لا للتكفير الظالم نعم لحُسن الفهم

خطبة الجمعة 13 / 11/ 2015م

1 صفر/ 1437هـ         

الطريق إلى الإصلاح:

 على طريق حسن العلاقة مع الله لا بد من حسن التلقي، ثم إلى حسن الفهم، ثم حسن التطبيق. وواسطة العقد في ذلك حسن الفهم. ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ [الأنبياء: 79]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].

(عن مُعَاوِيَةَ t يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ») صحيح البخاري، 71.

وبداية ذلك صحة منهج التفكير

 كيف نفكر؟ كيف نبني تصوراتنا ومواقفنا؟ ما هي مصادرنا؟

لكل علم منهج دقيق يضبطه

 فالفقه يضبطه علم أصول الفقه.

ونقد الحديث يضبطه علم أصول الحديث، والتفسير له أصوله، وهكذا.

مشكلات بسبب خلل المنهج:

ومن أخطر مشكلاتنا بسبب عدم حسن الفهم وعدم دقة منهج التفكير أن نقع في التكفير أو التبديع أو الاقصاء أو اتهام النوايا أو التخوين أو ادعاء الحقيقة واحتكارها.

ومن هنا نود أن نقف مع هذه القضية؛ قضية التكفير، إذ هي نتاج عقلية إقصائيةٍ أحادية احتكارية ضيقة ظاهرية.

معالجة لمشكلة التكفير:

لذلك علماؤنا وضعوا ضوابط دقيقة في هذا الشأن:

1-               عرَّفوا الإيمان أنه التصديق الجازم القلبي، وأن العمل ثمرته، أي إن الخلل في العمل لا يؤدي إلى التكفير.

أما الخوارج فهم الذين جعلوا العمل جزءاً من الإيمان و الخلل في العمل يُكفِّر، وكل من سار في التفكير بهذه الطريقة إنما هو متأثر بفكر الخوارج؛ الذين أخبرنا عنهم أَبو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ قِسْمًا، فَقَالَ ذُو الخُوَيْصِرَةِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ: «وَيْلَكَ، مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ»)صحيح البخاري، 6163.

2-                    ولذلك فمنهج أهل السنة يقوم على أساس أن التكفير لا يكون إلا بسبب الخلل في أصول الاعتقاد القطعية اليقينية، أو من أنكر قطعياً محكماً لا يحتمل تأويلاً ولا تخصيصاً ولا نسخاً.

3-  ومن أدلة أهل السنة في ذلك:

1- ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾ [النساء: 48]، وينظر سورة النساء الآية (116).

2- ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9].

فسماهما مؤمنين مع كونهم اقتتلوا، أي أخلوا بالعمل.

    3- وقال عليه الصلاة والسلام: عَنْ عُثْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ») صحيح مسلم، 26.

-  (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ») مسلم، 29.

4- وقال r:  (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ») صحيح البخاري، 391.

5- وحذَّر من التكفير r، كحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا») صحيح البخاري، 6104.

إذاً المكفِّرون على ماذا يعتمدون؟

1-             يوردون حديث: (وتفترقُ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النارإلا واحدة) أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهم بألفاظٍ متعددةٍ، مع أن الحديث مختلف في صحته، وأرجح عدم صحته، لكنه لا يحكم بالتكفير ثم كل فرقة تدعي أنها هي الواحدة فلا يصح الاستدلال به.

2-     وأكثر ما يستدلون به قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]،

 والجواب:

1- أن هذا عام مخصوص، ووجه الخصوص أنه لا يحكم بالتكفير إلا لمن يحكم وهو قادر ويعلم الحكم وكان قطعياً وانتفى المانع من التطبيق، وجحد حكم الله، فهذ إن لم يحكم بما أنزل الله فيكون حكمه الكفر، فهذه خمس مخصصات.

2- إذاً فرق بين الموقف العقدي والعملي.

3- وفرق بين القطعي والظني.

4- وكثير مسكوت عنه.

5- ما هو مفهوم الحكم بما أنزل الله؟ فهنالك حرية الاعتقاد في الدنيا﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، وحرية العبادات من ذلك، وقوانين الأحوال الشخصية التي تخص كل فئة فبقي العقوبات والقانون العام والهوية والأخلاق، وهذه لا بدَّ لها من شروط دقيقة.

6-        التعامل مع أحكام الله تأتي على مراتب: فهناك مرتبة الدعوة، ثم مرتبة العلم، ثم مرتبة التزكية والتربية، ثم مرتبة الفتوى، ثم التشريع، ثم القضاء، ثم التنفيذ، وهنا لا ينكر في موضوع التشريع والتنفيذ والقضاء مبدأ التدرج أو التطبيق قدر المستطاع أو التطبيق الجزئي أو المرحلي عند عدم القدرة،كقصة يوسف والنجاشي.

7-        مما يدل على أن المسلمين أحياناً يضطرون إلى عدم التطبيق الكلي للشريعة لظروف خارجة عن إرادتهم ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]، ففي حالة عدم التمكين لا يمكن التطبيق الكامل.

﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]

8-    ومع كل ذلك فثمة أمور لا يتساهل فيها الشرع: كالحريات العامة والحقوق والعدل والولاء والعدالة الاجتماعية والأمانة والصدق والنزاهة، وهنا لنا أن نتساءل، لماذا إذا وصل إلى الحكم صالح مصلح متدرج معتدل أمين نزيه يحب العدل يحفظ الحريات، صادق، يحفظ الدماء والأموال والأعراض؛ انبرت ألسنتهم بالتكفير بدعوى عدم التطبيق الكامل للشريعة؟ مع أن الله يقول: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].

 إذاً قد لا يكون هناك تمكين كامل فلا يستطيع أن يحقق كل ما يريد.

مقولات:

إن بعض هؤلاء المكفرين بسبب الخلل في الفهم ينطبق عليهم مقولة: (مرجئة مع الظمة خوارج مع المصلحين) وآخرون ينطبق عليهم مقولة: (مرجئة مع الحكام خوارج مع الناس).

حسن الفهم:

 إن المخرج من ذلك كله هو حسن الفهم للكتاب والسنة، وتقوى الله تعالى، والمراقبة الشديدة، فليتقِ الله هؤلاء في المسلمين.

الحريات:

البعض يُكفِّر بعض الحكام لأنه أعطى حريات للناس أو رضي بديمقراطية، مع أن البديل عن ذلك هو الاستبداد والقهر، وعندما يكون هناك حريات حقيقية حتى لو قدَّرنا وجود بعض المفاسد الأخلاقية فأول المستفيد من الحريات الحقيقية هم المسلمون، وعندما يستطيع المسلمون أن يؤمنوا البدائل يستطيعون أن يتجاوزوا كثير من المشكلات، إن الله عندما ذكر مهمة النبي قال: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]، مما يدل على أن الحكم  هو نتيجة عندما يستطيع الدعاة القيام بمهماتهم.

معاناة المسلمين:

المسلمون هم الذين عانوا جداً من منع الحريات، وغالباً باسم الحكم الذي يسمى علماني إذ منع الحجاب والأذان، ولا مدارس دينية، ولا حق تشكيل أحزاب بمرجعية إسلامية، بينما لو قبلنا أن يحكم المصلحون وأعطوا حريات حتى لو استغلها اللأخلاقيون فإننا نعطي المسلمين كل الحريات أيضاً.

وسوم: 642