خطوات في الليل(9)

خطوات في الليل(9)

محمد الحسناوي*

[email protected]

النهار الرابع والعشرون

السبت 28 حزيران 1980

ظهيرة هذا اليوم استطاع حسان أن يعي جيداً أنه الآن في زنزانة جديدة، وأن معه في الغرفة شريكاً، ولم يعد وحيداً كما كان في الزنزانة السابقة رقم "10". إنه بالتأكيد الآن في الزنزانة رقم "8". عن يساره يتمدد سليم شعيب، وبينهما علبة مناديل ورق (كلينكس)، وفي أكثر من مكان أوراق منها ممزقة أو مبعثرة، وهي في الأقل علامات فارقة لا توجد في الزنزانة السابقة.. إنه يشعر بصحو حقيقي، ويذكر أنه كان في جلسة تحقيق البارحة، وأنه تبادل الحديث مع شريك الغرفة، كما تناولا طعام الإفطار معاً، ثم استأنفا النوم أيضاً.

هذه الزنزانة لا تختلف عن تلك بشيء. الباب الحديدي الأصم. النافذة الخلفية العالية المدورة، المحصنة بقضبان حديدية متصالبة. الجدران المطلية بدهان أصفر مشوبة ببعض كتابات محفورة، بعضها مطموس بالدهان وبعضها جديد لم يطمس بعد. خطوط البلاط المستقيمة المتوازية. الفراش الإسفنجي. الأغطية (حرامات) عسكرية. تطلعات الحارس من خلال النافذة المخصصة في الباب هي هي... رائحة الغرفة ومناديل الورق تحمل آثار عابد الشامي. أين ذهب عابد الشامي، لماذا جيء بحسان إلى هنا؟

إن تبديل الزنزانة أثار في حسان مشاعر عدة، لعل أهمها تجدد الإحساس بحركة الزمن، والإحساس بحركة الزمن جعله يستطيل المدة التي انقضت، ويخاف من المدة المفتوحة التي لا يعلم متى تنتهي مستقبلاً. والحقيقة أن إحساسه بحركة الزمن مزيج معقد من المشاعر والإحساسات، فهو مثلاً متضايق من تطاول الزمن في السجن، لكنه مسرور لأنه لم يسلم إلى سلطات بلاده، برغم تطاول الزمن، بل إن هذا التطاول يوحي بعدم التسليم. لكن إلى متى؟ هذا هو السؤال الملح. سجن رتيب. زنزانات متشابهة. جدران محكمة متقاربة صماء. أبواب حديدية محكمة. هواء فاسد. شمس شحيحة. حراس يقظون. دورات مياه مقننة. محققون. محققون. محققون.

لم يشأ أن يستهلك يقظته الذهنية بالهموم. تذكر أنه لم يمارس تدريباته الرياضية منذ أيام. نهض من فراشه. بدأ بالحركات (السويدية)، محاذراً أن يحدث ضجة، فيوقظ شريكه النائم. لكن سليماً أحس بالحركة، فقام وسلم على حسان، وبدأ مثله يؤدي الحركات السويدية. بعد ربع ساعة فرغا من الرياضة الصباحية، وشرعا بإعادة ترتيب الفراش والأغطية. ثم جلسا متقابلين يبتسمان.

قال حسان:

- أنا سعيد بانتقالي إلى غرفتك.

أجاب سليم:

- وأنا سعيد، وإن كانت ليست غرفتي. أنا انتقلت إليها قبلك بساعات.

- أقصد أنا سعيد لوجودي معك.

لا شك أن حسان يجد في الانتقال من السجن الانفرادي إلى سجن فيه صاحب أو شريك.. شكلاً من التجديد يروح فيه عن نفسه، ويتصل فيه مع غيره، ولو كان اتصالاً محدوداً ضمن الجدار، وإن كان هذا الاتصال محفوفاً بالمخاطر، مخاطر أمنية وغير أمنية، وعلى كل حال إنه واقع ليس بوسعه تبديله، فليفد منه ما أمكنه.

أجابه سليم:

- وأنا كذلك، وخصوصاً أنك والد صديقي العزيز مجاهد.

- إلى هذا الحد تعمقت بينكما الصداقة؟

- وأكثر.

- إن ذلك يزيدني غبطة وسروراً.

- أهلاً وسهلاً.

قال حسان ممازحاً:

- ها قد عدت ترحب بي كأن الغرفة غرفتك.

فأجاب سليم على نفس الموجة:

- كانت غرفتي فأصبحت غرفتك. (ضحكا معا.)

- شكراً. شكراً.

- هل هناك سبب لتبديل غرفنا في رأيك؟

- لا يخلو الأمر من سبب، وإن كانت بعض التصرفات توحي بعدم وجود سبب.

- مثلاً وجود مجلد من كتاب (في ظلال القرآن) في عدد من الغرف التي دخلتها.

- ومثلاً وجود نسخة من الماركسية اللينينية في هذه الغرفة.

(ضحكا معاً.)

- أظنك لا تسخر مني؟

- لا حاجة بنا للسخرية. فنحن مثقلان بالهموم.

- هل لك أولاد غير مجاهد؟

- عندي بنت وصبي، وهما أصغر من مجاهد.

- أنا سمعت باسمك من قبل.

- شكراً. من مجاهد؟

- لا. لا. قبل. قبل.

- في المجلات الأدبية؟

ابتسم سليم. اتكأ بكوعه الأيمن على وسادته:

- أظن ذلك. أنت تكتب في الصحف والمجلات؟

- إنني أتابع معظم المجلات الأدبية والفكرية والسياسية التي تصدر في المشرق العربي وغيرها من شمال إفريقيا والعالم الإسلامي.

- أنا خريج كلية العلوم الاقتصادية. متفرغ للعمل الحزبي. أحب المطالعة والحوار الفكري.

- هل تتابع مجلة (الطليعة) المصرية؟

- نعم.

- ومجلة (الطريق) اللبنانية؟

- نعم.

- هل اطلعت على الكتاب الذي صدر في دمشق، ويتحدث عن الخلاف الداخلي ضمن الحزب الشيوعي السوري؟

- نعم.

- أنا ما أشك في إطلاعك على هذه الأمور، لكن أحببت أن أحيطك علماً بأنني أتابع هذه المجلات والكتب وأمثالها، وحتى النشرات الداخلية للأحزاب مثل الحزب الشيوعي السوري.

مسح سليم شعره المشعث، خلل أصابعه فيه يحاول تمشيطه بالتمسيد. ابتسم.

- أحكي لك تجربتي مع الإيمان بالله...

اتكأ حسان على كوعه الأيسر على وسادته. تمدد مثلما تمدد سليم. أطل الحارس الرشيق الأسمر من كوة الباب. نظر إليهما نظرة توحي بأن صوتهما مسموع في الممر. أشار له حسان بأنهما سوف يخفضان الصوت. انصرف الحارس.

- أنا من أسرة فلسطينية فقيرة. والدي عامل بائس، يكسب رزقه في الفلاحة والزراعة أحياناً، وفي خدمة الفنادق والمسافرين أحياناً أخرى. أمي على قيد الحياة. ضعيفة البنية. لا تستطيع العمل الدائم في بيوت الأغنياء. نحن سبعة أخوة وأخوات، أنا أكبرهم. أعمل منذ صغري ماسح أحذية أو بائع أوراق يا نصيب أو خادماً لأسهم في نفقات الأسرة... وبالتحديد في الطعام المحدود والدواء غير المحدود وإيجار البيت، أما الألبسة ونفقات المدرسة فحدث ولا حرج.

- كان الله في عونكم.

- لم يكن الله في عوننا. في إحدى ليالي الصيف الرائقة استيقظت بعد منتصف الليل، لم أشعر بجوع أو بعطش كالعادة. نظرت إلى السماء وجدت سوادها صافياً بلورياً ونجومها تتلامع بنعومة. النسيم عذب يمحو وطأة الحرارة بلمسات لطيفة متتابعة، كأنه يداعب الكون والأحياء والأشياء، فيحدث أغصان الأشجار، ويهمس في آذان النائمين. نهضت من فراشي. تجولت في باحة الدار الصغيرة. رأيت أمي وإخوتي يغطون في نوم عميق بلا فرش ولا أغطية. يبدو عليهم الارتياح، وإن كانوا مبعثرين يميناً وشمالاً. بعضهم نائم على ظهره وآخر على جنبه، والآخرون على وجوههم. دخلت الغرفة المحسوبة مطبخاً لا لهدف. خرجت منها. وجدتني في وسط الباحة أسأل نفسي: أين الله؟ أجبت نفسي: لا يوجد إله.

- هكذا ببساطة؟ (قال ذلك حسان وهو مفاجأ بصدمة).

- نعم بكل بساطة.

- هكذا بشكل مفاجئ، وبلا مقدمات؟ (يريد التأكد مما سمع)

- نعم بشكل مفاجئ، وبلا مقدمات.

- غريب!

- وأنا الآن أشعر هذا الشعور الواضح المطمئن الواثق.

لقد فوجئ حسان بمثل هذا الحديث. كان يتوقع أن يسمع من شريك الزنزانة أن يحدثه عن المقاومة الفلسطينية في الأرض المحتلة، عن الغزو السوري للأراضي اللبنانية، عن ممارسات قوات الردع في لبنان، عن مجازر صيدا وتل الزعتر والكرنتينا وجسر الباشا، عن مواقف الدول العربية والإسلامية والقوى الدولية من المقاومة والقضية الفلسطينية، عن قصة اعتقاله هو بالذات، عن القضايا الساخنة هنا وهناك، أن يسأله عن أحداث سورية، عن اعتقال حسان وابنه وغيرهما. أن يتحدث عن الاستعمار والامبريالية والديالكيتك والتفسير المادي للتاريخ. التفسير العربي للمادية التاريخية والأممية والاشتراكية والشوفينية.

