بين المقاثي

بين المقاثي

جميل السلحوت

[email protected]

وفي العطلة الصيفية ، بنت الأسرة خيمة في منطقة الديارة في حي الشيخ سعد ، وسط مقاثي " الفقوس ، والكوسا ، والبامياء واللوبياء والبندورة " في مرج تربته حمراء ، ومزروعاته تسر الناظرين ، وكان ما يثير دهشة الأطفال هو النمو السريع للفقوس ، فما أن تنعقد الزهرة ، وتتحول إلى ثمرة حتى يبدأ نموها بشكل سريع ، تنعقد في الليل ، وفي ساعات الصباح تكون الثمرة بطول إصبع ، وعند المساء تصبح شبراً أو فتراً فهي تنمو بسرعة .

 تعلم الأطفال من جدتهم انه إذا ما دفنت "الفقوس" تحت التربة بعد انعقاده مباشرة ، فإنه يفور بطريقة جنونية ، يتضاعف نموّه مرات ومرات في نفس اليوم ، استغرب الأطفال الطريقة، وشرعوا يستعملونها ، كانوا في بعض الأحيان ينسون الثمار التي دفنوها ، فتنمو بشكل سريع بحيث تصبح غير صالحة للأكل، فيتركها الأهل لتبقى " بذورا ً " لزارعتها في العام القادم ، كانت لذة قطف الفقوس لا يعرفها إلا من مارس الزراعة ، تقطفها بيدك ، تفركها بين راحتي يديك ، وتأكلها بدون غسيل أنها حقاً لذيذة .

 كان الوالدان والجدة يمشون بين النباتات ، يقطفون الثمار ، ويضعون كل صنف في سلة ، يأخذون حاجة ليلتهم فقط ، ثم يوزعون الباقي على الأقارب وعلى الأصدقاء والجيران .

 كانت متعة فراس ورباب ويزيد أن يدعوا اقرانهم من أبناء جيلهم ، يتجولون وسط المقاثي ويأكلون ما يشتهون دون رقيب أو حسيب ، وكان الأهل سعيدين بذلك .

 الصغير يزيد كان يحب الفقوس بشكل كبير، ولا يقبله إلا إذا قطفه بيده ، أما رباب فإن فاكهتها المفضلة هي البندورة ، تقطف حبة البندورة الحمراء ، تمسحها بيديها ، تحضر قليلاً من الملح ، تخدشها بطرف قوارضها ، وترش الملح عليها ، وتأكلها بشهية ، تحب الآخرين أن يشاركوها في أكل فاكهتها المفضلة ، وتشرح لهم أنها فاكهة لذيذة ومغذية . قالت لها أمّها : البندورة من الخضار وليست فاكهة ، فردت عليها رباب بثقة العارف : بل إنها فاكهة .

سألتها الوالدة : من أين تعرفين ذلك ؟

أجابت : شاهدت ذلك في برنامج تلفزيوني ، حين قال الخبير الزراعي أن البندورة فاكهة ، وليست من صنف الخضار .

 سكتت الوالدة على مضض ، في حين ابتسم الوالد وهو يؤكد صحة ما قالته رباب .

 أمّا فراس فكانت هوايته المفضلة أن يأكل قرون اللوبياء نيئة بدون طبيخ ، في حين كان يستخرج بذور البامياء ويأكلها أيضا نيئة ، ولم يكن يستمع لنصيحة والدته أن ينتظر حتى تطبخها مع البندورة وقليل من اللحم ، كان يصف السائل اللزج الذي يخرج من البامياء المطبوخة أوصافاً تدعو إلى التقزز .

 طلبت الجدة من ابنها أن يجمع المحاصيل الزائدة ، وان يقوم ببيعها في السوق ، إلا أنه رفض ذلك بشدة قائلاً : يا والدتي : هذه الأرض الطيبة إذا أكرمتها أكرمتك ، وإذا حافظت عليها حافظت عليك، ثم تساءل : كيف أبيع هذه الثمار ، وأخواتي وعماتي وجيراني وخالاتي وأبناؤهن بحاجة إليها؟ هل سأتاجر عليهن ؟!

- لا يا ولدي ، أجابت والدته : صلة الرحم تطيل العمر ، وتكثر في الرزق ، أعطِ الأرحام حاجتهن وبع الباقي . الله يرضى عليك ، ويعطيك الصحة والعافية .

 فقال وللجيران حق علينا يا والدتي ، ألم تسمعي بالحديث الشريف الذي يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه ".

- فقالت : هؤلاء جيران للأرض ، وليسوا جيراناً لنا ، لماذا لا يزرعون أرضهم بدلاً من العمل في المستوطنات ؟!

فرد مازن : هذا شأنهم يا والدتي ، فلا دخل لهم إلا من العمل في المستوطنات ، وغالبيتهم ليسوا متعلمين ولم ولن يحصلوا على وظائف تؤمن لهم دخلاً يكفيهم ، وربما لا يعرفون الزراعة .

 وهنا تدخلت زوجته صفية قائلة : كيف لا يعرفون الزراعة وآباؤهم وأجدادهم كانوا يزرعون كل شبر في هذه الأرض ؟! ولم يكن لهم أية مداخيل إلا من ريعها .

