مأساة في طيرة حيفا

د. محمود أحمد السلمان

مأساة في طيرة حيفا

شهادة وجدانية

د. محمود أحمد (محمد سعيد) السلمان / الأردن

[email protected]

تحرير لحظة

طيرة حيفا في فلسطين هو اسم المكان الذي حفر في قلبي وعقلي ووجداني, وأصبح المكان الوحيد الذي طالما حاولت تخيل شكله, وكيف كان واقعه, وكيف كانت الحياة في ثناياه, قبل أن يسرقه الغريب المحتل, ويعكر براءته, ويحرق أجساد أصحابه الأصليين الطاهرة, ويبعثر أحلامهم وآمالهم, ويشردهم قهراً؟! مرت سنون طويلة وأنا محروم من رؤية هذا المكان الذي هو موطني وموطن أجدادي. مرت سنون طويلة وأنا لا املك غير الحلم به وبالزلاقة, تلك التلة في جنوبي قريتنا التي ضمت بيتنا وبيت جدي وأقاربي, وبشجرة الخروب في فناء بيتنا التي طالما ذرفت عيون أمي دمعاً عند ذكرها. كان اسم القرية يمر كل صباح ومساء على سمعي من خلال قصص آبائي وأجدادي الذين أمضوا أجمل سني عمرهم فيها, إلى أن حرمهم منها هذا الغريب.

أصبح هاجس رؤية هذا المكان الذي أملك يسكنني. بعد طول سنين وانتظار, سمحت ظروف هذا الزمان القاسي أن يصبح ذلك الحلم حقيقة.أصبحت حقيقة, لكنها حقيقة مبتورة, أشبه بالحلم, ولم تكن تماماً كما أريد. كان عليَ أن أدخلها غريباً عليه أن يطرق الباب. كان الباب يبتسم قهراً؛ لأن الزمن قد قلب تماما كما قلب مكاني ومكان هذا الغريب منه. استقللت السيارة من عمان إلى أغوار الأردن الشمالية.           وصلت إلى جسر الشيخ حسين الذي تقع فلسطين في طرفه الآخر. شعرت أن كل شيء في الجانب الآخر معتقل: القرية والمدينة والبحر والجبل. أهناك في هذا العالم سجناً كبيراً بهذا الشكل؟ سجن يتّسع للمدن والبحار والجبال. شعرت أن لا شيء طليق, حتى الهواء والسماء والفضاء. شعرت عندما اقتربت أكثر أن كل فلسطين معتقلة, وأن لا هواء في المكان. وعندما رأيت أول الوجوه الغريبة أحسست وهم يتحركون ويدققون ويفتشون أنّ لا جاذبية أرضية في المكان, أو إنها تأبه أن تشتغل, وأن هؤلاء الغرباء يمشون في فراغ يفصلهم عن الأرض, فراغ يجعل من ارتباطهم بالأرض شيئاً لا يمكن أن يكون. تخيلتهم يمشون على بنادق, وأن كل شيء في حياتهم بنادق. شعرتهم يعتقلون الأرض, وأن العلاقة بينهم وبينها علاقة معتقل بمعتقل, علاقة لا يمكن أن تكون حميمة.

كنت أتمنى أن أدخل فلسطين من حدودها الطبيعية لا من فوهة بندقية. أحسست أن كل فلسطين محشورة بفوهة بندقية هذا الغريب. يعذبها فوق سجنها بصوت سلاحه الذي لا يصمت والذي لا يقتات ولا ينام إلا على صوته. كل هذه البنايات التي حشرها في المكان الذي لا يملك لتفرض أختام جوازات على القادمين, حتى تكون ككلمة حب يطلبها مغتصب من فتاة, ليقنع مرضه أنه لا يمارس الاغتصاب وإنما الحب, محشورة أيضا بفوهة هذا السلاح. كل شيء سلاح, حتى كلامهم الذي لا أفهمه. لكن من أجل عيون فلسطين تمنيت أن أدخل هذه الفوهة لأعانقها وأنسى الحصار. وفعلاً دخلت وختمت جواز سفري على باب الفوهة, ودخلت عالماً غريباً.

ما أن رأيت شيئاً من فلسطين حتى بدأت أستعيد الوعي وأرى الطبيعة. ما هذا التناقض الرهيب؟ غور به لغة غير عربية ووجوه أجنبية؟ وما أن تواجهنا حتى أصبح كل شيء منسوجاً بالألوان الطبيعية, لوني كلون البحر والجبل والتراب, وصوتي يألفه المكان, ولغتي عذبة, منها تتآلف أسماء كل جزء في هذا المكان. لا شيء غريب أو عجيب.      

 أول لقاء لي بهذه المحبوبة جاء بعد أعوام طويلة من الحرمان من رؤية المكان. أول اسم التقيت به واعتدت سماعه من فم والدتي العذب مرج ابن عامر. لهذا اللحن الجميل وقع لم أشعر بمثله في حياتي. متعة أنستني كل شيء إلا منظر أمي وهي تتكلم عن المكان بكل طلاقة و أدق التفاصيل, مع أنها المرأة التي عاشت في إربد  خمسين عاماً, وما زالت لا تعرف أن هناك شيئاً اسمه شارع السينما وأن هناك شيئاً اسمه حي الماسورة والملعب البلدي[1]. هذا الفرح أخافني وجعلني أريد أن أطير حتى قال لي مرافقي: إننا بدأنا نقترب من مدينتك حيفا. وكان لي ما كان.

 بدأت حيفا بالظهور. بحثت عن شيئين, البحر والكرمل. فهذه الأماكن أكبر من أن يستطيع سارق حيفا إخفاءها, وحرماني من رؤية ما رآه أبي وأمي و أقاربي كما هو. صرت كلما رأيت جبلاً أسأل هل هذا جبلي الكرمل؟ وعلى كل الأحوال؛ كل ما رأيت هو لي لكنني كنت أبحث عن الكلمة التي تؤكد الرؤية والالتحام بيني وبين المكان. وعندما قال لي المرافق هذا هو الكرمل تحرك كل شيء في جسدي, توقف الحزن, وساد الفرح, وشعرت أنني أن أولد من جديد.

 أصبحت صورة أبى وأمي تملك فكري, وصارت أكثر حضورا. زاد فرحي أكثر عندما ظهر البحر, ورأيت لأول مرة في حياتي ماء أنا أملكه. رأيت البحر الأبيض المتوسط من مدينتي حيفا. كانت المرة الأولى التي لا أخاف فيها من الماء والبحر. هذا البحر الذي تحدث لي أبي عن نوه وعن الملاحات بقربه. بقي الكرمل يرافقني لا يريد أن ينتهي أو حتى يختفي. أحسست أن البحر حزين, وهديره تحول إلى نواح . والجبل أكثر حزناً. كانا كحال تلك العروس الجميلة التي فرض على جسدها الأب الظالم شيئاً ثقيل الظل لا تحتمل أنفاسه, لكن روحها بقيت مسكونة بعاشقها الطبيعي لا تحتمل غيره. تراه الآن يسير في المكان, انتفضت فرحا ًبرؤيته, وابتسم الحزن وكانت تحرير لحظة من وراء ظهر المعتدى الجبان. وأصبح البحر أكثر فرحاً بلقائي, واستعاد الجبل شموخه وهيبته حين أحس بوجودي, أنا مالكه. كان وما زال كل جسد فلسطين وأوقاتها يعاني الغربة مع هذا الغاصب. البحر والجبل والتراب والليل والنهار. وصلت حيفا وكانت الجملة الوحيدة التي كنت أرددها هي: أريد أن اذهب إلى طيرة. لست مضطراً الآن أن أقول طيرة حيفا لأول مرة؛ ذلك أنه لا يوجد هنا غيرها. كلما التصق جسدي بجسدها أشعر بالفرح والحزن والقهر, ولا أذكر إلا أمي وأبي.

