تفسير سورة إبراهيم 6

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة إبراهيم

21 / 6 / 1985

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

(6)

 إن الله مع الذي آمنوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

 في خطبة العيد قلنا إنهم يقولون في الأمثال خير الكلام ما قل ودل ، وقلنا إننا سنتحرى بعد الآن أن نفعل هذا الشيء ، ونحن إن شاء الله تعالى ملتزمون بهذا ، وضمن هذا الالتزام نمضي في سبيلنا لنكمل ما أنزل الله على رسول عليه الصلاة والسلام من سورة إبراهيم التي بدأناها في ظواهر رمضان . ولقد قلت وأنا أتحدث حديثاً لعله أساء إلى البعض في معرض التفكير بأننا لا نحسن قراءة القرآن ، قلت أن الأمر بالرغم من أنه في الظاهر يسيء ، لأنه يشبه أن يكون اتهاماً بعقلوكم في القصور والعجز عن الإدراك ، وما هو كذلك ، لكن المسألة هي مسألة الفارق بين الزمانين ، الزمان الذي نزل به القرآن ، وهذا الزمان ، والفارق بين المزاجين وبين العقليتين وبين النسيج النفسي لأمةٍ مرت بأقوام ، فبعد أن كان العربي الذي تنزّل عليه القرآن يدرك القرآن بكليته وبشموله ، ويدرك تلك الإيحاءات الدقيقة التي يشبه أن تكون علماً بعلم الله يقذفه في القلب ، ويحققه قول الله جلّ وعلا ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) وقوله جلّ وعلا ( ومن يؤمن بالله يهدي قلبه ) هذه المعارف التي تنقدح في الذهن حينما يكون الإنسان منسجماً للغاية مع الموضوع الذي بين يديه فقد غابت في هذه الأيام ، وهذه ليست منقصة لأبناء هذا الزمان ، لكنها في الحقيقة ولا أجامل فيها أحداً اتهام صريح لهذا الجيل بأنه لا يقرأ ولا يريد أن يفهم ولا يريد أن يتعب .. يظن أن المعارف والعلوم تمضي دون جهد من الإنسان ، هذا غلط ، المسألة أعقد من هذا بكثير ، ولكي يتعلم الإنسان عليه أن يعيش العلم بكل جوارحه وطيلة عمره ، وكان بعض تلامذة الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه يلومه من استدامته صحبة الدفاتر والمحابر ، أينما ذهب وأينما وُجد ، فكان يقول مع المقبرة إلى المقبرة . فالذي يريد العلم هذا طريقه ، وجيلنا هذا أنا لا أظلمه وإنما أتهمه بالتكسل والترهل العقلي الذي تجعلنا في بعض الأحيان ننظر إلى المستقبل بشيء غير قليل من الريبة والتوجس والخوف على مستقبل هذه الأمة .

 ذكرت لكم أن القرآن لفظ معجز ، وهذه قضية فرغ منها الناس منذ زمنٍ بعيد ، ومن جملة وجوه الإعجاز في هذا النظم أن كل سورة من سور القرآن الكريم لها شخصية متكاملة ، إذا أنت أدمت قراءتها عدة مرات اتضحت لك معالم الصورة ولو بعض الشيء ، والسورة كما تعلمون تترتب من مقاطع وآيات ، وبعض الناس ممن لم يعايشوا القرآن يتهمون القرآن بفوضى الترتيب إن صح التعبير ، ألأن السور لا تأخذ موضوعاً واحداً فتنتظمه كخيط المسبحة من أوله إلى آخره ، وإنما تنتقل من غرضٍ إلى غرض ، وهذه نظرة الرسالة . والعاجزين عن الفهم والإدراك وتنابلة السلطان الذين يريدون أن يأتي إليهم العلم عن طريق فتح الجمجمة وحقن خلايا الدماغ بالعلم .

 فالحقيقة أن هذه التقارير التي توجد في هذه السورة تأتي لتصب من حيث النتيجة عند الغرض أو الأغراض التي قام عليها بناء السورة الكريمة ، ففي هذا ومن هنا ندخل إلى المقطع الذي نريد أن نتحدث عنه .