- فقالت الجدة : يا أبنائي ، عندما كان الناس يعتاشون على الزراعة ، كانوا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم ، أما الآن فإن المستوطنات تملأ المنطقة ، وغالبية الأرض الزراعية مغلقة بأوامر عسكرية بحيث لا يستطيع مالكوها الوصول إليها ، وأنا أسأل عن عدم زراعتهم للأراضي الواقعة بجانب بيوتهم ، بدلاً من أن يتركوها للأعشاب والأشواك الضارة ، لماذا لا يزرعون ويحصلون على حاجة بيوتهم على الأقل ؟ انظروا كيف يمرح أطفالهم في مقاثينا ؟ لماذا لا يوفرون الفرحة لأطفالهم على الأقل ؟!

فرد عليها ابنها مازن : فاقد الشيء لا يعطيه يا أمي ، إنني عندما أرى الفرحة على وجوه أطفالهم- وهم يتراكضون مع أولادي في المقاثي- اشعر بفرحة غامرة ، وأنا أتذكر ما قاله المرحوم توفيق زياد : " وأعطي نصف عمري لمن يجعل طفلاً باكياً يضحك " فلماذا نحرم هؤلاء الأطفال من الضحك والسعادة ؟ ولماذا نحرم أنفسنا هذا الفرح أيضاً ؟!

-فقالت الجدة : الله يرضى عليك يا ابني ، اعمل ما يرضيك وأسأل الله التوفيق ، ثم أضافت : في سنوات الخير يا ولدي : رحمة الله على أبيك ، ذات مرة حرث أرضنا في البقيعة وبذر كيس قمح " أبو خطّين " كان يتسع إلى حوالي خمسين رطلاً ، وربك إذا أعطى لا يبخل يا ولدي ، هل تعلم يا ولدي أننا جمعنا في موسم الحصاد خمسة وثلاثين شوالاً من القمح ، وبذر خمسة أرطال عدس فجمعنا اثني عشر شوالاً ، في زمن والدك الله يرحمه – لم نشتر الطحين ولو مرة واحدة ، لم يطعمكم إلا خبز القمح البلدي ، إذا أمحلت عاماً أو أكثر كان المخزن دائماً مليئاً بالحبوب التي تكفينا لأكثر من خمس سنوات ، لم نعمل في " الورشات " ولم يستخدمنا احد ، كنا أرباب أنفسنا ، نزرع الأرض، ونربي الأغنام ، نشرب حليبها ولبنها ، ونأكل من جبنها وزبدتها وسمنها ، وفي سنوات المحل التي يقل مطرها ولا يتحول الزرع إلى سنابل ،كانت الأغنام ترعى النباتات فلا نخسر شيئاً ، بالعكس كنا نوفر ثمن العلف ،كنا نبيع الخراف والجبن والزبدة واللبن ، ونشتري حاجياتنا الأخرى ، ثم تساءلت :

- من أين تعلمت أنت وإخوتك وأخواتك ؟!

وأجابته : من خير الأرض يا ابني ، فقاطعها : لكن البقيعة الآن مغلقة بأوامر عسكرية يا أمّي ، وغالبية أراضيها إمّا مصادرة أو مغلقة.

*********

كان مازن وزوجته صفية يتسامرون والجدة عائشة تحدثهم عن أيام الخير ، في حين كان الأولاد يلعبون في طرف المقاثي البعيد .

 كان هناك عش للدبابير ، كل ولد يحمل قطعة تنك مربعة أو مستطيلة ، ويلوح بها ذات اليمين وذات الشمال ضارباً الدبور الذي يقترب منه ، وعندما يسقط الدبور طريحاً على الأرض غير قادر على الطيران ، يدوسه بقدمه أو يقترب منه ، ينزع زبانته التي يلدغ بها ، ويحتفظ به في علبة ، وعندما تهدأ الدبابير ، يرجمون عشها بالحجارة فتثور من جديد .

 كان أكثرهم حنكة ودراية في محاربة الدبابير فراس، فهو أكبرهم سناً ، هو الآن في العاشرة من عمره ، واثنان من أبناء الجيران من جيله ، فهم أبناء صف واحد ، فدبّر لهم خطة حسب رأيه سيقضي بها على جميع الدبابير ، وقد اكتسب هذه الخبرة بعد مراقبة الدبابير لعدة أيام ، قال لهم : انظروا إن الدبابير تطير من جحرها إلى أعلى ، سأتقدم أنا وصديقي إسماعيل إلى الجحر نحرك الدبابير داخل الجحر بالعصا ، وعندما تطير ، ننبطح أرضاً ، وتطير هي إلى أعلى ، ونقوم بمحاربتها ، انتم وقوفاً ونحن منبطحان على ظهورنا .

اقترب فراس وإسماعيل من الجحر ، مدّا عصاتيهما إلى الجحر وحركاهما بسرعة فائقة، ثم رمى كل واحد منهم جسده على الأرض بجانب بعضهما البعض ، واحد على يمين جحر الدبابير والآخر على يساره ، فخرجت الدبابير مذعورة وأشبعتهم لسعاً ، عشرات اللسعات في وجوههم وأيديهم وصدورهم ، صراخهم ملأ المنطقة ، اقترب الآخرون منهم لحمايتهم، فكان نصيب كل واحد منهم لسعة أو لسعتين ، إلا يزيد فقد هرب باتجاه الخيمة يصيح بأعلى صوته .

