خطوات في الليل(4)

خطوات في الليل(4)

محمد الحسناوي*

[email protected]

خارج الزنزانة حدث انهيار، فقد هوت الحلة التي وضع فيها طعام الغداء حين نقلها من الباب الداخلي إلى رواق الممر عند فسحة دورات المياه، وأحدث سقوطها ضجة عالية تقاطر على أثرها عدد من الحرس يستطلعون الخبر، وساعد ذلك في تعجيل العمل، وتوزيع حصص السجناء من الطعام وهو ساخن.

في الوقت نفسه شرع الحراس يتلاومون على إسقاط الحلة وتحميل المسؤولية، فبعضهم يرى أن سبب سقوطها هو شدة حرارة الطعام، وبعضهم الآخر يرى أن تكليف حارسين ضعيفين سبب أهم، وبعض آخر يرى السبب في الاستعجال... وقليلون هم الذين يرون أن الأسباب كلها مجتمعة، والأقل يضيفون أسباباً خفية، منها تعمد الإسقاط، أو انشغال البال بأمور تصرف عن إتقان العمل، أو إنفاذه على وجهه الصحيح.

بالمناسبة تذكر حسان حكاية رواها له أبوه:

- صاحب عمل لاحظ على أحد عماله نشاطاً خاصاً في أداء عمله لم يألفه لديه من قبل، فهو يحمل ضعف البضاعة التي يحملها على كتفه، ويقفز فوق درجات السلم متجاوزاً أكثر من درجة واحدة في كل خطوة، وهكذا بقية مراحل عمله. فتساءل رب العمل بعد طول تأمل وملاحظة وفحص لمظهر العامل، اكتشف رب العمل أن هذا العامل يحمل على وسطه حزاماً مضاعفاً أو حزامين يخفي أحدهما الآخر، وبعد الفراغ من العمل اختلى به، وأحرجه حتى فك الحزامين، ووجد الحزام الداخلي مليئاً بالقطع الذهبية والمجوهرات المسروقة.

فتح باب الزنزانة ودفع بحصة الطعام بسرعة، ثم أغلق الباب.

لم يمنع هذا الحادث من تذكر حسان لوالده، وكادت الدموع تطفر من عينيه:

- كم أنا مشتاق إليك يا والدي! حفظك الله ورعاك.

كان تعليق والده حين أفرج عن حسان عام 967:

- إنه ابن أبيه. أنا اعتقلني الفرنسيون قبل الجلاء بعام واحد، وسجنوني في سجن (المية ومية) في لبنان، أنا أفتخر بابني لأنه مثلي.

هذا كلام الوالد لزملاء حسان حين اجتمع بهم والده بعد الإفراج عنه، ولكن حين يخلو به أبوه، أو حين يخاطبه على الهاتف بالمناسبات الهامة يقول له:

- أوصيك يا ابني بعدم التعرض للحكومة.

- ولا يهمك لن أفعل إلا ما يرضيك.

وبالفعل كانت أقوال حسان وأفعاله ونتائجها القاسية مرضية للوالد على كل حال، وحين يتذكر حسان هذه المعادلات يضحك من أعماقه سروراً وإعجاباً ورضى بما رزقه الله من والد حنون، مؤمن بالقضاء والقدر، واثق بولده كل هذه الثقة.

شرع حسان يمد قطعة (نايلون)، ويرتب عليها قطع الخبز وصحون الطعام، وهو ما يزال يفكر باعتقال والده عام 1945.

- كنت في الصف الأول الابتدائي. سمعت بخبر اعتقال الفرنسيين لوالدي. فجئت أنا وأخي الصغير إلى الدكان لنتأكد من الخبر، فوجدناه مغلقاً، والناس يروحون ويغدون في السوق مزدحمين، لأن يوم الاثنين هو يوم (البازار). كان الناس يمرون أمام باب الدكان المغلق، ويتطلع بعضهم إلى الباب الخشبي وبعضهم يشير بإصبعه بسرعة أو خفية إلى علامات على الباب. اقتربت أنا وأخي من الباب، فوجدنا أثر ضربات متعددة من حراب البنادق على الباب. أخبرنا بعض الناس أن والدنا محتجز في المخفر المجاور للسوق. فهرعت أنا وأخي إلى المكان، وهو عبارة عن دكان تحت بناء عال، والمخفر يغص بالمسلحين. هجمنا على يدي والدنا نقبلهما، فعانقنا عناقاً طويلاً، ولم يتدخل المسلحون. مد والدنا يده إلى جيبه وناولنا بعض النقود. وطلب منا الانصراف إلى البيت بلا تلكؤ، لكننا لم ننصرف، بل ابتعدنا قليلاً، ثم توارينا وراء جدار معترض يطل على الساحة التي يشرف عليها المخفر –الدكان وتابعنا النظر إلى الوالد بالتناوب، متلصصين خشية أن يرانا العسكر، أو خشية أن يشعر والدنا بأننا خالفنا طلبه.

أهم ما أتذكره من ذلك المشهد قيام والدي للوضوء وللصلاة غير مبال بالمسلحين.

ما أعظمك! ما أروعك يا والدي! بل ما أعظم الإيمان، وما أروع الجرأة في الحق. إنه دين، وهل هناك أغلى من العقيدة؟!

كان حسان قد استهلك نصف الطعام، وهو غير منتبه إلى نوع الطعام الذي يتناوله، والذي جعله ينتبه أن لسانه كان يتحرك في فمه، منسجماً مع تفكيره وليس مع فكه، وفجأة عض على لسانه المحصور بين الفكين، فصرخ متأوهاً.

- آه. آه. هذه نتيجة التفكير وقت الطعام. نصحتني زوجتي أكثر من مرة بترك هذه العادة، فلم أستطع.

ضحك حسان لذكرى زوجته. وذكريات الطعام. تذكر العشاء الأخير الذي تناوله مع أسرته الصغيرة في حلب، قبل تواريه عن الأنظار في نيسان عام 979. كانت تحدثه زوجته عمن رزق أطفالاً ذكوراً أو إناثاً من زملائه ومعارفه، وعمن رزق من الجنسين، فتذكر أخاه عبد الرحمن الذي لم يرزق أي طفل حتى الآن، برغم انقضاء سنوات عدة على زواجه السعيد فدعا الله عز وجل أن يرزقه غلاماً أو بنتاً، وأن لا يحرمه من هذه النعمة. كما تذكر أنه هو رزق أطفالاً من الجنسين، فلديه مثلاً ذكر وانثيان. فحمد الله تعالى على أنه لم يحرم من الأولاد من الجنسين، ثم ضحك في نفسه، لما فطن أنه أخطأ في الحساب، فأولاده ذكران وأنثى، وليس العكس، وقد لاحظت زوجته وأولاده ابتسامته وهو يأكل، فسألوه عن السبب، وحاول التملص لئلا يسخروا من ضعفه بالحساب، أو انشغاله كالعادة عن الطعام، ولما ألحوا عليه أخبرهم بالحقيقة ضحكوا جميعاً، وصاروا يضحكون كلما تذكروا هذه الواقعة.

