خطوات في الليل(10)

خطوات في الليل(10)

محمد الحسناوي*

الليلة التاسعة والثلاثون

مساء يوم الأحد 13 تموز 1980 الموافق لـ 2 رمضان 1400 هـ

الزنزانة رقم 10:

هذا هو اليوم الثاني من أيام شهر رمضان. حسان جالس أمام مائدة الإفطار وحيداً، لكن ذاكرته مزدحمة بالذكريات والخواطر. إنه مسرور، لأنه علم بموعد الصيام وبمواقيت السحور والإفطار. وهو مهموم لأنه يقضي العمر في السجن. في مثل هذه المناسبة يجتمع شمل الأسرة الصغيرة، بل يجتمع شمل الأسرة الأكبر: الجد والجدة والآباء والأمهات والأبناء والحفدة (الحمد لله على كل حال. ونعوذ بالله من حال أهل النار). إنه مسرور لأنه قضى الليلة الماضية قائماً يصلي، وهو ينوي أن يقوم ليالي رمضان كله، وهذه أول مرة في حياته يحقق فيها مثل هذه الأمنية، وهو متألم لحال أهله وإخوانه وشعبه... في رمضان الماضي كانت الأحداث الدامية قد بدأت تغزو بيوت سورية وشوارعها ومساجدها، أما رمضان السنوات الماضية فكان احتفالاً شعبياً مائجاً بالمباهج والأفراح: الزينات تظلل الشوارع. السجاد يتدلى على الجدران. الأغصان الخضر تعرش على أقواس الخشب والطنف. القناديل الكهربائية تتألق في الساحات والمنعطفات. آلات التسجيل تدور ليل نهار، ومكبرات الصوت تصدح بالقرآن الكريم وبالأناشيد الدينية العذبة. اللوحات القماشية تتدلى وهي مطرزة بالهتافات والشعارات. مثل هذه الحفاوة بالمناسبات الدينية كانت تظهر أيام الاستعمار الفرنسي. غابت في سنوات الاستقلال شيئاً فشيئاً، لكنها عادت بزخم أشد وبإرادة أصلب في السنوات القليلة الأخيرة.

"يا هذه الدنيا أطلي واشهدي إنّا بغير محمد لا نقتدي"

كان يحلو لحسان في ليالي رمضان أن يجول في شوارع المدينة الساهرة يقرأ العواطف والمشاعر على الوجوه المشرقة بالابتسام، والألسنة والأفواه اللاهجة بالترحاب والإنشاد، والهدايا التي توزع في كل مكان. إنه الفرح الطوعي الواعي. وإن شئت قلت: الفرح الهجومي الذي يفرح الشعب ويغيظ أعداءه.

إن رمضان يذكر حساناً بطفولته المبكرة أيام كان يجتمع الأطفال أمام باب الجامع الكبير ذكوراً وإناثاً وعيونهم معلقة ببندقية المؤذن، وهم يهتفون:

مـدّا. مـدّا راحْ يتغدّى

قوَّسْ. قوَّسْ راحْ يتجوّزْ

حتى إذا انطلقت الحشوة النارية تدوي صاح الأطفال: (هيه)، وانطلقوا فرحين إلى موائد الإفطار، كأنها موائد الجنان.

ورمضان يذكر حسان ببيت أبيه الواسع المؤلف من عدة غرف، ملتفة في الطابق الأول حول فناء واسع، مبلط بالحجارة البيضاء، وفي طرفيه حديقتان عامراتان بأنواع الأزهار وبشجرة برتقال، وأخرى مشمش هندي، وثالثة نخلة، بالإضافة إلى عدد من أشجار الكرمة: تظلل إحداهما معظم سماء الفناء، وتظلل الثانية سطح صف من غرف الطابق الأول، حيث تطل عليها غرفتان في الطابق الثاني، وسلسلة من جرار الزهر وصناديقه، كالفل والياسمين والمنثور وزهر العسل وعدد من خلايا النحل.

كانت مدينة جسر الشغور لا تنام في رمضان إلا في ساعات متأخرة، فهناك صلاة التراويح بعد الإفطار وصلاة العشاء، وهناك سوق الحلويات التي تملأ جانبي السوق العام. حيث تبسط صواني الحلويات، وتشرع مناضد المثلجات، وتصف الكراسي، وتعلو أصوات الباعة مختلطة بأصوات الأطفال وآلات التسجيل. الضحكات في كل جانب. الأضواء تبهر الأنظار. الحياة ضاجة نشطة في الليل أكثر منها في النهار. رمضان شهر ابتهاج لكل الناس: الأغنياء والفقراء على حد سواء. أليس هو شهر البركة، الشهر الذي يسبق العيد؟! أليس هو الشهر الذي تفتح فيه أبواب الجنة، وتوصد أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين بقيود الحديد؟! إنه حالة خاصة في نفس حسان أكبر من الذكرى والناس والأشياء.

في مثل هذه الأجواء والذكريات كان حسان ينقل أسرته الصغيرة من حلب إلى جسر الشغور، ملبياً دعوة والده كاسباً رضاه، لكن لماذا يكتسب رمضان هذا العام في نفس حسان كل هذا الزخم من الحنين والسمو والحنان؟!

الدارة –حي الخزان:

أسرة حسان الصغيرة حول مائدة الإفطار: الزوجة سعاد والأبناء مجاهد وميساء وحذيفة. ينتظرون الأذان. بغير قصد ثمة مكان خال. إنه مكان الأب.

الأسرة مشغولة بغياب الأب: إنه الرمضان الثاني الذي تقضيه هذه الأسرة في الغربة. آخر رمضان قضته الأسرة في سورية كانت في زيارة بيت الجد والد حسان في مدينة جسر الشغور. الأطفال يتذكرون تلك الجلسات للإفطار مع جدهم ومزاحه معهم. تعمدت الأم أن تكون ألوان الطعام في هذا الإفطار مثل ألوان الطعام في بيت الجد: كبة نية. حساء العدس. فتوش الخضروات مع الخبز. السمك. الفواكه الصيفية. عنب وتين. لم تكن مشاكلة المائدة مدعاة للسلوى. كانت مدعاة للإثارة والتذكر. كانت الأسرة صامتة ويتأمل بعضها بعضاً. لا يجدون كلاماً مناسباً. كل منهم يخشى نبش الجراح. كل منهم يظن غيره ساهياً أو ناسياً.

- أبي يحب الكبة النية. (قال حذيفة).

- اسكت. (قالت أخته ميساء).

- لا تكسري خاطره. (قالت الأم وأردفت):

- حبيبي حذيفة ألا تحبها أنت؟

- كل ما يحبه أبي أحبه أنا.

- حتى الكبة النية؟!

- نعم حتى الكبة النية.

التقم لقمة من الكبة النية (صاح الجميع):

- لم يضرب المدفع!!

- أي مدفع؟ (قال حذيفة).

- دعوه إنه صغير. (قالت الأم).

أثاث البيت متواضع: بساط بلاستيكي. فرش إسفنجية. وسائد إسفنجية. ملاعق وصحون بعدد أفراد الأسرة. أوان من الألمنيوم. لكن النظافة والترتيب تنمان عن ذوق رفيع واهتمام. لعل الأسرة كانت تتوقع حضور الأب في تلك اللحظات. المذياع الصغير يرتل آيات القرآن...