حاولت كل جهدي أن أجرد المكان من أي شيء غريب. أصبحت في ذلك الحين شاعراً مؤقتا. أصبحت كالشعراء, أجعل من فلانٍ من الناس شجاعاً كالأسد, لكنه في الوقت نفسه ليس كمثله حيوان. فنأيت بعيني عن كل عبارة عبرية وكل شيء يدل وجوده على تلك السرقة التي حدثت في وضح النهار. لا أريد أن أرى إلا ما رآه أبي وأمي قبل أن يلوث. فلا أرى إلا الشجر القديم الذي لم يلوث تلقائية شكله رجلٌ غريبٌ يدعي أنه فنان ومهندس زراعي, لكنه سارق. نأيت بنظري عن شجراتي التي بتر هذا المهندس الغريب أحد أعضائها حتى يزين كما يعتقد شكلها. تجنبت النظر إلى تلك الأشكال التقليدية لسارق المكان: جدايل أو قبعة أو بندقية تتدلى من على كتف فتى أو فتاة, خوفاً على نفسه من نفسه. فليس هناك سارق أو قاتل في مكان الجريمة المفتوح منذ زمن بعيد إلا هو, وما ورثه من المسروقات. أصبحت في لحظات أخرى أجزاء من قصائد قرأتها ولم أفهمها والآن أعيشها؛ إذ إنني أحد بلابل هذا المكان الشرعي التي قال عنها الشاعر إن دوحها قد أصبح محرماً عليه وأن ذلك الدوح حلال للطير من كل جنس. فحتى وأنا على دوحها لست طليقا, بل عليّ أن أبقى برفقة جواز سفري محاصرا بقهري وحزني.

عندما التصق جسدي وروحي بجسدها وروحها شعرت بشيء غريب: حزن وفرح. لكنه كان عناقاً طويلاً بين فتى لم تره, لكنها تعرفه جيداً, واسمه يدل على أنه منها وحفيدها وابن أحبابها. أريد أن أصل إلى الطيرة. أريد أن أرى كل شيء. وبعد توقف قصير في حيفا بدأت رحلتي التي لم تستغرق فعليا بالسيارة إلا وقتاً قصيراً لكنه مَرّ عليّ طويلاً خفت أن لا ينتهي.

وصلت مدخل قريتي الذي أراه لأول مرة في عمري (شكل 1) .

شكل (1) يظهر مدخل الطيرة من الجهة الشمالية وفي الصورة بعض دكاكين الطيرة المهدمة

لم أستطع إلا التريث قليلا, والوقوف في مدخلها بعض الوقت؛ لأنظر إليها من بعيد. أردت أن أرى كيف كان يراها أبي وأمي وأقاربي عندما كانوا يدخلونها كل يوم. رأيت الطيرة من بعيد, وبدأت بعدها بالاقتراب منها ببطء وفرح وخوف. وفجأة وجدت نفسي في قلبها. شرعت بالركض هنا وهناك لأقترب من بيت والدي, وشجرة الخروب والزلاقة, وفي الوقت نفسه  لم أكن أعرف هل أقترب منها عندما كنت أركض باتجاه معين أم أبتعد؟ لقد جعلني هذا الغريب غريباً حتى في عقر داري. كنت أتألم لأنني تائه في أحب الأماكن إلى قلبي الطيرة. أين الزلاقة؟ أين القف (شكل 2)؟

شكل (2) يظهر مرتفع القف وفي الصورة أيضا بقايا مدرسة الإناث

 هل هذه مغارة التشتش؟ أم هذه المغارة جزء من لحف المغر (شكل3)؟

(شكل3) لحف المغر وهي عبارة عن مغر جنوبي البلد

أم إنها تلك التي اعتاد أن يختبئ بها إخوتي من هذا المحتل الذي أطلقه علينا (سايس) وغادر[2]؟ هل هذا حريق معمر؟ أم المرقصة؟ كلها أعرفها ولا أعرفها, لكنني أحبها كلها. هل أنا في الحارة القبلية أم الشمالية؟ لا أعرف, فربما عاث السارق حتى باتجاهات المكان, فهو على استعداد- من أجل دفن معالم الجريمة- أن يجعل من الجبل وادياً, فليس بينه وبين المكان ود حتى يكون حريصاً على طبيعته أو المحافظة عليه.

عدت إلى الطيرة, وكنت في حيرة ماذا أقول عندما كنت آتي إليها كل يوم لمدة أسبوع من حيفا؟ هل أقول: أريد أن أذهب إلى الطيرة, أم أقول: أريد أن أزور الطيرة؟ هل أقول: أعاودها, أم أقول أن أعود إليها؟ أصبحت شديد الحساسية للمصطلحات, وهل فعلاً أنا غريب. وهل يكون الإنسان غريباً إذا كان المكان نفسه غريباً وليس له فيه شيء؟  أم هل يكون غريباً حتى إذا كان له في المكان كل شيء؟ ولكنه لا يعرف هذه الوجوه الغريبة التي تسير فيه. لا يمكن أن أكون غريباً بالطيرة. فأنا أملك المكان وكل شيء. إذاً لماذا أنا خائف وهاجس ضرورة الاستئذان يسكنني كلما حاولت الاقتراب من مكان ما لأتأكد  أهو الزلاقة أم لا؟ كم هو شيء قاسٍ أن تدخل بيتك المسروق غريباً, والسارق هو المقيم! كم هو مقيتٌ الشعور بأن عليك الاستئذان في الدخول إلى بيتك, وبأن اللص هو المضيف! كم هو هذا اللص غريب حتى إنه يمارس التكاثر في بيت سرقه. كل الأماكن أعرف أسماءها, وروى لي والدي قصصاً حدثت فيها لا يعرف عنها هذا الغريب شيئاً, كل هذا أعرفه قبل أن يقتحم بحرها. فهي أكثر وأكبر وأوضح حقيقة في حياتي. هي المكان الذي فيه لا أحتاج أن أتكلم وأقول من أنا.

الطيرة هي المكان الوحيد الذي ليس وراءه مكان آخر. هي اسمي واسم أبى وسيدي, واسم آخر الأسماء التي لي بها علاقة على مر تاريخ البشر. هي الطبقة الصخرية من جذري التي ليس بعدها شيء. وطيرتنا هي مسقط رأس أبي وأجدادي . إن أسماءً كثيرة من سكانها الأصليين المولودين هناك ما زالوا أحياء يمشون ويتنفسون, وما زالوا جزءاً من الحاضر وليس من التاريخ .هؤلاء أحياء الحاضر, يستطيعون أن يحدثوك عن الطيرة بكل تفاصيلها, كما لا يستطيع أن يحدثك من يسمى اليوم رئيس بلديتها الغريب. هم يعرفونها بالشجر والمطر, وحبات التراب, وأجزاء الجبل الكرملي, والملاحات, ونهيق الحمار, وساحل البحر, وفجرها وليلها, وبردها وصباحها, وخروبها. لا يمكن أن أكون أنا الغريب وذاكرة أبى وجدي تحمل كل هذه الذكريات والقصص عن هذا المكان. حتى تلك الأماكن التي تحيط بالطيرة, عندما أقرأ أسماءها أقرأها بلهجة أبي وأمي وعمي وخالي, فهم أول من علمني أبجديتها, ومنهم سمعت أسماءها لأول مرة. فوادي النسناس (شكل4) التقيت به في أحاديث أمي منذ زمن بعيد, وكذلك الكبابير والهدار[3].