في هذه اللحظات لم ينشغل حسان بالمقارنة بين طعام السجن الذي يتناوله الآن وطعام البيت المريء، ولا بين انقطاعه وحيداً بين الجدران ولا بين اجتماعه بأسرته كلها. كان باله مشغولاً بالتفكير في مفارقات الصورة التي كان يتأملها على مائدة الطعام في العشاء الأخير مع أسرته في حلب. فهو من ناحية أسرته وحياته الشخصية قد بلغ الأوج في السعادة: أسرة متكاملة متحابة، توفر لها المسكن والصحة ولوازم الحياة الضرورية حتى الهاتف، وطموحاتها محدودة، وهو استطاع أن يستأنف نشاطه العملي والأدبي بعد انقطاعه، وهو ناجح في عمله نجاحاً ملحوظاً وهكذا... أما من ناحية الحياة العامة، فإن المأساة أيضاً قد بلغت الأوج من اضطهاد وظلم وسلب ونهب ورشاوى وكبت للحريات ومحاربة للإسلام، وأخيراًِ حملات الاعتقال والتصفيات الجسدية للأحرار والشرفاء. ولم يكن بالإمكان الفصل بين الحياة الشخصية وبين الحياة العامة، أو هو على الأقل لم يمكن من الذين يستطيعون هذا الفصل. بل كان يحس إحساساً قوياً استغرق اهتماماته وكيانه بأنه مسؤول مباشرة عن مصير بلاده: شعباً وأرضاً وعقيدة وتاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، دنيا وآخرة. لم يكن هناك أي سبيل للتخلص من هذا الشعور الذي يتعاظم مع تقدم السن، وتفاقم المخاطر المحدقة بهذا المصير الجماعي.

- مما يطمئنني إلى سلامة هذه الأحاسيس والمشاعر أنني لا أطمح إلى مكسب دنيوي. كل ما أتمناه في آخر المطاف وبعد تسوية الأوضاع أن أعتزل الحياة العامة، وأن آوي إلى جبل مثل جبل الزاوية، لأتفرغ للقراءة والكتابة وحسب! ما الذي يمنعني أن أعتزل الناس منذ زمان، وأن أحقق هذه الأمنية الغالية؟

في الحقيقة أن الجواب جاهز، ولطالما طرحه حسان على الكثيرين ممن خطر لهم هذا الخاطر، وأرادوا الانسحاب من أداء الواجب. كان يحكي لهم المثل التالي:

- كان هناك أخوان أحدهما عابد زاهد يقضي عمره في صومعة، يعتزل الناس ولا عمل له إلا العبادة وذكر الله، والآخر يعمل حذاء. في إحدى المرات جاء الزاهد يزور أخاه الحذاء في الدكان، فالتمس منه الحذاء أن يحل محله ريثما يؤدي صلاة العصر في المسجد ويعود إليه، فحاول الزاهد أن يتملص من هذه المهمة لجهله بشؤون العمل، ولرغبته بعدم مخالطة الناس أو الزبائن، لكن إلحاح أخيه الحذاء اضطره إلى القبول مكرهاً. فلما انصرف الحذاء جاءت امرأة شابة تريد شراء حذاء لها من هذا الدكان، فحاول الزاهد أن يتهرب من تلبية طلبها، بحجة جهله وأنه بديل مؤقت لصاحب المحل، لكنها سخرت منه ومن محاولاته الضعيفة للتهرب من أداء واجب عليه تجاه أخيه الذي ينفق عليه، ويوكله بعمله ويأتمنه على محله، كما سخرت من خوفه منها وهي امرأة. تجاه هذه الضغوط اضطر للمسايرة، فأنزل لها حذاء بعد حذاء من على الرفوف، وهي تلزمه بأن يخلع الحذاء بعد الحذاء من رجلها، وأن يلبسها الحذاء بعد الحذاء، وخلال انهماكه بعملية الخلع والإلباس راقه منظر ساقها الرشيقة البض، وغفل عما وراء هذا الميل أو الإعجاب بجسد امرأة غريبة عنه. في هذه الأثناء وصل الحذاء صاحب الدكان ولاحظ انشغال أخيه الزاهد بتأمل جمال الساق عن حسن الحذاء وملاءمته لقدم المرأة، فارتبك الزاهد، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وصار يلوم نفسه على ما فرط، فبادر أخوه إلى تأمين طلب المرأة، وصرفها بحكمة البائع المحنك في معاملة الناس جميعاً، ثم قال لأخيه الزاهد:

- يا أخي. التقوى الحقيقة ها هنا بين السيقان، وليست بين الجدران!

رفع حسان رأسه عن الطعام، وقلب نظره في جدران الزنزانة الأربعة وقال:

- وهذه أيضاً جدران. أليس كذلك؟!

وضحك من غير أن يعض على لسانه بين الفكين، لأنه كان في يقظة تامة. وكان قد فرغ من تناول الطعام، المؤلف من صحن رز مع فاصوليا خضراء وخصلة عنب. استمتع بمنظر حبات العنب أيما استمتاع. ومضغ حباتها بهدوء، كأنه يريد تذوق ذراتها واحدة واحدة، وود لو كانت كمية العنب أكبر، ففضلاً عن متعة مضغها يحتاج حسان إلى نسبة غير معتادة من الخضروات والفواكه لتسهيل عملية الهضم لديه، ولتجنب نوبات القبض التي تعتري أمعاءه بين شهر وآخر في الأحوال الطبيعية، أما في أحوال السجن فالمتوقع أن تكون الحال أصعب بسبب القلق من جهة، وبسبب قلة المشي والتنقل من جهة ثانية.

قام وتمشى في الزنزانة، انتظاراً لدوره في الذهاب إلى دورة المياه، لغسل الأيدي وتنظيف الصحن البلاستيكي ومائدة البلاستيك وكوب الماء وكوب الشاي البلاستيكيين أيضاً وقطعة اسفنج بلاستيكية.

- يعيش عصر البلاستيك!

لم يشغل البلاستيك من اهتمامه حيزاً كبيراً، كان هناك شيء آخر يشغل باله على المدى القريب والمدى البعيد:

(عجل يا شيخ. غيرك ينتظر.)

- ما أصعب الانتظار. وأي انتظار؟ انتظار الدور للذهاب إلى دورة المياه. ما الذي جاء بي إلى هذا المكان؟ لا أحد. أنا ألجأت نفسي إلى ذلك، ومن سار على درب وصل. وصل إلى أين؟ إلى هنا! الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.

هذا دعاء تعلمه من شيخ قرية (بداما الصغيرة)، وهو في نظر حسان من الشيوخ الصالحين المغمورين الذين يحصلون علمهم بجهدهم الخاص، ويهبون أنفسهم وحياتهم لخدمة مجتمعهم. خدمة الآخرين.

قضى حسان عطلة الصيف لعام 978 في هذه القرية معتزلاً الناس ومعتكفاً لتحضير رسالة الدكتواره، ومع ذلك لم يأسف على الساعات التي قضاها في لقاء هذا الشيخ الشعبي الصافي المتواضع. رجل مسن تجاوز الثمانين، وخط الشيب لحيته وشعر حاجبيه، ولم يذهب بألق عينيه الكستناويتين، ولا بابتسامته المشرقة على الدوام. لباسه لباس العلماء من عمامة وجبة، لكنه ينم عن بساطة وذوق ريفي طبيعي. هو قصير القامة، لكن حين يتحدث يعلو في نظر حسان، وتطول قامته كثيراً كثيراً. قصصه كلها في تقوى الله تعالى وحب الأنبياء والصالحين، وفي خدمة الناس ونصحهم، وعدم الخوض في مشكلاتهم، والعفو عن زلاتهم وأخطائهم.