 هرع مازن وزوجته صفية باتجاه يزيد يستطلعون الأمر ، في حين كانت تتبعهم الجدة عائشة تتوكأ على عصاها وهي تردد : خير ، اللهم اجعله خير .

 وعندما وصل مازن وصفية إلى الأولاد ، جرّا فراس وإسماعيل ولم يتبينا وجهيهما من شدة الورم الناتج عن لسعات الدبابير .

 حملوهما إلى المستشفى ، كما استعانا بالجيران لحمل بقية الأطفال ، وفي مستشفى المقاصد الخيرية على قمة جبل الزيتون ، رقد فراس وإسماعيل على سريرين متجاورين ، بعد أن قدم لهما الأطباء العلاج اللازم ، رقدا تحت المراقبة في غرفة الإنعاش المكثف ، في حين تلقى الأطفال الآخرون العلاج في غرفة الطوارئ ، كل واحد منهم حقنة في الوريد وحبتين ، وكتب الطبيب المناوب لكل واحد منهم وصفة طبية .

 عادت رباب ويزيد مع احد الجيران ليبقيا في صحبة جدتهما التي تركت الخيمة في المقاثي ، وعادت بهما إلى بيتها في جبل المكبر ، في حين بقي مازن وصفية أمام غرفة الإنعاش ، ينتظرون تحسن حالة ابنهما فراس ، وكذلك فعل والدا إسماعيل .

 بدأ الورم يخف شيئاً فشيئاً ، وبقي فراس وإسماعيل على سرير الشفاء مدة أسبوعين ، وبعد يومين نقلهما الأطباء من غرفة الإنعاش إلى قسم الأمراض الداخلية ، فأخذ فراس يشرح لوالديه عن خططه في محاربة الدبابير ، بحجة أنها كانت تعتدي على المقاثي ، وتخرب ثمارها .

الحسد هو السبب

 بقيت الجدة جالسة على سجادة الصلاة بعد أن أدّت فريضة المغرب بين يدي ربها ، رفعت يديها بعد الصلاة ، وأطالت في دعائها لفراس وإسماعيل ، كانت دموعها تنساب من على وجنتيها لترسم على الوجه الذي حفر عليه الزمن وشقاوة الحياة أخاديد لن تنمحي . تارة تشتم الدبابير والمقاثي وزارعيها ، وتارة تدعو الله أن يعمي النساء الحاسدات اللواتي كن يرين فراس وقامته الطويلة التي تفوق قامة أبناء جيله ، ولا يذكرن ربّهن ، ليدرأن الحسد من عيونهن الفارغة التي لم ولن يملأها إلا الحصا والتراب .

 وفجأة رفعت يدها اليمنى وضربت الهواء وهي تقول :

لعن الله أباك يا صفية !! كم مرة قلت لك أن الولد يحلو في عيني والديه ، وعليك أن ترقيه كل ليلة، وان تبقي الخرزة الزرقاء في رقبته ليل نهار ؟!

 كانت رباب وأخوها يزيد ينظران إلى حركة جدتهما باستغراب ، يزيد يقترب من رباب ، ويمسك بفستانها ، وهو ينظر إلى شفتي الجدة ، عندما ينطبقان على بعضهما البعض مثنيتان إلى داخل الفم الذي يخلو من الأسنان ، مخرجتان صوتا كالتقاء حرفي الباء أولاهما مفتوحا والثاني ساكناً " بَبْ " بينما كانت حركة لسانها شبيهة بلسان أفعى ، ويتراجع إلى الخلف عندما يحدق بعيني الجدة الغائرتين في رأسها ، وكأن الجفون المنكمشة لم تعد قادرة على الإطباق عليهما عندما ترمش ، في حين كانت رباب تكتم ضحكة حبيسة لو انطلقت لكانت كخرير ماء عذب على مقربة من عطشان لا يستطيع الوصول إليها .

 وفجأة توقفت حركة الجدة عندما طلبت من رباب أن تحضر لها كيس الملح من المطبخ ، وكانت صورة فراس الجاثمة في برواز أنيق على زاوية طاولة المكتب .

 ملأت يدها اليمنى بالملح ، وأخذت تحركها بشكل دائري على صورة فراس التي وضعتها أمامها، وشرعت تردد بعد أن بسملت ، وحمدت الله ، وصلت على رسوله الأعظم والأنبياء أجمعين :

محمد اترقى واسترقى

من كل عين برقا

ومن كل سن فرقا

اترقى للصبيان من عثرات الزمان

واترقى للخيل في ظلام الليل

ثم صغرت قطر الدائرة التي ترسمها بيدها حول الصورة وأردفت تقول :

حوطتك بالله من عيني

ومن عيون خلق الله

من دارلك باله

يشغل حاله في باله

كرشته غطا عينيه

ما نيش اقدر من ربه عليه

***

عين الجار فيها نار

عين الضيف فيها سيف

وعين الجارة فيها نارة

 ثم قرأت سورة الإخلاص ثلاث مرات ، والمعوذتين، ثم الفاتحة عن روح الرسول عليه السلام وأمواتها وأموات المسلمين أجمعين ، وأعادت حفنة الملح إلى الكيس ، وتثاءبت أكثر من مرة .

 وابتسمت بعد ذلك وهي تحمد الله وتقول :

انفرجت إن شاء الله ، انفرجت ، وعادت السعادة إلى وجهها .

