد المسلمين فتفتش على مَن يسد الثغرة فلا تجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من سعادة القبيلة أن تفقه القبيلة كلها . كل القبيلة يكونون علماء فقهاء حكماء نبهاء ، وإن من شقاء القبيلة وإدبار أمرها أن يكون فيها الفقيه والفقيهان ، المحزن أن لا تجد الفقيه والفقيهين في المدينة الواحدة ، لأن الفقه ليس شيئاً عادياً ، نحن نبحث عن الفقه ، فالفقه شيء عزيز في الوقت الحاضر ، ولكننا نبحث عن أي انسان يستطيع ان يسد الثغرة ، أنا واقف بينكم الآن أمامكم وربما في لحظة جاءني قدري فمت ، هل معنى ذلك أن تتعطل مساجد المسلمين ؟ المحزن أيها الإخوة أن الناس أصبحوا يتهربون من أداء الواجب الديني ، فبطبيعة الحال ليس في نيتي أن أرتب المسؤوليات ، فأنا أعرف المسؤوليات ، وقلتها مراراً وتكراراً للمسؤولين عنها ، لكنني أريد أن أقول كلمة صغيرة لإخوتي جميعاً : يا أحبابنا يبدو أني جنيت على الناس ، أدركنا خطباء المساجد وهم يحملون كتاباً يحوي اثنتين وخمسين خطبة ، لكل جمعة من جمعات السنة خطبة يقرأها ، وأدركنا أناساً في جيلي كانوا يقرأون الكتاب المؤلف من عدة مئات من السنين فيدعون لسـلطان ذلك الزمان ، أدركنا هذا . نحن لا نريد هذا اللون من الخطب ، لكنا نريد الذي يقوم بالواجب في أدنى مستوياته وفي أبسط أشكاله ، هل من الضروري أن يخطب الإنسان ارتجالاً ؟ إنني منذ نشأت وليس لأنني خير من أحد ، لكن لأن هاتين العينين لا تساعدانني على القراءة من غير هذه النظارات ، وحتى مع هذه النظارات لا أستطيع أن أقرأ للناس فتعودت على ذلك ، فأصبح كل من يصعد على المنبر يريد أن يخطب ارتجالاً فيُلوّص ، ليس هذا ضرورياً أبداً . بالنسبة لي فقد أتيحت لي ظروف لم تتح لتسعة بالمائة أو أكثر من أبناء هذه الأمة ، وجدت فراغاً ووجدت راحة ، وأستطيع حتى في الظروف الصعبة أن أنسلخ عن كل المشاكل وأقرأ فيما بين يدي من العلم ، فحصلت من العلم ما أحمد الله عليه كثيراً ، هل من الضروري أن يتناول كل خطيب وعلى كل منبر نفس القضايا التي أتناولها وبنفس العمق والشمول ؟ ليس هذا ضرورياً ، إن الناس في مساجدهم يحتاجون في الحقيقة إلى أن يتعلموا مَن يعلمهم أمور دينهم ، ولو كنت أعلم أحداً في هذه المدينة يستطيع أن يتناول الأمور التي أتناولها أقسم لكم بالله لا أتحدث بحرف واحد منها ، لكن لا أحد ، نحن الآن نريد مَن يصعد على المنبر ، ويتلو حديثاً أو حديثين وآية وآيتين ويشرح بما يتيسر دون تهجم على أحد ودون تشريح لوضع ، نحن نعتبر التهجم سفاهة ، ونعتبر التشريح ممن لا يحسن تحليل الأمور غرارة وجهلاً ، هذا الذي نريده لا أكثر ، أي أننا نريد أبسط الأشياء الممكنة ، ومع هذا صدقوني لم أجد أحداً يجرؤ أن يتحمل مسؤولية هذا المنبر ، وأظن أني وقبل عدة سنوات رجعت وقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله ، يبدو أن قدري مرتبط بهذا المنبر ، مع ذلك سأبحث لكم إن شاء الله .

 وأسال الله جل وعلا أن أوفق على من يؤدي الواجب في أبسط الكلمات ، أما الآن فسأظل مستمراً ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قد أختار لكم أحاديث ، قد أختار لكم سورة أخرى أستعرضها معكم ، لا أدري ، المهم أن أبرر لكم تحللي من الوعد الذي قلته من أخر جمعة مضت .

 أسأل الله تعالى أن تكونوا قد أفدتم من متابعة الكلام على سورة إبراهيم ، وأن تكون هذه المتابعة قد أنارت لكم الطريق نحو قراءة أحسن وأجدى وأفيد للقرآن الكريم ، وإذا كان لي ما أوصيكم به فهو هذا الكتاب الكريم ، تعاهدوا كتاب الله واحفظوه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح : ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفت بهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ، فنسأل الله جل وعلا أن نكون من المذكورين عنده وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.