شكل (4) وادي النسناس في حيفا

 عندما كان ينتابني هذا الشعور كنت أذهب إلى الطيرة بمعنوية عالية, وبفرحة الطفل. لم يعرف مرافقي لماذا كنت أصر ألاّ أركب السيارة وأنا داخل الطيرة. أردت أن أركب الأرض التي هي أرضي, وأسير فيها كما كان يفعل سيدي وأبى, فبقوة دوسي على الأرض أريد أن أقول إن هذه هي أرضي وأرض أقاربي من السلمان والباشية وعمورة وأبو راشد والبدر وعلوه وحجير والناجي والأبطح وغيرها من عائلات الطيرة العديدة الأخرى[4]. وهي حقيقةً كذلك. كنت أبرر الاستئذان بالقول لنفسي إنني كنت سأستأذن حتى لو دخلت منزل عمي. لكن في الحقيقة شتان ما بين المرتين فذلك اجتماعي وهذا سياسي.

  بعد طول جهد وصلت الزلاقة, حيث بيتي وجذري وخروبتي. بدأت في صعود ذلك المرتفع الحبيب. أصبح الطريق وعراً, والأشواك تحيط بالمكان. سرت فيه, وكان إصراري ورغبتي وشوقي للوصول للمكان يجعلني لا أشعر أو حتى أعترف بوخز أشواكه. بذلت جهدي للوصول إلى مكان بيتنا؛ لكي أراه أو أرى أي شيء من بقاياه. كان اللقاء حميما بأرضي.وطئت روحي ترابها لأول مرة, شعرت أن التراب تحت قدمي يبتسم, وحباته بدأت تتهامس فيما بينها فرحة مستبشرة خيرا أنني ما زلت على قيد الحياة, وأنني لن أنساها. حتى حشرات الأرض المختلفة في المكان بدأت بالاقتراب وكان يوما غير عادي لها. كانت قدماي لا تقدر أن تدوسها كما يفعل هذا الغريب الغريب. بدأت بالبحث عن بيتنا, ذلك البيت العزيز الذي شهد دموع الفرح الأولى بعيون أمي-يوم زواجها-وشهد دموع الحزن الأخيرة بها-يوم إجبارها على مغادرة المكان.

 شعرت أنني أقترب عندما ظهرت أمامي خروبتنا الحبيبة. في تلك اللحظة أصبح لي مرافق من عائلتي-الخروبة (شكل5).

شكل (5) الخروبة في مرتفع الزلاقة

أصبحت الخروبة, التي ما زالت جذورها ضاربة في الأرض وثابتة بتاريخها كما, نحن دليلي وبوصلة تحركي, ومعرفتي بالاتجاهات. تخيلتها تمسك بيدي وتهديني حيث أشاء أن أذهب. أحسست أنها تحدثني عن أبي وأمي وسميحة وزريفة وخليل ورومية وعيسى الذين عاشوا في هذا المكان. أعادتني للتاريخ وأرجعت جغرافية المكان كما كانت قبل أن يلوثها الغريب. أعادت الحقائق, وجعلتها وقائع. بدأت بقايا بيتنا بالظهور. هنا أبطأت المسير. شرعت أدوس في أعز الأماكن التي أملك. أخذت أخاف على الأرض من قدمي.تمنيت أن تكون هي من يدوس على قدمي لأسير. وجدت مكان البيت وبقايا حجارة(شكل6). كان حزيناً قبل لحظات والآن يبتسم. لمست حجارته وترابه.

شكل (6) بقايا بيتنا في مرتفع الزلاقة جنوبي الطيرة

بدأت ابحث عن أي شيء من بقاياه. قفز قلبي فرحاً وحزناً عندما التقطت يدي غال بابنا القديم والإطار الحديدي لشبابيكه (شكل7)؟

شكل (7) يظهر غال  باب بيتنا وبعض من ترابه وحجارته العزيزة

في تلك اللحظة القاسية عزلت عن عالم اليوم وسرت خارج المكان والزمان. بدأت أرى أشياء حصلت قبل أن أولد. عاد البيت كما كان. وعادت جدرانه تضم من كانت تضم قبل أعوام. ولم يعد هناك أثر لثقوب في الجدران سببها رصاص وشظايا. وضج المكان بأصوات الأطفال. هذا هو وجه أبى وأمي ظهرا من جديد. ومياه وادٍ قريب كانت قد جفت بدأت بالتدفق من جديد, والآن أسمع صوته, وأوراق شجرة الخروب- التي كانت قد تجمدت, وبقيت طائرة مع حركة الريح الأخيرة إلى جهة اليمين, ولم تعد إلى اليسار؛ لأنها أبت أن تتفاعل مع الريح منذ مغادرة عائلة أبى وأمي المكان- رجعت إلى اليسار, وبدأت تتحرك من جديد كما يشاء الريح.عاد الطابون دافئاً, والرماد ناراً. في ثنايا هذا البيت عاش قبل أعوام أحمد وزوجته آمنة وأولادهما وبناتهما سميحة وزريفة وخليل ورومية وعيسى.

 كان أبي شاباً نشيطاً. يحب العمل, وكحال الكثيرين كان سعيداًً بأولاده وبناته. أنتظر قدوم خليل طويلاً. كان خليل بالنسبة إليه رجل البيت الثاني.أعطاه من وقته ومن جهده. كذلك فعلت أم خليل. كان طموحاً يفوق التصور في تلك الفترة القاسية من الزمان. بذلا جهوداً جبارة حتى يكبر أبناؤهم, ويصبحوا على أحسن حال. كان خليل ذكياً ويكبر عمره. وقد كان أبى سعيداً بذلك, فهو تواق ليرى خليلاً كبيراً. كذلك الحال بالنسبة لعيسى. فقد أعطته أم خليل كل وقتها. اعتادت مجالسته وتعليمه الكلام. وفعلوا الشيء نفسه مع بناتهما. فلم يبخلوا عليهم بوقت أو جهد. أم خليل فضلت أن يبقى أولادها قربها كل الوقت حتى وهم يلعبون. فقد خافت عليهم حتى من الريح. اعتاد خليل ورومية أن يلعبا في فناء بيتهم الجميل وأمهم تشاهدهم. في صباح يوم رمضاني وكان يوما حاراً, قررت فيه أم خليل أن تحمَم أبناءها بعد أيام طويلة أمضوها مختبئين خوفاً من القصف الصهيوني في مغارة قريبة من البيت. كان القصف أعمى, كما هو ضمير المعتدي. اعتاد أبناء آمنة الطيراوية الطيبة أن يذهبوا إلى بيت جدهم حسين في وسط البلد معظم الأوقات. لكن والدهم أحمد طلب من بيت جدهم عدم السماح لهم بالذهاب إلى هناك في تلك الأيام؛ لأن بيت جدهم كان في وسط البلد, الذي كان أكثر عرضة للقصف. بعد ذلك الحمام سمحت أم خليل أيضاً لأبنائها باللعب كالمعتاد قليلاً في فناء البيت بكرة خليل التي عملتها له من قماش وجوارب قديمة. كان كل شيء هادئاً وأصوات أطفال بريئة تخرج من هنا وهناك فرحين باللعب. خليل يبتسم ويركض ضاحكاً مع أخته رومية, يبادلها الضحك واللعب والفرح, وعيسى الطفل الصغير يسير ببطء حولهم, وبجواره قريبهم خالد هاني علوه. كان الهواء هادئا, ولا غبار في المكان. لا شيء يفوح سوى رائحة الورد وبراءة المكان. وأم خليل تحوم في بيتها, وتجمع ملابس أبنائها التي هي بحاجة للغسيل. قررت بعد ذلك أن تخرج لفناء المنزل لتطلب من أبنائها وابن الجيران الدخول إلى المغارة؛ لأن المحتل لا يعرف الشفقة ولا يفهم فرح الأطفال. خرجت إلى فناء المنزل وبدأت تنظر إلى أبنائها خليل الذي كان يرتدي سروالاً بنياً وقميصاً أصفر,ورومية التي ربطت لها شعرها الذهبي برباط أبيض,وعيسى الذي أرضعته وجبته من الحليب قبل قليل بعد ذلك الاستحمام. كانت تهم بالطلب منهم الدخول إلى المغارة.