- هذا الشيخ أعاد إليّ الثقة بنظافة الريف من آفة الزيف المنتشرة في المدن الكبيرة: الكذب. الغش. الرياء. الغدر. النفاق. اللصوصية. وأعاد إلي الثقة بأن كمية العلم مهماً كانت قليلة يمكن أن تجدي ما دام العمل أو التطبيق يصحبها. لم يكن متحدثاً بليغاً، ولا خطيباً مفوهاً، بالعكس كانت آثار السنين في أسنانه وفكيه تأكل بعض النبرات والحروف. ومع ذلك كان ذا أثر كبير في مجتمعه الصغير وفي نفسي أنا. أنه لا يأنف أن يأكل من عمل يده، ولا أن يمسك بالمعول أو المسحاة أو السلة في حقله. ومع ذلك يتاح له أن يعود المرضى، ويتفقد الغائبين، ويهنئ بالأفراح، ويقدم الهدايا. إنه مدرسة قائمة بذاتها. لا ينازع غيره على المناصب ولا ينازعه أحد على منصبه. لكم وددت أن ينهج العلماء الشباب مثل هذا المنهج، لا يهاجرون من الريف، ولا ينقطعون عن الناس والعمل الميداني.

عبارة (غيرك ينتظر) خرجت مع حسان، إلى دورة المياه، فتعمد التعجيل لئلا يتعب غيره، وعادت معه إلى الزنزانة ثانية لما عاد. ولما استدار لإغلاق باب الزنزانة ابتسم في وجه الحارس النشيط ليشعره بأنه هذه المرة لم يتأخر في دورة المياه، فابتسم له الحارس أيضاً.

صورة الشيخ مصطفى لم تبارح بعد مخيلة حسان، وصارت تتحرك مع تحرك عبارة (غيرك ينتظر).

- الله يذكرك بالخير يا شيخ مصطفى. سقى الله تلك الأيام التي قضيتها في قريتك، وتلك الساعات الربانية التي أمضيتها في لقاءاتك. ترى هل يصل سيف الاضطهاد إلى معقلك الريفي الصغير؟ أرجو ألا يصل. وما شأنهم بك وأنت على حافة القبر. لا تتدخل بشؤون السياسة إلا بمقدار ما يتدخل القمر في دهاليز المناجم؟

(عجل يا شيخ غيرك ينتظر)

- وهل جاء بي إلى هنا إلا الاهتمام بالآخرين. والدفاع عنهم، والعمل للصالح العام؟!

نظر حسان إلى حركة أشعة الشمس المطلة من النافذة الخلفية، فوجدها قد انتقلت من قفا باب الزنزانة إلى الجزء الأيسر من الجدار المحيط بالباب، فقدر أن أوان صلاة الظهر قد حان، ويخشى أن يداهمه وقت العصر بعد قليل. فبادر إلى أداء الصلاة وقراءة ما يستطيعه من كتاب التفسير.

- هنا داخل الزنزانة لا ينتظرني أحد. أصلي متى أريد، وأقرأ متى أريد، وأنام متى أريد. إلا إذا أراد المحققون أو الحراس شيئاً آخر!

عاد حسان إلى تفسير سورة "العنكبوت" واستوقفته العبارات التالية:

" نرجح أن السورة كلها مكية... أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير. لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق... والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام"

- إذن اصبري يا نفسي. إذا صبرت على السجن والغربة والاضطهاد فأنت نفس مجاهدة. وإذا لم تصبري أنت، فسوف أحملك على الصبر، وأجاهدك حتى تصبري فما رأيك؟!

يا نفسُ واللهِ لِتصبرنَّهْ           لِتصبرنَّ أو لِتُكرَهِنَّهْ

        مالي أراكِ تكرهينَ الجنةْ؟

إن تعليل المؤلف بأن السورة كلها مكية أعجبتني، لا لأنه أحسن في تسمية تصبير النفس ومجالدتها جهاداً وحسب! بل لأنه يلحظ سياق السورة. والسورة –كما أشار المؤلف في أكثر من موضع- كل متكامل. إن لكل سورة من سور القرآن، شخصية مميزة! شخصية لها روح يعيش معها القلب، كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس! ولها موضوع رئيسي، أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص –إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة.. وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً، ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور ولا قصارها.

مفهوم أن يكون لكل إنسان شخصية، ومفهوم أن يكون لكل مخلوق من عالم الحيوان أو النبات أو الجماد شخصيته. أما أن يكون للنص الأدبي، للنص القرآني –وهذه حقيقة مؤكدة- شخصية فأمر يثير العجب!

والأعجب أن شخصية السورة الواحدة تتكامل مع بقية السور في الجزء الواحد من الثلاثين جزءاً، فتؤلف شخصية أوسع ضمن الجزء، ثم تتكامل الأجزاء الثلاثون لتؤلف شخصية واحدة أشمل هي شخصية القرآن الكريم.

هذا سر رباني: وحدة الأجزاء لا تلغي وحدة الجزء أو شخصيته، وعظمة هذه الحقيقة ليست في مدلولها الجمالي وحسب! بل في مدلولها الشمولي الذي ينتقل إلى عالم الجماد والنبات والحيوان والإنسان. فمن سنن الله في خلقه أن تتوازن المخلوقات والكائنات وتتناسق فيما بينها، وبمعنى آخر أن لا تطغى شخصية مخلوق على آخر أو على آخرين بعدوان أو مسخ أو خسف أو نسف، كما يفعل القوي الظالم بالضعيف المظلوم، وإذا تعاظم الطغيان كان الخراب.

ألهذا السبب أراني أكره الظلم والطغيان؟ أي أن تأملاتي الجمالية والفنية ساقتني إلى اختبار عقيدتي في الحياة؟! هذه مسألة شائكة لا محل لها الآن. المحل هنا لراحة الأعصاب، أو البحث عن مخرج بسلام، وإن لم يكن خروج، فليكن الابتلاء من الله. هل في ذلك شك؟ لا شك، ولكن ليطمئن قلبي.

فتحت الكوة الحديدية، وأطل الحارس قائلاً:

- هل أنت قرعت على الباب؟!

- لا!

أغلق الكوة وانصرف. تساءل حسان:

- هل هذا سؤال محدد؟ أظن ذلك.

فتحت كوة الباب المجاور. جرى حوار بين السجين والحارس يفهم منه أن ساكن الزنزانة الأخيرة "13" قد هوى على الأرض بشكل قوي. فتح باب الزنزانة المذكورة. نادى الحارس زملاءه بصوت مضطرب. هرع عدد من الحراس، حملوا السجين. نقلوه خارج الرواق. فكر حسان:

- ماذا جرى لساكن الزنزانة "13"؟ إغماء. أم انتحار. أم مرض، أم تمثيل؟

ما أظن. هل هو همام أم ساكن آخر؟ سوف أعلم بعد حين. وماذا لو علمت؟ هنا لكل سجين شخصيته المستقلة ما لم يتضامنوا، ولماذا التضامن؟

عاد حارسان يتمشيان في الممر، سمعهما حسان يتحاوران بصوت خفيض:

- قبل قليل كنت أتكلم معه؟

- عجيب! ماذا جرى له؟

- ما أدري. الطبيب سوف يقرر ذلك.

- أما رأيت شحوب لونه؟

- نعم.

- هل أكل أو شرب شيئاً غير طبيعي؟

- ومن أين يأتي بالشيء غير الطبيعي؟!

- يا ستار.

- يا رب استر.

جاء حارس ثالث، وبشرهم قائلاً:

- بسيطة. قال الطبيب: الحالة عادية، لا خوف عليه.

- الحمد لله.

قال حسان في نفسه:

- يعيش الطب.

في سجون بلادنا أيضاً أطباء. لا لإسعاف المرضى من السجناء، بل لتقدير درجة احتمال السجين للتعذيب بالتيار الكهربائي، أو الضرب بالأدوات الحادة كالبلطة والساطور، وابتزاز المعلومات، أو تلفيق التهم، وليس هناك ممنوع إلا الموت، لا رحمة بالسجين، بل الخوف من انقطاع مصدر المعلومات غالباً: إن مات السجين. وهو في الوقت نفسه سلعة، يشتريها أهله بالنظر إليها لكل زيارة، أو بالإفراج لقاء فدية ضخمة. وكم سجين مات تحت التعذيب!