 أستأذنكم قبل ذلك بالتذكير ببعض الآيات التي مرت وشرحناها بعض الشيء على قدر المستطاع . إن الله تعالى في الآيات التي مرّت ذكر أمرين بارزين ، ذكر أن النعمة والبسطة في المال والسلطان والعز والتمكين في الأرض وسعادة الدار الآخرة ترتبط أوثق ارتباط بشكر الإنسان لربه على ما أنعم وتفضّل ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) وعلى سبيل الإلحاق بهذه المقولة فإن الله جلّ وعلا أوضح أن ذلك يعني أن هذا الحكم في زيادة النعمة والتمكين تبعاً لدوام الشكر هي للمصلحة الإنسان ، لأن الله جلّ وعلا لا يرتفع إليه من ثواب الأعمال شيء وإنما يرتفع للإنسان ، وقال موسى : ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد ) والدين كل دين بصرف النظر عن الأشخاص الذين يتصور العوام الدين من خلالهم من تقاطيع صورهم الشيطانية ، الدين الحق جاء لمصلحة الإنسان ، وأينما وُجدت مصلحة الإنسان فثم شرع الله ، وهذه قاعدة مجموع عليها بين علماء الإسلام جميعاً فيما أدري . هذه قضية ذكرها الله قبل المقطع الذي سنتحدث عنه والتي يجب أن نبرزها لتكون حاضرة وعتيدة في الذهن الآن ، والثانية التي مررنا عليها وشرحنها أيضاً على قدر المستطاع .

 إن الله جلّ وعلا بعد أن فرغ من الكلام على قصة فرعون وموسى وبني إسرائيل في صورة الإلماح ومرور خاطف وسريع ، وحضّهم على أن يتمسكوا بالذي أُنزل عليهم من ربهم وأن يدعو النتائج لله ، فالنتائج تقع وتتحقق حينما يريد الله ، وليست خاضعةً لرغبتي ورغبتك .. بيّن لهم قضيةً من أهم القضايا ، لعلها سلوكياً هي الفيصل بين الذين يؤمنون بربهم حق الإيمان ويرون أن الإيمان ليس فقط مساوياً للوجود البشري وإنما يعلو عليه أيضاً ، أي أن الإيمان أثمن وأغلى من الوجود البشري ، أشار الله جلّ وعلا في هذه القضية التي تعتبر فيصلاً بين الإيمان الحق وبين الإيمان المدخول فقال ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يومٍ عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ) وعند هذه الآية وقفنا نثير مسألة تدخلّت الشهوات والأهواء والضعف البشري وخور الطبيعة وجبن النفوس في التعمي عليها وتغطيتها ، وهي أن هذه الدنيا لا يوجد فيها باطل مجرد ، لأن الباطل كمفهوم تصور عقلي وليس حقيقةً ماديةً موجودةً على الأرض ، وأن استمرار الباطل حينما نراه مستمراً فذلك لأنه يأخذ وقوده من الحق ، ويأخذ دفعه من أهل الحق ، ويستعير أنفاساً أخرى ليحيا أكثر من أهل الحق ، وأنه تبعاً لذلك فالمؤمن الحق لا يحتاج في الحقيقة من أجل تدعيم حقه والعمل له على سنة الأنبياء ونهج المرسلين أن يجرّد السيف فيستعرض الناس ويقتل من هب ودب ، ليس الأمر إطلاقاً . يا حبيبي ارفع يدك عن أهل الباطل وكفى ، ارفع يدك عنهم فيسقطون بطبيعة الحال ، لأنه كما قلنا الباطل لا يتحيز واقعاً على الأرض ، لا يمكن . هذه القضية في الحقيقة تعتبر من أهم المشكلات في طريق الدعوة حينما نتقرّاها في سنن الأنبياء والمرسلين ، حينما نستعرض قصص النبيين في القرآن الكريم نجد الله سبحانه وتعالى يذكر قصصاً عن أنبياء منهم من آمنت لهم طوائف من الناس ، ومنهم من آمنت لهم أعداد قليلة ، ومنهم من لم يؤمن له أحد ، ومنهم من آمن له رجل واحد ، وأظن أنني مثلّت لذلك بإبراهيم الخليل الذي تتشرف النبوات الثلاثة الأخيرة اليهودية والنصرانية والإسلام بانتسابها إليه ، هذا النبي الذي نسميه أبا الأنبياء لم يؤمن له إلا لوط عليه السلام ، لكن هذا ما نزل بقدر إبراهيم عليه السلام ، بل كما قال الله قد جعل الله له لسان صدق في الآخرين وجعله من ورثة جنة النعيم .. وعلى مر الدهور سيُذكَر إبراهيم الخليل عليه السلام على أنه أبو الأنبياء وأحد أهم الأنبياء الذين أرسلهم ربنا جلّ وتعالى إلى الناس ، هذه واحدة .