لم يظهر على ملامح سليم أنه يريد استفزازاً لحسان أو اصطناع معركة كلامية معه، إنه يتكلم جاداً. يسرد واقعاً سرداً محايداً ولو في الظاهر. تابع سليم كلامه:

- جاهرت برأيي منذ ذلك اليوم تحديت المشايخ والعلماء. لم يستطع أحد زحزحة قناعتي.

تذكر حسان أنواعاً من الشيوخ المحسوبين على العلم والعلماء. بعضهم جهلة أدعياء. بعضهم الآخر لا يجيد الحوار أو النقاش فضلاً عن الإقناع. لجهل بنفوس الناس المخاطبين وسوء ظن بهم، أو لضيق صدرهم أو أفقهم. كانت لهجة سليم كافية للإيحاء بأنه لا يكذب أو يبالغ. هل هو ممثل بارع؟ هل سبق له أن روى هذه الواقعة، فتفنن في حكايتها حتى أتقن الدور؟

- كنت أضحك حين يقال لي: أنت كافر، ملحد، ابتعد عنا. اغرب عن وجهنا.

(كاد الفقر يكون كفراً) قال حسان في نفسه، لكنه لا يتوقع أن يكون الفقر هو السبب الوحيد في إلحاد هذا الإنسان الكادح. إنه إنسان فلسطيني عربي مسلم، وهذه مؤشرات إلى تعدد العوامل وتفاعلها في قضيته. إن أهم درس تعلمه حسان في حياته الثقافية ألا يأخذ بالتفسير الأحادي للإنسان أو للتاريخ، قد يكون أحد العوامل أقوى وأشد من غيره من العوامل، لكنه لا يتفرد دوماً أو غالباً في التأثير، ولو كان ذاك العامل مادياً. هذا بالنسبة إلى الناس كل الناس، وتبقى خصوصيات للإنسان الفرد، وللإنسان المثقف بشكل خاص. لا يقبل من سليم أن يدعي انتصار قناعته الإلحادية لعجز الشيوخ عن إفحامه إن صحت دعواه. فهناك الكتب والمؤلفات التي تعالج قضايا الإيمان والإلحاد بشكل أفضل من الجدال الذي قد تتدخل فيه عوامل شخصية تعرقل موضوعية النقاش. ثم إن قدرات سليم العقلية والثقافية مطالبة بمتابعة الشوط، بتمحيص القضية وتخليصها من الشوائب والمؤثرات غير الموضوعية، فالوصول إلى حقيقة الإيمان الذي وصل إليه  كبار العلماء في كل زمان ومكان. انتبه حسان إلى أن سليماً قد سكت. قال حسان:

- ماذا تتوقع أن أقول لك؟

- لا أتوقع أن تفعل كما فعل الآخرون.

- لماذا؟ لأن جدران السجن لا تسمح لك بأن تبعد عني أو تغرب عن وجهي.

- ربما. (يضحك سليم بهدوء مازحاً).

قال حسان بهدوء واضح، وبلهجة متوددة.

- اسمح لي أن أقول لك أولاً: إن تحولك عن الإيمان بالله لم يكن هكذا مفاجئاً ببساطة وبلا مقدمات.

- ألم أشرح لك الواقعة حرفياً؟

- وأنا سأشرح لك وأوضح الواقعة نفسها أيضاً. اسمح لي أن أقول لك: حتى في التفسير المادي لا توجد طفرة أو وجود من عدم. هناك في الأقل تغير نوعي نتيجة تراكم كمي، وهو ما يعبر عنه بالطفرة. فتراكم ظروف حرارية وغيرها على الخلية الأولى للحياة جعلها –في رأي أصحاب التفسير- تتحول بطفرة إلى خلية معقدة، وهكذا تتراكم ظروف أخرى، فتشتد تعقيداً، وتظهر حيوانات دنيا، فأعلى، فأعلى، حتى ظهر الإنسان.

- هذا صحيح.

- هل تعلم أن هذا التفسير الذي سوف أقبل به بالنسبة إلى قضيتك قد تراجعت عنه المؤسسات العلمية في الاتحاد السوفياتي؟

- لا أعلم، ولا أصدق.

- ألم تسمع بأن التجارب على تطبيع القمح في ضوء هذه النظرية قد باءت بالإخفاق؟

- لم أسمع.

- طيب. دعنا من الأمثلة الجانبية، لنخش في الموضوع الأساسي.

- خش.

- هل قرأت شيئاً لـ "روجيه غارودي"؟

- لم أقرأ.

- يكفي أن أقول لك الآن: إن تجربته مناقضة لتجربتك، وجدير بمثلك أن يطلع عليها، ويعرضها على مرآة نفسه.

- ألم يكن عضواً في قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي مدة طويلة؟

- عشرين سنة.

- سمعت عنه.

- إنه لم يتحول عن الاشتراكية، لكنه تحول إلى الإيمان بالله، وأتوقع أن يتحول إلى الإسلام.

سمع في الممر صوت استلام الطعام للغداء. فرش الشريكان قطعة النايلون. جهزا الكوبين البلاستيكيين للشاي والآخرين للماء. فتح الباب. سلم الطعام لكل منهما: صحن رز مع ملوخية. صحن (سلطة). خبز (صمون). حبات عنب. شاي. شرعا بتناول الطعام. لم يتوقفا عن الحديث، بل نسيا الاهتمام بالطعام.

- كنت تحدثني عن روجيه غارودي.

- نعم من باب المقارنة لا التشبيه، لأن لكل منكما خصوصية برغم وجود نقاط تشابه. أنت عانيت من الفقر المدقع والاضطهاد الطبقي، ومازلت تعاني الشيء الكثير في دائرتك الشخصية والأسرية. أنت لا تتألم لما ينزل بك وحدك، بل تتألم لأخوتك لأمك ولأبيك، وربما لأقاربك إن لم أقل للمجموعات البشرية الفقيرة مثلك داخل بلدك وخارجه والعالم أجمع، بحسب وعيك وإطلاعك وثقافتك. أنت لا تتألم الألم العضوي (الفيزيولوجي) بسبب الجوع والمرض والحر والبرد والتعب وحسب! بل تعاني من آلام أخرى مركبة وممتزجة بهذا الألم. كالألم النفسي (السيكولوجي) والألم الاجتماعي، إن لم نضف إلى ذلك الألم السياسي. أنت مثلاً مقهور مهزوم محاصر، وفي الوقت نفسه متهم مطارد، مطلوب استنزافك أو التخلص منك: فرداً أو ضمن جماعة، هذا إذا كنت مجرد فقير عادي، فكيف إذا كنت نقابياً أو حزبياً أو شيوعياً. هذه الآلام التي عانى منها أمثالك دعوا الله تعالى أن يرفعها عنهم. أن ينتقم له بسببها، وهو الرحمن الرحيم العادل القادر، ولم يلمسوا استجابة لدعواتهم في حياتهم أو في الحياة الدنيا، فاضطروا إلى الشك بوجود هذا الإله. إنه خلق السماوات والأرض، فهل يعجز عن إنصاف الفقراء، ووضع حد لجشع الأغنياء وظلمهم؟ يقال في هذا السياق: إن أنبياء الله –وهم أحباؤه قد لاقوا شظف العيش، واضطهاد الظلمة والمترفين أيضاً، بل إن بعض الأنبياء والرسل قطع رأسه، أو نشر بالمنشار. إن نبينا محمد عليه السلام حصر في شعب بني هاشم زمناً، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي.

- أعرف كل هذا؟

- وأنت فلسطيني تشهد بأمِ عينك عدوان الصهاينة على أهل فلسطين جهاراً نهاراً، يغتصبون الأراضي، ويقتلون الأبرياء أصحاب الأرض الشرعيين، ويقيمون دولة، وتعترف بهم بظلمهم الدول الكبرى وهيئة الأمم المتحدة، ويعجز العرب عن استرداد حقهم أو الدفاع عن أنفسهم كلما أرادت هذه الدولة مزيداً من التوسع والاستيطان. وتخلف المسلمين في العالم لا يقل عن تخلف العرب أنفسهم. إن الله تعالى يشهد ذلك كله، ولا يظهر لمحدودي النظر أنه فعل شيئاً لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولعل أفجع مثل أن يحرق المسجد الأقصى بعد هزيمة حزيران، وهو بيت من بيوت الله المحرمة، بل هو ثالث الحرمين الذي تشد إليه الرحال كما جاء في الحديث الشريف، فأين غيرة الله تعالى على بيوته إن كان موجوداً؟! وينسى المتعجلون أن بيت الله الأول في مكة قد نصبت فيه الأوثان والأصنام، وأن الكعبة رجمت يوماً ما بالمنجنيقات، وأن الحجر الأسود قد سرق، ووضع في (مرحاض)، وأن الحجيج قد اعتدي عليهم أكثر من مرة، وذبحوا في طريق الحج أو حول الكعبة بالذات.

- أعرف هذه الأشياء أيضاً.

لم يبد على حسان الضيق من تعليقات شريكه سليم المقتضبة، ولا مما يحسه من سلبية خلفها. إنه يتوقع ذلك كله حتى الآن، وإلى ما بعد ذلك أيضاً. تابع حديثه:

- على أثر هزيمة حرب حزيران المنكرة عام 967 نشرت مجلة "الآداب" اللبنانية استفتاء لعدد من الأدباء والمفكرين، كان منهم الأديب ميخائيل نعيمة. قال نعيمة معلقاً على هزيمة العرب ومعللاً لها: على العرب أن يبحثوا عن إله آخر غير الذي كانوا يعبدونه، فقد خذلهم ربهم في هذه الحرب.