جسر الشغور –حي الجامع:

الجد والد حسان وزوجته الثالثة أمام مائدة الإفطار صامتين. الرجل في الستين من عمره نحيل الجسم، متوسط الطول. شايب الشعر، في لباسه الصيفي الأبيض. قميص أبيض طويل. سروال أبيض يضيق عند رسغي القدمين. قبعة بيضاء من قماش. يأكل ببطء شديد. يأكل لقمة ويتوقف دقائق ثم يستأنف. زوجته الأولى والثانية قد توفيتا بعد أن أنجبتا له عدداً من الأولاد. عاش منهم ثلاثة ذكور وابنتان. الابن الأكبر حسان غادر البلاد مهاجراً. لحقت به أسرته. الابن الثاني لحق بأخيه مهاجراً أيضاً والتحقت به زوجته, الابن الثالث معتقل رهينة بدلاً من أخويه. زوجة الثالث مع طفليها سلمى ومحمد في زيارة لأهلها. ابنته الكبرى صبيحة بعد زواجها وإنجابها سبعة ذكور وثلاث بنات توفاها الله تعالى. كانت جارة، فانقطعت جيرتها. ابنته الثانية هاجر زوجها إلى لبنان فلحقت به مع أولادها. هذه الدار الواسعة كانت عامرة بالسكان والأولاد والضيوف، فأصبحت خلاء. حتى الأستاذ نبيه الصديق الودود لابنه الأكبر حسان... غاب. كان من عادته أن يملأ فراغ حسان. كان يتفقد هذا الرجل المسن يسليه ويعزيه. لكنه غاب. أين غاب؟! في سجن تدمر. وما أدراك ما سجن تدمر؟!

"لقد وسوس لي الشيطان بأن أولادي على قيد الحياة، وبأن أولاد الناس قد استشهدوا أو أصبحوا في عداد المفقودين. ما الفرق بين حسان والأستاذ نبيه؟ أنت مثل أولادي وأعز يا أبا مصعب. أبوك المسن ينوح عليك نوح النساء. كل أهل المدينة يبكون عليك يا أستاذنا المحبوب"

لا كلام. الدموع تجري غزيرة من عيون الجد وأنفه بغزارة.

- صل على النبي يا حاج! نحن بخير والحمد لله!

- اللهم صلي وسلم وبارك عليه. خليني في همي. إن تكلمت كلمة واحدة تركت الطعام وحبست نفسي في غرفتي.

لم يكن رمضان هذا العام في الجسر ككل رمضان في الأعوام السابقة. لقد شهدت هذه المدينة مجزرة رهيبة ومعركة طاحنة أتت على عدد كبير من الدكاكين والبيوت والأنفس. هناك شهداء وسجناء ومشردون ومتضررون. ليس هناك من هو أقل حزناً من أبي حسان. كلهم أبو حسان أو أبو نبيه.

الأستاذ نبيه يعرفه والد حسان صديقاً حميماً لابنه الأكبر منذ ما قبل دراستهما الجامعية في كلية الآداب. إنهما متقاربان في السن.

طوال أيام الدراسة الجامعية كان حسان مداوماً على الجامعة في دمشق، وكان نبيه بمثابة ظله لدى أهل حسان ينقل أخباره ويحل مشكلاته، وينوب عنه في كثير من أموره الشخصية والاجتماعية حتى أصبح بمثابة ابن من أبناء أسرة حسان. يسهر مع والد حسان في جسر الشغور، ويتوارى عن ملاحقة السلطة عام 967 في بيت أخت حسان، وينزل ضيفاً أيام الامتحانات في بيت حسان في دمشق. لما تخرجا من الجامعة وانتقل حسان إلى حلب كان الأستاذ يزور حلب في عطلة كل أسبوع ليجتمع بأخيه حسان.

إن الأستاذ نبيه رئيس جمعية البر والخدمات الاجتماعية في جسر الشغور، ووالد حسان عضو في هذه الجمعية التي آوت العجزة والمقعدين، وكفلت الأرامل واليتامى والمتسولين، وتغلغلت في شرايين المجتمع وخلاياه الدقيقة حتى أصبحت مرجعاً في حل المشكلات المالية والاجتماعية لمدينة الجسر وبعض قراها، ومصدراً من مصادر الإشعاع الحضاري. العيد في هذه المدينة عيد حقيقي ولكل الناس، وشهر رمضان شهر نابض بالمعاني السامية وبالعواطف والعلاقات الاجتماعية الخيرة، فضلاً عن الحركة الثقافية التي انطلقت من المساجد وحلقات العلم الموازية لحلقات المساجد والمتفرعة عنها، والأستاذ محور هذه الأنشطة، وروح هذه الحياة الجديدة.

المجتمع النسائي يعرف الأستاذ نبيه، فإذا كانت الزوجة الثالثة لوالد حسان تعرفه زوجاً لامرأة صالحة ووالداً لثلاثة ذكور وبنت واحدة، ذاع صيته في عمارة بيته على البر والتقوى والعلم. فإن المثقفات من نساء المدينة وأريافها يعرفنه كاتباً اجتماعياً، وهب قضية المرأة جزءاً من نور عينيه ومداد قلبه فيما كتبه من قصص قصيرة ومقالات جادة عن المرأة العاملة والموظفة والعشيقة والعانس والمجاهدة والضحية. قد يكتب الكاتب استجابة لشهوة الشهرة أو الجنس أو المال، وقد يكتب تعويضاً عن نقص أو تذرعاً لغرض دنيوي. أما هذا الرجل المثقف المتواضع المكتمل الخلق والخلقة فليس كذلك. صحيح أنه من منبت اجتماعي فقير لم يكنز المال، لكنه اكتفى براتب عمله في التدريس. وصحيح أنه جميل الصورة. وجه صبوح، أبيض. معتدل القامة. عريض المنكبين. أسود الشعر. عيناه تتوقدان ذكاءً وجمالاً تحت حاجبين أملحين.

ابتسامته ودودة غير مبتذلة تأتي في الوقت المناسب ولمن يستحقها، وتترك مكانها لتقطيبة الوجه أو الجبين في وقت مناسب ومحسوب أيضاً. زد على ذلك الفطانة وحضور البديهة، واللسان الفصيح، والصوت الجهوري الذي أسعفه في مئات الخطب والمحاضرات والندوات والدروس الجامعة. صحيح أنه يتمتع بكل هذه المزايا، لكن ذلك لم يزده إلا نبلاً وشهامة. هل من الضروري أن يتحول الجميل إلى زان، والمثقف إلى ملحد، والخطيب إلى دجال أو انتهازي. إن المرء الذي يهبه الله تعالى هذه المواهب لأجدر الناس بشكرها وبحس توجيهها. لمثل هذه الأسباب وغيرها كان حب حسان العظيم للأستاذ نبيه. في ليلة اليوم الخامس من حزيران عام 967 بعد الساعة الواحدة من منتصف الليل، وحين داهمت عناصر المخابرات بيت حسان في حلب لاعتقاله لم يخطر في باله شيء إلا أن يبلغ أخاه نبيهاً عساه ينجو من الاعتقال:

- يا امرأة عمي. بلغي أهلي في الجسر بأنني اعتقلت.

في مساء اليوم التالي بلغت أخت حسان الأستاذ باعتقال أخيها، ففهم البرقية وتوارى عن الأنظار حتى انتهت حرب حزيران وأفرج عن المعتقلين، ونجا الأستاذ من الاعتقال. لكن لم ينج عام 979 وفي شهر نيسان حين اختطفته الأيدي السود من أسرته الصغيرة المسالمة ومن والده المسن الذي لا يكاد يستطيع القيام أو السير منفرداً، ومن أهل الجسر المتعلقين به، ومن والد حسان الذي يراه بديلاً لحسان.

الزنزانة رقم 45:

عبد الحكيم السيد الآن في الزنزانة رقم /45/. إنها إحدى الزنزانات الداخلية. تلك الزنزانات المصطفة على شكل دكاكين، ليس لها باب أو جدار أمامي، بل شبكة من قضبان حديدية غليظة ترتفع من الأرض حتى السقف بحيث تغطي واجهة الزنزانة أو الزنزانات كلها، ولكل منها باب شبكي حديدي خاص بها وأقفال ومفاتيح ومزاليج وتعليمات حديدية صارمة، أما النوم فعلى أسرة معلقة من أحد جوانبها بالجدار. إن نشرها نهاراً وطيها وقت النوم ليلاً لا يخفي قساوتها وخشونتها. أما النور فليس إلا نور الكهرباء الشحيح.