جاري بخير. أنا إذن بخير.

مد حسان يده وضرب أسفل الجدار المجاور ضربة واحدة بقبضته: فرد عليه ساكن الزنزانة بضربة واحدة.

- أنت بخير إذاً. الحمد لله. أنت بالتأكيد لست واحداً من جماعتنا، ولكن ليعم الخير كل الناس، فما المانع؟

هل حبي الخير للناس هو الذي دفعني لمحاولة وقف الانهيار العام في بلدي، مع يأسي من إمكانية وقف ذلك الانهيار؟!

تذكر حسان حاله وحال بلده في أواخر شهر نيسان من عام 979. كان قد مضى على احتلال المخابرات لمنزله مدة أسبوعين، وكان يقضي أيامه ولياليه مطارداً متوارياً في بيوت تلاميذه ومعارفه، وكانت كل ليلة تمضي باعتقال مجموعة جديدة من زملائه وأصدقائه وأبناء بلدته، وهم النخبة والصفوة في العلم والأدب والعمل والخدمة الاجتماعية، وكانت الأخبار تصله عما يجري في السجون من تعذيب وحشي، وعما يجري في احتلال البيوت من سلب ونهب وحجز للحريات. كان يدرك إدراكاً يقينياً بأن هذه الإجراءات التعسفية المتعاظمة سوف تؤدي إلى الانفجار العام، الانفجار الذي ربما يحرق الأخضر واليابس، الانفجار الذي لا يمكن تلافيه أو تلافي آثاره المدمرة، فقرر أن يبادر بمحاولة مهما كان حظها من النجاح، فاستشار أخاه عابد المتواري معه في جدوى المحاولة، وهي كتابة رسالة موجهة إلى رجالات المدينة ومسؤولي السلطة، تدعو إلى تحكيم العقل والمصلحة العليا ووقف التجاوزات، فوافقه عابد على ذلك، وتطوع بكتابة العناوين إلى محافظ حلب ورئيس المخابرات ورئيس الشعبة السياسية وعدد من مسؤولي الأمن، وإلى رئيس المجلس المحلي، وإلى رؤساء فروع النقابات العلمية والمهنية كالأطباء والمحامين والمهندسين والقضاة والمعلمين وفروع نقابات العمال والفلاحين والتجار وأمثالهم. وإنه ليتذكر نصها حتى الآن:

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى كل من يهمه الأمر من رجالات البلد والمسؤولين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد

فنحيطكم علماً بأن عناصر المخابرات وقوى الأمن قد عمدت منذ أكثر من أسبوعين لمداهمة بيوت عدد كبير من المواطنين لاعتقالهم، وإذا لم تجدهم احتلت بيوتهم مع من فيها من النساء والأطفال، أو أخذت ذويهم رهائن، خلافاً لكل عرف وقانون. وهؤلاء المواطنون من خيرة أبناء البلد المشهود لهم بالاستقامة والتفوق في مجالات اختصاصهم، فيهم الأطباء والعلماء والمهندسون والمدرسون والطلاب والعمال، كما سوف تلاحظون من أسمائهم التي نوردها لكم في آخر الكتاب.

إن تصرفات الأجهزة المذكورة قد جاوزت كل الحدود والممارسات السابقة من حيث اتساع دائرة الاعتقالات، ومن حيث احتلال البيوت الآمنة الشريفة، ومن حيث إخضاع المعتقلين والرهائن لأنواع التعذيب الرهيبة. وقد أشرف بعضهم على الهلاك.

وبالمناسبة نحيط رجالات البلد علماً بما يجري في الخفاء من فظائع حتى يكونوا على بينة من الأمر، فيبذلوا جهدهم لوقف المأساة قبل أن تبلغ مداها الأخير، كما نحذر السلطة من الاسترسال في هذه الممارسات لأن صبر المواطنين له حدود.

نحن ندعو إلى تحكيم العقل والمصلحة العليا، وتدارك الأمر قبل أن يتفاقم، وإلا فإننا نحذر أن تنقلب أوضاع مدينتنا التي ما تزال هادئة في الظاهر، فيحدث فيها مثل ما حدث في مدينة حماة. وقد أعذر من أنذر. والسلام عليكم.

التوقيع

مواطن حلبي

وبالفعل استجاب رجالات البلد لهذا النداء، وطالبوا بالكف عن هذه الممارسات، فردت السلطة بأنها تلاحق الذين يمارسون العنف ضدها، فطالبها المحامون ورجال القضاء باتباع الطرق القانونية، ورفع الأحكام العرفية التي أخضعت لها البلاد سبع عشرة سنة، وهناك من واجه ممثلي السلطة بأسئلة واضحة محرجة جداً.

- من الذي بدأ العنف؟

- لماذا لم يظهر هذا العنف منذ عهد الاستقلال إلا في ظل هذا العهد؟

- لماذا يتهم أصحاب الأدمغة والكفاءات باقتراف العنف؟

- إذا صح أنهم هم المسؤولون عن هذا العنف، أليس في ذلك مؤشر على الحوافز التي دفعت هؤلاء إلى تكسير أقلامهم ومحابرهم واتباع طرق لم يألفوها.

- ما تفسير هذا التأييد الشعبي الواسع لهذه المعارضة؟

بدأت تعتري حسان حالة من الانتعاش النفسي، جعلته ينسى جدران السجن، وتلقيه في لجة الغضب الشعبي الذي كان يرصد تطوراته لحظة لحظة، وكانت كل خطوة من تلك التطورات تؤكد توقعاته وحساباته، فقد تحركت المنظمات الشعبية كالنقابات العلمية –المهنية وفي مقدمتها نقابة المحامين، وجسدت الغليان الشعبي بندوات ومؤتمرات واجتماعات نقابية أولاً، وشعبية ثانياً: تنتقد مجمل أوضاع السلطة لا عمليات القمع وحسب، وتقدم مطالب وحلولاً جذرية لأزمات البلاد المستحكمة مثل:

1- إلغاء قانون أحكام الطوارئ.

2- إطلاق الحريات العامة، وإطلاق سراح المعتقلين.

3- وقف أعمال القمع والإرهاب وسحب الجيش من الشوارع.

4- إقامة مجلس تشريعي منتخب بشكل آخر.

ولما لم تستجب السلطة لأي مطلب من هذه المطالب نفذت النقابات إضراباً ليوم واحد تأكيداً لمطالبها. فإذا الشعب يعاضدها بإضراب عام استمر مدة أسبوعين في المحافظات الشمالية، فبادرت السلطة إلى إرسال مندوبيها لتهدئة الأوضاع، والتظاهر بالسماع لمطالب الجماهير الغضبى.

في دير الزور قال أحد الصيادلة للجنة الزائرة من القيادة القطرية للحزب الحاكم حين اجتمعت بأعضاء النقابات وممثليها:

- إن معظم المجاهدين من أبناء هذا الشعب، وهم شباب، أعمارهم تتراوح بين "20- 30" سنة. وهم ممن اكتووا بنار التسلط القمعي.

أما في مدينة ادلب فقد تصدى للجنة السلطة نجيب الشاوي (أمين فرع الحزب الحاكم) قائلاًَ: -نحن في ادلب تجمعنا القرابة، وتصدينا لأي إنسان أو قتله تمتد آثاره السيئة إلى أجيال. ولذلك لن نقدم على هذا. المواطنون المعارضون لا يعادون الحزبيين، وإنما يطلبون من الرئيس أن يستقيل، واستقالته أفضل، ومجابهة الشعب لا تجدي.