ابتسم سليم، وقال:

- سمعت مثل هذا الكلام.

- بل لعلك تحولت عن الإيمان بالله في مثل تلك الأوقات والظروف العصيبة.

- ...

- يؤسفني أنني لا أعلم عنك وعن حياتك الشيء الكثير. كل ما أعرفه هو صحبتنا خلال هذه الساعات القليلة، وما رويته أنت عن نفسك. وأنت تعلم أن مثل هذه المعلومات غير كافية للتعرف عليك وعلى أبعاد قضيتك تعرفاً علمياً موضوعياً، وإن كنت أحمل تصوراً لهذا الجيل الذي عشت فيه، وللقضايا الكبرى التي يهتم بها. وبالمناسبة إنني لست طبيباً نفسياً ولا خبيراً اجتماعياً...

- لكنك داعية سياسي.

- لا ترفع صوتك.

- الحارس بعيد.

(يضحكان).

- لا أقصد الحارس.

- تقصد المحققين طبعاً، مفهوم.

- أنا مدرس لغة عربية وبس.

- أنا خريج كلية الاقتصاد وبس.

(يضحكان) يفتح الباب. يتوقفان فجأة عن الضحك. يخرجان إلى حيث الصنابير ودورات المياه حاملين الصحون والأكواب الفارغة. بعد عودتهما يقيم حسان الصلاة. يؤدي صلاة الظهر. شريكه سليم مضطجع يتأمله. أخيراً عاد حسان إلى حديثه. قال:

- إلى أين وصلنا؟

- وصلنا إلى كلام الأديب ميخائيل نعيمة.

- في الحقيقة إن كلام نعيمة –وهو أديب مفكر- يمكن أن يفهم على أكثر من وجه.

- الوجه الأول ترك العقلية الغيبية الاتكالية واعتماد العلم، والعلم وحده. 

- هذا أحد الوجوه، ولعله أقلها صحة، ولا سيما أن كلام نعيمة إذا فهم حرفياً فإنه يدعو إلى عبادة جديدة ودين جديد، والعلم ليس ديناً وليست له عبادة.

- طيب الوجه الثاني؟

- هناك من يقول: إن العرب لا يعبدون إلهاً واحداً: أو أنهم لا يعبدون الله حق العبادة.

- كيف؟

- حينما عبدوا الله واحداً لا شريك له حققوا الفتوحات العسكرية والعلمية والحضارية في صدر الإسلام وفي العهود الأموية والعباسية وسواها. وحينما ضعفت في نفوسهم عقيدة التوحيد انحسرت قوتهم السياسية والعسكرية ومن ثم الحضارية.

- هذا في الماضي. أنا مثلاً أعتقد أن محمداً بطل عظيم في عصره.

- وفي الحاضر أيضاً. وفي كل زمان ومكان.

- لماذا لا ينتصر شعبه الآن في الحروب؟ لماذا هم متخلفون علمياً وحضارياً؟

- إنهم غير مسلمين حقاً. وبالتحديد لا يطبقون الإسلام، أو لا يتحاكمون إلى الإسلام.

- لم أفهم.

- هل أنت مسلم؟

قال على الفور:

- لا.

- كم يوجد مثلك بين العرب؟

- نحن الشيوعيين لسنا كل العرب ولا القليل القليل منهم.

- هذا السؤال عن الشيوعي يسهل الجواب عليه، ربما لشدة المفارقة. لكن ما رأيك بالعرب الآخرين الذين يدينون بمبادئ وأفكار تنافس الإسلام، أو تزيحه لتحل محله بشكل كامل أو جزئي، أو تشكك به، أو تحصره في نطاق ضيق، نطاق الروح لا غير؟!

- وما للدين في شؤون الحياة؟

- أي دين؟

- كل دين.

- ابتسم حسان كمن أمسك بمفتاح ضائع:

- هنا عدد من المغالطات التي يجب ألا تخفى على أمثالك.

- وضح إذا سمحت.

- إن الدين في الأصل أو الجوهر واحد. لكن ألا تتوقع أن تكون هناك خصوصيات بين دين وآخر. لأن بعض الأديان جاء خاصاً لأقوام بأعيانهم، ولأن ديناً كالإسلام جاء للناس جميعاً.

- هذا أول اعتراف بالجانب التطوري في الأديان.

- أنت تسميه تطوراً، وهو في الحقيقة حكمة ربانية في مراعاة أحوال المخاطبين ما بعدها من حكمة.

- ثم ماذا؟

- وأنت تلاحظ أن هناك مسافة تضيق وتتسع بين تعاليم الدين وبين تطبيقه. الأنبياء مثلاً تتطابق فيهم التعليمات والممارسات، ثم الصحابة أو الحواريون، ثم يبدأ الافتراق بين الاعتقاد أو العقيدة وبين السلوك، لدرجة اقتضى الأمر إرسال الأنبياء يجددون للناس دينهم، وبمعنى آخر يصححون الانحرافات. إلى أي حد يطبق المسلمون أفراداً وجماعات وحكومات دينهم؟

- إنهم لا يستطيعون التطبيق لذلك لم يطبقوا.

- كيف استطاعوا في الماضي؟

- لأن ظروفهم كانت تسمح.

- هل يستطيع الناس اليوم أن يطبقوا الماركسية اللينينية؟

- نعم.

- لماذا لا يطبقونها؟

- بسبب الظروف.

- أي ظروف.

- عدم وعيهم بها مثلاً.

- وكذلك المسلمون عرباً وأعاجم غير واعين الوعي الكافي بدينهم لدرجة أن بعضهم يعتنق معه أو بدلاً عنه عقائد أخرى تنافيه أو تختلف عنه بقليل أو كثير.

ثم ما رأيك بالظروف في بلدان الكتلة الاشتراكية؟

- لقد طبقت فيها الماركسية اللينينية.

- لا تخدع نفسك. قل هذا الكلام لغيري. إن الشيوعية الحقيقية ما تزال حلماً. وإن تطبيق الماركسية اللينينية ذو ألوان. في كل بلد لون يكاد يكون خاصاً به، وهي في الاتحاد السوفيتي في تراجع.

- ثم تأمل أن يطبق الإسلام الذي مضى عليه أربعة عشر قرناً؟

- لو درس العربي أو المسلم الإسلام قبل دراسة المبادئ والمذاهب الأخرى ولا أقول الأجنبية، بل مثل دراستها لما قال مثل ما قلت.

- هات درسني.

ابتسم حسان. سكت قليلاً يريد تحويل لهجة الحوار إلى الهدوء والوداد:

- أنت أكبر من أن أعطيك دروساً. لكني أكتفي بالعرض أمام ناظريك وأنت حرٌّ في القبول والرفض.

- شكراً على كل حال. لا أكتمك أنني حريص على معرفة النظام الاقتصادي في الإسلام، وأريد أن أفهم علاقة الإسلام بالسياسة.

- النظام الاقتصادي لا خبرة لي فيه تذكر، وإن كنت أشير إلى من كتبوا فيه، أما النظام السياسي وعلاقته بالإسلام، فبوسعي الإسهام فيه على قدر ما تعينني ذاكرتي وظروف هذه الجدران العارية المغلقة الصماء.

- من قال إنها صماء. (مد سليم يده اليسرى إلى أسفل الجدار ودق ثلاث دقات بقبضة يده. سمع جواب لهذه الدقات الثلاث بدقات أخرى)

(ضحك الشريكان) قال حسان:

- من الظلال السود المسحوبة على الإسلام والمسلمين –باسم الدين- ما قامت به الكنيسة ورجالها في أوروبا من محاربة للعلم والعلماء، ومن مصادرة للعقل وحرية الرأي، فكان عقاب الكنيسة والدين الإفلاس هناك، والأخذ بالعلمانية في الاجتماع والسياسة والعلم وما شاكل ذلك. إن الإسلام لا يحارب العلم والعلماء كما فعلت الكنيسة. بل إن عصور ازدهاره هي عصور ازدهار العلم والعلماء في بلادنا وفي بلاد الآخرين، فالجاهلية هي قبل الإسلام. أما الحضارات الأموية والعباسية والأندلسية فضلاً عن حضارات هندية وفارسية وآسيوية، فقد كانت بفضل الإسلام. فلماذا يؤخذ الإسلام بجريرة غيره. ثم ما الذي حرك شعوب آسية وإفريقية في حركاتها التحررية ضد الاستعمار القديم والحديث من الجزائر وأندونيسيا؟ إنه الإسلام. إنهم الشيوخ والعلماء. عبد القادر الجزائري. عبد الكريم الخطابي. ادريس السنوسي- عبد الحميد بن باديس- الشيخ شامل- سليمان الحلبي- عبد الرحمن الكواكبي –عز الدين القسام..

- إن دور هؤلاء معروف، لكنهم ذهبوا ولم يهزموا التخلف.

- إن التخلف ليس في وسائل الإنتاج وحدها. بل هو في نفس الإنسان وعقله، هو في عالم الأفكار، وليس في عالم الأشياء. حينما انهزمت ألمانيا في حربين عالميتين تحطم اقتصادها وتهدمت مصانعها ومعاملها وطرق مواصلاتها ومنشآتها، لكن أدمغة رجالها لم تتحطم، لذلك استطاعت أن تستأنف نشاطها وحياتها، وتعود واحدة من الدول البارزة التي تقرض الدول الكبرى أموالاً وعلوماً تكنولوجية.