فسألتها رباب : ما هي التي انفرجت يا جدتي ؟

- حالة فراس يا بنيتي تحسنت ، ولم يعد بإذن الله خطر على حياته .

وكيف عرفت يا جدتي ؟

- عندما تثاءبت بعد " الرقية " خرجت العيون الحاسدة من جسده ، وارتدت إلى نحور صاحباتها ، لعنة الله عليهن ، لا يشبعن ولا يقنعن بما يعطيهن الله إياه، كل سنة يحبلن ويلدن ، وأولادهن كالتوائم ، ومع ذلك عيونهن فارغة ، ودائما ينظرن إلى أبناء الآخرين .

وهل تعرفيهن يا جدتي ؟

- نعم اعرفهن وأسأل الله أن يكف شرّهن عنا .

ومن هن يا جدتي ؟

- لا .. لا .. لن أقول لك من هن ؟!

ولماذا ؟!

- لأنني لا أريد المشاكل .. ولا أحب القيل والقال !

ولكن كيف عرفتيهن يا جدتي ؟

- أثناء " الرقية " ترتسم صورهن أمامي واراهن !!

ولكنني لم أشاهدهن مثلك يا جدتي .. لماذا ؟؟

- اسكتي يا بنية .. فأنت لا تزالين صغيرة .

وهل عندما سأكبر مثلك سأشاهدهن مثلما ترينهن يا جدتي ؟!

- الله يبعد شرّهن عنك وعن غيرك يا بنية .

كان يزيد يوزع نظراته الحائرة بين جدته وبين شقيقته غير مستوعب للحديث الذي دار بينهما ، فنادته الجدة وأجلسته في حضنها ، مررت يدها اليمنى على رأسه ، ملّست على شعره أكثر من مرّة ، ثنت رأسه إلى الخلف قليلاً، قبلت جبينه وهي تردد :

حوطتك بالله من عيني وعين خلق الله .

انتبهت رباب لذلك فسألت الجدة .. وهل عينك تحسد يا جدتي ؟؟

- اخرسي يا بنت قطع الله لسانك .. لماذا تقولين هذا ؟؟

الم تحوطي يزيد من عينك وعين خلق الله ؟؟

ضحكت الجدة وقالت : لا .. أنا لا احسد يا رباب، ولكنني أؤمن أن الولد يحلو في عيون والديه ، ثم قرأت سورة الفلق .

إذن لماذا لا تُحوطيني بالله من عينك وعيون خلق الله كما فعلت ليزيد ؟؟

- البنات لا يُصبن بالحسد يا رباب .

لماذا يا جدتي ؟

- لان الولد يختلف عن البنت !! فالبنات أقوى من الأولاد ، إنهن كالخبيزة التي تنمو على المزابل ، تنمو أكثر من غيرها التي تنمو في الأماكن النظيفة ، والبنات لا تخترق عيون الحاسدين أجسادهن !

وهل يحسد الرجال البنات يا جدتي ؟

- لا .. لا .. يا بنية الرجال يحسدون الأولاد الذكور فقط ، لكن عيون النساء حاسدة أكثر من عيون الرجال !!

ولماذا لا يحسد الرجال البنات ما دامت النساء تحسد الأولاد ؟!

- لأنهم لا يحبون البنات مثل النساء ، ويريدون أن يكون جميع خلفهم ذكوراً !

صمتت رباب قليلاً ثم سألت :

لو أنجبت جميع النساء أولادا ذكوراً فقط ، من أين سيتزوج هؤلاء الذكور ؟! أم هل سيتزوجون بعضهم البعض ؟!

- اخرسي يا بنت لا تزالين صغيرة على هذا الكلام .

سكتت رباب قليلاً ثم سألت :

هل يحمل الرجال يا جدتي ؟

- يحملون ماذا يا بنية ؟

هل يحملون أطفالا في بطونهم كالنساء ؟

- الله يحملك ويريحنا منك .

شعرت رباب بمرارة في نفسها ، تكدرت نفسيتها ولاذت بالصمت ، ثم ما لبثت أن اتجهت إلى التلفاز وشغلته ، فصاحت بها جدتها قائلة :

- أغلقي التلفاز يا قصيرة العمر .

ولماذا أغلقه يا جدتي ؟ كل يوم نشاهد التلفاز ما معنى هذا اليوم ممنوع ؟

- ألا تعرفين ؟! تريدين فتح التلفاز وفراس في المستشفى ؟! ماذا سيقول الناس عنّا ؟

ماذا سيقول الناس ؟! كلهم في بيوتهم أجهزة تلفاز ، وكلهم يشاهدونه ...

- لكن أبناءهم ليسوا في المستشفى كفراس قالت الجدة ..

وهل تريدين أبناءهم أن يدخلوا في المستشفى كفراس يا جدتي ؟!

- لا .. لا أريد .. ولكن أغلقي التلفاز واسكتي ؟!

أغلقت رباب التلفاز وذهبت لتنام على سريرها ، بعد دقائق صلت الجدة صلاة العشاء ، وذهبت إلى غرفة نوم رباب ، بسملت وغطتها ، ثم أحضرت فرشة فرشتها في الغرفة ، ووضعت يزيد في حضنها ، استيقظ وأراد أن يذهب إلى سريره ، لكن الجدة منعته خوفاً عليه.

 بقيت الجدة مستيقظة تنتظر مازن وصفية، أو احدهما على الأقل ليحمل أخباراً سارة عن وضع فراس ، لكن أحداً منهما لم يعد ، ممّا زاد من قلق الجدة .