إن عبد الحكيم منذ أسبوعين في هذه الزنزانات. ومثل ذلك بقية إخوانه ما عدا حسان.

على الرغم من بناء الزنزانات الداخلية صفوفاً متعارضة. فقد استطاع عبد الحكيم أن يرى إخوانه الآخرين الموزعين على عدد من الزنازين، لكن رؤيتهم شيء ومخاطبتهم ولو بالإشارات الصماء شيء آخر.

لم يكن عبد الحكيم وحيداً في هذه الزنزانة الضيقة الواقفة على قدم واحدة وإلى الأبد. كان يقاسمه ظلامها وضيقها ورائحتها النتنة ثلاثة شبان حليقي الرؤوس، حديثي السن. ومع ذلك كان يستشعر الوحشة والغربة. عبد الحكيم لا يهتم بكثرة الناس ولا بقلتهم، ولا بالخروج أو الدخول أو الجدران والقيود بقدر ما يهمه الإنسان الذي يستطيع أن يتحاور ويتفاهم معه. بوسعك أن تقول بغير مبالغة إنه الآن وحيد. نعم وحيد برغم وجود ثلاثة رجال وست عيون وثلاثة أفواه وست آذان وثلاثة أدمغة واثني عشر طرفاً. إنهم مثل بقية الرجال الذين تزدحم بهم هذه الزنزانات، ولا يستطيع مخاطبتهم.

المعطى الجديد في سجن عبد الحكيم أنه سمح له بتعاطي التدخين، لكن كيف يمارس هوايته المفضلة في شهر رمضان المبارك؟ فلينتظر مدفع الإفطار إذن. ولتنتظر معه كل الملكات في إجازة حتى ينطلق المدفع.

الناظر إلى عبد الحكيم –وهو مضطجع أو منبطح على بطانيته –يحسبه تمثالاً حجرياً. جسد ساكن. نظر ثابت محدق في البعيد. لا كلام. الدخان أحياناً ينبعث من غمامات من الفم والأنف أو الاثنين معاً. أما عقله فهو دائم الحركة، لا يكاد يكف عن تأمل أو نظم شعر. لو أتيح له قلم وورق لكتب مذكراته. إنه الآن يقول صامتاً:

التدخين ممنوع إلا لمن يسمح له المحقق، وعلى هذا يستحيل على المدخن السجين أن ينال سيجارة واحدة دون إذن المحقق. بخلاف سجون سورية التي يستطيع السجين فيها أن يشتري ما يشاء من الدخان خفية، على أن يشتري قبل ذلك ذمة السجان، وهي في العادة، رخيصة جداً.

السجانون عموماً لديهم نوعان من الإيمان. إيمان بالواجب الذي يؤدونه بصفتهم موظفين في دولة يحرصون على أمنها. وإيمان خاص فردي يتعلق بالجانب الروحي لكل منهم .والأصل أن النوع الأول هو الذي يسيرهم ويطفو على ساحة الشعور والسلوك لكل منهم... وفي لحظات معينة، يبرز النوع الثاني بأشكال مختلفة ومظاهر متنوعة.. كأن يرى أحدهم سجيناً داخل زنزانته في حالة تأمل أو تفكر أو حزن أو مرض... ففي مثل هذه الأحوال يظهر لدى السجان إحساس بالشفقة، وبالخوف المبهم من الله.... فإن اصطرع نوعا الإحساس في نفس أحدهم –وقلما يحصل ذلك- فالغلبة للأول دون جدال.. وإزاء مثل هذا التباين الضعيف والمؤقت بين الأحاسيس، تختلف مواقف السجانين، فمنهم من يعبر عن إشفاقه على السجين ويحاول مساعدته –إن كان بحاجة إلى مساعدة- أو يسعى إلى تطييب خاطره ببعض الكلمات اللينة كالدعاء له بالفرج ونحو ذلك... ومنهم من يغطي ذلك بنوع من المرح واللامبالاة المفتعلة، كيلا يظهر الضعيف أو المنتقد لنظام السجن أمام السجين.

والسجانون عامة انضباطيون، وكثير من انضباطهم ناجم عن الخوف من العقوبة.. أما الشراسة والدماثة، فلكل منهم نصيب منهما قل أو كثر، وثمة بعض الملامح البارزة لكل منهم، فالحارس الأسود: عنيف شرس، إلا أنه أقل فظاظة من ذي الشوارب، وربما كان لسواد لونه أثر في التخفيف من شراسته، إذ يمنحه هذا نوعاً من الإحساس بضرورة التواضع، إن لم تشل مشاعره –ولا سيما نزعة حب الظهور الفطرية- عقدة الإحساس بالدونية... وربما كان ثمة أسباب أخرى.. وفي كل حال، إن شعوره بأنه سجان، وبأنه قادر على توجيه الأوامر والتعليمات إلى السجناء، أعطاه نوعاً من الإحساس بالثقة بالنفس، إلا أنه لم يمنحه –فيما يبدو- حظاً مكافئاً لحظ صاحبه ذي الشوارب في مجال الغرور المفرط.

إنني أعاني من مناوبته أيام التنظيف. ولكن حصلت لي حادثة معه. كنت مضطجعاً في زنزانتي وصوته يزمجر في الممر، يمر على كل زنزانة فيقرع بابها، ويطلب من ساكنها أن يستعد للتنظيف، فاستعذت بالله، ودعوت ربي بضراعة أن يقطع عني لسانه، وألححت في الدعاء.... وما هي إلا دقائق قليلة حتى وقف بباب زنزانتي، ونظر إلي بإشفاق وعطف، ثم ناداني بصوت رقيق حان –وهو يحسبني نائماً- (حجي..حجي.. جهز نفسك يا أخي للتنظيف، ورتب أغراض غرفتك..) طبعاً ظل يناديني (حجي.. حجي..) حتى استيقظت، ثم قال لي ما قال: بصوته المشفق الحاني... حمدت الله على ذلك.. وحين جاء دوري في فتح الزنزانة وتنظيفها عاملني بلطف، وساعدني في التنظيف والتجفيف... إن رحمة الله واسعة....

المشكلة الوحيدة كانت مشكلة قطع الدخان، فقد بقيت خمسة وثلاثين يوماً بلا دخان.. وكانت شهيتي للطعام تزداد يوماً بعد يوم خلال هذه الفترة، كما أحسست أن صحتي تتحسن باستمرار، إلا أنني كنت أعاني من قلق وتوتر... وقد أدركت خلال هذه الفترة، ما معنى أن يكون المرء مدخناً، كما أدركت ما معنى أن يكون المرء غير مدخن، وهذان الأمران لا يدركهما –فيما أحسب- إلا من كان مدخناً وقطع الدخان، أو انقطع عنه الدخان... ثم حلت المشكلة، بأن سمح لي المحقق بالتدخين بعد أن أخبره أحد السجانين بأني أحس بالضيق لترك الدخان، وكان ذلك صبيحة يوم الجمعة، وهو يوم عطلة، فانتظرت حتى صبيحة السبت... وبدأت العلب تتوارد...

مص عبد الحكيم عقب لفافته بقوة. أطلق عموداً رمادياً داكناً في الهواء ثم قال بصوت غير مسموع:

هل من الضعف أن يتذكر الإنسان أمه وأباه. أين هما؟ ماذا يفعلان؟ بم يفكران؟! هل يقلقان على ابنهما الأعزب أكثر من الابن المتزوج؟ هل تفكيري بمشكلة الدخان والسجن والسجانين بديل للتفكير بالأبوين العجوزين؟ وهل التفكير بالأبوين بديل للتفكير بالشعب بالأمة كلها؟! إنه السجن. إنها الجدران.