وفي لحظة قاسية مرت كالجمر, ولم تنطفئ, تجرأت عصابات الصهاينة على قصف منزل أبي خليل وأبنائه الصغار, في لحظة انتعاش, بعد حمام أمهم الأخير لهم, ولعبهم سوياً في فناء المنزل. كانوا في أوج سعادتهم وضحكهم, وأمهم تشاهدهم. بقايا فطورهم ما تزال في سدر الآكل. ذلك السدر الذي كان يعرفهم, ويميز دقات أكواب الشاي عليه كإعلان عن  إفراغ الكوب منه, وإعلان الرغبة في المزيد من الشاي. كان ما يزال شعرهم مبتلاً, وجسدهم البريء نظيفاً, وابتسامات عذبة ترتسم على وجوههم فرحاً بالسماح لهم باللعب قليلاً, بعد حرمانهم منه خوفاً عليهم من جنون المعتدي المريض. وفجأة ودون إذن أو قرع على الباب انفجرت القذيفة في أجسادهم الناعمة, فالتهمت فرحتهم واغتالت أحلامهم, فأسقطت خليل ابن خمس السنوات فوراً شهيداًً وقبل أن يعرف أين يذهب بابتسامته, اغتالت حقه حتى في البكاء. فعلت تماماً كما يريد العدو...القتل والتعذيب والحرق وطمس معالم الجريمة. مات وهو لا يستطيع أن يقول إنه يتألم. عليه أن يقول إن هذا العدو يبسمه ولا يبكيه, تماماً كابتسامة المُختَطَف ومديحه لخاطفيه على أنه يُعامل بصورة لائقةٍ عندما يُطْلَبُ  منه ذلك تحت وطأة التهديد في شريط مصوّر, استشهد وهو يبتسم, كان الموت أسرع من قدرته على تبديل معالم وجهه, من مبتسم فرح إلى باكٍ متألم مندهش مما يحدث له, وربما زاد من ألمه أنه شاهد آلام أمه وهو يغيب. ومزقت جسد عيسى ابن السنة و النصف, وتركته ينزف ويسبح في دمائه ساعة قبل أن يستشهد. لم تستطع والدته آمنة فعل شيء لابنها البريء في تلك اللحظة, فهي أيضا قد أصيبت أصابه بليغة, ولم ترحمها القذيفة. بقي عيسى متشبثاً بثوبها و يصيح: يا دادا يا دادا قبل أن يلفظ أنفاسه الطاهرة .يبدو أن شدة الألم جعلته ينسى أن من يمسك ثوبها كان يقول لها قبل لحظات في الحمام ماما وليس دادا. طفل لم يصل عمره السنتين يمر بهذه التجربة القاسية.

وفي ركن آخر من البيت سقطت رومية ابنة ثلاث السنوات والنصف, وهي تصيح ودماء غزيرة تفيض من جسدها الطاهر البريء. وسميحة البنت الكبرى لم تتركها شظايا الشيطان تفلت من الإصابة, فأنزفتها واخترقت رجليها. في تلك اللحظة  احتارت أم خليل ماذا تفعل بدمائها؟ وصريخ أبنائها المصابين جميعاً حولها جعلها لا تعرف ماذا عليها أن تنتظر, أو ماذا عليها أن تفعل. خوف وهلع واندهاش, وضعف يجعل من الاستسلام للموت, وانتظار الآخر لتقديم يد المساعدة أسهل الحلول.

كان قرباً من الموت يجعل التفكير بالهرب منه شيئاً سخيفاً. فالغبار الذي سببه انفجار القذيفة- وما اختلط به من خوف وبقايا أجساد بريئة ودماء, وألم وصراخ وموت, ودهشة وعدم مقدرة على استيعاب ما يحدث, ورغبة بالهروب أو النجاة والدخول في عالم الموت, والاقتراب منه ومشاهدته والدخول في فمه بهذا الشكل- كان كل ذلك أكبر من طفولة هؤلاء الأطفال, وأكبر شهادة على أن مسببها محتل جاء لتلويث هذا المكان وأصحابه, وتسميم فرحتهم وأحلامهم, تماماً كما تفعل شظايا قذائفهم التي منحهم إياها هدية من يدعي التحضر والرقي, وانتسابه للعالم الأول, وحرصه على السلم العالمي.

إن قذائفهم تدخل الآن أجساد هؤلاء الأطفال البريئين, وجسد أمهم التي لا تعرف شيئاً سوى احترام الزوج, والعناية بأطفالها الذين يصارعون الموت أمام عينيها.

لم ترحم القذيفة أيضا خالداً صديق خليل الذي كان يشاركه قبل قليل اللعب, والآن يشاركه الموت, فاغتالت طفولته, وجعلته يسقط شهيداً إلى جانب خليل. مات خالد قبل أن يستلم كرة خليل الأخيرة, فقد سبقتها شظية الغريب. بقيت كرة خليل تتدحرج بينهما دون أن تجد من يلتقطها.

لماذا على خليل أن يدخل عالم هذه القذيفة وما عليها من أرقام متسلسلة وحروف ومميزات تتعلق بسعتها وعيارها و أشياء أخرى لا علاقة للطفولة بها؟ لماذا لا تدخل كل هذه التفاصيل في عالم أطفال صانعها؟ لماذا على أبنائه أن يروا والدهم بلباسه الأنيق بعد أن يعود من مصنع القذائف ذاك ولا يروا ما تفعله منتجات والدهم بأطفال مثل خليل؟ لماذا يرون والدهم فقط بلباسه الأنيق وعطره الفواح الذي يختلف كثيراً عن رائحة البارود التي استنشقها خليل؟

لا يعرف أطفال من صنع القذيفة أن أباهم الغربي المتحضر هذا  قد أهدى- هو وعالمه الغربي-  مجرماً  قذيفة بعد أن سمحوا له بالدخول من البحر, بطريقة غير شرعية, وفي جنح الظلام, وتسلل إلى أعماق أرض طيبة من غير إذن. وتدرب على أبشع الطرق لقتل أناس آمنين.لا يعلم أطفال الغرب أن أجدادهم قد سمحوا لأعداد كبيرة من عينة هذا المجرم- الذي استخدم قذيفة فتاكة ضد جسد خليل البريء- بالدخول ليقض بها مضاجع أطفال أبرياء ويوقف أحلامهم, ويبكي شجرهم, وينهي قصتهم, ويشردهم عن أوطانهم .