 فكرت الجدة بان تستعين بأحد الجيران كي يحملها بسيارته إلى المستشفى لتطمئن على فراس ، لكن قلبها لم يطاوعها أن تترك الحفيدين رباب ويزيد وحدهما .

 بعد أن غفا يزيد ، انسلت الجدة من جانبه بخفة ، اتكأت على الحائط دون أن تحمل عصاها خوفا من أن يستيقظ الطفلان ، نظرت إلى رباب وهي غافية في سريرها وسألت ربها قائلة :

لماذا يا ربّ لم تخلق رباب ولداً ذكراً لتكون عوناً لوالدها ؟ ثم حدثت نفسها قائلة : لو كانت " "مقصوفة " العمر ولداً لما غلبها احد ، وأما " البنات فهمهن للممات ".

 عادت الجدة إلى الفراش ، احتضنت يزيد وضمته إلى صدرها ، كانت قلقة كالملدوغ تنام ساعة وتفيق أخرى من شدة قلقها على فراس ، مع أنها اطمأنت على صحته بعد أن تثاءبت في أعقاب رقيها له.

 وعندما نادى المؤذن لصلاة الصبح ، قامت وصلّت ، ثم جلست على سجادة الصلاة تداعب خرزات مسبحتها بيدها . وقبل الضحى عاد مازن وصفية من المستشفى تعبين ، طرحا عليها تحية الصباح ، وقبل أن ترد على التحية بمثلها أو بأحسن ، استفسرت عن فراس ، فأخبرها مازن بأنه بخير، ولا خطر عليه فسألت :

- لماذا لم تحضراه معكما ؟

لأنه بحاجة إلى مراقبة طبية .

- وماذا ستفيده المراقبة الطبية ؟!

الأطباء أدرى بعملهم .

- لا .. إنهم لا يعرفون شيئاً ، بعد أن صليت المغرب ، عملت له " رقية " من عيون الحاسدات ، وتثاءبت ، فتأكد لي انه بخير ، ولولا " الرقية " التي عملتها لما أفاده الأطباء شيئاً.

ضحك مازن وصفية وقالا : الله يحفظك لنا ، ودخل مازن إلى غرفة النوم لينام ، في حين عرجت صفية على غرفة الأولاد ، وجدتهما مستيقظين ، قبلتهما ، وذهبت إلى المطبخ فأعدت لهما وللجدة طعام الفطور ، وبعد أن تناولا وجبتهما دخلت إلى غرفة النوم لتنام قليلاً ، فتبعها صوت الجدة يقول : ابتعدي عن مازن ، ولا تدخلي عنده .. دعيه يستريح ، فلم تكترث لذلك صفية ، دخلت إلى الغرفة ، استبدلت ملابسها ، واستلقت بجانب مازن على السرير منهكة .

 لم يطل نوم صفية ، ربما نامت حوالي ساعتين ، ونهضت لإسكات رباب ويزيد حتى يتسنى لوالدهما أن يأخذ حاجته من النوم ، وكذلك الجدة غطت في نوم عميق لم يخلصها منه إلا أذان الظهر . في حين لم يستيقظ مازن إلا في الساعة الثالثة من بعد الظهر ، تناولوا طعامهم ، واستقلوا السيارة جميعهم لزيارة فراس في المستشفى ، كان الورم قد خفّ قليلاً في وجهه ، فعاد يستطيع فتح جزء من جفنيه ليرى من يجلس بجانبه ، وعندما رأته الجدة صرخت بصوت أذعر المرضى والزائرين الآخرين في الغرفة ، كما كان كافياً لهرولة الأطباء والممرضات إلى مصدر الصوت ظناً منهم أن احد المرضى قد لفظ أنفاسه الأخيرة ، فهذه الصيحة لا تصدر إلا عن والدة ثكلى ، في حين تعوذت الجدة بالله من الشيطان الرجيم ورددت بسيطة .. بسيطة ..

 اعتذر مازن للأطباء وللممرضات وللمرضى والزائرين عن صرخة والدته المدوية ، ومازح فراس قليلاً ، وطلب من والدته وزوجته وأبنائه أن يخرجوا من غرفة الإنعاش المكثف ليتركوا المرضى مرتاحين ، قاومت والدته محاولة عدم الخروج لكنها استسلمت في النهاية وخرجت .

الأفاعي

 استقل مازن السيارة وإياهم ، وانطلق بهم إلى حيّ الشيخ سعد إلى المقاثي ، وحينما تبينت الجدّة وجهته عندما وصلوا إلى حي الصلعة صاحت به أن يعود إلى البيت، وهي تلعن المقاثي واليوم الذي زرعوا فيه مقاثي ، هدّأ مازن من روعها وهو يردد : توكلي على الله يا أمي .. توكلي على الله .

وإذا بها تنعى بصوت خافت :

طريق الشيخ سعد وأنا ما أجيها ... وفراس لسعته الدبابير فيها .

فضحك مازن ورباب قهقهة ، في حين وضعت صفية منديلا على فمها خوفاً من أن تسمع حماتها ضحكتها ، أما يزيد فقد كان غافيا في حضن أمه .