وفي اجتماع الفعاليات في حماة قال الدكتور خضر شيشكلي لرجال السلطة:

- بدلاً من أن تدعوا الزوار السياسيين والسياح لمشاهدة خرائب مدينة القنيطرة.. أقترح أن تدعوهم لمشاهدة خرائب مدينة حماة على أيديكم.

أما مدينة حلب التي عاش فيها حسان، فقد وفدت عليه أحداثها المزدحمة، فمد يده في الفراغ، وفتح باب قاعة الاحتفالات في جامعة حلب، حينما كانت الجامعة في غضب شديد بسبب اعتقال أحد أساتذتها المختصين الدكتور حسن محمد حسين (وهو من أصل فلسطيني) وأخذ ينصت باهتمام وإعجاب بالغ لكلمات أساتذة الجامعة قال أحدهم:

- إننا لا نرضى أبداً بهذه السياسة التي تنتهجها الدولة من أساليب مختلفة في التعذيب، لتجبر المعتقلين على الاعتراف، وأنا أول الذين يقرون بأنه من قادة التنظيم! إذا (ضرب عصايتين)... يا دكتور حامد لقد كذبوا عليك عندما اتهموا الدكتور حسن بالباطل... كما كذبوا عليك من قبل عندما قالوا:

سنأخذه نصف ساعة ثم يعود!! إنني أطالب بعدم العودة إلى التدريس حتى يعود الزميل الدكتور حسن. (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.)

التهبت القاعة بالتصفيق الحاد، فرفع حسان يديه، ووضعهما على أذنيه، وحدق في ملامح المدرس الذي نزل عن المنبر ليعطي الدور لغيره، وأراد أن يتأكد حسان فيما إذا كان هذا المدرس الأنيق الأشقر الناعم يمكن أن يحتمل وطأة الاعتقال أو التعذيب.

قام أستاذ آخر، وقال:

- لم يعد أحد منا يصدق ما يقولونه.. لقد قال الرئيس في المؤتمر القطري السابع: إن هؤلاء المتهمين عملاء لكامب ديفيد، وهذا يعني أن زميلنا الدكتور حسن عميل! والعميل يكون على درجة من الغنى... ولكن هل تعلمون أيها الأخوة أن الدكتور حسن لا يملك حتى سجادة، وبيته بالإيجار! أيها الزملاء.. تعلمون أن إسرائيل تملك عدة مفاعلات نووية، وقد دخلت في مجال القنابل الذرية، وهي تنفق الملايين على العلماء في هذا الاختصاص... وهذا الدكتور حسن... دكتور في الفيزياء النووية، ونحن نرميه في أقبية السجون! لماذا لأن المخابرات أرادت ذلك؟! إنني أضم صوتي إلى زميلي الدكتور الذي تكلم قبلي بعدم دخول أي محاضرة حتى يعود الدكتور حسن.

قال حسان: -وأنا نصف بيتي لزوجتي. ونصفه الثاني سددت دينه بالأقساط من حصيلة الدروس الإضافية والخصوصية. فماذا تصنع زوجة الدكتور حسن وأطفاله من بعده؟!

قام أستاذ آخر يتحدث من مكانه، ولا يكاد يرى إلا رأسه الأصلع لشدة الزحام، فقال:

- تعرفون قصة صديقي الذي اعتقل منذ سنتين، ووضع أكثر من سنة في السجن الانفرادي مع تعريضه لعذاب مستمر، فخرج من السجن مختل العقل، فاعتذروا له قائلين: عفواً! لقد أخطأنا معك! وأنا أخشى أن يكون هذا مصير الدكتور حسن، وأتوقع أن يكون الآن في سجن تدمر العسكري الصحراوي.

انفجرت القاعة بموجة ضحك جماعي، ثم بتصفيق ذي لحن خاص. تابع المتكلم:

- لذلك أقسم والله ثم والله لن أعود إلى التدريس حتى يعود الدكتور حسن وإني أناشد كل الزملاء أن يضموا أصواتهم إلينا.

قال حسان:

- نعم أذكر حادثة صديقه الدكتور طبيب الأعصاب والأمراض العصبية، وعيادته في وسط مدينة حلب، ولافتة سوداء مكتوب عليها بالخط الأبيض: الدكتور أحمد طليمات.

التفت رئيس الجامعة إلى أحد الأساتذة، وقال له كلاماً ينقله عن رجال السلطة الذين قابلهم في دمشق، فهب الدكتور المقصود صارخاً:

- أنا لست جاسوساً. أنا لست صهيونياً، ولست عميلاً!! إنني مواطن ولي الحق الكامل في أن أمارس حريتي، اعلموا أن الكلب في الشارع يشبع لقمته، ونحن لن نجوع إذا طردنا من الجامعة، ولكن اعلموا أن الشعب لا الحكومة هي التي أنفقت علي، ولذا فأنا خادم الشعب. وأنا برغم التهديد أطالب بالإضراب متضامناً مع زملائي حتى يعود الدكتور حسن.

فاستقبل كلامه بتصفيق أشد. وكان الملاحظ على ملامحه أنه من أصل ريفي. على خده وشم أزرق. وفي جبينه تجاعيد الحياة المضنية التي قضاها منذ طفولته المبكرة. بشرته سمراء، وشعره مفلفل.

ثم نهض دكتور خامس طويل القامة، أبيض البشرة، شعره أحمر، عيناه زرقاوان، في مقتبل العمر، فقال بلهجة حزينة حموية:

- يا إخوان.. سأذكر لكم حادثة وقعت في حماة... لقد دخل رجال السلطة منذ أيام أحد البيوت، وأخرجوا من فيه من الرجال، وأداروهم على الحائط. وبدأوا برشهم، فقتل ثلاثة فوراً، وسقط جريحان، استقر في جسد أحدهما عشرون رصاصة! هل تذكرون ما حدث في حلب... في حماة... في جسر الشغور... هذا كله يجعلنا نشك في صدق الذي حملوك يا رئيس الجامعة! نحن نعلم أنهم كذابون، ولم يبق لنا ثقة بأحد من هؤلاء، وإني أصر على الإضراب، وأناشد جميع الأخوة الزملاء أن لا يدخلوا أية محاضرة حتى عودة الدكتور حسن.

صفق الحاضرون له أيضاً تصفيق تأييد واستحسان.

ثم قام مدرس كهل ذو هيبة وشيب في شعره، يمشي بخطوات موزونة. فسكت الجمع الحاشد إجلالاً له، وانتظاراً لكلام هام يتوقع أن يصدر عنه، فقال:

- أناشدكم أن تتخذوا موقفاً جماعياً بالإضراب حتى لا يتميع الموضوع والسلام عليكم.

رد جميع الأساتذة على شيخهم بالتصفيق الطويل الحاد، وكان حسان قد رفع يديه عن أذنيه، فأعاد وضعهما من شدة التصفيق. وأدرك أن رجاء هذا المدرس المسن بمثابة القرار الجماعي، فلم يعقب عليه أحد.

ما إن ذكر أحد الخطباء مدينة جسر الشغور –مسقط رأس حسان- حتى انفتح رواق جديد من أروقة الذاكرة. لاحت لعينيه المدينة وهو يقبل عليها من طريق حلب. وهي تستلقي على الأودية المنحدرة من الجبال والتلال الغربية، لتغسل أقدامها في نهر العاصي، تحف بها الحقول والبساتين المزدانة بأنواع الفواكه والثمار اليانعة، وتحف بها أيضاً ست عشرة طائرة حوامة (هليكوبتر) ملأى بعناصر الوحدات الخاصة والمخابرات، حلقت في سماء المدينة تعلو وتهبط، وتدور من اليمين إلى الشمال وبالعكس بضجيج شديد...