حلب –حي سليمان الحلبي:

دار شعبية من دور واحد. مؤلفة من غرفتين حقيقيتين، إحداهما ذات نافذة مطلة على فناء الدار غير الواسع. الثانية ليست لها أي نافذة. يضاف إلى ذلك غرفة (منشولة) على حد التعبير الحلبي: أي مقتطعة من فناء الدار، وكان حقها أن تظل فسحة مكشوفة، أو رواقاً صغيراً يصل المطبخ ببقية أقسام الدار، ولعل هذه الغرفة ذات الواجهة الزجاجية قد اقتطعت بغير إذن رسمي من سلطة البلدية أيضاً. ليس في الدار أشجار ولا أزهار ولا أطيار. بابها الخارجي يطل مباشرة على الشارع العام المزدحم، الذي لا تتوقف السيارات عن عبوره إلا بعد منتصف الليل. إنها لا تتوقف في الحقيقة، لكن مرورها يقل.

رجل مسن قد ناهز السبعين وزوجته بجواره، تبدو أكبر منه سناً، وإن كانت تصغره بخمس عشرة سنة. كلاهما يرتدي ألبسة الريف الشرقي، لباس البادية السورية. ألوان الثياب داكنة. الليل بدأ يهيمن على المدينة بعد إعلان الإفطار. حركة السيارات في الخارج هدأت بشكل واضح. أحياناً تسمع أصوات بوق مستعجل. السماء صافية. نجومها تومض من بعيد بهدوء كثيف معبأ بالغموض والتوجس. التيار الكهربائي في الدار مقطوع منذ أيام، الأمسية –في الظاهر- أشبه ما تكون بأمسيات البادية التي تروق لسكان هذه الدار الذين هم مستأجرون وليسوا بمالكين.

الأب يفكر بابنه عبد الحكيم الذي هاجر مع من هاجر تاركاً طلابه ومدرسته وابنة عمه التي ترفض الخطاب الذين تقدموا لها. مص الأب طرف (القمجة) المتدلي من نرجيلته. قرقر بطن النرجيلة، توهج رأسها الأرجواني. استضاء الفناء قليلاً. ماذا يهم عبد الحكيم أن يهاجر ويغترب؟ أليس رجلاً؟ ألم يعتقل منذ أربع سنوات، وخرج بعد ذلك مرفوع الرأس؟ إن الغربة خير من السجن على كل حال.

الأم قليلة الكلام خصوصاً إذا كان زوجها صامتاً. بودها أن تسأله إن كان قد جاءه خبر عبد الحكيم، عساها تطمئن. بودها أن تبدي قلقها على عبد الحفيظ الابن الأصغر، ابن العشرين الذي خرج قبيل الإفطار بدقائق ولم يعد حتى الآن، كل الناس عادوا إلى بيوتهم في الوقت الذي خرج فيه عبد الحفيظ. فماذا يعمل في مثل هذا الوقت، وقت الإفطار؟ أمر يحيرها، كما تحيرها الأحداث التي تلاحقت في الأشهر الأخيرة. مظاهرات صاخبة. إطلاق نار على المتظاهرين. معارك بين المواطنين ورجال الحكومة. سقوط قتلى من الطرفين. توزيع أوراق بالسر، وأحياناً بشكل علني. ابنها عبد الحكيم هاجر فجأة. ابنها سلمان المتزوج لم يعد يزورهم في حلب بسبب الإضرابات، وتعطل حركة المواصلات. عبد الحفيظ دائب الحركة داخل البيت وخارجه. يأتي معه ضيوف أصغر منه وأكبر منه. ينامون ساعات ثم يرحلون. يتكتم عليها في كل أمر. أين أنت يا عبد الحفيظ؟ ليس الذنب ذنبك. إنه ذنب هذا الأب الذي يطمع أولاده بالشجاعة والنخوة! هيه، هكذا الرجال. الله يحفظكم يا أولادي إنكم ترفعون رأسي، لكن بالي مشغول عليكم.

في الخارج دوى صوت انفجار ضخم، أعقبه صوت اشتباك بطلقات نارية متقطعة. بدأت تتصل الأصوات وتزداد كثافة وعنفاً. الصوت الكثيف توارى، تاركاً محله للأصوات الحادة الحبلى بالموحيات والمفاجآت.

في هذه الأثناء علت ضجة قريبة جداً. صوت توقف عدد من السيارات. ترجل منها أناس بخطوات سريعة وأقدام ثقيلة. شرعوا يطرقون بعض الأبواب. إنهم الآن قد دخلوا البيت المجاور. أصواتهم تتناهى من فوق الجدار الفاصل بين الدارين. إنهم يفتشون عن الرجال. يحصون عدد الحاضرين والغائبين. إنهم قادمون إلى بيتنا. سيسألون: أين محمد؟ إنه متزوج مقيم في حمص. أين عبد الحكيم؟ إنه مسافر منذ شهور. أين عبد الحفيظ؟ لا ندري. كيف لا تدرون؟ أليس ابنكم؟ كم عمره؟ ماذا يشتغل؟ أعطونا صورته. لا بد أنه يوزع الآن منشورات ضدنا. أو ينقل السلاح أو يطلق النار. أين هو؟ ألا تجيبون؟! سوف ترون ماذا نفعل بكم؟

في هذه اللحظات دخل عبد الحفيظ يجفف عرق جبينه بأعلى كمه، ويمسح الوحل عن حذائه وبنطاله وهو يبتسم. إنه سبق التفتيش. لكن هل خفيت عليهم عودته متسللاً، أو هل يمكن أن يجف كل عرقه قبل أن يحضر المفتشون؟!

الزنزانة رقم 33:

- صديقي العزيز. لماذا أنت صامت لا تتكلم؟

في هذه الزنزانة رجلان. أحدهما إبراهيم ماضي. والثاني رجل في الأربعين من عمره. متوسط الطول. شعره يميل إلى اللون البني. عيناه هادئتان عسليتان. وجهه أليف. نظراته شاردة. هندامه لا تنقصه الأناقة. دخل السجن حديثاً بالخطأ. هو يعلم ذلك. والمحققون يعلمون ذلك. كلهم يتوقعون الإفراج العاجل عنه. على الرغم من ذلك كان مهموماً كأنه محكوم بالإعدام. اعترف لإبراهيم بأنه موظف. يبدو أنه ندم على هذا الاعتراف. اعترف أيضاً بأنه متزوج.

- صديقي العزيز. إذا كانت لك ابنة وحيدة طفلة، عمرها ثلاث سنوات، عيناها مثل عيون الغزلان. حاجبان سوداوان. جديلتاها طويلتان تتأرجحان مع النسيم. ابتسامتها دائمة. ضحكاتها مثل زقزقة البلابل. تقفز إلى أحضانك بين ساعة وأخرى، كأنك كنت في سفر غائباً عنها، تلثغ بالكلام، تقبلك أينما اتفق. في وجهك في رأسك. تعض يديك. تضحك. تنشغل عنها فتبكي، وإذا التفت إليها ضحكت بسرعة مذهلة. إذا كان لديك مثل هذه الخوخة، ثم حرمت منها ثلاثة وأربعين يوماً فماذا تفعل؟! عفواً نسيت أنه ليس لك أطفال.

طيب إذا كنت موظفاً وكان لك زملاء طيبون في وظيفتك ويحيونك في الصباح. كيف حالك؟ كيف حال نجاح؟ برنامجك الإذاعي مساء البارحة كان ناجحاً. أنت تحسن الربط بين قضايا بلدنا وقضايا جارتنا الكبرى تركيا. هل أنت تركي؟ لا أنا سوري لكنني أجيد اللغة التركية. أنا وأسرتي نقيم على الحدود التركية. يسألونني عن والدي ووالدتي.

