ومن شر حاسدٍ إذا حسد

حكايات عن القرآن الكريم

للفتيان والفتيات

- 3 -

بسم  الله الرحمن الرحيم

في الليل يجب الحذر

عبد الودود يوسف*

أفاق الناس من نومهم عند منتصف الليل. سمعوا صارخاً يصيح:

- يا أبا محمود، أدرك ابنك قبل أن يأكله الضبع.. رأيته يسير خلف الضبع كأنه مضبوع.. ناديته فلم يلتفت إلي..

خرج أبو محمود من بيته كالمجنون وبيده عصاه. صرخ:

- أين رأيت ابني محمود يا بركات؟.. تعال دلني عليه..

أسرع بركات نحو بيته وهو يصيح: سآتي ببارودة الصيد والفانوس ثم ألحق بك فوراً.. اسبقني إلى النبع قرب المنحدر..

وصلا إلى النبع معاً.. صاح بركات:

- أنا أحمل الفانوس، وأنت تبتعد عني حتى نرى ما حولنا.. أسرع خلفي حتى نلحق بمحمود قبل أن يحصل له شر..

صرخ أبو محمود: كنت دائماً أنبه ابني محموداً أن يكون حذراً عندما يخرج في الليل. كنت دائماً أقول له: إن غسقنا مظلم.. ودواب الأرض ووحوشها كثيرة حول قريتنا لكنه لم يسمع كلامي..

صرخ بركات: انتبه أبا محمودٍ... لقد اقتربنا..

فجأة.. سمعا عواءً عالياً.. صاح أبو محمودٍ:

- انتبه يا بركات... أرى أمامك شيئاً يتحرك..

قفز بركات على شجرةٍ قريبةٍ.. فأضاء الفانوس الذي يحمله الساحة كلها.

نظر أبو محمودٍ فرأى شيئاً أفزعه.. رأى ثلاثة من الضباع تدور حول جثةٍ تتخبط. وقعت على يده قطرة ساخنة.. نظر إليها فإذا هي قطرة دم.. حمل عصاه وهجم.. عوت الضباع الثلاثة معاً من هول المفاجأة.. وبضربةٍ واحدة من عصا أبي محمودٍِ وقع ضبع من الثلاثة مقتولاً.. وفر الضبعان الباقيان بعيداً.. نظر أبو محمودٍ إلى الجثة التي كانت تتخبط.. إذا بها ضبعً كبير رأسه مكسر.. وقربه حجر كبير مملوء بالدماء..

سأل نفسه: هل كسر ابني محمود رأس هذا الضبع بهذا الحجر؟..

لكنه لم يجد ابنه محموداً.. صرخ بأعلى صوته:

- أين أنت يا محمود؟..

سمع حفيفاً على الأرض قربه.. التفت فرأى رجلاً يقف أمام جثةٍ ممدودةٍ على الأرض.. أسرع مقترباً منهما.. رأى بركات يغسل وجه محمودٍِ بالماء.. ومحمود بلا حراكٍ.. صاح:

- هل أصاب ابني مكروه يا بركات؟..

همس بركات: لا.. لا.. أراه يتنفس.. بانتظام.. يبدو أنه قد أغمي عليه..

سمعا حفيفاً يقترب منهما.. قفز بركات إلى بندقيته وأطلق.. اقترب منهما أبو محمودٍ،... ثم ضحك عالياً وصاح:

- هذه مكافأتك يا بركات.. لقد اصطدت أرنباً يزن رطلين..

صاح بركات: ظننتها أفعى..

سمعا حفيفاً جديداً.. سدد بركات بندقيته.. صاح به أبو محمودٍ:

- إياك أن تطلق النار.. إنه محمود قد أفاق..

أسرع أبو محمود إلى ابنه.. وساعده حتى جلس.

صاح بركات: الحمد لله على سلامتك يا محمود..

قال له أبوه: كيف أنت يا بني؟..

هز محمود رأسه وهمس: أنا بخير والحمد لله.. كاد الضبع يأكلني فصارعته حتى صرعته.. لكنه ضربني برجله على رأسي ففقدت وعيي..