ثم تمركزت في موضعين شبه متقابلين مشرفين على المدينة، الأول عند (معمل سكر الغاب) من الناحية الشرقية، الثاني عند (المحلة الشمالية) حيث سلطت المدافع على المدينة.

كان الوقت عصراً، والدخول إلى المدينة والخروج منها ممنوع بسبب تظاهرة البارحة فتوقف بصر حسان عند الحاجز الذي نصبته السلطة على المدخل الشرقي، يستمع إلى قصف المدفعية، حيث كان الصدام الأول مع أهل المحلة الشمالية وحيث سقط عدد من الضحايا من الطرفين.

استمر إطلاق النار متقطعاً في أرجاء المدينة حتى الليل. ها هو ذا محافظ ادلب توفيق صالحة يصدر تعليماته بتوجه قوة من الوحدات الخاصة، مؤلفة من ألف عنصر بمساعدة المخابرات إلى منطقة السوق لاحتلالها، نظراً لوجود مكتب الحزب وفرع المخابرات ومقر الجيش الشعبي بها، ولتمركز المقاومة الشعبية فيها.

بعد ساعة انفجرت المعركة عنيفة، وبدأ قصف المنازل وهدمها فوق ساكنيها بقذائف (الأر. بي. جي). اقترب حسان من غرفة عمليات السلطة في مخفر البلدة القريب من الحاجز فسمع جهاز اللاسلكي يقول:

- شرعنا بهدم المنازل وإحراقها، لن نقف قبل تنفيذ الخطة، وقبل أن نحرق السوق بالقذائف الفسفورية. الضحايا كثيرة من الطرفين.

عربد توفيق صالحة وقال كلاماً ينضح بالحقد وبألفاظ الشتم والتجديف، ثم قال على اللاسلكي:

- اعتقلوا الأشخاص الذين سميناهم لكم، وكل من تصادفونه في طريقكم.

- ولو كان من غير المقاتلين؟

- نعم ولو كان.

- الرجال فقط؟

- الجميع. الجميع. وحتى النساء والأطفال.

هدأ القصف والقتال بعد منتصف الليل. انتقلت غرفة العمليات من "مخفر البلدة" إلى (مكتب بريد) ضمن المدينة، وشكلت محكمة ميدانية بحضور علي حيدر (قائد الوحدات الخاصة) و (وزير الداخلية) ناصر الدين ناصر، وعضوية (المحافظ) توفيق صالحة، وحمدو حجو (رئيس فرع الحزب بادلب) ومحمد أنيس (رئيس شعبة الحزب بالجسر).

كانت تسمع طلقات نارية متفرقة بين حين وآخر، وكانت ألسنة اللهب تتصاعد من منطقة السوق والمنازل المجاورة لها على ارتفاع عال، لم يشهد له حسان في حياته مثيلاً. ولشدة انتشار الحرائق واستضاءة ما حولها استطاع حسان أن ينقل بصره في نواحي السوق ومنعطفات الطرق المجاورة بين المنازل، فشاهد عدداً من جثث القتلى والجرحى الذين يتلوّون من شدة الإصابات، وخصوصاً على باب العيادة، حيث منع الطبيب من إسعافهم. كما شاهد أكثر من سيارة شاحنة تنقل البضاعة المنهوبة من الدكاكين الكبيرة.

لفت نظر حسان اشتعال بيوت متفرقة في أحياء أخرى غير الحي المجاور للسوق، ولما تفحص مواقعها عرف منها منزل الأستاذ يحيى حاج يحيى، ودكان الشهيد سليم الحامض ومنزل خطيب الجمعة الشاب عبد الكريم النايف، ومنزل المعلم المحول إلى البلدية عبد الرحيم منصور. فقد دكت (بالأر. بي. جي). ثم أحرقت بالقنابل الحارقة، وفجرت فيها اسطوانات الغاز، أو سكبت فيها صفائح الكاز والمازوت.

سمع حسان أيضاً مكبرات الصوت المتصلة بمئذنة الجامع الكبير تنادي على أسماء ومواطنين ليسلموا أنفسهم مقابل تعهد بالأمان، منهم أئمة المساجد وخطباؤها، وعدد من قادة الرأي والفكر في المدينة، وبعضهم من أصدقائه وتلاميذته أو أقاربه، فأمسك قلبه بيده بعد أن ظن أن لا قلب له مما يرى ويسمع.

ولما رأى مجموعات من المواطنين مقرنين بالسلاسل والأصفاد، انتزعوا بثياب النوم من بين زوجاتهم وذويهم، وسيقوا إلى المحكمة الميدانية في (مكتب البريد) لم يتمالك حسان من أن يدس نفسه في إحدى المجموعات، يشم عبير الأرض التي نبت فيها، وأنفاس المواطنين الذين رضعوا لبان المقاومة للطغيان في كل العهود، ودفعوا الثمن غالياً.

بدأت هذه المجموعات بالدخول إلى مبنى البريد، فيتم حشرها في قبو المبنى حيث يتلقون دون سؤال ولا جواب بسياط الأسلاك المجدولة وبأعقاب البنادق والأحذية العسكرية تدعس الرؤوس، وقوائم المناضد الخشبية والحديدية تحطم الأرجل والظهور.

ها هو ذا الأب أحمد فاضل حلي بائع الخردوات البالغ من العمر خمسين عاماً، ترفع العصابة عن عينيه، وما تزال القيود الحديدية في يديه، والدماء تسيل من رأسه ومن تحت فتحتي بنطاله الرمادي المخضب ببقع الدماء، يدفع دفعاً عنيفاً أمام المنضدة التي تكومت حولها عصابة المحكمة الميدانية بين قاعد وقائم ومنحن على جاره، والسلاح بأيديهم أو على جنوبهم، قال له أكثر من واحد:

- أنت أحمد فاضل حلي؟

- نعم ماذا تريدون؟

- هل هذا ابنك إبراهيم؟

- أنا أعرف ابني ولكن هذا الإنسان لا ملامح له!

- هل هذا أبوك يا كلب!

- نعم. ماذا تريدون؟

تعجب حسان من صدور كلام من مخلوق مكوم جثة شبه هامدة في بركة من الدماء في زاوية الغرفة الملأى بالمسلحين وبدخان السجائر وزجاجات الخمر الفارغة وأجهزة اللاسلكي والخوذات الحديدية.

- هاتوا الكلب إبراهيم إلى هنا. قصوه بمقرض الحديد!

صاح الأب:

- خافوا الله. حرام عليكم!

- اسكت يا كلب. خل الله يخلصك ويخلص ابنك.

صاح الابن، وهو شاب لم يبلغ العشرين من عمره:

- الله أكبر. آخ. آخ. يا الله...

هجم الأب يريد تخليص ابنه من مقرض الحديد الذي يستخدمه الحدادون وعمال البناء في تقطيع قضبان الحديد، فهجم عليه أحد المسلحين بعقب البندقية وضربه على مؤخرة رأسه ضربة قوية، فسقط يتخبط بدمائه بينما كان الابن يلفظ أنفاسه نفساً نفساً، كلما قطع عضو من أعضائه، وأعضاء المحكمة يتشفون ويشربون نخب العدالة.

لم يستطع حسان متابعة هذه المشاهد في المحكمة الميدانية، فقد سمع بالإفراج عن مجموعة من المعتقلين، فلحق بهم يريد التعرف على أشخاصهم، فقد يكون بينهم أحد أقاربه، وكل منهم جاره أو صديقه أو زميل دراسة، وما كاد يلحق بهم في ساحة طارق بن زياد حتى استقبلهم سيل من رصاص الوحدات الخاصة، فسقطوا يتخبطون في دمائهم.