يسألونني عن ربطة عنقي. أنا قليل النقود. لكنني أعتني بهندامي على قد بساطي. إذا كان مدير دائرتك راضياً عنك. إذا كان زملاؤك لا يحسدونك، لأنك متواضع متعاون نزيه غير مرتبط بالأجهزة السرية التي تحصي على الناس أقوالهم، وترصد أفكارهم ومواقفهم، وتسكت على المرتشين وعصابات السلب المنظم... باختصار إذا كنت ناجحاً محبوباً في عملك، ثم تغيبت شهوراً مظلوماً، فكيف يكون شعورك؟ كيف يكون شعور زملائك في العمل؟ عفواً نسيت أنك موظف.

طيب إذا كنت متزوجاً، زوجتك شابة وجميلة في العشرين من عمرها. تحبك، وتغامر من أجلك. تترك بلدها ووطنها، وتلحق بك في الغربة وحيدة. تقعد معك تقاسمك لقمة العيش الشحيحة. تقاسمك همومك وغربتك. تعيش معك قضيتك قضية شعبك المظلوم وعقيدتك المضطهدة، إنها الآن وحيدة. غريبة. إنها فوق ذلك أديبة. كاتبة قصصية. كانت تساعدني في الترجمة إلى اللغة العربية. خبرني كيف شعورك بعد فراقها؟ كيف شعورها هي؟ عفواً نسيت أنك قد طلقت زوجتك.

طيب إذا كان لك أصدقاء أعانوك في نفقات الدراسة الثانوية وفي المعهد المتوسط. وخطبوا لك مثل هذه الزوجة الصالحة. إذا وضعوا في صدرك مصباح الهدى، وفي عقلك ميزان الاستقامة. إذا سقوك ماء العزة بالله، وكحلوا عينيك بكحل الاستشهاد في سبيل الله. إذا رعوك في الغربة كما رعوك أيام الرخاء. إذا بلغك أنهم كلهم أو معظمهم ربطت أيديهم وأرجلهم بسلاسل الحديد وألقي بهم في سجن تدمر، فكيف يكون شعورك؟ أو ماذا تصنع وأنت في السجن؟! عفواً يبدو أنك لا تحب السياسة. أقسم لك، أنها ليست سياسة. إنها استقامة. إنها تعاون على الخير والبر والتقوى. لكن إذا خرج قطار عن سكته وصدمك فماذا تفعل؟ أظنك توافقني على ضرورة إعادته إلى سكته، ومحاسبة السائق الذي يقوده، أو إصلاح العطب الذي أدى إلى هذه النتيجة. قل لي إذا تكرر خروج القطار عن سكته، وقتل أناساً كثيرين من المارة ومن ركابه. فماذا تعمل؟! بصراحة ماذا تعمل؟ هل هذه أيضاً سياسة؟! ألا تتكلم؟!

في هذه اللحظة فتح السجان باب الزنزانة –الدكان. دخل الحارس وأخرج أوعية الطعام المخصص لسجينين. تأرجح المصباح الكهربي المتدلي بعد دخول الحارس وخروجه. اهتزت أخيلة سوداء على الجدار الأيمن والأرضية اليمنى. استأنف إبراهيم حديثه:

طيب أحكي لك حكاية. لا تبتسم من تحت حاجبيك وشاربيك. إنها قصة حقيقية في بلدنا. دخل مجموعة من عناصر سرايا الدفاع. لا تعرف ما هي سرايا الدفاع؟ إنها نوع من الجيش غير النظامي. جيش ولا جيش. تستغرب؟ إنها جيش لغير أغراض الدفاع عن الوطن. رواتبه أعلى من رواتب أفراد الجيش النظامي. فهمت أليس كذلك؟ هذا لا يهم. أقول: دخلت مجموعة مسلحة إلى دار في بلدنا. في الدار أب مسن وأم عجوز وسبعة أبناء شباب وشابات. طلب المسلحون من الأبناء والبنات أن يتناوبوا في ضرب الأب والأم بالكرباج واحداً بعد واحد بالدور. ومن يتخلف منهم أو يتردد يهجم عليه أفراد المجموعة المسلحة ويصبون عليه ألوان العذاب بالضرب والسباب والركل. الأب والأم يرجوان الابن أو البنت أن ينفذا الأوامر. ألح المسلحون على الابن الأصغر بضرب والديه بشدة، فنفذ ما أرادوا وهو يرتجف ويبكي. حينذاك احتج رئيس المجموعة قائلاً: إن هذا الابن عاق قليل الأدب والدين. إنه يضرب والديه بشدة وأمام ناس غرباء. أليس ذلك صحيحاً؟ ماذا جزاؤه؟ إن جزاءه القتل. أطلقوا عليه النار. سقط الشاب الفتى يتضرج بدمائه أمام والديه. سقط الوالدان مغشيا عليهما. هل دمعت عيناك من التأثر؟! أنا آسف. أنا ما أردت إزعاجك. كان هدفي تسليتك. لكن هذه بضاعتي. تصور لو أنني كبرت وكبرت ابنتي نجاح، وطلبوا منها أن تضربني بقسوة، ثم أطلقوا عليها الرصاص أمامي، فماذا أصنع؟ هذا فظيع أليس كذلك؟ الأفظع أن يدوم هذا الوضع حتى أكبر وتكبر نجاح. لا. لا. لن يكون. ولن يحملني الغضب على مناطحة هذا الجدار وتحطيم رأسي.

الدارة – حي المغرب:

بعد أن انتهت زوجة إبراهيم ماضي من تناول طعام الإفطار جلست تلاعب طفلتها نجاح. قدمت إليها كعكة وصورة قائلة لها:

هذه صورة أبيك وهذه كعكة لك. أيهما تفضلين؟ تناولت الطفلة الصورة بيد والكعكة بيد. وضعت الصورة على فمها. قبلتها وضعتها جانباً. ثم شرعت تقضم الكعكة، وهي تتطلع إلى قطرات صافية تتدحرج من عيني أمها. لم يتأرجح المصباح الكهربائي الوحيد المتدلي من السقف. لم يكن على الجدران لوحة ولا مرآة. كل ما على البساط البلاستيكي قلم وأوراق. كتب على الورقة الأولى:

زوجي الحبيب.

تدمر – معبد بعل الروماني الأثري:

"تحت سمع وبصر (بعل الكبير) نهضت زنوبيا اليوم من مرقدها، لتضم بحنان وشوق صانع المعجزات الحضارية، ضيوفها الذين قدموا من أنحاء مختلفة من العالم، ومن أنحاء القطر، ليشهدوا مهرجانها الدولي للفن والرقص، الذي تنظمه وزارة السياحة السورية، برعاية وزير الثقافة، فعلى مدى ثلاث أمسيات أسبوعية سوف تنساب الألحان الشرقية، العربية والشعبية السورية والكلاسيكية العالمية... ساحرة حالمة، ومثيرة."

تابع الشاعر علي سليمان معاون وزير الثقافة كلامه، متحدثاً فيه عن دور تدمر، وإسهاماتها العمرانية والثقافية في تاريخ الإنسان وعن طموحات المهرجان الدولي للموسيقى إلى أن قال:

"الحقيقة أن السائح الذي يأتي من أي مكان في العالم، إلى القطر السوري بل إلى الوطن العربي والشرق الأوسط... لا بد أن يتساءل: أين تدمر وزنوبيا في برنامجي؟ أين تلك القصيدة الجميلة التي أبدعها التاريخ على صفحة الصحراء؟ أين تقع على الخريطة موضوع اللوحات السجاجيد التي يشاهدها السائح في أهم كاتدرائيات اسبانيا.. وأين يقع الموضوع الأهم في الآثار المتناثرة في متاحف أوروبا؟ إن الإجابة ليست عصية بعد على التساؤل: (لماذا يقام مهرجان للموسيقى في تدمر؟)... فالإجابة هي أن تدمر قبلة الأنظار السياح والمثقفين والباحثين عن شيئين في عالمنا المعاصر الذي لا يكاد يعرف الراحة.