همس أبو محمودٍ: ألم أحذرك يا بني من شر ما خلق الله إذا أقبل الغسق وغاب النهار؟.. إن الليل إذا أقبل يا بني.. خرجت جميع مخلوقات الله المختفية.. فيجب أن تحذرها يا بني.. على كل حال الحمد لله على سلامتك.

اقترب منه وهمس في أذنه:

- أنحملك على أكتافنا أم تسير معنا إلى القرية على رجليك؟..

ضحك محمود وقفز وعاد الثلاثة إلى قريتهم غانمين..

استقبلت القرية كلها أبا محمودٍ وهو يحمل الأرنب الذي اصطاده بركات ببندقيته.. ورأوا ابنه محموداًَ يجر الضبع الذي قتله بالحجر كما رأوا بركات يجر الضبع الذي صرعه أبو محمود بعصاه.. أوقد أبو محمودٍ النار في باحة القرية.. وشوى الأرنب الكبير.. وأكل أهل القرية جميعاً منه فرحين بسلامة محمودٍ الغالي وقام أطفال القرية يطوفون حول الضبعين المقتولين..

عاشت القرية بعدها شهراً وأهلها يتحدثون عن شجاعة أبي محمودٍ وابنه.. كان الآباء يحذرون أبناءهم من شر ما خلق الله حول قريتهم من دواب وحيواناتٍ تخرج من أوكارها حين يأتي الليل ويغطي الغسق دنياهم كلها.

الحاسد يهودي

كان واحد فقط من أهل القرية مزعوجاً لنجاة محمودٍ فقد بات شاؤول تلك الليلة غاضباً مقهوراً.. ومن شدة غيظه كاد ينطح الجدران حوله.. صنعت له زوجه طبق أرز مع قطع كبيرة من لحم الدجاج الذي يبهج النفس.. قالت لنفسها: لعل زوجي يخف غضبه حين يأكل هذا الطعام اللذيذ..

قربت إليه الطعام، فرمى بصحونه بعيداً.. وصاح: لا أريد طعاماَ ولا شراباً..

كانت تعرف سبب غضبه.. كان شاؤول يتمنى أن يموت محمود.. ويموت معه أولاد القرية جميعاً.. كان أهل القرية كلهم لهم أولاد.. أما هو فليس له ولد..

لم ينم تلك الليلة حتى سمع صوت الديك وسمع بعده صوت المؤذن يقول: الله أكبر.. الله أكبر.. سمع جاره أبا محمودٍ يصيح: هيا يا محمود. قم للصلاة قد ظهر الفلق أطل الصبح يا بني.. لدينا عمل كثير.. سنقطف اليوم ثمر العام كله.

أجابه ابن: أمرك يا أبي سأصلي وألحقك إلى البستان فوراً..

بعد قليلٍ رأى شاؤول جاره أبا محمودٍ يركب على حماره ويتجه إلى بستانه.. وبعد قليل لحقه ولده.. سمعه يقول:

- سبحانك يا رب هذا الصباح.. هذا الفلق.. ما أعظمك وما أجمل ما خلقته.. ما أحلى الدنيا عندما يجيء الصباح.. نسيم طري.. وأفق جميل..

ضرب شاؤول نفسه.. صرخ: أبو محمودٍ له ولد وليس لي ولد.. وله بستان كبير وليس لي إلا بستانٌ صغير.. إنني أحسده قلبي يأكله الحسد.. يا ليت ابنه محموداً يموت.. وبستانه الجميل يزول ويصبح لي أنا شاؤول ولد مثل ابنه.. وبستان مثل بستانه..

صرخ كالمجنون: أين أنت يا راحيل.. تعالي إلي.. أين سحرك الذي تعلمته من أبيك؟ هيا اعقدي الخيطان وانفثي في هذه العقد اسحري لي أبا محمودٍ وابنه حتى إذا أفلتا من السحر يصيبهما الحسد..

أخذت راحيل الخيوط فعقدتها وصارت تدمدم وتهمهم وتنفخ عليها نفخاً مستمراً حاقداً، وتوقد عليها كل أنواع البخور..

محمود كيف وقع والبستان لماذا احترق؟!!