 وأخرى فمن ملاحظة قصص الأنبياء نلاحظ ظاهرةً بارزة .. أنبياء جاؤوا إلى أقوامهم ، بلغوهم ما حمّلهم الله جلّ وعلا من الرسالة ، وصارحوهم أنهم لا يسألون الناس على هذا التبليغ أجراً ، بل أكثر ، فإن محمداً عليه الصلاة والسلام قال للعرب الذين خاطبهم بهذا القرآن ( قل ما سألتكم عليه من أجرٍ فهو لكم ) فدعوة إلى الخير والحق ودعوة إلى عبادة الواحد الأحد وتكسّب وارتزاق لا يجتمعان ، كما لا يجتمع الليل والنهار وكما لا يجتمع النهار والليل ، فإما سرسري مرتزق وإما مؤمن تقي وقّاف عند حدود الله جلّ وعلا . الأنبياء كانوا بهذا الشكل ، بلغوا الناس كلام الله وقالوا لهم ( قل ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على الذي فطرني ) وحينما شذ الطبع البشري وهبط إلى وحل الطبيعة المنحطة لاحظنا النتيجة أن الوحي السماوي يتنزل على هؤلاء الأنبياء أن هؤلاء الناس لا خير فيهم اخرجوا واتركوهم ، وحين يدير النبي ظهره لقومه يتنزل العذاب على هؤلاء الأقوام فيهلكهم الله جلّ وعلا .

 هذا يلاحظ بكل وضوح وبكل جلاء حينما نقرأ بتدقيق قصص النبيين والمرسلين ، وفي زمن نبينا صلى الله عليه وسلم فإن هذه القاعدة من قوانين الاجتماع الإسلامي وقوانين الحركة الإيمانية برزت على لسان القرآن ، موحاةً إلى محمد صلى الله عليه وسلم حينما كان المسلمون يقاسون العذاب في مكة ويُؤمرون من قبل معلمهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل وبالصفح الجميل وبعدم رد الأذى وبمقابلة ذلك كله بالاحتساب وطلب الثواب من الله جلّ وعلا ، لكن النفوس ليست كلها قادرةً على أن تحلّق إلى هذا الأمد الأقصى وهذا الأفق الأرفع ، بعض النفوس تضيق بالعذاب وتضج ، فكانوا يتساءلون لماذا ونحن أرباب الحق وأتباع النبي والمصدقون بما جاء من عند الله .. لماذا يُسلّط علينا هذا العذاب كله ولا ينتقم لنا ربنا جلّ وعلا ؟ فجواباً على ذلك جاء الخطاب الإلهي للناس على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وحياً يُتلى وتتعبدون به في صلواتكم ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) فوجود النبي في قومه عاصم لهم من العذاب ، لكن إذا أدار النبي ظهره لقومه وهاجر منهم فقد حقّت عليهم كلمة العذاب .