" والآن.. إلى فعاليات المهرجان.. فرقة شباب وشابات المعهد العربي للموسيقى بدمشق تقدم لكم نخبة من الكلاسيكيات العربية: موسيقى وغناء، مجموعة من البشارف والسماعيات واللونغو والتراثيات الشعبية.."

علا تصفيق الجمهور المحتشد تحت الأضواء الساطعة في باحة المعبد الروماني وتحت خيمة السماء الساجية في ظلام البادية السورية. اختلجت طيور الحمام والقمري الهاجعة في زوايا الأعمدة العالية وبقية السقوف المتهدمة. بعد قليل صدحت الموسيقى العربية الصاخبة. أجفلت الطيور في أعشاشها المعلقة. طارت فوق رؤوس الجمهور. ظنوا ذلك جزءاً من فعاليات المهرجان الموسيقي الراقص. انطلقت الأكف الناعمة المترفة تصفق من جديد، لم تستسغ الطيور الفطرية هذا الضجيج الغامض. وجدت نفسها مضطرة إلى الاستقرار في الزوايا المظلمة من الأسوار الخارجية لسجن تدمر العسكري.

سجن تدمر العسكري – غرفة مدير السجن:

قاعة متوسطة الاتساع. مفروشة بأثاث فاخر. منضدة عريضة من خشب الزان، وراءها كرسي متحرك دوار، ومجموعة كراسي ومقاعد مفروشة بلون أزرق لماع. مناضد زجاجية صقيلة واطئة. سجاد عجمي. ثريات متدلية كأشجار الكرمة. مكيف هواء (ناشيونال). ثلاث خزانات معدنية مطلية باللون الأزرق، على واجهاتها نقوش أزهار مشرقة الألوان زاهية. في كل جدار صورة لمدير السجن فيصل رامح. الصورة التي تقع خلف منضدته وكرسيه وسط الجدار الذي يواجهك حين تدخل الغرفة.. بالقياس الكبير، ملونة، بكامل شخصه. الصور الأخرى: بعضها وهو يصافح رئيس الجمهورية، وبعضها وهو يشرف على سرية التأديب وعلى صفوف السجناء.. بأنف شامخ ووجه معربد. متوسط الطول. ممتلئ الجسم. حليق الشاربين. على المنضدة أكثر من جهاز هاتف. أحدها يتصل مباشرة بمكتب رئيس الجمهورية.

الوقت منتصف الليل. أصداء المهرجان الموسيقي العالمي تتناهى بوضوح إلى المسامع. مدير السجن الرائد فيصل قد خرج منذ قليل في سيارته المرسيدس الفارهة. بقي في الغرفة معاونه الجديد النقيب مسعود خضر. طويل القامة، حنطي اللون، نحيل الجسم في الخامسة والثلاثين من العمر. ما زال جالساً على المقعد المواجه لمنضدة المدير، متخذاً هيئة الاستعداد، كأن المدير ما زال موجوداً يحدثه.

- يا مسعود أنت هنا ضابط جديد. أنت في غيابي الكل في الكل.

تذكر النقيب مسعود كيف كان مديره يتكلم وهو في قمة السكر، يأكل ويشرب ويترنح قائماً وقاعداً وماشياً. لم يدعه إلى الطعام أو الشراب. وحسناً ما فعل. إن النقيب في حالة صداع وإقياء مما يرى ويسمع ويشم.

- الآن تجري عمليات غسل وتنظيف وترميم لبعض الجدران في الباحات والغرف استعداداً لاستئناف العمل بوصول الأفواج الجديدة غداً أو بعد غد. حدق النقيب مسعود بعينين حمراوين في صورة المدير المواجهة. فحدق به المدير أيضاً. نزل المدير من صورة الجدار وجلس على كرسيه، وأخذ يدور في كرسيه:

- المدخل الرئيسي للسجن يقع في أول جدار السجن من ناحية الشرق، وقد جعلناه، ضيقاً لا يصلح إلا لدخول الأفراد المشاة. هناك باب آخر للسجن يقع في الجهة المقابلة وسط الجدار الغربي، وهو واسع يسمح بدخول السيارات حين اللزوم، وبعد فحص الأوراق للسيارات وللعناصر المرافقة ولعدد من السجناء القادمين أو الزوار من الرسميين: أؤكد الرسميين فقط. أنت فاهم يا مسعود!

فجأة اهتزت الصورة الكبيرة المعلقة. سقطت واندفع من ورائها زوجا حمام ضربا جدران القاعة المضاءة بأنوار باهرة، ثم خرجا من الباب المفتوح. كان المدير قد قفز مجفلاً. أخذ يشتم ويسب هذه الحيوانات البرية التي تستغل الكوى المخصصة للتهوية. ثم أعاد تعليق الصورة، وهو شديد الغضب: وجه أصفر شاحب. عينان زائغتان. أصابع ترتجف. لعاب سائل. بعض الأكواب والفواكه تدحرجت على أرض الغرفة.

- يتألف السجن يا مسعود من واحد وأربعين مهجعاً وسبع باحات. بالقرب من مدخل الباحة السابعة توجد غرف كنا نسميها (المستوصف)، أما الآن فسوف نخصصها للنساء.

وضع النقيب يده على جبينه يتحسس ماء يتفصد. خاف من مديره. غافله، وأخرج منديلاً ورقياً. مسح الحبات الباردة.

- سوف نخصص المهجعين (31و 32) للمعتقلين الأحداث. صغار السن. أنت فاهم علي؟ طبعا! يمكن أن يتسع المهجع الواحد لأكثر من مئة وخمسين واحداً. كلهم مجرمون، كما تعلم.

أصوات الموسيقى تعكر سكون الليل الرائق. أجنحة الحمام المجفلة تضرب أطراف الأبواب والنوافذ المضاءة بحثاً عن ملجأ.

- يا نقيب اسمعني جيداً. أنت صاح طبعاً يا ابن الكلب. في آخر صف المهاجع الكائنة على الجدار الشمالي الغربي. هناك هنـ.. ا..ك.. بقرب الزاوية الغربية... تفوه.. تقع غرفة (الورشة) نعم (الورشة) سوف نخصصها لجمع السجناء. تسمع. السجناء الذين سوف ننفذ فيهم حكم الإعدام. طبعاً. ايش شغلنا هنا؟ الإعدام.

أحمر كل شيء في الغرفة. بدأ الدم ينقط من الصور. من الخزانات. صارت ترددات الموسيقى أشبه بموجات نحيب حاد.

- هناك... في الفسحة التي تقع أمام الجدار (الجنوبي الغربي) ما أدري (الغربي الجنوبي) التي تصل بين الباحتين الخامسة والسادسة. لعنة الله على المهاجع والباحات.. هناك سوف ننصب خشبات المشانق. اسمع. انتبه. احذر. إن المعتقلين في المهجع المجاور رقم "31" وبقية المهاجع المطلة على الباحة السادسة يمكن أن يتلصصوا خلسة ليروا عمليات الإعدام، أو يمكن أن يسمعوا صوت الاستعدادات ومقاومة المحكومين وصراخ العناصر القائمة على التنفيذ. يجب أن نمنع التلصص. أن نكتم الأصوات. كل مخالف إعدام! فاهم؟ إعدام. نعم. الإعدام لا يتوقف على السجناء فقط. الإعدام للشرطة العسكرية للضباط لصف الضباط. فاهم؟ نفذ.