  وصل أهل أم خليل إلى مكان الكارثة بعد أن سمعوا الخبر من الجيران, وصلوا وكان من بينهم والدة أم خليل الحاجة سعاد التي هرعت إلى ابنتها آمنة أولا. وبعد أن اطمأنت أنها ما زالت على قيد الحياة, بدأت تركض إلى الآخرين.  ركضت إلى خليل الذي وجدته مستشهداً وخطاً من الدماء خلف أذنه, ورأت رومية ابنة ثلاث السنوات تغرق بدمائها, ولا تستطيع الحراك. استشهدت رومية بعد ذلك بأسبوع خلال رحلة الهجرة القسرية إلى الأردن. لقد فارقت الحياة (رحمها الله) في الطريق, في بلدة اجزم القريبة من الطيرة. وكذلك كان من بين المصابين سميحة أختهم الكبيرة. أصيبت سميحة في رأسها ورجليها اللتين ما تزالان تشهدان على هذه الجريمة.

  في الطرف الآخر كان قاصف القذيفة ربما يبتسم فرحاً, وسيجارته في زاوية فمه, وعبريته المهجنة باللغات الأوربية تنطلق من الزاوية الأخرى من فمه بلا مبالاة, وبطريقة أقرب إلى التمتمة منها إلى الكلام, تبشر بخبر قدرته على قتل ثلاثة أطفال, وحرق والدتهم. كان ربما يتحدث, وكأنه يتحدث عن دك من ورق اللعب لعبه للتو مع ضابط أعطاه أمر القصف, أيضا بلغة عبرية ملوثة بإحدى اللغات الأوروبية, التي لربما بأحرف إحداها قد كُتِب على تلك القذيفة مكان صنعها, وشيئاً من ميزاتها وقدرتها على الفتك والدمار، وعيارها وأشياء أخرى لا دخل لخليل ولا لطفولته بها. كان القتل عنده شيئاً عادياً, لا يستدعي التخلص من سيجارته لثوانٍ لزف الخبر.

ترك هذا القاتل أهل القرية حيارى بما يفعلون, وماذا يفعلون مع هذا العدد من الإصابات والموت والحزن والحيرة. الموقف وحجم الإصابات ونوعها أكبر من كل إمكانيات أهل القرية.

  يعتقد معظم أهل البلدة أن تلك القذيفة قصفت على المنزل من مدفعية صهيونية تمركزت في مكان اسمه خوزه (اخوزه). وربما هذا هو السبب الذي جعل أم خليل لا تحب هذا الاسم, وكلما ذكر بحضورها تقول عبارتها الشهيرة"كان المقطوعين يضربوننا من هناك".

أصر أبو خليل على البقاء بقريته والصمود فيها, كما فعل الكثير من سكان القرية. فجاءت هذه القذيفة محاولةً لتحطيم هذا الصمود. حتى عندما حاول عم خليل الكبير علي أن يأخذ خليل معه إلى الأردن, ذلك أنه كان يحب خليلاً كثيراً ومتعلقاً به, رفض أبو خليل, وأنزله من سيارة عمه وقال: أبقى أنا وأبنائي جميعا هنا, نموت سوياً أو نحيا سويا.

  قام أهل الطيرة الطيبون, بعد أن بذلوا جهوداً جبارة في مساعدة المصابين, بنقلهم إلى  المسجد. تم دفن الشهيدين خليل وعيسى في مقبرة القرية الجنوبية. تم دفنهم قرب قبر الشيخ العبد المحمود شقيق سيدهم "محمد سعيد" ذلك لأن العبد المحمود كان شيخاً وجيها ً له مكانة في منطقة الساحل الفلسطيني، كان قبره (رحمه الله) من طبقتين لذلك اعتقد أقارب الشهيدين أن دفنهم بهذا المكان سيسهل عليهم التعرف إلى قبورهم عندما يعودون إلى البلاد, ذلك لأن قبر الشيخ العبد مميزاً ومعروفاً.

 الذي لم يصب من هذه العائلة الطيبة ابنتهم زريفة و أبو خليل الذي كان خارج البيت. ربما لم يُصَب جسد زريفة لكنّ روحها تمزقت ألماً واعتصرت قهراً. لم تتوقف عن البكاء حزنا على أختها الكبرى سميحة, وعلى أخويها الأصغرين خليل وعيسى, وأختها الصغرى رومية. بكت على نفسها كأنها مصابة, لأن الكل مصاب. كانت المأساة كبيرة, ولم يكن يعلم هذا الرجل الطيب وزوجته الصابرة أن ثنائية اسميهما(أحمد محمد سعيد السلمان و آمنة حسين عمورة) لن يلتقيا فقط في بطاقة دعوة زواجهما أو وثيقة عقد قرانهما عندما قرر خطبة آمنة عام 1938. بل إن اسمه واسم زوجته سيكونان معاً أيضا عنواناً كبيراً لهذه الجريمة النكراء, التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحقهما بعد عشر سنوات من زواجهم عام 1948. لم يكن يعلم أحمد أن فرحته بكل طفل رزقه الله سيقابلها نهر من دموع الحزن على فراقهما, وقتلهما بأيدي هذه العصابات الآثمة, وهم ما يزالون براعم أطفالاً. لم تعلم آمنة أن ألم الولادة الذي صبرت عليه سيكون نتاجه طفلاً جميلاً طالما حلمت به, وأنه سيكون مجرد رحلة في عالم الألم الذي سيسببه لها عصابات الصهاينة, سواء لها كمصابة أو لأطفالها الثلاثة الشهداء. لم تعلم أن هناك من كان يتربص لهذا الزواج, وينتظر ثماره من الأطفال, حتى يفتك بهم ويمزق أجسادهم وأحلامهم, حتى قبل أن تكتمل.

 لم يعلم الكرمل ولا البحر المجاور ولا الزلاقة ولا السماء ولا الغيوم, التي  قسم لها الله أن تكون في  ذلك اليوم من يحوم في سماء الطيرة, ولا شمس ذلك اليوم ولا الوقت ولا الخروب, أن جريمة بشعة جبانة ستقوم بها عصابات الصهاينة بحق أطفال ثلاثة ووالدتهم. لم تعلم شجره الخروب القريبة من منزل أبي خليل, والتي شاهدت أطفاله الثلاثة يلعبون ويضحكون, أنها ستكون أقرب شاهد من مكان الجريمة, وبأنها ستكون أول شيء في الطبيعة يشهد على أن دولة الصهاينة شيء غير طبيعي. وأن خليل ورومية وعيسى لا يلعبون هذه المرة بل يموتون. لو علمت أم خليل أن حمام ابنها خليل أو عيسى أو رومية سيكون الأخير, ربما ألغت فكرته في ذلك اليوم, لتكسب وقتاً أطول معهم قبل الوداع, ولتعفيهم من بعض الدموع الناتجة من فكرة الحمام والصابون في العيون عند الأطفال. لم تعلم أن المكان الذي كانت تسيِر فوقه ليفة الحمام على أجساد أطفالها, سيسير عليه بعد لحظات شيء غريب مؤلم اسمه شظايا. لم يعرف نوبل أن خليلاً ورومية وعيسى سيكونون من ضحاياه, إذ يبدو أنه لم يخطر بباله أن هناك أناساً سيستغلون اختراعه لتفجير فرحة طفل, وتمزيق أحشائه أمام عيني والدته, والتدخل في حياة رجل فلسطيني طيب كباقي أفراد القرية, وتحويل حياته إلى مأساة لم تنته, وحزن لم يفارقه حتى عندما ناهز عمره الثمانيين.