- ما علاقة ذلك بالإسلام والمسلمين؟

- إنه يوضح حقيقة التخلف: الانهزام النفسي. الانبهار بعالم الأشياء عند الآخرين. التقليد. استيراد الأفكار والمبادئ مع استيراد الأشياء، كالاعتقاد بأن ترك الدين هناك حقق النهضة فيجب تركه هنا أيضاً. ألا ترى أن هناك خلطاً بين تعريف المدنية والحضارة. لا يخفى عليك مثلاً أن بلالاً العبد الحبشي الأسود الذي اعتلى الكعبة ليؤذن أشد تحضراً من الأمريكان الذين قتلوا الهنود الحمر واضطهدوا الزنوج.

- دعنا من الماضي إذا سمحت.

- حتى اليوم وبرغم الغياب للإسلام ما يزال المسلمون يصلون سوداً وبيضاً وسمراً وصفراً حول الكعبة وفي كل مكان وعلى قدم المساواة. أليس هذا تحضراً؟ صحيح أن الأفكار التي تتجسد بدول كبرى مثل الاتحاد السوفيتي وأمريكا والصين الشعبية يكون لها تأثيرها وسحرها، لكن ذلك لا يعفي المفكرين من فحصها وتمحيصها. وبالمناسبة إذا كنت أنتقد الماركسية فإنني لا أنكر مواقف الاتحاد السوفيتي في نصرة الشعوب المستضعفة، أو في كسر احتكار السلاح الغربي، أو في قضية فلسطين، وهذا غير استعماره لعدد من الشعوب والأوطان الإسلامية.

- نحن الشيوعيين العرب لا نقلد الاتحاد السوفيتي تقليداً حرفياً.

- لكنكم تجهلون الإسلام أكثر بكثير من معرفتكم بالإسلام.

- لا أكتمك أنني صممت على التعمق في دراسة الإسلام، لكن على الإسلام نفسه أن يفرض وجوده.

- بالسلاح. بالعسكر!!

- كما فرض نفسه أول مرة. بالحجة والإقناع. بالتطبيق الحي. ولا أكتمك أيضاً أن الوجود الحي والتطبيق أقوى من الحوار والنقاش والجدال. فأنا مثلاً متأثر بابنك مجاهد أكثر من تأثري بك، وإن تأثري بشخصيكما أكثر من تأثري بنقاشيكما. وقس على ذلك. أنتما أكثر تأثيراً من المسلمين العاديين، وأنتما في سجنكما أشد تأثيراً من أمثالكما خارج السجن. إن شهداءكم ومقاتليكم في ساحة المعركة أكثر فاعلية وتأثيراًِ منكما أيضاً. قد تقول: هذه مبالغات، لكنه الواقع. صدقني، وهذه لغة الواقع، وأظنكم تفهمونها كما أفهمها، أنا ويفهمها كل الناس.

 النهار الحادي والثلاثون

السبت 5 تموز 1980

بعد مضي شهر من الاعتقال قدر حسان أن مدة سجنه غير معلومة، وأن من الخير له أن يفيد من فراغه، فقرر تثبيت حفظه من القرآن الكريم أولاً، ثم أن يشرع بحفظ القرآن كله ثانياً.

إن شريكه في الغرفة قد شغله إلى حد ما عن التأمل، والخلوة إلى الله تعالى بالدعاء والتبتل والعبادة النافلة، لكن الوقت لم يذهب سدى. كانت هناك ساعات من الوداد والتفاهم لم تعكرها المناقشات، وكان هناك تبادل في المعلومات والذكريات، واشتراك في تلاوة القرآن الكريم بين الحين والآخر.

خطر لحسان أن يستعين بشريكه في تثبيت ما حفظه من القرآن. فرح لهذا الخاطر، ففاتحه به، فرحب سليم بالفكرة.

قال سليم وهو جالس قبالة حسان وقت الضحى:

- كم تحفظ من القرآن؟

- أحفظ جزء (عم..) وهو الجزء الثلاثون والأخير، كما أحفظ سوراً متفرقة، وآيات متفرقة.

- أي السور تحفظ مثلاً؟

- سورة الكهف. البروج. الواقعة. ق. الملك.

- هل هناك سبب لاختيارك حفظ هذه السور؟

- نعم هناك أسباب ومناسبات وذكريات. فحفظ جزء (عم) يرجع بعضه لأن سوره قصيرة، يسهل تلاوتها في الصلاة وفي الأدعية كالفاتحة والمعوذتين والإخلاص، وهي سورة تعدل ثلث القرآن على صغرها. ثم إن هذا الجزء مطلوب حفظه ضمن المنهاج الجامعي في كلية الآداب قسم اللغة العربية الصف الثاني.

- وسورة الكهف؟

- قرأت في شبابي تفسيراً أو دراسة لهذه السورة كتبه الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي من الهند، فأعجبني حسن استنباطه وفهمه للعدد من نواحي الجمال في هذه السورة. فقد ربط بين القصص الأربع التي تتضمنها بهدف واحد. قصة أهل الكهف، وقصة صاحب الجنتين وقصة موسى مع الرجل الصالح، وقصة ذي القرنين. وهي من السور التي أوصى الرسول عليه السلام بقراءتها أو قراءة قسم منها صباح يوم الجمعة، لفضلها، وللتعوذ من فتنة الدجال، زد على ذلك الإيقاع الموسيقي الساحر لفواصل آياتها الممدودة بألف الإطلاق.

- والسور الأخرى؟

- هناك سور هي جزء من منهاج التنظيم الإسلامي.

- لا تقل: أنا غير منظم إذن.

- نحن نتحدث عن منهاج.

- نعم.

- أذكر أن أول سورة حفظتها في التنظيم كانت (سورة البروج): والسماء ذات البروج. واليوم الموعود. وشاهدٍ ومشهود. قُتل أصحابْ الأخدود... سبب اختيار المنهج لها أنها تشير إلى قصة أصحاب الأخدود، شهداء العقيدة، وهم قوم آمنوا بدين الغلام الذي آمن على يدي راهب نصراني في عهد اضطهاد ذي نواس اليهودي للنصارى في اليمن. لقد حكم الملك الطاغية بقتل الراهب، وبأن ينشر بالمنشار وزيره الذي آمن ليرتد عن دينه فلم يرتد، وقد وقع جسمه شقين على الأرض، كما عجز الملك عن قتل الغلام في ثلاث محاولات طريفة حتى قال الغلام له: أنت لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارم. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام... ولم يرتدوا عن إيمانهم برغم إحراقهم في النار.

- الهدف واضح من تدريسكم مثل هذه السورة.

- مثل ذلك ختام سورة (آل عمران): "لتبلوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور. وإذ أخذَ اللهُ ميثاقَ الذين أوتوا الكتابَ لتبيننُّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون..."

- أيضاً الابتلاء والتعرض للمحن والاضطهاد من المبادئ الأولى في النضال.

- الآن تحضرني أمسية صيفية رائقة قضيتها مع إخواني على سطح من سطوح بيتنا المسور بالقرميد الأبيض، تظلله دالية عنب (سباعية) وارفة، وتصطف على أسفل السور تنكات الزهر والورد: ياسمين ينفح، ورد يضوع. عطرية مخملية تميس. كما تحضرني توكيدات العريف على نطق كلمتين (لتبلون) (لتبيننه). كان حرصه على ضبط النطق شديداً وفي محله. لهجته من دير الزور، وأنا ناجح في الشهادة الإعدادية (الكفاءة) مغرور بتحصيلي العلمي واللغوي. رأيت أنه طلب مني التكرار أكثر من اللازم. ولم يوضح لي الخطأ من نطقي. كان العريف طويلاً نحيلاً أسمر البشرة حيياً. لعله أصبح اليوم طبيباً مشهوراً. درس في أوروبا ولم يتغير. عاد إلى الوطن، ولم يتزحزح عن العقيدة. في تلك الأثناء كانت محنة التنظيم الإسلامي في مصر (في الخمسينات) قد بدأت. فكنا ندرس آيات المحنة والابتلاء في القرآن، ونتخيلها قديماً في اليمن وحديثاً في مصر. أما أن تقع فينا نحن فكان أمراً يقبله العقل وترفض تصوره النفس بالمنطق العاطفي.

فتح باب الزنزانة. أطل الحارس اللطيف. نادى سليماً: غابا. بعد قليل عاد سليم وهو يقول:

- طلبوني للتحقيق بالغلط. المطلوب غيري.

- أرجو أن لا أكون المطلوب.

- ما أظن. هل تعلم أنني مهتم بذكرياتك عن حفظك السابق لسور القرآن. هات حدثني.

- أحكي لك إذن عن ذكرياتي وسورة (الحجرات): تحضرني الآن الصورة التي تخيلتها لأعرابي فظ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: يا محمد اخرج. يا محمد اخرج. بغير قرع على الباب ولا استئذان. بل بصوت مرتفع وبإلحاح واستعجال "إن الذين ينادوك من وراء الحجرات أكثرُهم لا يعقلون. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراًِ لهم والله غفور رحيم." .والصورة الثانية هي قصة الرجل الذي أرسله الرسول عليه السلام إلى قوم ليجمع منهم الزكاة (الضريبة على المال)، فلما اقترب من ديارهم خاف منهم، وعاد إلى الرسول، وهو يتهمهم كاذباً بأنهم منعوه من الزكاة، وكادت تقع فتنة لولا أن تبين المسلمون من حقيقة الأمر، وظهرت براءة المتهمين، فقال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا أن تُصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين."