كاد مسعود خضر ينهض ويهجم على مديره ليصفعه أو يركله أو يفعل أي شيء آخر يزيح عنه الكوابيس التي أثارها في نفسه. الكوابيس التي يخشى أن تذهب بعقله كما ذهبت بزميله السابق إلى مستشفى الأمراض العقلية.

(سجن للأحداث؟ سجن للنساء؟ يمكن أن تكون أمه أو أخته) وإذا لم تكن إحداهما فهو مهدد بخطر الناس الأبرياء في الخارج الذين لا يرضون عن اعتقال النساء البريئات أيضاً. (هكذا الوضع: قاتل أو مقتول. وفي الحالين: مقتول. لعنة الله عليك يا رائد فيصل وعلى كل من يعاونك ويصدر إليك هذه الأوامر.)

نهض من مجلسه. فك رباط عنقه وأزرار قميصه العسكري. خرج من الغرفة الطافحة بالأضواء. وقف في الباحة القريبة. تطلع إلى السماء الصافية المخيمة بعتمة بلورية تجمع الظلام إلى الزرقة في انسجام مهيب. سره أن يجد نجوماً تومض من بعيد. شرع يوجه إليها رسائل قلبه النابض بعنف.

سجن تدمر العسكري – الباحة رقم 6:

ثلاثة رجال أقوياء: مدنيان وعسكري ما زالوا يعملون في غسل الجدران وتنظيفها وترميمها منذ الصباح الباكر. العسكري مشمراً عن ساعديه وساقيه يرش الماء بالدلو وبالأنبوب المطاطي على بقع الدم الحمر المتيبسة. المدني الأول يمشي وراءه يمسح البقع الحمر بالفرشاة أو يكشطها بالسكين وبالقدوم. المدني الثاني يدهن وراءهما بالكلس، ويسد الحفر والثغرات التي أحدثتها طلقات الرصاص.. بالإسمنت الأبيض والرمل. الباحة السادسة تترجرج على صفحتها برك مائية ملونة بالأحمر والأبيض والأسود. مع ذلك لم تستنكف النجوم عن أن تغتسل في هذه البرك، وتنافس أضواء الكهرباء الساطعة المندفعة من أعلى الجدران والزوايا. باحة واسعة وسماء واسعة وليل طويل.

جلس المدني الأول الأسمر على الأرض. أسند ظهره إلى الجدار. ألقى أدوات العمل إلى جانبه، توجه إلى نحو الشمال الغربي، وهتف مغنياً:

يـا بنت الحرامْ ردّي يكفاك تقولي: بدّي

رجال طفرانْ ما عندي غير اللقمة بالكفكيرْ

أعاد غناءه وهو يصفق عساه يجتذب زميله المدني الأشقر. ترك المدني الأول عمله. اقترب من المدني الثاني وقال له هامساً:

- نصحتك أكثر من مرة لا تردد الألحان الحزينة.

- أنا أغني لنفسي. أنا أخاطب زوجتي.

- هذا رأيك، ولكن الآذان لها حيطان.

يضحكان:

- طيب ماذا أغني يا مصطفى؟

- غن هكذا.

جمـلو، جملو يا جمولْ يا قصيرة بدك طولْ

بتسوي حلب واسطنبولْ وبتسوي جبل لبنانِ

- أولاً ليش هي قصيرة؟ أليس هذا انتقاد؟ ليش بتذكر (حلب) و (اسطنبول) في كلامك؟ أليست هذه شيفرة؟

يضحكان ضحكات طويلة. يلوح لهما العسكري من بعيد.

- لا تهتم به. إنه أطرش أخرس.

- لكنه عسكري!

- ولو...

- بتدخل السجن.

- ولو...

- بيفرموك.

- ولو.

- بيدفنوك قبل أن تموت هناك في الرمال...

- ولو...

- نمسح دمك المتجمد على الجدران بالسكين والفرشاة والماء والصابون.

- طظ...ظ. ظ.

يضحكان. يحمل المدني الثاني دلوه بسرعة ويقلبه على رأس صاحبه المدني الأول ويهرب. يخرج الأول الدلو من رأسه وقد تلطخ شعره ورأسه، وكتفاه بماء الكلس الأبيض. ركض وراء صاحبه، ورماه بالدلو من بعيد فلم يصبه. أخذا يتراكضان. العسكري يلوح لهما محتجاً وهما يضحكان. أخيراً جلسا. قال الثاني:

- يا مصطفى. أنا ما زلت أرى الكوابيس الرهيبة كلما نمت منذ أن وقعت الحادثة وأنا خارج السجن، فيكف وقد استأجروني ودخلت السجن وصرت أرى الآثار على الأراضي والجدران.؟!

- هل أنت ارتكبت جريمة؟

- لا.

- هل كنت تستطيع منعها؟

- لا.

- فماذا تريد؟

- انظر. إنهم فوق ذلك يرقصون ويغنون. والعالم معهم يرقص ويغني.

- الله كريم. الله كريم.

- انظر حتى القمر يرفض أن يظهر.

- لكن النجوم موجودة. ألا تراها؟

- ما نفع النجوم بلا قمر؟

- للنجوم دورها وضياؤها. وللقمر دوره وضياؤه. والقمر موجود وإن كنا لا نراه. ولا بد أن يظهر مرة ثانية.

ابتهج المدني الثاني. انطلق يغني:

لـيا ولـيا. يـالـيه يا ورد جوري في الميه

قومي العبي بصابيعك بمـال الـدنيا ما بيعك

وإن طعتني لأطيـعك وحطــك فـي عينيه

المدني الأول –ماذا تقصد بالورد الجوري والعبي بأصابعك؟

المدني الثاني –أقصد قتلك. يا دمي يا دمك!

يضحكان ويتعانقان ويتدحرجان في برك الماء الأسود والأبيض والأحمر.

الليلة السادسة والستون

ليلة عيد الفطر

مساء يوم السبت 10 آب 1980م

الموافق لـ 29 رمضان 1400هـ

عند منتصف الليل تناهى إلى مسامع السجناء أصوات مدافع العيد. كانوا يتوقعون الإعلان عن حلول موعد العيد وعن طريق طلقات المدافع... لكنما سماعهم الطلقات أكسب الشعور يقيناً، وأكسب اليقين مشاعر أخرى.

لم يكن السجن في يوم ما مقبولاً لدى النفس البشرية، لكن بعض الشر أهون من بعض. السجن في رمضان أخف وطأة من السجن في الأيام العادية، والسجن خارج سورية أخف من السجن داخلها، والسجن المدني فيها خير من السجون السياسية والعسكرية، وكل سجون سورية أخف من سجن تدمر العسكري الصحراوي.

تلك كانت تأملات حسان وعبد الوهاب وجميل وعبد الحكيم وإبراهيم. ما إن سمعوا مدفع العيد حتى سكنهم شعور جديد، وانقلبت تأملاتهم إلى انفجار شلالات من الذكرى وانكسارها على جدران السجن الصخرية.

لم تمض أيام رمضان الأخير بلا ذكريات وتداعيات. لكن صيام النهار وقيام الليل بالصلاة وتلاوة القرآن حتى الصباح، وانطلاق الأرواح والنفوس في أجواء قدسية، كل ذلك ألان جدران السجن، وفتح أبواباً واسعة على حدائق وجنات تغري بالسياحة، وتؤنس المستوحش.

الآن رمضان انتهى... والعيد بدأ.

أقل ما في العيد خروج من الذات إلى الآخرين.

الأقارب يتزاورون. الأب يستقبل الأبناء. الأبناء يقبلون يد الأم والجد. الجيران يتبادلون التهاني. المسافرون يرجعون. الأطفال يسرحون بالأثواب الجديدة والألعاب ونقود العيدية. الأراجيح. الولائم. كل هذا وأكثر في أيام العيد. لكن أي عيد؟! وهل للسجناء عيد؟! وهل لسورية عيد؟!