 بقي بعض أهل البلدة والمصابون أسبوعاً في المسجد. بعد ذلك بدأ مشوارهم مع التشرد عن الديار. لم يعد لأم خليل شيء تأخذه معها سوى جراحها وألمها. لن يرافقها خليل الطفل كما كان يفعل دائماً أو عيسى الرضيع, وهما  اللذان كانا معها كل الوقت قبل أيام. حمامها لهم آخر حدث جمعهم أحياء دون ألم ودماء.  قامت متثاقلة وهي لا تريد. خافت إذا ما فارقت وبدأ المشوار أن يصبح موت خليل وعيسى حقيقة من الصعب أن يتحول إلى حلم ثقيل. اعتادت أن تخاف الأحلام, لكنها الآن تتمناها. لا تريد أن تفارق القبر والإنسان الحي الذي فيه. كل شيء لا يمكن أن يكون حقيقة. حقيقة أكبر من أن تكون حقيقة دفعهً واحدة. يقولون إن مثل ذلك لا يحدث إلا في الأحلام, فلماذا لا تكون حلماً؟!

 ذهبوا إلى اجزم حيث فارقت رومية الحياة, ودفنت هناك, ثم إلى عارة وعرعرة. تذكر سميحة المصابة أن خالها محمد حملها على ظهره طيلة الطريق.وتذكر أيضا أنها فقدت وعيها أكثر من مره, من شدة النزيف, لأن إصابة رأسها بالغة. كذلك لم تكن أم خليل في وعيها معظم الوقت. كان جرحها عميقا,ً وحزنها أعمق. كان الجرح يفقدها الوعي, والحزن يوقظها منه. أصبحت محاصرة بالجراح بكل أنواعها. أم خليل عاطفية ورقيقة دون جراح. فماذا يمكن أن يحدث لهذا النوع من البشر الرقيق الحساس الهادئ بعد هذه التجربة المريرة مع الدم, وفراق أطفالها دون وداع, ومع الألم والدموع والاستشهاد. عواطفها أرق من أن تحتمل هذه القسوة. ربما كان سلاحها الوحيد في تلك اللحظات الاستسلام للموت الذي لم يأت, أو الحزن على أنه قدر.

عواطفها تقاسمت الأدوار: جزء للجرح النازف, وجزء لعيسى وآخر لخليل وآخر لرومية وآخر لزوجها المقهور وآخر حزناً على حزن الآخرين. ماذا على الإنسان أن يفعل إذا نفدت منه مادة الحزن والعاطفة ولم تعد تكفي؟ ماذا عليه أن يفعل إذا أصبح إنتاج الحزن أسرع وأكبر من إنتاج الدمع والعواطف؟ ماذا عليه أن يفعل! يبكي بشده؟ وهل البكاء وسيلة لقتل العاطفة, وتقسية القلب مؤقتاً, حتى يتم تجاوز المحنة, ولكي نحمي أنفسنا من الهلاك؟ وهل نصف الشخص الذي لا يبكي أنه قاسٍ, لأن قلبه من القسوة بمكان, بحيث إنه ليس بحاجة للدمع ليزيده قسوة!؟

 آلام أم خليل وصمتها الأديب, وهدوؤها وخجلها, واختلاط الدمع بالدم, كحقيقة وليس كقصيدة, وانتهاء فكرة الجوع أو الشعور به في ثنايا هذا العذاب والألم  والحزن,  تشكل منابع لفهم  فلسفة البكاء والعاطفة والقسوة.

 لم أفهم كيف تحملت أم خليل كل ذلك, وهي المرأة التي أعرفها كما لا أعرف مخلوقاً على الأرض. لا بد من آلية معينة يعين الله بها الإنسان من أمثال أم خليل إذا ما داهمها سوء الأرض بهذا الشكل, أو هذا النوع من البشر الذي يقتل وهو يدخن. هل هو نوع جديد من الموت لم نعرفه من قبل. لا يمكن أن يكون شيئاً أقل ألماً من الموت! كيف تحملت آمنة, التي أعرفها رقيقةً كنسمةٍ, كل هذا الألم والحزن والقسوة والريح والبعد والفراق. كيف تستطيع هذه الرقة مواجهة كل هذا الحزن والقسوة  والألم!؟

  بعد هذا السفر الشاق مشياً على الأقدام بدأت رحلتهم إلى نابلس بالشاحنات. في نابلس استقبل عائلة أبي خليل صديق أبي خليل وشريكه صدقي العاصي. مكثوا عنده يومين، ثم بدأوا رحيلهم إلى الأردن بسيارة علي شقيق أبي خليل, حيث قابلهم هناك .فقد غادر علي إلى الأردن قبل القصف. فعاد إلى نابلس للبحث عن عائلة أخيه بعد أن سمع بالمأساة التي حلت بها.

وصلوا الأردن, فذهبوا فوراً إلى قرية سال القريبة من مدينه إربد, حيث أستأجر شقيق أبي خليل علي بيتا.ً صاحب البيت كباقي أبناء شرق الأردن كان كريماً سخياًَ, قام باستقبال هؤلاء المنكوبين على أحسن وجه.بدأت أم خليل و ابنتها سميحة رحله العلاج الصعبة في الأردن.  في منطقة اسمها ظهر التل في مدينة إربد وجد مستشفى ميداني تلقت به أم خليل وسميحة علاجهما. عالجهما في ذلك المستشفى طبيب عراقي اسمه علي. بعد ذلك تلقتا العلاج في المستشفى المعمداني في عجلون. وبعد ذلك عند أطباء في مدينة اربد. من تبقى من العائلة أبو خليل و أم خليل  وابنتاهما سميحة وزريفة عاشوا أوضاعا نفسية شديدة القسوة في جو جديد ووجوه جديدة, وتشرّد وقلة مال, وجراح وأحزان لفراق خليل وعيسى ورومية. ذكرت أم خليل أن أبا خليل بقي بعد استشهاد أبنائه شهرين دون أن يبدل ملابسه.أما أم خليل فقد جفت مآقيها, ولم يبق هناك إلا الصبر علاجاً للألم والحزن, وقسوة فراق أحبتها, أبنائها الثلاثة الذين استشهدوا قبل الأوان. أصبح عمر أبنائها الشهداء هاجساً لا ينتهي في حياتها. ذلك عندما رزقها الله بأبناء جدد, كانت تراقب أعمارهم, وكلما اقترب أحدهم من عمر أحد أبنائها الشهداء تشعر بخوف شديد, وتشعر بأن هذا عمر الفراق. تشعر بأن هذه مرحلة حرجة من العمر, فهي تخاف أن يفارقها ابنها الجديد كما حصل مع أخيه وأخته. فما أن يقترب أحد أبنائها من السنتين أو أقل قليلاً, وهو عمر عيسى عندما استشهد, حتى تبدأ دوامة الخوف بالظهور. وما أن تنتهي حتى يبدأ هاجس الخوف هذا بالظهور ثانيهً عند الاقتراب من عمر ثلاث السنوات والنصف تقريباً, وهو عمر الشهيدة رومية. وما يكاد هذا العمر ينتهي حتى يخالجها من جديد عندما يقترب أحد أبنائها الجدد من عمر خمس السنين. وهكذا عمل هؤلاء القتلة. استطاعوا أن يجعلوا هذه المرأة الطيبة تعيش مأساة فراق أبنائها الشهداء الأطفال وألمه مع كل طفل جديد رزقها الله لها. لوثوا فرحتها بالدموع وبالخوف من الفراق.لوثوا حتى ألم الولادة الذي يبعث فرحاً بألم الفراق والموت الذي عانت منه أم خليل. وأصبحت تشعر بالإحباط, حتى في أشد مراحل الولادة؛ ذلك بسبب تذكرها أنها في يوم من الأيام قد عانت هذا الألم, إلا أن ثمار ذلك الألم خطفه الغريب في لحظة.