- بالمناسبة هل تكفي الزكاة لتمويل الدولة؟

- لعلك لاحظت أولاً علاقة الدين بالدولة في الإسلام. ثانياً في عدد من الأوقات الماضية كانت الزكاة كافية وفائضة لا يقبضها مستحقوها.

- مثل أي وقت؟

- في عهد عمر بن عبد العزيز.

- في عصرنا هذا لا تكفي في رأيي.

- هناك موارد أخرى للمال. وفي حالات الضرورة القصوى كالحرب، يحق للدولة مصادرة الأموال الخاصة للمصلحة العامة. هل سمعت بقصة الفقيه العالم العز بن عبد السلام الذي أجبر المماليك على بيع الزينات الذهبية والفضية التي يزينون بها خيولهم، كما باع المماليك أنفسهم لحساب بيت مال المسلمين قبل أن يفتي لهم بمصادرة أموال الأغنياء وتوظيفها للحرب. فقيه يبيع أميراً، بل أمراء. هل تصدق؟ هل جرى مثل ذلك عند أمة من الأمم غيرنا؟ متى جرى ذلك؟ جرى في المرحلة التي جرت العادة على تسميتها بعصور الانحطاط في تاريخنا!!

- عندك اطلاع جيد على الماضي.

- وأنت إطلاعك جيد على الحاضر.

- عفواً.

- ما زلنا في سورة (الحجرات). في هذه السورة عدة أحكام وآداب لن أطيل الوقوف عليها برغم أهميتها مثل: حقيقة الإيمان. تعريف الأخوة. التأدب مع الرسول عليه السلام في الخطاب والكلام. فض الخصومات بين المسلمين. عدم الشقاق واجتناب أسبابه من سخرية وغيبة وظن وتنابز بالألقاب. هل تعلم أن في هذه السورة آية كانت سبباً مهماً من أسباب تحولي عن الإعجاب بالشيوعية وأمميتها.

- ما هي؟

- قال الله تعالى: "يا أيها الناس. إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم."

- إنها الآية التي تسوي بين الشعوب كافة، وهي التي رفعتها الشعوب المستضعفة شعاراً في أواخر العهد الأموي، فسميت بالشعوبية.

- قولك إنها مستضعفة، وسبب تسميتها بالشعوبية أمور تحتاج إلى توضيح وتدقيق.

- هل تنكر الوقائع؟

- أنكر المبالغات وطريقة التفسير، كما أنكر العلاج. هل ترى مثلاًِ في حركات المانوية والمزدكية ضد الخلافة العباسية ثورات تحررية؟

- ما رأيك بنكبة البرامكة ومقتل أبي مسلم الخراساني وأمثاله؟

- وأنا أقول: ما رأيك بنكبة الأمويين وبمقتل الحسين رضي الله عنه؟ الحل هو العودة إلى الأصل (الإسلام) وإلى عدله وإنصافه ومؤاخاته بين المؤمنين وتسويته بين الناس بين الشعوب، ولا تمييز إلا بالعمل، بالعمل الفاضل، العمل الصالح.

- نعود إلى حديث الذكريات، ألا تراها أمتع من الأفكار؟

- ما دمنا بحاجة إلى الاستمتاع، فليكن. ذكرياتي عن حفظ السورة (الواقعة.) إنني وجدت زوجتي وابنتي الحبيبة قد سبقتاني إلى حفظها، وأنا المختص بعلوم القرآن. وتذكرت إعجاب الأمهات والمعلمات بابنتي الصغيرة، وهي تتلو لهن هذه السورة غير القصيرة. يا سليم، ليس أمتع من أن تكون في جو إسلامي، في أسرة إسلامية متحابة، تتواصى على حفظ القرآن وتلاوته والعمل به. طفلة لا يزيد عمرها على عشر سنوات فقط تحفظ مثل حفظك أو تنافسك في الحفظ! آه كم أنا مشوق إليك يا ميساء، يا فلة.

- أختي في مثل سنها، لم تكن تحفظ غير سورة الفاتحة، إنها مشغولة مثل أمها وأخواتها بخدمة الآخرين طلباً للعيش.

- هذا ظلم آخر للأطفال، أن يعملوا في سن مبكر، وأن يحرموا من اللعب والعلم. ما اسم أختك؟

- فاطمة.

- إنه اسم والدتي، رحمها الله، وهي مثل أختك في الحفظ.

- ومستوى العيش؟

- ليست طفولتها بأحسن حالاً من أخواتك. مات أبوها وهي طفلة. تزوجت وهي طفلة. توفي زوجها الأول، وهو عريس في شهوره الأولى من زواجه. توفي قتلاً على يد قاطع طريق. شهدت أبي يتزوج عليها زوجة أولى وزوجة ثانية. توفيت في بيتي بسرطان الكبد. رحمها الله.

- كم بنتاً عندك؟

- واحدة وولدان.

- ابنك مجاهد يحبك.

- هذا أمر طبيعي، وأنا أحبه.

- هل تميز في محبتك بين أولادك؟

- أنا لا أميز في المعاملة. كلهم أولادي، أحبهم حباً عظيماً. قد يكون الصغير له ميزة بسبب صغره، هذا شيء آخر أيضاً من سنة الله في خلقه: حب الصغار والعطف عليهم سواء أكانوا أولادك أم أولاد غيرك. حتى صغار المخلوقات. وبالمناسبة حين ولدت ابنتي ميساء شعرت بحب خاص بها منذ الساعات الأولى لولادتها، هل هو رد فعل على الذين يفضلون الذكور على الإناث؟ هل هو جمالها؟ ما أدري. وقد زاد حبي لها كلما درجت وكبرت، أحفظ لها ذكريات عذبة عن طفولتها. عام 970 كنا منتقلين حديثاً إلى بيت جديد، كانت وليدة تدرج بين علب الكرتون الضخمة، وهي ترتدي ثوباً أحمر مطبوعاً عليه أوراد صفر، وفي شعرها شريط مضرج بالأحمر والأصفر مثل ثوبها الطفلي، وشعرها أشقر على صهبة محببة، وتلثغ بلسان لا يكاد يبين مشيرة إلى بيتنا السابق: (بيتنا بوء.. بـ...و...ء) تعني أن بيتنا بعيداً جداً (فوق). أتذكرها في سن أصغر، ونحن نغسل رجليها البضتين صيفاً في مجرى ماء صاف على طريق بيروت. أذكر في رحلة أخرى إلى بيروت أننا حجزنا في القطار مقعدين متقابلين، وجعلنا عربة ميساء حين نومها بين المقعدين تحت أرجلنا الممدودة. في تلك الرحلة، وحينما كنا نتناول الغداء في مطعم شعبي على شاطئ (الزيتونة) اسمه (مطعم الحاج داود). تسلقت ميساء من الكرسي على المنضدة، وجذبت صحناً من القاشاني، فوقع على الأرض فكسرته، لم يقبل صاحب المطعم أن يحاسبنا في ثمنه. كم مرة استوقفنا الآباء والأمهات في الطريق كي يداعبوا الطفلة ميساء، ويسلموا عليها بالقبلات. إن الحديث عن الذكريات الجميلة شيء والتلذذ باستعادتها شيء آخر.

- مفهوم. مفهوم. مع ذلك أشعر بمتعة كبيرة في سماع هذه الذكريات.

- هذه الطفلة الملائكية أخذتها بنفسي إلى "الروضة" مدرسة للأطفال، وهي مشوقة إليها لكثرة ما حدثناها عنها، لكني فوجئت لما سلمتها للمديرة وأدرت ظهري لها أنها لم تتوقع أن نتركها وحدها للآخرين هكذا! شعرت بطعنة في أحشائي. لم نكد نصدق انقضاء ساعات الدوام حتى تعود بسيارة الروضة حاملة سلتها المصنوعة من القش بيدها الرخصة وشرائطها الحمراء تتماوج مع النسيم. هذه الطفلة الوحيدة فارقتها ليالي متعددة حتى احتلت بيتي عناصر المخابرات، فصار الفراق ليالي وأياماً وشهوراً، ثم فوجئت معي في هذا البلد في منتصف الليل بالمداهمة العنيفة، وبمفارقتي الجديدة لها. آه أين أنت يا ميساء؟ هل سوف يأتي يوم يجتمع فيه الشمل، يوم لا يتفرق فيه الآباء والأبناء أبداً؟

- المهم أن لا نصاب باليأس. أن نحلم.

- بل الحياة، يا سليم، كلها حلم. لقد مرت شدائد وملذات كثيرة، كلها الآن صارت أحلاماً ذكريات. هذه الجلسة، هذا السجن سوف يصبح يوماً من الأيام طي الماضي ذكرى من الذكريات بحلوه ومره. المهم العاقبة.

- أنتم لا تقلقون بالنسبة إلى النهاية.

- هذا هو المفروض، كلما زاد الإيمان زاد التوكل على الله والرضى بل التسليم بقضائه وقدره.

- أمامي خمسة عشر عاماً سجناً، ليست أكثر مرارة من السنوات التي قضيتها خارج السجن.

- الحياة بلا إيمان يا سليم جحيم لا يطاق.

- أنا مؤمن بقضية.

- أعني الإيمان بالله تعالى أولاً، ومن ثم تتسلسل وتترتب القضايا، وإلا كنت وقضيتك في فراغ هائل في عذاب رهيب.

- حتى الآن لم أشعر بما تشير إليه.

- أشك بدقة ما تقول: لماذا تلح علي بأن أحدثك أنا ولا تحدثني أنت.

- عماذا أحدثك؟ حياتي كلها مرارات، فضائح يندى لها جبين الراوي والسامع.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

- هل أحدثك عن الزنى عن السرقة من أجل العيش، الإبقاء على رمق الحياة؟

- العفو، العفو.