شعر أبو محمودٍ بكابوسٍ ينزل على صدره ثم رأى حمار ابنه يقع على الأرض.. ومحمود يتدهور من فوقه والدماء تنزل من رأسه صرخ:

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ما هذه المصائب.. منذ أيامٍ كاد الضبع يأكل ابني محموداً.. واليوم وقع على الأرض حتى كاد يموت.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

اقترب من بستانه.. رأى من بعيد دخاناً كثيفاً يخرج منه.. أسرع إليه.. رأى ناراً تشتعل في الحطب الذي يملأ الأرض.. أسرع مع ابنه إلى البستان.. فما زالا يصبان الماء على النار حتى انطفأت..

جلس أبو محمودٍ وصدره يكاد ينفجر من الهم.. أخذ يردد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ماذا حل بنا؟..

من بعيدٍ رأى شاؤول يقترب من بستانه.. ضرب على صدره.. وهمس: الله أكبر.. يبدو أن شاؤول يحسدنا.. انظر إلى وجهه يا بني.. إنه يقطر بالسم.. تعال يا بني لنقرأ سورة الفلق.

قرأ محمود: قل أعوذ برب الصبح..

صاح به أبوه: رب الفلق يا بني.

فأعاد محمود: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق.. ومن شر الليل إذا انبسط على الأرض.

صاح به أبوه: ويحك يا محمود.. كأنك نسيت سورة الفلق.. قل ومن شر غاسقٍ إذا وقب..

سأله ابنه: أليس معناها يا أبي: ومن شر الليل إذا عم الأرض؟..

أجابه: بلى.. بلى.. لكن عليك أن تقرأ الآية لا معناها..

تابع محمود: ومن شر النفاثات في العقد.. ومن شر حاسدٍ إذا حسد..

أصبح شاؤول قريباً.. همس أبو محمودٍ لابنه: ردد سورة الفلق ثلاث مراتٍ يا بني..

شعر أبو محمودٍ وابنه بالراحة والطمأنينة بعد قراءتهما لسورة الفلق.. دخل شاؤول البستان.. كان يلاحق ثماره بنظراته الحاقدة الحاسدة.. صرخ به:

- شاؤول.. اخرج من البستان فوراً..

صرخ شاؤول: لماذا أخرج؟.. أنا أحبكم.

صاح به: قلت لك اخرج من بستاننا.. إنك حاسد..

اصفر وجه شاؤول وخرج من بستان أبي محمودٍ مسرعاً.. لم يستطع رؤية طريقه من شدة غيظه.

نهاية الضارين أليمة

كان بركات واقفاً فوق شجرة الزيتون الكبيرة التي كانت في بستانهم فرأى كيف طرد أبو محمودٍ شاؤول من بستانه وسمع شاؤول يقول وهو يسرع إلى بيته: متى ستموت يا أبا محمودٍ ومتى سيموت ابنك.. ويزول بستانك.. إن الحسد يأكل قلبي.. ألم يؤثر فيك سحر زوجتي؟.. إنها تنفث في عقدها منذ يومين..

قفز بركات من فوق شجرة الزيتون. ونزل أمام شاؤول.. طار عقل شاؤول من الفزع.. أمسك بركات بقضيبٍ قوي وأخذ يضرب شاؤول ضرباً أليماً.. كان شاؤول يصيح من الألم..

اجتمع أصحاب البساتين ليعرفوا ما الخبر فلما أخبرهم بركات بما كان شاؤول يقوله ضربوه وركلوه وهددوه بالقتل إن لم يترك قريتهم فوراً.

خرج شاؤول من بيته يحمل أمتعته منكس الرأس.. وصبيان القرية يرجمونه بالحجارة ويقولون له: منذ عشر سنين أتيت إلى قريتنا فأعطاك آباؤنا بيتاً وبستاناً.. ثم أنت تحسدنا وتتمنى أن يزول الخير عنا.. وزوجتك النفاثة في العقد تحاول سحر آبائنا وإخواننا..

صاح مختار القرية: إن اليهودي لا يغير طبعه ولا يترك خسته.

عاشت القرية بعد ذهاب شاؤول مرتاحة فلم يبق فيها حاسد ولا ساحرة تنفث بالعقد.. وعلم الآباء فيها أبناءهم جميعاً سورة الفلق.

              

* أديب ومفكر وكاتب أطفال سوري معتقل منذ 31/3/1980