 وندور أيضاً ضمن الحلقة فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى خطر هذه المسألة إشارةً منتزعة من التاريخ ، فيقول للمسلمين في حديث صحيح رواه الأئمة : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن علماءهم كانوا يرون العاصي منهم ، فيقولون له : يا هذا اتق الله ودع هذا فإنه لا يحل لك ، ثم تمادى بهم الأمر فما لبثوا أن جالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكان يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . فاختلاط الأوراق بالشكل الذي يفعله الناس غلط ، وانتظارهم للفرج والنصر والتأييد الإلهي غلط أفحش ، لأن سنة الله جلّ وعلا الماضية في خلقه لم تجرِ ولن تجري على هذا الشكل ، ولهذا فإن عائشة رضي الله عنها حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عما يمكن أن يحدث في المستقبل لهذه الأمة ، قالت له : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ، يعني إذا كثر الفاسدون والمفسدون والضالون والمضلون وسكت أرباب الحق هناك . أيضاً ضمن الصورة ناحية أخرى أجد من الأمانة أن أبرزها ، أنا قلت لكم إن هذه الملاحظة هي من أبرز الملاحظات التي يمكن أن تلاحظ في قصص النبيين ، لكن المسألة يجب أن لا تُقصر على النبيين فقط ، إنها سنة ماضية في الاجتماع البشري أبد الدهر ، فالله جلّ وعلا يذكر عن أقوام جاءتهم أنبياء واستأثر الله بهؤلاء الأنبياء فقبضهم إليه ، ومضت أممهم في طريق التطور البشري ودخلت عليهم من شوائب الحياة وسيئات الحياة ما يعكر الصفو ويدق القواعد التي ترك الأنبياء عليها أممهم ، لكن أمماً من الأمم وُجد فيها أناس ينفذون الحق ويثبتون على الحق ويدافعون على الحق على طريقة الأنبياء ، بوضوح وثبات ورجولة وشرف وعدم تخوّف ولا إدهان في دين الله تبارك وتعالى ، وحينما قامت في وجوهم طوائف الشر والبغي والعدوان فعل الله بهم ما فعل بأنبيائه ، قال ( ثم أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ) ولعل الناس يدركون المغزى العميق للغاية لهذه المقولة ، فعلماء الإسلام وحراس الحقيقة الإسلامية يجري عليهم من قبل الله جلّ وعلا في مجال العز والتمكين والإنجاء من أعداء الله تعالى نفس القانون الذي يجري على الأنبياء ، فهذا الشيء ومنذ زمن بعيد منذ مئات السنين أدى إلى ارتباكاتٍ خطيرة ما زلنا وسنظل للأسف إلى أمدٍ طويل نعاني منها حتى يأذن الله جلّ وعلا ببروز عقليات وأشدد ببروز عقليات تفهم الإسلام بصفائه وبنقائه وبطهره وبرغبته في إحلال السلام والوئام بين الناس وبرغبته في إيصال الخير إلى الناس جميعاً وبرغبته في أن يحقق جنة الله التي في السماء على هذه الأرض .. حينما تنشأ عقليات من هذا النوع في هذه الأمة فإن لنا أن نستبشر بمستقبل باهر وسعيد وقريب .

 أرى أن هذه المقدمة أخذت منا شيئاً كثيراً ، لكنها ضرورية للغاية ، لأنها هي المدخل الذي ندخل منه إلى المقطع ، لن أقف طويلاً عند المقطع تحقيقاً للالتزام الذي التزمنا به وهو أن نقف مع المثل : خير الكلام ما قل ودل . وسترون أنه إن قُدّر لنا ان نتحدث إليكم بعد انتهائنا من سورة إبراهيم ، سيكون كلامنا أقصر وأوجز إن شاء الله .

 بعد الآيات التي تلوناها في الجمعة التي سبقت العيد يأتي قول الله جلّ وعلا بعد هذه التهديدات ( ألم تر ) والخطاب هنا لمحمد صلى الله عليه وسلم ( إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار ، وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم النار ، قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ، الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) هذا المقطع لترون كيف تخدم الأغراض الرئيسية في السورة ، هذا المقطع جاء نتيجة للكلمات التي لخصناها الآن والتي مهّدت لها آوائل السورة ، أخبرنا الله جلّ وعلا في لمحةٍ خاطفة عما كان من شأن موسى وبني إسرائيل وفرعون وهامان وقارون وما أشبه ذلك ، وبيّن له أن هذا كله الذي يراه من ثورة الباطل وجبروته لا قيمة له ، وأن العاقبة للتقوى ، وأن العاقبة للمتقين ، وأن الزبد يذهب جفاءً ، وأن الذي ينفع الناس يمكث في الأرض ، وهذه الدنيا قامت على الحق ( ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق ) فخلق الله وكونه ، مادي وغير مادي ، قام بالحق وعلى موازين دقيقة ، والذي يريد أن يعتدي على هذه الموازين وهذه القوانين تعاقبه هذه القوانين فتفوت عليه غرضه ، فجعله في مواجهة الواقع الذي يعيشه هو والمسلمون ، في غمرة الصراع الذي خاضه النبي والذين آمنوا معه مع كفار قريش .