- لم يكن لدي وقت لدراسة القرآن، ولا للتفكر في الله. معدة فارغة. صداع في الرأس. روماتيزم في البرد. إن تيسر وقت فللامتحانات. كل فرد من أفراد أسرتنا صغر أم كبر، ذكر أو أثنى، مطلوب منه أن يعيل نفسه أولاً، وإن استطاع أن يسند غيره فلا بأس، بصرف النظر عن الحلال والحرام، والعيب والعار.

شحب وجه حسان. خبا ألق عينيه العميقتين. على حين تهدج صوت سليم وهو يتكلم. قال حسان:

- لقد صدق من قال: عجبت لمن يصبح أو يمسي جائعاً، ثم لا يحمل السيف مقاتلاً في طلب رزقه. هل شقاؤك خارج السجن يخفف عليك آلام السجن؟

- إلى حد ما. لا شك أنني بدأت أضيق بسجني، وكلما فكرت بالسنوات التي سوف أقضيها ازداد ضيقي وقلقي، لكن مقارعة الظلم السياسي والاجتماعي تحملني على الصبر والمقاومة وقبول التحدي.

- فكيف إذا كان في سبيل الله، وعلى أمل استمرار المعركة بعد الموت إن لم يتم الانتصار قبل الموت...

- رأي... قابل للنظر. كنت أظن أن عقيدة الإيمان بالقدر تدعو إلى الكسل أو الاستسلام... أما الآن فالأمر يختلف.

أحس حسان بظل نديٍّ شفيف يخيم على الزنزانة. كما أحس بأن وجه شريكه بدأ يشرق بعد عبوس. حتى الأضلاع البارزة من خشبة صدره توارت قليلاً باستواء. تذكر حسان أنه ينوي أن يحفظ سورة (يس)، وأن هذه السورة تجيب على عدد من القضايا التي يتحاور فيها مع سليم. قال:

- يا أخ سليم لم أحدثك عن سورة مهمة سوف أحفظها. إنها سورة (يس). من خطوطها العريضة أن هناك نوعاً مهماً من الكفار الأغنياء توعدتهم السورة بالعذاب: "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله. قال الذين كفروا للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين. ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهو يخصِّمون. فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون..." وفي السورة قصة المعركة التي خاضها مرسلان من الله تعالى إلى قرية ظالمة، فكذبتهما، وتوعدتهما، وتطيرت بهما، ولم تستمع لرجل ناصح منها يريد لهم ولنفسه الخير، فعاقبها الله على ظلمها وعنادها، ونصر جنده المرسلين، وأدخل الرجل الناصح الجنة: "قيل ادخل الجنة. قال: يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين." وفي هذه السورة وقفات من صور ومشاهد مؤثرة حول عقيدة الإيمان بالله والبعث بعد الموت: فهناك إحياء الأرض الميتة بالماء، وإخراج الحي الذي يؤكل منها، والجنات التي تسيل من تحتها الأنهار، وتتمايل من حولها الثمار. وهناك خلق الإنسان نفسه وموته، وإعادة بعثه بعد موته، فضلاً عن جعل النار في الشجر الأخضر، وخلق السماوات والأرض والأنعام، وتسخير الشمس والقمر والبحار للاستنارة وللسفر وغير ذلك. وهذا غير التصوير الأخاذ والعرض الجميل، والانتقال من حال إلى حال من حاضر إلى ماض إلى مستقبل، من عالم المشاهدة إلى عالم الغيب وبالعكس: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. وآيةٌ لهم الليلُ نسلخُ منه النهار فإذا هم مُظلِمون. والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمرَ قدرناه منازلَ حتى عاد كالعُرجون القديم. لا الشمسُ ينبغي لها أن تدركَ القمر، ولا الليلُ سابق النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون؟"

تألق وجه سليم، فقال:

- أعترف لك بأنك فتحت عيني على معان، لم أكن أتصورها في القرآن، وفي هذه السورة بالذات التي سمعتها مئات المرات، تردد في المقابر والمآتم، ويرددها أبي في الليل أحياناً وفي الشدائد. ولعله لا يحفظ غيرها. لكنني لا أكتمك بأنني لم أستوعب كل معاني الآيات، فهناك ألفاظ كالعرجون... يَخصِّمون. تحتاج إلى شرح وتوضيح.

- وهناك آيات لا تحتاج لدى أمثالك لأي شرح، لكن للربط والتذوق ضمن سياقها: 

"فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون

"إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون

"هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون

"لهم فيها فاكهة، ولهم ما يدعون.

"سلامٌ. قولاً من رب رحيم."

- اليوم لا تظلم نفس شيئاً. متى يأتي ذلك اليوم الحلم الأمل، متى، متى؟!

- إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟!

  النهار الخامس والثلاثون

الأربعاء 9 تموز 1980

حين وصل حسان مع مرافقه الحارس الأسمر الخفيف إلى إحدى باحات السجن الجانبية، وهي فسحة عالية مكشوفة. وقال له:

- تمش ذهاباً وإياباً من هنا إلى هناك.

حينذاك صدق حسان بأنه قد منح حصة للتنفس.

منذ أيام قليلة أعيد حسان إلى زنزانته ذات الرقم /10/ فأصبح وحيداً. حيث زاره مندوب لجنة (الصليب الأحمر)، فشكا إليه وإلى ضابط الخفر ما يحسه من إمساك في جهازه الهضمي، كما لاحظ الحراس اعتلال صحته بشكل واضح.

لم يكن يحلم حسان بمثل هذه الفرصة للتنفس. ويبدو أن جسمه أيضاً لم يكن يتوقعها. الشمس تحملق في عينيه شديدة الإضاءة. الهواء نظيف جداً، كأنه معقم ومعطر بعبير الأشجار البرية في غابات الصنوبر والشيح. الأرض نصف الترابية، بعضها محفر وبعضها مبلط، قد بدت درباً ريفياً تظلله شجيرات العوسج والآس. في الحقيقة لا عوسج ولا آس، لكنما صف من بيوت الحراس، وحافة تطل على أبنية السجن الآخرى.

جلس الحارس المرافق مع زميل له في إحدى السيارات العسكرية يراقب، وفي آخر الباحة –حيث الباب الخارجي- يقف حارس آخر مسلح، أما حسان فكان يحمل نفسه حملاً على التمشي ذهاباً وإياباً. كان متعباً، وبوده أن يجلس على حافة صندوق خشبي، لكنه خشي أن يظن مرافقه بأنه شبع تنفساً، فيعيده قبل انتهاء الوقت المحدد.

خطر لحسان أن يحاول الهرب. وبرغم تسليمه باستحالة المحاولة. لم يكف عن التفكير بها:

- المشكلة الأولى هي الحارس الواقف على هذا الباب الخارجي المفتوح على الشارع العام مباشرة. إذا حللت المشكلة الأولى زالت العقبات الأخرى. أخرج إلى الشارع. أركض. أركب إحدى السيارات العابرة. أتوارى في بناية عالية أو في أزقة ضيقة. سوف ينشغلون عني بالمفاجأة، وبتبادل التهم حول تفريطهم بالحراسة. لكن كيف نحل المشكلة الأولى: الحارس المسلح. لا بأس أخطف منه سلاحه. أو أتسلل خفية. ليس هذا ممكناً ولا ذاك. لعله حارس صديق متعاطف. هل يمكن جس نبضه. لا بأس بالاقتراب منه والسلام عليه. إنه عبوس. قوي الجسم. كلهم انضباطيون أقوياء، ألم أقل مرة للحارس الأسود الضخم:

- وظيفتكم صعبة. الله يعنيكم!

فأجاب بجد وصرامة:

- ومن يخدم الوطن غيرنا؟!

إنهم وطنيون على طريقتهم الخاصة، نظاميون لا يتيحون لك المباسطة. إنها نوع من الخيانة للوطن. ألا ترى صعوبة ذلك؟ ماذا يضر؟ فلنحاول. شيء آخر تذكرته. إن لباسي متميز لا يمكن التواري به في شوارع هذه المدينة. إنه جلابية أشبه بلباس النوم، فكيف أهرب به؟! على كل حال... المشكلة الأولى هي الحارس المسلح ببندقية رشاشة.

آه... أيها المسلحون الطيبون، أنتم هكذا في كل مكان، هل تعرفون قضيتي؟ هل تعرفون معاناتي. كيف أشرح لكم؟ أنا سجين، وأنتم سجناء أيضاً، لكنكم سجناء من نوع آخر. لا ألومكم في هذا البلد الطيب، لكني ألوم جنود بلادي الذي يسخرهم الظالم لسياساته الإرهابية، ويستعبدهم بدعاوى الوطن والوطنية. يبيع الجولان وهو وطني. يخرب لبنان وهو وطني. يقتل الفلسطينيين وهو وطني. يدمر البلاد ويحارب الإسلام والمسلمين وهو وطني أيضاً!! صحيح أنكم بدأتم تتعاطفون مع شعبكم، لكن معظمكم ما زال مسلوب الإرادة والطاقة، فإلى متى؟!

عفواً (فيروز) ومعذرة    أجراس العودة لـن تقرعْ

فالعودة يـلزمها جيش     والجيش سيلزمـه  مدفعْ

والمدفع يلزمه كـف      والـكف  سيلزمها إصبعْ

والإصبـع لاه مشغول    في (...) الشعب له مرتعْ

قولوا لي كيف ترضون لأنفسكم أن تعترض سيارتكم سيارة طبيب شاب، ومعه زوجته الشابة، تحترشون بهما، تطلبون من الطبيب عنوان بيته التفصيلي، وتفرضون عليه زيارة غير نظيفة؟ هل ترضون هذا لأمكم أو لأختكم أو لزوجاتكم؟ لا تقولوا: هذه سياسة سرايا الدفاع والوحدات الخاصة، وليس الجيش السوري. ألم تسمعوا هذه الأخبار ألم يصبكم رذاذها ولا شظاياها؟! انتظروا إذن.