تحسس حسان رأسه وجنبه وصدره، يتلمس مواقع الرصاصات الغادرة، ونظر في يده، فوجد اللون الأحمر قانياً –وهنا انشطر حسان إلى حسانين:

حسان السجين –ما هذه؟ دماء؟

حسان الطليق –بل مسك وعنبر!

السجين –هذا دمي.

الطليق –ودماء أحبائك وأقربائك!

السجين –أراك تبتسم، كأنك لا تحس بالمأساة!

الطليق –بل أحس بما بعدها.

السجين –ماذا بعدها؟!

الطليق –هل تتجاهل؟ أنت تعلم ما بعدها من نصر أو جنة عرضها السموات والأرضون.

السجين –ماذا؟ هل تزاود علي؟

الطليق –لا، أبداً، إنما أذكرك بما تعلم!

السجين –وما المناسبة؟!

الطليق –وهل تنكر مرارة الألم التي بدأت تتحول إلى مقدمات يأس عندك؟

السجين –تريدني أن لا أتألم؟

الطليق –لا، ولكن بلا يأس.

السجين –ماذا كانت حصيلة مجزرة بلدتي مسقط رأسي جسر الشغور؟

الطليق –إحراق عدد من الدكاكين والمنازل ونهب بعضها، وعشرات الشهداء والجرحى والمعتقلين والمشردين.

السجين –ماذا كانت عاقبة أساتذة جامعة حلب الذين غضبوا لاعتقال الدكتور حسن محمد حسين.

الطليق –اعتقال عدد منهم، واختطاف الدكتورين أدهم سفاف الحموي ونذير زرنجي الحلبي وتعذيبهم حتى الموت وطرح جثتيهما أمام باب داريهما.

السجين –وماذا كانت عاقبة المتكلمين في اجتماع الفعاليات في مدينة حماة؟

الطليق –اختطاف عدد منهم من بيوتهم ليلاً وتعذيبهم حتى الموت.

السجين –مثل من؟

- الدكتور عمر الشيشكلي والدكتور خضر الشيشكلي والدكتور عبد القادر قنطقجي والمزارع أحمد قصاب باشي.

السجين –وماذا فعلوا بهم؟

الطليق –عذبوهم حتى الموت.

السجين –عذبوهم حتى الموت: كلام مبهم. وضح.

الطليق –أنت تعلم ما جرى.

السجين –أريد أن أسمعها منك.

الطليق –هل تشك بذاكرتك!

السجين –بل أشك في قلبك المتحجر!

الطليق –أنا حزين مثلك وأكثر منك.

السجين –عدنا إلى المزاودة.

الطليق –لا مزاودة ولا ما يحزنون. كل ما أريده أن لا تجمع على نفسك مأساة بلدك ومأساتك الخاصة في هذا السجن.

السجين –إذن تعترف بالمأزق الذي أنا فيه!

الطليق –أنت تعرف تكاليف الطريق الذي سرت فيه!

السجين –هل أنت شامت بي!

الطليق –بالعكس أنا معجب بصبرك وثباتك حتى الآن.

ابتسم حسان الطليق كأنه يسخر من صاحبه، فابتلع حسان السجين السخرية بتجاهل وقال:

- تضحك لأنك صرفتني عن جواب السؤال السابق؟

- تقصد ما فعلوا بزعماء الفعاليات الحموية.

- نعم.

- اسمع إذن. بالنسبة إلى الدكتور عبد القادر قنطقجي طبيب الجراحة العظمية لا أعلم تفاصيل تعذيبه، ولكن أعلم أنهم ألقوا جثته بعد التعذيب على طريق الشيخ غضبان، على بعد ثلاثين كيلوا متراً عن مدينة حماة.

- والمزارع قصاب باشي!

- عمره خمس وخمسون عاماً. قلعوا أظافره وقطعوا أصابعه قبل أن يقتلوه.

- والدكتور عمر الشيشكلي!

- ولا تعذب نفسك بإعادة التفصيلات التي تعرفها.

- لا تتهرب.

- عمره خمسة وأربعون عاماً. رئيس جمعية أطباء العيون في سورية. قلعوا عينيه، وألقوا جثته في حقل قرية مجاورة للمدينة.

- خضر الشيشكلي البالغ من العمر ثمانين عاماً؟

- هو أحد زعماء الكتلة الوطنية، وصاحب بيت الأمة أيام العمل ضد الاستعمار الفرنسي. حرقوه بصب الأسيد عليه في بيته، ثم نهبوا ما فيه من تحف أثرية.

- متى حصلت هذه الجريمة؟

- في شهر نيسان الماضي.

- أي بعد شهر من مجزرة جسر الشغور؟

- أنا لا أشك بذاكرتك.

- شكراً.

- والنتيجة؟

- عندك!

- لا بد من الصبر والمصابرة.

- أنت لا تقصدني. فأنا هنا بين الجدران برغم أنفي صبرت أم لم أصبر. أما الآخرون: الشهداء، المعتقلون، المشردون... ذووهم، وما أكثرهم!...

- الأنبياء والرسل أحب الخلق لله تعالى، ومع ذلك عانوا من أقوامهم الأمرين حتى نشر بعضهم بالمناشير كالنبي زكريا –عليه السلام- وقدم رأس النبي يحيى للراقصة سالومي. ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم- لقي التكذيب والتجويع، كما جرح في خده الشريف وسال دمه، واستشهد عدد كبير من أصحابه في حياته وبين يديه وأحبهم إليه حمزة بن عبد المطلب –رضي الله تعالى عنه.

- هل نحن على حق، على درب الأنبياء والشهداء!

- هذا هو الظاهر.

- والحقيقة؟

- ليس المسؤول بأعلم من السائل؟

- لماذا تتحمس للقضية إذن كل هذه الحماسة؟

- وهل أملك أو تملك غير ذلك؟

- تملك المراجعة للحسابات، وتدقيق النظر في موطئ القدمين، وفي طريق المسير، وفي الهدف أو النتيجة التي ينتهي إليها.

- قد فعلت!

- وإلى أي شيء وصلت؟

- إلى مثل الذي وصلت إليه أنت.

- أعترف أنني أعيد النظر بعمق وبكل شيء.

- وأنا مثلك.

- فعلى أي شيء نختلف؟

- نختلف في أنك تخضع لضغوط السجن، فتغمرك موجات الألم الشديد التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى يأس أو شك أو قنوط.

- عدنا إلى المزاودة.

- هذه حقيقة فلا تكابر.

- اغرب عن وجهي.

- لم أحضر بأمرك، حتى انصرف بإمرتك.

تأزم الموفق بين حسان الطليق وحسان السجين، لكن كل منهما كان يخفي للآخر شعوراً بالإعجاب. فحسان الطليق يكبر في حسان السجين معاناته في أيام السجن، وحسان السجين يكبر في حسان الطليق ثباته على المبدأ، وعشقه للقيم العليا التي لا تجامل في الحق، ولا تسكت على الظلم.

-2-

في عصر هذا اليوم الأحد هبطت درجة الحرارة الصيفية مع ميل الشمس عن قبة السماء. بدأت حركة الناس في المدينة تنشط بعد هدوء الظهيرة. ترامت إلى مسامع نزلاء الزنزانات أصوات السيارات العابرة، لا سيما السيارات الصغيرة المستعجلة وغير المستعجلة، تحمل المتنزهين والسياح. بدأ السجناء يستيقظون. يستأذنون في الخروج إلى المغاسل. أغلقت الكوى الحديدية في الأبواب.