 لاحظوا أيها الإخوة .. سورة إبراهيم مكية ، والآيات التي تلوناها والتي تقول ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ) تشير إلى الذي وقع لكفار قريش بعد الهجرة في غزة بدرٍ الكبرى ، وغزوة بدر كانت على رأس ثمانية عشر شهراً من مُهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو إخبار بغيب ، إخبار عن مستقبل ، لكن على طريقة الله . لاحظوا .. في مكة نزل قول الله جلّ وعلا ( الم ، غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد خلفهم سيغلبون ، في بضع سنين ) وبالفعل تغلب الروم على الفرس ، لكن التعبير القرآني كيف جاء ( وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) بصيغة المضارع الذي فيه سين التسويف ، أي فعل مضاف إلى المستقبل ، أما هنا فالمسألة أخذت شكلاً آخر من أشكال التعبير الذي أتمنى على أبنائي من شباب اليوم أن يُدركوه بتعمقهم في لغتهم وفي قواعدها وبلاغتها وأساليبها في الأداء . هنا قال ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار) ما الفرق بين استعمال الفعل الماضي في الإخبار وبين استعمال الفعل المضارع في الإخبار ؟ الفعل المضارع حتى حينما لا يكون مضافاً إلى المستقبل هو عبارة عن شروع في فعل يقع الآن أمامنا وبين أيدينا ، لكننا حين نخبر عن المستقبل بصيغة الماضي فنحن ننقل المستقبل إلى مجال التحقق والوقوع ، لأنك لا تقول : فعل فلان كذا ، بصيغة الماضي إلا وهو قد فعله فعلاً ، فحينما يقول ( وأحلوا قومهم دار البوار) يشير إلى تحقق هزيمة الباطل لكن ليس في الوقت التي نزلت فيه الآيات ، وإنما بعد الهجرة . وحينما تقوم قائمة الأمة وحينما يكون الاصطدام محتماً بين معسكرين لا حياة على رقعةٍ واحدة لهما إلا لأحدهما ، الأرض إما لهذا أو لهذا . وهذه الآية تعتبر من معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن شواهد النبوة ، لأنها أخبرت عن غيبٍ تحقق بالفعل .

 حينما نرى بعد هذا المقطع أن الله يذكر الناس بآلائه ونعمه ، الآلاء والنعم التي أعطاهم الله إياها ، نستذكر حقيقة : أن تعصي الله بنعمتك ذلك عمل غير أخلاقي ، حينما أعطيك مبلغاً من المال فتذهب لتشتري مسدساً تصوبه على رأسي وأنا الذي أعطيتك قيمته ، هذا سقوط في الأخلاق ، أليس كذلك ؟ الله الذي أنعم عليك نعمه وأوجدك من العدم وسخر لك ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، تستخدم نعمه وآلائه لمعصيته وللصد عن سبيله ؟ هذا أيضاً سقوط في الأخلاق . لكن قل من الناس من يدرك هذه الحقيقة أن القرآن في الواقع نبه العرب وهم الأمة المختارة والمصطفى لحمل الرسالة إلى آخر الزمان ، نبههم بصرائح الأمر ، على النعم التي أولاهم إياها ، هم الذين عايشوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، والتي أولاها آبائهم وأجدادهم من قبل ، ذكّرهم بأمور ، ذكرهم بشيء شهدوه حدث في عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن الأحباش حينما هجموا على مكة ليحطموا الكعبة ثأراً لكعبتهم ( كنيسة القليس ) في اليمن لم تردهم جموع قريش ، ولم يتقابل الأحباش في مقابلةٍ عسكرية مع العرب ، وإنما الله هو الذي تولى ذلك ، فأنزل لهم سورة اسمها سورة الفيل فقال ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارةٍ من سجيل ، فجعلهم كعصفٍ مأكول ) ذكّرهم أيضاً بتيسير أمور معاشهم ، فالعرب في جزيرةٍ قاحلة ، لا ماء ولا زرع ، ويكاد يكون لا ضرع أيضاً ، وحينما يجف القطر من السماء تصبح حياة الناس مأساة بل جحيماً لا يقاوم .. مع ذلك فإن الله تعالى ذكّرهم لأنه وضعهم في رقعةٍٍ من الأرض ممتنعة على الجيوش الجرارة ، لا تصلح أبداً لزحف الجيوش في العالم القديم حتى تُستعمر ، فظلوا أصحاب نفوس أبية وعزائم كبيرة وهمماً عالية ، وظلوا سادةً في الجهل في أرضهم وعلى بلادهم ، حتى الذين كانوا مجاورين للأسدين فارس والروم استطاع العرب أن يمتصوهم في تلك المناظر ، الجنوب جنوب الجزيرة العربية كان مستعمراً للأحباش ومستعمراً للفرس ، ومع ذلك فإن الأبناء من اليمن هم في أصولهم من آباء فرس لكنهم من أمهات من اليمن ، وتعربوا وأصبحوا عرباً يستوون مع العرب ، وكذلك فعلوا بالغساسنة ، الغساسنة والمناذرة الذين كانوا يجاورون الروم ويجارون فارس ، لم تستطع قوة هاتين الدولتين أن تؤثر عليهم وهم مجرد عمال لهم ، وحرب ذي قار التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم أنها أول يومٍ انتصفت فيه العرب من العجم كانت بسبب أن كسرى أراد أن يخطب فتاةًً لبعض ولده من بنات العرب ، والعرب لا تزوج الأعاجم ، فقامت حرب ذي قار ولقيت فارس الهزيمة على يد القبائل العربية .