 جلست الجدة تستظل بجانب الخيمة الشرقي ، حيث كانت أشعة الشمس ترسل خيوطها الذهبية على استحياء ، كأنها عروس في خدرها ، كانت الشمس تودع يوما مضى على ربوع هذه البلاد ، ليبدأ صباح يوم جميل في مغارب الكرة الأرضية ، كانت الجدة تسبح بحمد ربها على " مسبحتها " وكأنها تعد خرزاتها واحدة واحدة ، وعندما تنتهي إلى شاهد المسبحة ، تعاود الكرة من جديد ، فهي على صلة دائمة مع ربها ، فالعمر مضى ، وموسم الحصاد قد دنا ، والدنيا لا تغني عن الآخرة ، أما صفية فقد دخلت الخيمة توضب الفراش والأواني فيها ، بينما مازن وولداه رباب ويزيد يقطفون ثمار المقاثي .

لم يقطع تسبيح الجدة إلا بضع ثمرات من الفقوس والبندورة ألقت بها رباب في حضنها وهي تقول: كلي يا جدتي .

فردت الجدة : كيف سآكل الفقوس بدون أسنان يا بنيتي ، وشرعت تقضم واحدة منها على لثتها التي تصلبت إلى درجة كافية .

فقالت لها صفية : قلنا لك مرات كثيرة بان تذهبي إلى طبيب الأسنان كي يعمل لك " طقم أسنان" اصطناعي وكنت ترفضين على الدوام .

- لم يبق من العمر قدر ما مضى يا بنية ، فلا حاجة لي بالأسنان الصناعية ، فمنظرها يدعوني إلى التقيؤ .

 

شرعت صفية تطبخ البندورة مع البامياء لوجبة العشاء، في حين واصل مازن بمساعدة رباب الدؤوبة قطف الثمار ووضعها في السلال ، ولم يتوقف حتى غابت النباتات وثمارها في عتمة الليل ، فعاد يحمل سلاله إلى الخيمة .

 تحلق الجميع حول المائدة التي وضعتها صفية أمام الجدة ، ولما انتهوا قالت الجدة :

- هل تعلمون يا أبنائي إن الحشرات والزواحف لا تؤذي إلا من يؤذيها ؟‍

سكت مازن وصفية في حين سألت رباب :

وكيف يكون ذلك يا جدتي ؟‍

- قالت الجدة :

رحم الله أباك يا مازن ، عندما تزوجني سكنّا في مغارة " أم خليل " هذه المغارة كبيرة من الداخل تستطيع أن تبني في داخلها عشر خيام ، كانت مقسمة إلى ست دور ، كل دار محاطة بحجارة على ارتفاع نصف متر تقريباً، كان جدك وجدتك في دار ، وعمك أبو خالد وزوجته وأولاده في دار ، وعمك أبو سلامة وزوجته وأولاده في دار ، وعمك أبو متعب وزوجته وأولاده في دار ، وابن عمك سلامة وزوجته في دار ، كانا عروسين لم ينجبا بعد ، وأنا وأبوك يرحمه الله في الدار الأخيرة , وكانت طريق بين الدور توصل إليها جميعاً . كان على جانب باب المغارة الأيمن زير ماء مدفون في الأرض ومغطى بصحن ، كنا نشرب منه جميعاً ، وكان على جانب الباب الأيسر أفعى معمرة ، على جلدها ما يشبه الريش من كبر عمرها ، كنا نراها ونطرح عليها السلام ، كانت تسمع وتدير رأسها إلى الداخل حتى نعبر داخلين أو خارجين ، كانت تفهم علينا ونفهم عليها ، عندما كانت تعطش كانت تخرج إلى الزير ، ترفع الصحن عن بابه، وتدلي رأسها وتشرب ، ثم يعود الصحن بقدرة الله ليغطي باب الزير كما كان ، وكنا نشرب من الماء بعدها تماماً مثلما هي تشرب بعدنا ، وعندما كان ينزلق احد فراخها الصغار من الجحر إلى مدخل المغارة ، كانت جدتك - الله يرحمها ويرحم كل الأموات – تحمله بلطف وتعيده إلى جحر أمه ، فترفع رأسها وكأنها تشكرنا جميعاً . لم نؤذها ولم نؤذ صغارها ، فلم تؤذنا جميعاً كباراً وصغاراً، كانت تفهم حق الجوار مثلما نفهمه نحن ، وعشنا خمس سنوات على هذا الحال ، أنجبتك خلالها ، كما أنجبت شقيقتك أمينة قبلك ، ما شاهدنا منها إلا كل خير ، ذات يوم وكان عمر أمينة حينذاك سنتين ، كانت نائمة في دارنا في المغارة ، تركناها وخرجنا بعد الظهر للحصاد ، كانت هذه الأرض المزروعة الآن بالمقاثي مزروعة بالقمح ، كانت السنة خصبة، والعام عام خير وبركة ، عندما عدنا إلى المغارة ، كانت الأفعى تلاعب أمينة ، تقترب منها ، ترفع رأسها إلى حضنها ، أمينة تمسك بالأفعى وتريد أن ترفعها إلى فمها ، عندما تقترب الأفعى من فم أمينة ، يقشعر بدن أمينة فتبعدها ثانية ، عندما رأيت ذلك أطلقت صرخة مدوية اهتزت لها الجبال ، فانسلت الأفعى إلى جحرها بهدوء ، وجدتك تقول : لا تخافي أنها جارة تحفظ حق الجار ولا تؤذيه ، ركضت إلى أمينة ، قلبتها إلى جميع الجهات ، خلعت ملابسها ، فتشت جسدها كاملاً وأنا ارتجف خوفاً ، ولم أجد أي اثر على جسمها ، وها هي حيّة ترزق كبرت وتزوجت وأنجبت ، حقاً أن الأفاعي لا تؤذي جيرانها ، كانت صفية ترتجف من الخوف ومازن يستمع بدون اكتراث ، أما رباب فكانت كلها آذاناً صاغية ، في حين نام يزيد قبل أن يسمع أو يفهم شيئا مما قالته جدته .