 فكرة الطفل والطفولة أصبحت عند أم خليل مقترنة أكثر ما يمكن بالموت والفراق المبكر من غير ذنب. أصبحت ضريبة لا بد من دفعها في مرحلة ما من العمر.حزنٌ لا مفر منه. وربما هذا ما يفسر خوفها الشديد على أبنائها, حتى من الماء وهي ابنة البحر. فالطيرة لا تبعد إلا ثلاثة كيلوا مترات عن البحر الأبيض المتوسط. إنه بحرها وبحر أجدادها, ومياهها الطبيعية. ولا يمكن أن يكون إلا كذلك. فقد ولدت وهي لا تبعد عنه. وهذه حقيقة طبيعية أكثر ثباتاً من كل الخرائط الجديدة والأساطيل والقرارات التي لم ير متخذوها الزلاقة يوماً, ولا يعرفون من البحر إلا الأماكن الأكثر ملاءمة لرسو حاملات طائراتهم. الذي يملك أدوات القتل هذه لا يعرف شيئاً عن أيام البحر البريئة التي عاشها مع أصحابه الطيبين. لا يعلمون أن البحر تمنى لو يستطيع إغلاق ذاته عندما داهموه, وأن موجه تمنى أن يعكس ذاته, وأن المد تمنى أن يصبح جزراً, حتى لا يرى أصحابه هذه الوجوه الغريبة. تمنت الرياح أن لا تسير كما تشتهي السفن, فأصحابها وأصحاب البحر الشرعيون لا يملكون السفن.

هاجس الفراق هذا توارثه حتى أبناء أم خليل الذين لاموها لخوفها الشديد عليهم. فقد أصبح عُمر الشهداء خليل ورومية وعيسى محطة خوف, تسكنهم كلما اقترب عمر أحد أبنائهم منها. حتى أن أبا خليل لم يجرؤ على تسمية المولود الأول له بعد الهجرة باسم خليل, على اسم الشهيد خليل. فسمى ابنه الجديد صالح. إلا أنه ولكونه يكنى بأبي خليل, بقي الناس ينادون المولود الجديد خليل. بعد مرور وقت من الزمن تجرأ وسمى المولود الجديد الثاني عيسى, على اسم الشهيد عيسى, كذلك فعل وأطلق اسم رومية على اسم ابنته الجديدة.                             

لقد تشكل وجداني في بيئة الحزن هذه, واستشهاد ثلاثة من اخوتي أمام عيني أمي نتيجة للقصف الهمجي من قبل العصابات الصهيونية لقرية طيرة حيفا عام 1948.  كل صباح ومساء أرى أثر هذه المأساة في عيني والدتي, وفي ما تبقى من أثر لهذا القصف في جانبها الأيسر, وفي أقدام أختي سميحة التي نجت بأعجوبة من هذا الاعتداء. لقد تفتحت عيناي على ترحم والدتي على أرواح أبنائها الثلاثة الذين فقدتهم في لحظة واحدة. وكلما تترحم عليهم, أو تقسم بأرواحهم لا بد وأن تضيف عبارة "الذين فقدتهم في لحظه واحدة." يبدو أن فكرة فقدان الأحباب بهذا الشكل الجماعي شيء مؤلم, لا يمكن إلا الشعور بوخزه حتى عند اليمين. 

أتذكر والدي في يوم من الأيام القليلة التي تجرأ فيها بالحديث عن قصة استشهادهم, حيث كان ذكرهم شيئاً مؤلماً وقاسياً جداً, أنه قال: " كانت أختك الشهيدة الطفلة رومية شقراء ذات عينين ملونتين. لقد تألمت كثيراً قبل أن تفارق الحياة. لقد كانت جراحها..." وقبل أن يكمل حديثه بدأ بالبكاء الشديد, وهو الشيء الذي فاجأني, فوالدي معروف بالصلابة, ودمعته لم أرها يوما. لم أعلم أن أبي يحمل كل هذا الحزن إلا في ذلك اليوم, وأن لأبي دموعاً لأنني لم أرها من قبل. فالرجال لا يبكون, كما كان إدراكي كطفل يعتقد.

 لقد كان أبى (رحمه الله) يتجنب الحديث عن ذلك. فاستشهاد أبنائه الأطفال قتلاً وحرقاً وألماً, يبدو أنه كان شيئاً لا يمكن التطرق إليه والحديث عنه. ما زلت أعتقد أن أبي عندما تكلم في تلك المرة النادرة عن أحدهم, كان يتحدث لنفسه. لقد كنت معه جالسين وحدنا. يبدو أن وجودي وحدي معه في تلك اللحظة- وعمري قريب من عمر خليل عندما استشهد, وفي ذلك المكان القريب من مدارس الوكالة, الذي يرمز بكل تفاصيله إلى تلك المأساة, حيث بنيت هذه المدارس لضحايا الإرهاب الصهيوني وأبنائهم, وقرب شجرة تشبه الخروب, وكنت قبلها بقليل ألعب بقربه- جعله يتخيل أنه جالس في الزلاقة, قريباً من خروبة البيت التي شهدت الجريمة وخطف اخوتي من فرحتهم وهم يلعبونو وأنه يراهم الآن هم من يلعبون بلعبي.

تلك الخروبة التي هي الشاهد غير المحايد, طيراوية صادقة, فالطبيعة لا تكذب, وربما تكون الوحيدة- إضافة إلى شظايا القنبلة و والشمس والعشب, والتراب وغباره- من رأى تألمهم قبل استشهادهم. لقد كانوا أربعة يتألمون في اللحظة نفسها, وأمي مصابة قربهم لا تستطيع إلا النواح والتألم والصراخ. وربما أحست خروبتنا بألم إخوتي, الذين تمزقت أجسادهم بشظايا قذيفة المحتل.

  استشهد إخوتي وهم بكل شيء طيراويون. بقافهم طيراويون, وبمداركهم طيراويون أيضا. فهم لا يعرفون إلا الزلاقة والقف والمرقصة.