 نعمة العزة ونعمة الكرامة نعمة يقدرها الرجال الأحرار الشرفاء ، هذه النعمة ذكّرهم ربنا جلّ وعلا بها ، وذكّرهم قبل ذلك بأنهم بموقعهم الجغرافي ليسوا محتاجين إلى أن يكونوا أصحاب مزارع ولا أن يكونوا أصحاب مواشٍ ولا أن يكون أصحاب مصانع ، فيكفيهم أنهم في الوسط بين العالم القديم كله ، وأنهم أصحاب الإيلاف الذي يسافرون فيه إلى اليمن ويسافرون فيه إلى الشام ويسافرون فيه إلى الحبشة ويسافرون فيه إلى مصر بالتجارة ولتنمية الثروة ولتيسير أسباب المعيشة ، وأنزل الله جلّ وعلا عليهم أي على المسلمين سورةً خاصة سُميت باسم قريش ذكرتهم بهذه النعمة فقال عز وجل ( لإيلاف قريش ) والإيلاف هي المواثيق والعهود التي أخذها القرشيون من ملوك الدول المجاورة التي تشبه المعاهدات التجارية وما شابه ذلك ( لإيلاف قريش ، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) من هنا أيضاً ومن عند كلمة الخوف ننفذ إلى النعمة الأخرى التي ذكّر الله جلّ وعلا بها الحرم .

 الحرم منذ زمن الخليل إبراهيم عليه السلام ، ومنذ أمر ببناء الكعبة ، اعتبر الحرم منطقة أمانٍ وسلام ، واستمر هذا الوضع حتى إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت العرب تعظم هذه الحرمة في جاهليتهم ، والرجل إذا رأى في الحرم قاتل أبيه أو قاتل أخيه لا يمكن أن يفعل معه شيئاً ولا أن يسيء إليه ، لأن الحرم مكان الأمان ومكان السلام ، وعائد الحرم لا يهان أبداً . بهذه النعمة ذكرهم ربنا جلّ وعلا فقال ( أولم يروا ) هؤلاء المعاندون المشكادون الجاحدون للنعمة الناكرون للجميل ( أولم يروا أننا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) وذكّرهم كذلك بأن من شرع إبراهيم الخليل عليه السلام أنه كما أن في المكان حرمة كذلك فإن في الزمان حرمة ، فقال جلّ وعلا ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشرة شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا بهنّ أحداً ) فهذه النعم التي جعلت حياة العرب أولاً عزيزة وكريمة ومنيعة على الأعداء ، وهيأتهم بأن يكونوا الأمة المختارة ، الأمة المستطفاة ، الأمة التي لم تذلل ولم تقهر .. لكي تحمل الرسالة التي تحتاج إلى همم الرجال وشرف الرجال وعزائم الرجال . هذه النعم الكثيرة كان يجب أن تقابل بتصديق محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، أن تقابل بالإزعان والإخبات بين يدي الله تبارك وتعالى ، لكن الأمر كان على خلاف ذلك كما رأيتم وكما سمعتم في هذه السورة وفي سور أخرى ، فالله جلّ وعلا ذكّر في الآيات التي تلوناها في الآخر ذكّر العرب بهذه النعم جميعاً ، وإذا كان من الأخلاق أن تستعمل نعمة صاحب النعمة فيما لا يسيء إلى صاحب النعمة فكيف بمنعم النعم ؟ هل من الأخلاق وهل من الشرف الإنساني أن يعطيك الله كل شيء فتنساه ؟ لا ليس فقط تنساه وإنما تتخذ معه آلهةً أخرى ( وجعلوا لله أنداداً ) والأنداد هم النظراء والمماثلون ، تصوروا ذلك ، وتصوروا ضلال العقل وتصوروا فساد الطبع البشري ، الكعبة فيها أصنام مرصوفة على جوانبها ، بأيديهم نحتوها من الحجارة ، بأيديهم نحتوها من الحجارة أو من الخشب ، في بيوتهم أصنام ، ربما لا يجدون طيناً يصنعون منه صورةً يتقربون إليها لأنها صنم ، فيطبقون التمر على بعضه ويصنعون منه صنماً ، فإذا جاعوا أكلوه ، يأكلون ربهم المصنوع من التمر ، هذه الآلهة الزائفة التي صنعتها أيديهم يجعلونها أنداداً قرينة ومثيلةً لله جلّ وعلا .