لما رفع مجاهد رأسه عن وسادته في الغرفة رقم (6) رأى في ضجة الناس خارج الزنزانة تظاهرة شعبية ضخمة تحاصر الأسوار وتتسلقها: الطلاب والعمال في الطليعة والمحامون وأساتذة الجامعات وراءهم وبقية المواطنين يتدافعون من كل مكان. كلهم تظاهروا لتحطيم الظلم وإطلاق سراح الأبرياء المظلومين.

- هل يعقل ذلك؟ نعم أنا أتوقع ذلك وأكثر منه.

هكذا قال مجاهد في نفسه. هب واقفاً. شمر عن ساقيه. ربط أطراف (جلابيته) الزرقاء على شكل زنار حول خصره النحيل. تأمل قامته فوجدها أطول من قامة شريكه سليم. وثب بخفة إلى أعلى الجدار الخلفي. تعلق بقضبان النافذة الخلفية المطلة على العالم الخارجي من وراء الأسوار وفوقها.

- يبدو أنني كنت واهماً. أين التظاهرة؟ ليس إلا السيارات والناس العابرون. الضجة تأتي من جهات عدة. من أعماق المدينة ومن هذا المكان الذي يلتقي فيه عدد من الشوارع العريضة. ليس في واحد منها أي تجمع يلفت النظر.

شبع من النظر إلى المدينة والشوارع القريبة. تأكد من خطأ أوهامه. تعبت يداه من التعلق بقضبان النافذة الحديدية. أرخى قبضتي يديه يريد النزول. أحدث نزوله على أرض الغرفة ضجة أفاق على أثرها سليم. انفتح باب الزنزانة في الوقت نفسه. ظهر الحارس الخفيف الأسمر. فوجئ مجاهد بظهوره. توقع مشكلة. تساءل:

- هل رآني؟ هل أحس بي؟ الله يستر؟

وقف الحارس مبتسماً يتأمل السجينين. أحدهما واقف مذهول. الآخر ينهض من فراشه وهو يفرك عينيه.

- استعدوا للتصوير. جاء دوركم. أي واحد منكم مستعد؟ تعال أنت.

كان المقصود مجاهد لكنه لم يكن راغباً بالتصوير. ولم يكن راغباً أو قادراً على الرفض.

- إنني سجين. لعله ضبطني أيضاً وأنا متسلق على الجدار أتطلع من خلال النافذة.

بشكل آلي تحرك مجاهد صوب الباب. مشى خلف الحارس الخفيف. أشار له بالجلوس على الكرسي في الممر أمام المصور الشاب. ناوله لوحاً أسود صغيراً، ليكتب عليه اسمه ويضعه على صدره وقت التصوير. قرأ عليه اسم من كان قبله (حامد أبو الفضل).

- انه اسم خالي الذي هو أبي. إذن هو ما زال هنا.

أحس بفرح خاص لوجود والده قريباً منه، وبشيء من العزاء. إن أباه وإخوانه مشتركون معه في مصيبة التصوير.

بعد أن فرغ المصور الشاب من استعداداته وإعطاء تعليماته... قال مجاهد في نفسه:

- لا بأس فليأخذ صورتي. شعري بلا تمشيط. ثوبي مكسر. ها أنذا أنفخ خدودي وأجحظ عيوني. اللوحة خفضتها إلى نصف صدري الأسفل و... عاشت المقاومة.

- انتهت عملية التصوير، وبدأت حفلة النظافة.

قال ذلك الحارس الخفيف، وشرع  بفتح الزنزانات بالدور، ليقوم سكان كل واحدة منها باستلام السطلين البلاستيكيين مع علبة الصابون المذرور (تايد). ومجرفة مطاطية ذات عصا. وقطعة من نسيج القطن الغليظ للتنشيف.

لم تكن حصة سكان الزنزانة رقم (6) تنظيف غرفتهما وحسب! بل كان دورهما في الأخير، كما كان مطلوباً منهما تنظيف الممر أيضاً.

- يا الله. يا شباب. استلموا أدوات التنظيف.

تجرد المجاهد من ثيابه ما عدا سرواله الذي يغطي نصفه الأسفل. بدا صدره عارياً بكتفيه العريضتين الرياضيتين. لم يكن جسمه ممتلئاًَ. بل هو أقرب إلى النحول. ذو لون برونزي مزيج من لونه الأسمر ومن قبلات الشمس المديدة في مسابح الصيف. سليم تجرد من كل ثيابه ما عدا سرواله الأحمر القصير جداً. لشدة قصره وضيقه ارتسمت أشكال أعضائه الأمامية والخلفية بوضوح. كان هزيلاً جداً. أشبه بهيكل عظمي، أخرج من أحد القبور إلى منضدة التشريح في كلية الطب البشري.قال في نفسه:

- ماذا يضيرني لولا مراعاتي لشعور مجاهد شريكي لخلعت ورقة التين أيضاً. تسقط العادات والتقاليد البورجوازية.

افتتح السجينان الحفلة بالتراشق بحفنات الماء النقي البارد. كان الحارس الخفيف متوارياً عنهما خارج الرواق غير بعيد. إنه يعرف حاجة السجناء، للمزاح والمرح. وهم يعلمون فطنته وحسن تصرفه. لا يقسو عليهم، ولا يتجاوزون الحدود. أمسك مجاهد بالمجرفة، وشرع سليم ينقل الماء من المغاسل ويسفحه هنا وهناك، ويتعاونان على رش الصابون ونقل أغراض غرفتهما. ثم انتقلا إلى تنظيف الممر. لم يكن السجينان يجدان أي ضير في تنظيف الممر. بل كان يجدان في ذلك متنفساً، يخرجان فيه من ضيق الجدران الأربعة، ويتاح لهما فيه فرصة الاستحمام بماء بارد في حر الصيف، فضلاً عن فرص المزاح، واستطلاع أحوال السجناء خلسة في الزنزانات الأخرى. غمس سليم رأسه في السطل عدة مرات، فيما كان مجاهد ينشف أرض الممر بقطعة المنشفة الملفوفة على قطعة المطاط في رأس المجرفة، ويطرق عن عمد أسفل الأبواب بمجرفته كي يلفت نظر إخوانه المعتقلين إلى وجوده.

نادى مجاهد شريكه: أن أعطني سطلاً من الماء. بصوت مسموع فأدرك ساكن الغرفة رقم "10" حسان أن هذا صوت ولده مجاهد، فأسرع إلى باب زنزانته يقرعها غلى غير العادة، لأن الممر مشغول، طالباً العبور. سمع الحارس النشيط النقرات. أقترب من باب الزنزانة ليفتح كوة الباب: أشار لمجاهد أن يبتعد إلى أقصى الممر ريثما يستطلع الخبر.

- ماذا تريد؟

- أريد الخروج إلى المغاسل؟

- أما ترانا مشغولين في تنظيف الممر. الطريق مشغول!

كانت مبادرة جريئة من حسان أن يطلب هذا الطلب. لكنه عمد إلى ذلك عمداً لكي يلفت نظر ابنه إلى وجوده. وبالفعل حين سمع مجاهد صوت أبيه يتكلم مع الحارس ابتسم وسر من أعماقه. إنه حدد المكان الذي يقيم فيه والده.

- هذا وحده مكسب في السجن. أن تحس بوجود إخوانك وأن تحدد مكان وجودهم. ومكسب آخر أن تتعلم طرق الاتصال المشروعة أو المغتصبة من ظروف السجن. رفعت صوتي: ذاك يعني أنا هنا موجود. رفع والدي صوته: يعني: سمعتك. أنا هنا أيضاً موجود. فوق ذلك لم يستتبع الأمر عقوبة للمتخاطبين، ولا شكل خطراً على الحارس. لكن هل تنجح اللعبة دائماً؟

يتبع إن شاء الله

           

* أديب سوري يعيش في المنفى