مالكم لا تتكلمون يا أولاد ؟؟ وجهت الجدة سؤالها لمازن وصفية ، أظن أنكم غير مصدقين ، إن صدقتم أو لم تصدقوا فهذا شأنكم ، فانا والحمد لله لا اكذب ، وكما يقول المثل " الكذب على الأموات وليس على الأحياء " إن كنتم مشككين بما قلته فبإمكانكم ان تسألوا أم متعب وأم خالد ، فقد كانتا شاهدتين على ما أقول .

وهنا تدخلت رباب وسألت : وهل كل الأفاعي لا تؤذي جيرانها يا جدتي ؟ مثلا لو شاهدت أفعى في المقاثي ، هل اقترب منها لأنها لا تؤذي ؟‍

فردت الجدة : أفاعي المقاثي ليست جيراناً لنا ، فنحن لا نسكن هنا إلا بضعة أسابيع في السنة، وهي ليست كافية للتعارف ، في حين قالت صفية بصوت مسموع : حذار حذار يا رباب فالأفعى لا يؤتمن جانبها ؟؟ وهنا تدخل مازن وقال : قرأت في احد الكتب انه قبل مئات السنين ، خرج طفل من بيته في يوم ماطر ، ووجد أفعى ملتفاً حول نفسه لا يقوى على الحراك من شدة البرد ، فحمله الطفل إلى البيت ، ووضعه بجانب الموقد ، ولما شعر الأفعى بالحرارة تمدد وسعى باتجاه الطفل فاتحاً فمه مكشراً عن أنيابه ، وهنا دخل الأب فاستل سيفه وقطع رأس الأفعى وردد قائلاً:

بني احذر لئيماً أمنته ولا تعمل المعروف مع غير أهله

فقالت الجدة : الأفعى الذي تتكلم عنه ليس جاراً ، ولو كان جاراً لهم لحفظ حق الجوار.

المهم في الموضوع يا أبنائي إن فراس لم يحفظ حق الجوار مع الدبابير ، جمع أولاد الحارة وهاجمها في عشها في الطرف البعيد للمقاثي ، الدبابير تطير في وسط المقاثي وحول الخيمة ، وأحياناً تدخلها لكنها لم تلسع أحداً ، أليس الأمر كذلك ؟‍

أم أنكم لم تشاهدوها تطير وسط المقاثي ، وتحط على الأزهار ؟‍! وأحياناً على الثمار ، تأكل قليلاً وتحمل قدراً يسيراً إلى عشها لإطعام صغارها ، وللتخزين لفصل الشتاء ، لم يتركها فراس وزملاؤه وشأنها ، هاجمها وحاول هدم عشها ، فدافعت عن نفسها ، أي بيني وبينكم لو أن شخصا آخر فعل ما فعل فراس لقلت انه يستحق ما جرى له ، والحمد لله أنها جاءت سليمة .

فسألت صفية : هل سبب ما جرى لفراس هو عدم حفظه لحق الجوار مع الدبابير أم الحسد يا عمة ؟ كلا الأمرين ، أجابت الجدة !! فعيون الحاسدات الفارغة هي التي أغوت فراس ، وجعلته يقود الأطفال لمهاجمة عش الدبابير المجاورة للمقاثي ، وهذه ليست من تقاليد العائلة، ولا من تقاليد المؤمنين ، المؤمن عندما يرمي بذوره في الأرض يدعو ربه قائلاً :

 يا رب أطعمنا وأطعم الطير في ظلام الليل، والله سبحانه وتعالى في سماواته يرسل الأمطار على أجنحة الغيوم ، فترفرف فوق ارض المؤمنين ليتساقط المطر مدراراً، ويأتي الخصب ، ويتغاضى جلّ شأنه عن خطايا البشر رأفة ببقية الحيوانات ، ورأفة بالأطفال الرضع والشيوخ الركع ، ألا تلاحظون أن خيرات أرضنا أكثر من خيرات ارض جارنا أبي سماحة ؟! وواصلت حديثها بعد أن وضعت راحة يدها تحت كعب ذقنها، في حين ثبتت كوع اليد على الصدر ، لتلف رأسها يميناً وشمالاً مصدرة أصوات قرقعة، نعم إن خيرات أرضنا أكثر من خيرات ارض أبي سماحة ، لان أبا سماحة يضع حجارة صغيرة في علب معدنية، يوزعها على أبنائه ليدوروا بها محركينها وسط المقاثي ، فتجفل العصافير هاربة من الصوت الصادر عنها ، وهذا بحد ذاته حنث بالدعاء الذي دعا ربه به وهو يبذر الأرض، وعلام الغيوب لا ينام ولا يخفى عليه شيء ، لذا فإنه يعاقبه بأن يحرمه من أضعاف ما تأكله الطيور.