أحس حسان بالتعب الشديد. جلس على طرف الصندوق الخشبي. تذكر انه في حصة التنفس المخصصة للراحة والاستجمام. مد يده إلى دماغه وأمسك بكتلة الذكريات المؤلمة وألقى بها بعيداً. نظر إلى الفسحة التي تفصل بينه وبين الحارس المسلح، وهي تزيد على ثلاثين متراً. تعمد أن يتخيلها محفوفة بأشجار الكرز. تخيل نفسه وهو يمشي مع زوجته أصيلاً من ناحية (احسم) إلى قرية (مشّون) سيراً على الأقدام، وأشجار الكرز تظلل الطريق المعبد اللطيف من جانبيه. حتى يتعمق استمتاعه بهذه الذكرى... تخيل النزهة أولاً في فصل الربيع حيث كانت أزهار الكرز بيضاء مشرقة كالفضة المتلألئة تحت أشعة الشمس الدافئة، ثم عاد وتخيل النزهة في فصل الصيف حيث نضجت ثمار (الوشنى) والكرز، وحيث كان القرويون والقرويات يدعونه وزوجته لزيارة كرومهم، ويهدونهما منها بين الفينة والأخرى ثماراً طيبة لذيذة. إنه وادٍ من أودية الجنة.

في زيارته الأخيرة لأحسم انكسر غصن كرز ضخم. ما الذي كسره؟ قوة العاصفة أم ثقل الحمل من الثمر الوافر عليه؟! إنه سؤال حمله معه حين اصطحب ذلك الغصن من (احسم) إلى (حلب)، وقدمه هدية للأقارب. السؤال ما زال قائماً!

آه... أنا غصن مكسور إذن! أفكاري أكبر من طاقتي. وطاقتي أضعف من أن توصل هذه الأفكار لكل الناس. يا جنود سورية ألا تحبون الكرز؟ كيف تنفذون أوامر الطغاة، وتقطعون أشجار الكرز والتين والزيتون والعنب، وتقتلون شباب جبل الزاوية؟ ألا تعلمون أن ثورة إبراهيم هنانو كان معقلها في (احسم) في جبل الزاوية بالذات؟! أم لهذا السبب أراد الطغاة ما أرادوا؟

وأنتم سجناء غفلتكم وتواكلكم!!

- انتهت حصة التنفس يا شيخ.

نزل الحارس الأسمر الخفيف من السيارة. نظر حسان إلى السماء الزرقاء وإلى الأرض المكشوفة نظرة أخيرة، وسحب نفساً طويلاً، ثم قام يتبع الحارس.

-2-

دخل حسان زنزانته ولم يزل عبير التنفس في أنفه، وطعم ثمار الكرز الحلو في فمه، لكأنه ما زال مع زوجته يداً بيد، فانطلق يترنم بأبيات أحمد شوقي، وهو يتمشى في الزنزانة ذهاباً وإياباً:

يـا جارة الـوادي طربتُ وعادني    مـا يشبهُ الأحلامَ مـن ذكراكِ

مثلتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى   والذكرياتُ صدى السنين الحاكي

ولقد مررتُ على الرياضِ بـربوةٍ    غنـاءَ كنـتُ حيـالها  ألقـاكِ

ضحـكتْ إلـي وجوهُها وعيونُها    ووجـدتُ فـي أنـفاسِها رياكِ

فوجئ بقرع الباب عليه. تطلع وإذا الحارس ذو الشوارب يحتج، يطلب منه أن يخفض صوته. انقطع حلم الكرز والزوجة والهواء الطلق.

- ألا تعلم أين أنت؟ أنت في سجن. تأدب!

كان حسان حتى تلك اللحظة مستغرقاً مع ذكرياته وأحلامه، مأخوذاً بأشعار شوقي وصوت محمد عبد الوهاب. لم يقبل أن يقطع استمتاعه نزولاً عند احتجاج الحارس. خفض صوته وراح يتابع الغناء.

لم أدر ما طيبُ العناقِ على الهوى   حتى  ترفَّق ساعدي فطواكِ

وتأودتْ أعطافُ بانِك فـي يـدي   واحمرُّ مـن خفريهما خداكِ

ودخلتُ في ليلين فرعِك والـدجى   ولثمتُ  كالصبح المنوّرِ فاكِ

لم تنقطع دمدمات الحارس الشموس تتناهى من آخر الممر، لكن حسان زادت متعته بالتحدي والتملص من الخطر، فاستيقظت ذكريات أخرى من أعماق حسان، وغمرته بنشوة علوية. إنه الآن يتنزه للمرة الأولى مع زوجته في (عين الخضراء) من مصايف دمشق. يدخلان مقهى يطل على نهر بردى، وتظلله الأشجار الدلب والصفصاف، ويتناثر فيه رذاذ الشلالات، فتتبلل لحية الصيف الأصهب. إنه ينتقل الآن إلى وادي (بسيمة). يسأله صديقه علاء الدين صاحب البستان:

- هل هذه الفتاة أختك؟ فأخطبها؟

فيجيبه ضاحكاً:

- هذه زوجتي. أما تلاحظ؟

أغصان الريحان تتمايس على ضفاف النهر. تغطس تارة في الماء، وترفع رأسها مع النسيم الرخي تارة أخرى. أمواج النهر المتكسرة تحمل أوراق الأشجار وبعض الفواكه والأشياء التي تقع من المصطافين. قاع النهر تومض حجارته البيضاء بألق جذاب.

وتعطلتْ لغـةُ الكلام  وخاطبتْ    عينيَّ فـي لغة الهوى عيناكِ

لا أمس من عمرِ الزمان ولا غدٌ    جمعَ الزمانُ فكان يومَ رِضاكِ

عاد الحارس يقرع على الباب محذراً. قرر حسان أن يخوض معركة معه إذا أصر على منعه، لكن شيئاً شغل الحارس. انتقل حسان إلى بيت حميه في حلب عام 1961. إنه الآن يجلس وحيداً في (العلية) ينتظر حضور خطيبته بعد أن تم العقد. دخلت عليه لأول مرة حاسرة الرأس مكشوفة الساعدين، يزيدها الابتسام إشراقاً والسفور جمالاً. دخل معها عدد من أولاد أخيها الفتيان. ما العمل إنها زوجته بشرع الله، لكن هؤلاء الضيوف غير المرغوبين حضور وعذال. قال لها يومذاك:

وتعطلت لغة الكلام وخاطبت   عينيَّ فـي لغة الهوى عيناكِ

فضحكت، وبدت أسنانها اللؤلوية، وأخفت حياءها واحمرار وجنتيها. ثم ظلت تذكر ذلك الشعر وتلك الجلسة طوال سنوات.

تذكر حسان أنه في السجن. تذكر أن عذاله ليسوا اليوم أطفالاً، إنهم سجون وجيوش ودول! سكت. سقط في هوة عميقة مظلمة. جلس على فراشه، يمسك رأسه بكلتا يديه، وهو مطرق. ينظر في نقطة غير محددة في أرض الغرفة العارية. أراد أن يشغل نفسه بتشبيه بلاط الزنزانة ببلاط الرصيف الذي شاهده في فرصة التنفس. لم يستطع التشاغل. قال:

- ما كان أغناني عن كل هذه الآلام؟

تنهد. تأوه. زفر زفرة طويلة. تابع:

- كان بوسعي أن انصرف للشعر، فأغدو شاعراً كبيراً. كان بوسعي أن أتابع الدراسة العليا، فأغدو مدرساً جامعياً، وعلى كل حال كان بوسعي ألا أشتغل بالسياسة العليا فأريح وأستريح. هل أنا من أهل السياسة والدهاء؟!

عود من الكبريت ألقي في أعماق حسان الملأى بالبارود والمتفجرات، فانفجر انفجاراً صاعقاً. هذا السؤال كان يداريه ويتجنبه برغم إلحاحه عليه وفرض الأحداث له: (هل أنا من أهل السياسة). إنه مسلم بأنه ليس من أهل الدهاء، فكيف يمكن أن يكون من أهل السياسة؟ ثم لماذا يقضي عمره مهدداً بالسجن أو سجيناً، وكثير من زملائه وأمثاله يسرحون ويمرحون آمنين مطمئنين؟

وضع كفه على رأسه، ضغط على القسم الخاص بأحداث عام 1945 حينما كان طفلاً في الصف الأول الابتدائي. رأى نفسه في تظاهرة أطفال يحملون العيدان ويتجولون في شوارع المدينة، يخرجون إلى طريق اللاذقية حيث يصبح المعسكر الفرنسي بينهم وبين عمران المدينة. يلوحون يهتفون: يسقط ديغول يسقط. فجأة اندلع سيل الرصاص يصم الآذان ويزغرد مزمجراً في الآفاق. تناثر الصبيان. وصل حسان الطفل فزعاً بعد جري استمر عشر دقائق، وصل إلى بيت أقاربه المواجه لمعسكر آخر للفرنسيين، وهو لا يدري. الرصاص ما زال يئز ويتفجر في كل اتجاه. امتدت يد من خلف باب صفيق جذبت الطفل بشدة إلى الداخل. بعد استسلام الجيش الفرنسي بلغ مسامع الطفل أن جندياً وطنياً نهى جندياً زميله في الجيش الفرنسي عن تصويب النار على طفل يشبهه تماماً كان واقفاً تجاه المعسكر: ذراعاه مفتوحتان على الجدار، قبل أن تجذبه يد من وراء الباب بقوة.