 هذا الواقع أيها الإخوة هو الذي ثار عليه الإسلام ، ثار عليه الإسلام لأنه الشرك ، ليست مسألةً فردية يُصاب بها مريض ونقول : عمره . لا وإنما هي جريمة إنسانية ضخمة ، وحينما هاجمها الإسلام بهذا الشكل ، فإنما كان يدافع عن حرم الله ، هذا المقطع لا أريد أن أقف عنده أكثر من هذه الوقفة ، معيداً إلى ذهنكم أنه مرتبط أوثق ارتباط بكل المقاطع التي سبقت ، وسترون أن التمهيدات التي ستأتي بعد ذلك أيضاً تخدم ذاك الغرض لكي تثّبت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من واقع التفكير النظري ومن واقع التجربة البشرية ومن المثل المضروب له من قِبل الأنبياء ومن الواقع الذي عاشه في صراعه مع المشركين أن رعونة الباطل لا شيء ، وأن الباطل إلى زوال اليوم أو غداً أو بعد سنة أو بعد ألف سنة ، المهم أن الباطل محكوم عليه بالإعدام ، وأن على أرباب الحق أن تكون ثقتهم بحقهم مساويةً لثقتهم بالله تبارك وتعالى ، لأنها مواعيد الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه القضية فقال : والذي نفسي بيده وهو الله لا يتم إيمان أحدكم حتى يكون أوثق بما في يد الله مما هو في يده . هذه بيدي يجب أن تكون ثقتي بوعد الله ، وهو غيب غير منظور ، أعظم من ثقته بأن هذه بيدي ، فالمؤمنون عليهم أن يدركوا أن الحق حق ، وما جاء الحق ليلهثوا ، ولا ليدبر ، لا ، جاء الحق ليرتفع ، لأنه هو العلاج الشافي للإنسان ، والإنسان خُلق بالأصل ليقيم الحق والخير والمعدلة على هذه الأرض . فهذه الآيات جاءت تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وتطميناً لهم وهم يخوضون غمرة هذا الصراع الشرس في مرحلةٍ كانوا مأمورين فيها بكف اليد عن خصمه .

 أتمنى إن شاء الله أن تكون عبرة هذا الكلام قد اتضحت لكم ، لأنني لا أملك أن أوضح الأمر أكثر من هذا الشكل ، وأظن أنني لو أردت أن أبسطه أكثر من هذا لخرجنا إلى السخف وإلى الإسفاف ، ولا داعي لهذا ، فالمسألة بهذا الشكل أصبحت مفهومة . يبقى لنا من سورة إبراهيم مقطع آخر أتمنى إن شاء الله على الله تعالى أن يوفقنا للحديث عنه في الجمعة القادمة ، لنطوي سورة إبراهيم ، ونرى بعد ذلك ماذا يقدر الله ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.