رجعت إلى البيت في ذلك اليوم وأنا أحمل دموع أبى معي, محتاراً هل أنكرها أم أخبر أمي بما حصل؟ بدأت منذ ذلك اليوم أحاول أن أعرف كل شيء عن إخوتي, وكيف خطفهم الغريب؟ بدأ دعاء أمي لهم, والترحم المتكرر عليهم, يشكل معنىً جديدا في نفسي. أصبحت أحس به أكثر, وألتزم الصمت أكثر عندما تبدأ به, وأبعد عن شقاوة الطفولة للحظات, وأشعر أن احتراماً وصمتاً يجب أن يكونا في المكان عندما تذكر أمي أرواحهم. لقد أنضجني الموت كثيراً, فاغتالت إسرائيل بذلك طفولتي أنا أيضا, ولكن بطريقة أخرى. ربما كان ترتيبي العمري بين إخوتي سبباً مباشراً لقربي من أبى وأمي (رحمهم الله). فأنا أصغر إخوتي سناً. وقد كنت أنا أيضا بطبعي أميل لطباعه وعاداته وأحبها. وما زلت أذكر كيف كنت رفيقه الوحيد في جولاته أيام العيد مشياً على الأقدام إلى جميع بيوت أقاربه وأحبابه في مدينة إربد الجميلة. جعلت من تلك الأيام فرصة للانفراد به. اعتدنا أن نبدأ رحلتنا أيام العيد من شارع حكما شمال إربد الحبيبة لنصل أقصى جنوبها في شارع أيدون. اعتاد أن يحدثني عن حبه للطيرة وأهلها. وقد يكون للسبب النفسي هذا, المتعلق بالبعد القصري والانسلاخ عن الجذر الموجود في الطيرة, السبب المباشر في رغبته الدائمة بالحديث عن الطيرة وأيامها, وعن بابورها وقرقعته والقصص الجميلة التي كان الحيفاويون يداعبون بها أهل الطيرة وعن مداعبتهم لهم بالقول إنهم من قوسوا البحر.

وقد كنت أيضا قريبا ًمن والدتي. فكانت (رحمها الله) مثالاً للزوجة الصابرة. فقد وقفت مع والدي في محنته.

أصبحت هذه القرية- بكل تفاصيلها وأحلامها قبل أن يقتحم بحرها هذا الغريب- أكثر الأحلام التي تسكنني. أصبح مشاهدتها الحلم الذي لا يفارقني, هي وشجرة الخروب التي أضمها الآن في فناء بيتنا, والتي أراها ألآن تبتسم وهي تبكي من شدة الفرح لرؤيتي والحزن على إخوتي, والإصرار على أن لا تكون إلا لنا. قبّلت خروبتنا لوفائها, وتواعدنا أن نبقى وفيينّ لبعضنا بعضا, وأن لا يكون هناك مجال للنسيان بيننا, مهما طال الزمان. شعرت أن المكان حيي من جديد. بدأت أفتش في المكان من جديد لعلي أجد أي شيء من ذكريات أحبائي. كنت أريد أخذ كل شيء معي إلا الخروبة. فقد كانت هي راية بلادي الطبيعية ترفرف, وما تزال في المكان تؤكد هويته الحقيقية. كانت أبهى من كل راياتهم المصطنعة.  ركضت إلى فناء بيتنا. كنت كلما اقتربت من شيء أكثر تقترب من ذهني صورة أبى وأمي أكثر, وتصبح أكثر وضوحا جلست على بعض بقايا حجارة بيتنا المطلة على الباحة حيث سقط خليل. لا أتخيل أن لا أرى خليلاً وعيسى ورومية.

 أتخيلهم الآن أمامي في هذه الباحة, بين الخروبة وتلك المغارة ويعود الزمان ليسير بشكله الطبيعي. شعرت أن خيط الدماء الذي كان خلف أذن خليل يعود لجسده, ويلتحم ثانية مع باقي دمائه بجسده كما كان, وتخرج الشظية من عرق أذنه, وفي نفس اللحظة تخرج كل أجزاء القذيفة من أجساد أخوتي, فتعود أحشاء عيسى التي خرجت إلى موضعها, وكذلك باقي الأجزاء في جسد أمي وسميحة ورومية وترجع دماؤهم إلى أجسادهم, وتجتمع أجزاء القذيفة ثانيهً, وتصبح قذيفة مكتملة, وبعد أن تتجمع أجزاؤها كاملة تغادر من حيث أتت إلى فوهة المدفع,  ويعود وجه خليل ليكمل ابتسامته, ويعود شعرهم مبتلاً تماما كما كان, وفستان أمي كما كان, خالياً من الثقوب التي سببتها القذيفة, وسروال خليل بنياً, وقميصه أصفر دون غبار, ويعود كل شيء كما كان حتى أبعث أنا بينهم أخاً جديداً لهم اسمه محمود, لم يعرفوه كما إنه لا يعرفهم. أكبر منهم سناً لكنه أصغرهم! فهم إخوته الكبار الصغار الذين ولدوا قبله! فقد جمد الغريب أعمارهم. أخوهم الكبير الذي ولد بعدهم بسنيين عدة. كيف أتعامل مع أخي الكبير الذي يصغرني بسنين إذا ما تم اللقاء؟ لقد خرب هذا الغريب دورة حياه هذه العائلة, ومفاهيم الزمن, مثلما عاث في حياة أبناء هذه القرية جميعاً وجعلهم ينامون بالوحل, بعد أن اعتادوا النوم في مزارعهم الخضراء, وعلى روائح ورود حدائقهم. هؤلاء الذين اعتادوا أن يحبوا الزيتون, لأن الزيتون طبع ضارب في جذورهم وطبيعتهم, وقديم بهم كقدم تلك الشجرات منه والتي ما زالت ضاربة بجذورها جنوبي قريتنا الطيرة. لكن المشكلة ليست فينا ولكن في ذلك الغريب الذي جاءنا من مناطق باردة جداً, أو حارة جداً, ولا يعرف شيئاً عن الوسط أو الزيتون. أما نحن فنحن أبناء هذا البحر الحقيقيون الذي هو متوسط وأبيض, ولا نعرف شيئاً أكثر من الزيتون الذي لا يكون إلا أخضر ومعتدلا كالطقس الذي ينمو فيه. لقد شكلنا اعتدال هذا البحر وصفى نوايانا كرمله.

 قبلت خليل وعيسى ورومية وودعتهم وأودعتهم هناك, فهم أكبر شهادة على الحقيقة والجذر الذي لا بد يوماً أن ينبت من جديد. تركتهم في قبورهم من جديد, تلك القبور التي حمتهم من البرد والتشرد والقهر. تلك القبور التي أبقتهم طيراويين و أبقت صوت القاف بلهجتهم قافاً.  صافحت التراب والأشجار وكل كائنات المكان.غادرت وبقيت أيدينا متصافحة. ...

              

[1] شارع السينما وحي الماسورة والملعب البلدي أسماء أماكن في مدينة إربد في الأردن    

[2] الزلاقة ولحف المغر ومغارة التشتش والقف وحر يق معمر والمرقصة أسماء أماكن في طيرة حيفا ؛ سايس: اسم للدلالة على معاهدة سايسبيكو التي قسمت الوطن العربي

[3] وادي النسناس  والهدار أسماء أماكن في حيفا. صوت القاف هو احدى اصوات حرف القاف الاربعة:  وكان الصوت المستخدم في لهجة طيرة حيفا العربية.لمعرفة تفاصيل اكثر عن لهجة القرية يمكن الرجوع الى مرجع اخر لنفس المولف 

El Salman, mahmoud (2003). The (q) variable in the Arabic dialect of  Tirat Haifa. Anthropological Linguistic Journal Vol 45. Indiana University- America

[4]  لمزيد من المعرفة حول عائلات الطيرة بالتفصيل (إذ أن العائلات التي ذكرت هنا ذكرت فقط على سبيل المثال لا الحصر) يمكن الرجوع إلى نفس المؤلف في كتايه (طيرة حيفا ما بين 1900 – 1948, دار قدسية اربد, 1991)