- هذا أنا في الطفولة.

ضغط كفه على أحداث سبقت معركة الجلاء بمدة سنة. رأى والده يقتاده الفرنسيون ليودعوه أخيراً في سجن المية ومية بلبنان، ولا يفرجون عنه إلا بعد تسعة شهور.

- هذا والدي إذن. ألم يحدثني والدي وأقاربي أن المجاهد مصطفى الحجي القائد العسكري في ثورة إبراهيم هنانو هو من أبناء عمنا؟! وأن الفرنسيين لما احتلوا ناحية (احسم) مسقط رأس جدي زعموا أنهم أوشكوا أن يقضوا على ثورة هنانو؟!

لم يعد حسان بحاجة للضغط على مخازن الذكريات. رأى نفسه في الخمسينات يقود مظاهرة طلابية في أواخر عهد الأديب الشيشكلي في بلده جسر الشغور، وهو يهتف:

أيـها الطالب هيا      للعلا حتى الثريّـا

لا تقل: مهلاً كفانا    والصدى يدوي دويّا

ورأى صديقه العزيز (جميل) يصاب بطلقة نارية في فخده وأخرى في وجهه، يمسكه ليعينه على النجاة. يشير للجماهير المحتشدة، فتندفع نحوهما وتكون جولات.

رأى نفسه محمولاً على أعناق زملائه في مدينة اللاذقية يتظاهرون بمناسبة طرد (كلوب باشا) من الأردن، وبمناسبة إعدام الشهيد نواب صفوي في إيران، ثم يلقي قصيدة في المتظاهرين.

رأى نفسه في الصف الثاني الثانوي، وهو يجالد عن عقيدته أمام مدرس اللغة العربية، الذي يهدده بالعلامات، وهو يقول:

أنـا طالبٌ ومجاهد     وعقيدتي فوق العلامةْ

أنا يا معلم لا أهابك     إن تحـديت  الكرامةْ

ثم رأى نفسه طالباً في ثانوية جودة الهاشمي بدمشق يحمل مجلة جماعته السياسية، وهي غير مسموح بإدخالها إلى المدارس. وفي العام نفسه اشترك في (ندوة الفكر المتحرر) الجامعية بقصيدته "ثورة لله..." وهو ما زال في المرحلة الدراسية الثانوية.

تذكر اشتراكه في المعرض الجامعي، ودعوته للتحقيق معه في أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك وفي نهاية العام الدراسي الأول... كان التحقيق في أحد أجهزة المخابرات وهو صائم، وفي بداية عهد الوحدة الذي استقبله بمجموعته الشعرية "ربيع الوحدة". هكذا نحتفي بالوحدة، وهكذا يكافؤننا!

- أنت لم ترسم لوحة لبطل الوحدة فأنت عدو لها.

- كيف أعاديها وقد نظمت في تمجيدها وتمجيد الجماهير التي حققتها ديواناً شعرياً:

في الشيخ محيي الدين بيتى عبر أهداب السحابِ

أنـى رنـوتُ تـنفستْ حـولي أضاميمُ القِبابِ

وتنـهدّتْ حـورُ المـآذن بالتسابيـح العِـذابِ

... ذي لوحتي وعقيدتي، فاختر لنفسك ما تُحابي

لما حضر بعد منتصف الليل مع آلاف الطلاب الجامعيين للسفر في رحلة جامعية إلى القطر المصري الشقيق بمناسبة قيام الوحدة بين القطرين، فجأة نطق مكبر الصوت يستثني عدداً قليلاً من الطلاب من السفر. كان هو واحداً من هذه القلة. قضى الليل كله ونصف النهار متنقلاً من شعبة سياسية إلى شعبة أمنية، ليبرئ ذمته، ويلتحق بالسفينة المبحرة من ميناء اللاذقية على عجل. وهناك في مصر لم يسمح له أن يلقي قصيدة من ذلك الديوان الوحدوي.

- هل ترضى لنفسك أن نقودك إلى قاعة الامتحان ويداك مقيدتان بالحديد؟

(تخيل نفسه بين زملائه الطلاب يترنح بقيوده...)

- لم أفعل شيئاً استحق ذلك.

- من الذي علق البيان باسم (الشباب المسلم) على جدران الجامعة؟

- لا أعرف.

- خذه إلى القسم الشيوعي حتى يعترف!!

الدرج عميق يدور ملتفاً مثل أفعى الكوبرا الإفريقية. لحسن الحظ معي مجلد كامل من "ظلال القرآن".

تذكر المعارك السياسية التي خاضها في عهد الانفصال: تذكر المقالات التي رد فيها على أستاذه الجامعي: "أشياء لا بد منها" كما تذكر قصائده الهجائية للخصوم السياسيين الذين عطلوا المجلس النيابي، حتى استعاد المجلس شرعيته وعافيته.

- قل لي: أنت مدرس لغة عربية أم تربية إسلامية؟

- متى انفصلت العروبة عن الإسلام؟

- أنا الذي أسألك؟

- وأنا كذلك أسألك؟

قال الجندي مؤيداً سيده المحقق:

- أجب سيدي ولا تسأل!

قال سيده:

- في هذه المنطقة لا أسمح لك أن تعمل بالسياسة.

- أنا مدرس أحبب المواطنين بمادتي. هنا لا يحبون اللغة العربية إلا من خلال الإسلام.

- أنا أحذرك!!

ثلاث مرات في عام دراسي واحد استدعي فيها للتحقيق معه.

اتصل بوالده هاتفياً من حلب إلى جسر الشغور يدعوه لحضور مهرجان الشعر العام الذي سيلقي فيه قصيدة.

- لا أستطيع الحضور يا ولدي. الله يرضى عليك أوصيك ألا تتعرض للحكومة.

تذكر كلام أبيه وهو يستقبل الزائرين بعد الإفراج عنه من الاعتقال الذي كان بسبب فتنة إبراهيم خلاص 968:

- مثل أبيه. أنا في العهد الفرنسي اعتقلوني في المية ومية.

(إذن لماذا توصيني يا والدي مثل هذه التوصيات؟!) كل الذين زاروني بعد الإفراج آنذاك عزوني وهنأوني. كلهم سرني بحضوره وبحديثه إلا محمد خير. يؤسفني أن يكون صديقاً سابقاً. لقد جاءني ليتبرأ أمامي من ماضيه، ويزعم أنه شجعني على هذا التبرؤ، قال لي: -ما الجدوى؟ فارس والده ماسوني! فارس عضو قيادي فما نظافة هذه القيادة؟!

كانت كذبة وافتراء وهزيمة لا غير. كان يريد استرضاء السلطة وأن يعين مدرساً جامعياً، وكان له ذلك.

ها قد سرحوك الآن يا محمد خير ولم يصدقوك؟!

أنصت حسان لأحد إخوانه الذين أطلق سراحهم بعد سجن وتعذيب شديدين عام 1970:

- لقد سألوا عنك بإلحاح. لم يعرفوا اسمك. فاحذر.

أنصت لأخ آخر أفرج عنه عام 1972:

- لقد ذكر اسمك بالذات. سألوا عن موقعك التنظيمي. فاحذر.

- 1973 سألوا عنك.

- 1974 سألوا عنك.

- 1979 سألوا عنك. داهموا بيتك. احتلوه.

تقلب حسان مطبقاً بكلتا يديه على رأسه يريد إغلاق أبواب الذاكرة بقوة. تمدد أخيراً على ظهره. تطلع في السقف. يده اليمنى على صدره. يده اليسرى ممددة إلى جواره. تذكر اختطاف صاحب مجلة الحوادث سليم اللوزي. برزت صورة جثته ويده اليمنى محروقة بالأسيد. اقشعرت يد حسان فارتجفت وانقبضت. لم يجرؤ حسان أن ينظر إليها.

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... كيف الهرب من السياسة، وأنا غارق فيها حتى إذني؟! ليكن. إذا كان الأمر كذلك فلماذا تضيق نفسي بالسجن؟! أنا بالتأكيد لست سياسياً ولا مسلماً حقيقياً، فلماذا أكلف نفسي ما لا تطيق؟! هذه مراءاة معيبة وأمر محرم. إذا كان السياسي يطمح بالمنصب أو بالمجد، فأنا ليس لي أدنى طموح ولا طمع بمثل هذه الترهات. أنا واثق بزهدي، فلماذا التعب والنصب؟! هناك سؤال أشد صراحة: هل كان بإمكاني أن أقف مكتوف اليدين؟! ما أظن! أنا لست شجاعاً، ولكن يبدو أنني لست جباناً أيضاً! وللدقة: أشعر بخوف من الله تعالى إن توانيت. هذا كل ما في الأمر. هل أنا متأكد من هذه الدعوى أيضاً؟! أظنني متأكداً. ليكن. ماذا يكون أكثر مما أنا فيه؟! أليست هذه الخواطر جديرة بأن أسجلها في رواية أكتبها بعد الإفراج إن شاء الله. هذه سخرية أيضاً. هل هناك إفراج؟!

أطل الحارس الضخم من كوة الباب. أغلقها. شرع يغلق بقية الكوى. توقف عند الزنزانة المجاورة رقم /14/ فتحها نادى ساكنها:

- تعال معي. قم. مطلوب للتحقيق.

فكر حسان:

- أي حلقة من سلسلتنا تتعرض هذه الليلة للكسر؟

           

* أديب سوري يعيش في المنفى