- وهل تهرب الدبابير من الأصوات كالطيور يا جدتي ؟ سألت رباب ؟!

فتجاهلت الجدّة الإجابة عن سؤال رباب .

- إذن لماذا كنت تغضبين من أبناء الجيران عندما كانوا يتجولون في المقاثي باحثين عن بعض الثمار ؟ مع أن الأطفال أحق من الطيور بالطعام ؟! سألت صفية .

فقالت الجدة : أنا لم اغضب من الأطفال ، وأحب أن يأكلوا ، لكنني اغضب من أهاليهم الذين لا يزرعون لهم .

مفاخرة

 لم يشعر فراس بأهميته إلا أثناء وجوده في المستشفى وبعد خروجه منه مباشرة ، كان يمشي بكبرياء لم يعهدها من قبل ، فالعشرات من النساء والرجال زاروه في المستشفى ليطمئنوا عليه ، بعضهم لصلة القربى مع والديه أو مع احدهما على الأقل ، والبعض الآخر لارتباطات اجتماعية مختلفة ، وبعضهم كان يصطحب ابنه الذي هو من جيله ، أعجبه منظر علب الشوكولاتة المختلفة ، تتكدس فوق بعضها البعض ، على الخزانة الصغيرة الجاثمة على يمين سرير الشفاء ، إضافة إلى أكياس بلاستيكية مليئة بأنواع مختلفة من الفاكهة . كانت الوالدة تفتح أكثرها جودة لتقدمها للزائرين، ينتقون منها قطعة يلتهمونها تعبيراً عن سعادتهم بشفاء فراس، في حين كانت تضع بضع قطع في جيوب الأطفال والفتية .

 واحد فقط من الزائرين شذّ عن القاعدة، انها معلمته ، لقد أحضرت له باقة زهور جميلة ورواية " أنا وجمانة " للأديب محمود شقير .

 كانت الهدية لافتة للانتباه ، وازداد شعور فراس بأهمية الهدية عندما كان يسأله الطبيب أو إحدى الممرضات: من أين لك هذه الزهور الجميلة وهذه الرواية الرائعة يا فراس ؟!

من معلمة الرياضيات السيدة سكينة يجيب فراس مفاخراً ، وعند خروجه من المستشفى انهالت عليه مئات القبلات من نساء ورجال لم يتوقعهم من قبل ، أذهله الحنان الزائد غير المتوقع خصوصاً من قبلات النساء ، ففيها حرارة أكثر من قبلات الرجال ، فالرجال كانوا يضعون خدهم على خده من كل جانب ويقبلون في الهواء ، بينما قبلات النساء تنطبع على خده مباشرة ، فارتسمت شفاه نساء كثيرات على خديه مثلما يرسم خاتم مؤسسة على وثيقة صادرة منها ، جعلته يضحك على نفسه عندما يقف أمام المرآة بعد أن تأمره والدته بمسح " صبغة " الشفاه النسوية عن وجهه .

 بعضهم أهداه بنطالا وقميصاً ، واقتصرت هدايا البعض على بنطال أو قميص ، جعلته يغير ملابسه في اليوم أكثر من مرة .

 دبّت الغيرة في نفس رباب ويزيد ، كل واحد منهم يريد ملابس جديدة مثل فراس ، حتى أن رباب تساءلت أمام والدتها وجدتها قائلة :

- متى سأدخل المستشفى مثل فراس كي تأتيني الهدايا مثله ؟؟

ضحكوا جميعهم على سؤالها ، وفي مساء اليوم التالي عاد الوالد من العمل يحمل فستانين جميلين لرباب ، وبنطالين وقميصين ليزيد .

 وفي المدرسة اخذ فراس يروي لأقرانه عن مغامراته مع الدبابير ، مختلقاً حوادث في صولات له معها لم يبتدعها إلا خياله ، وتحدث عن محبة الناس له لما يتحلى به من شجاعة يفتقر إليها آخرون ، جعلت الأطباء يعتنون به عناية فائقة تماماً مثلما يعتنون بجرحى الحروب، كما كان يشاهدهم على شاشة التلفاز .

فقال قصي متسائلاً : جرحى الحروب يحاربون دفاعاً عن أوطانهم وشعوبهم فعمن كنت تحارب أنت ؟!

سحب فراس شهيقاً عميقاً نفخ صدره فاستطالت قامته وقال :

- كنت أحارب الدبابير دفاعاً عن المقاثي في أرضنا .

فابتسم بعض الطلبة وضحك البعض الآخر قهقهة وهنا تدخل نزار وسأل :

- أيهما اشد لسعة الدبور أم لدغة الأفعى ؟

فأجاب فراس : طبعا لسعة الدبور .

وقال عبد الباقي : لا .. لا .. لدغة العقرب هي الأشد وهي الأخطر ، انها أخطر من لدغة الأفعى .

فسأله نزار : وكيف عرفت ؟؟

فأجاب : جدّي كان يقول " عند العقرب لا تقرب وعند الأفعى افرش ونام " .

فقال فراس متسائلاً : وهل ينام أحد بجانب الأفاعي غير المجانين ؟؟

فتدخلت رباب وقالت : عيب عليك أن تصف الذين ينامون بجانب الأفاعي بالمجانين ، فجدي رحمه الله وجدتي أطال الله بقاءها وعماتي وزوجاتهم وأبناؤهم كانوا ينامون بجانبهم.