رفع حسان ذراعه. خبط بقبضته على الجدار الأيمن. في تلك اللحظة خبطت عشرات الأيدي على الجدران أو القضبان أو الأبواب. لم يأمرهم بالخبط ولم يكونوا ينتظرون إشارته. كانوا في تلك اللحظة منخرطين في أزمة واحدة. تفصد العرق من تحت أصابع حسان الخمس على الجدار بغزارة. سال وهو يكتب خمسة أحرف: (العيد)، سال ماء العيون والأنف والفم على الخدود حتى أعلى الصدر وكتب كلمة: (العيد). رمضان يلوح قائلاً: وداعاً جاء العيد. طلقات المدفع تقول جاء العيد. عيد. عيد. عيد. أين هو العيد؟! المدينة الغافية استيقظت كلها وهي تردد: العيد... العيد.. الأضواء. أصوات السيارات. الضجيج البعيد المبهم. الخياط يقص ويخيط. الجزار يذبح ويسلخ. النساء تطبخ. حسان، وهو طفل، يحتضن الحذاء الجديد والجوارب وينام على حلم العيد. الحاطبون خرجوا إلى الأحراش يجمعون أغصان الآس ليصفوها على أبواب الجامع الكبير.

الناس كلهم ينتظرون العيد، حتى السجناء وحسان كانوا في انتظار العيد. ها قد جاء العيد فماذا يريد حسان من العيد؟! هو في السجن زوجته وأولاده مقطوعون في الغربة، إخوانه على أعواد المشانق، أو تحت الأحجار، أو في أعماق السجون، سورية كلها في سجن كبير (عيد بأية حال عدت يا عيد)؟ لم يكن يتصور نفسه بأن سوف يبكي يوماً ما، ولو قطع جسده قطعة، قطعة. نهض يتمايل. الجدران تتمايل. الأرض مبللة. الأثواب مبللة. الطوفان يطبق على الزنزانة. لمن السجن؟ لمن؟ قضيت حياتي كلها في حب الخير وعمل الخير ثم أجازى بالسجن؟! يا رب أنت وحدك العادل الرحيم، وبيدك الحكم والقضاء، وأنت أعلم مني بحالي، أهكذا جزاءي؟! ما كان أغناني عما أنا فيه؟ كان بوسعي أن أتابع حياتي الوادعة الناعمة. كان بوسعي أن أوفر لنفسي المتعة واللذائذ المباحة والمشروعة، كان بوسعي أن لا أدخل السجن فلماذا أفعل بنفسي ما لا يفعله الجاهل؟!

انشق الجدار انبثق نور مهيب. تشكل رجل نوراني أبيض قال بصوت أليف:

- أنت اخترت هذا الطريق بملء إرادتك، لم يكن بوسعك غير ذلك، ولو خرجت من السجن لعاودت مسيرتك نفسها، ولو لم تفعل ما فعلت لما وجدت معنى ولا طعماً للعيد ولا لرمضان ولا للحياة. أليس كذلك؟

- من أنت؟

- أنا العيد؟!

- إذا كان هذا ذنبي فما ذنب أهلي.

- بقدر ما يصيبهم حظ من العناء ينالون حظاً أكبر من الوعي والأجر.

- وما ذنب شعبي؟

- أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا أن نصر الله قريب.

لم تكن هذه المعاني جديدة على حسان، ومع ذلك أحس كأنها تتنزل عليه لأول مرة. حديقة أخرى من حدائق الصبر والأمل انبسطت أمامه، هبت منها نفحات تخللت كل خلية من خلاياه، بدأت خلاياه تمتص موجات النور الشفيف منبعثاً من الزائر، الرجل النوراني. قال الرجل:

- ألا تدعوني إلى الجلوس؟

- عفواً. تفضل.

افترش الأرض فتألقت. لمس الجدار فاخضر.

النهار السادس والستون

صباح العيد

يوم الأحد 11 آب 1980م

1 شوال 1400هـ

في الوقت المألوف لتقديم طعام الفطور. سمعت أبواب الزنزانات تفتح وتغلق بوتيرة بطيئة غير مألوفة. إنه العيد. ما السر الذي يأتي به العيد؟

أخيراً فتحت الزنزانة رقم /10/. أطل رجل مدني في الأربعين، خطا خطوة أو أكثر ماداً يده بالمصافحة، قائلاً لحسان:

- كل عام وأنتم بخير.

(ما هذه الهبة السماوية. رجل يعايدني في السجن؟)

- أهلاً وسهلاً. كل عام وأنتم بخير.

كان الرجل الزائر يرتدي قميصاً صيفياً أبيض. وبنطالاً بنياً ضارباً إلى الصفرة. ما يلفت النظر محياه الجميل. ابتسامة لطيفة حقيقية. وجه ودود، كأنه معروف منذ سنوات الطفولة. خدود مخضبة بحمرة رقيقة. أنف صغير. عينان سوداوان وادعتان مثل عيون الحمام. شعر كستنائي غير كثيف، يتموج بتجعدات قليلة. يخيل لمن لا يعرفه أنه رجل سوري وليس نائب مدير السجن.

- كيف الحال. أستاذ؟ (ابتسم خال أنيق على قمة خده الأيمن)

- بخير والحمد لله.

- تفضل. ضيافة العيد. (أشار إلى شيء وراءه). تقدم حارس شاب يحمل صينية كنافة نابلسية. حارس آخر يحمل الصحون والملاعق. تناول حسان حصته من الكنافة. انصرف الزوار بهدوء. المعاني التي دخلت بدخول هؤلاء الزوار لم تنصرف. أخذت تتوالد.

النهار الخامس والسبعون

يوم الاثنين 19 آب 1980

كان الحارس ذو الشوارب يدب في الممر على رؤوس أصابعه. استطاع أن يفاجئ حسان وهو يمارس تدريبات رياضية. حركات سويدية. قفز خفيف على مشط القدمين. أطل الحارس من الكوة.

- ماذا تصنع؟

- لا شيء. حركات رياضية.

- الخير لك أن تغسل الممر من أن تنط وتقفز في غرفتك.

استدار حسان. جلس على فراشه يمضغ مرارة. هل يمنع من الرياضة، وقد أخذ عسر الهضم يضغط على معدته وأمعائه؟ لم تفلح العلاجات المتوفرة. لا شرب الماء على الريق ولا الإكثار من الفليفلة الحارة. ثم أخيراً يأتي الاقتراح بتجشم عناء الغسل للممر بالماء والصابون، وحمل الدلاء الملأى بالماء والتجديف بالمجرفة المطاطية وغير ذلك مما ترك للشباب من السجناء. (هل يفعلها أبو الشوارب؟) دعا حسان ربه تعالى أن يخلصه من اقتراح أبي الشوارب الذي ليس بينه وبين التنفيذ أي مسافة: (تعال أنت. يعني: تعال. تجرد من ثيابك. يعني: تجرد من ثيابك. لا اعتراض ولا تردد ولا التباس).

(ما الذي جرى لك يا صديقي العزيز؟)

في منتصف الليلة الماضية كان لأبي الشوارب موقف مخالف لموقفه هذا اليوم.

حينما هجع السجناء وبدأ شخيرهم يتسلل من كوى الأبواب، ويغطي على سكون الليل الطامي.. أحس حسان بخطوات متمهلة تعبر الممر. تقف حيناً ثم تمضي. أخيراً وقف شاب في الثلاثين أمام زنزانة حسان، أطل من الكوة: وجه أسمر حليق. أسود الشعر. عيناه ثاقبتا التحديق. لباسه مدني. قال:

- كيف حالك؟

- بخير.

- هل يلزمك شيء؟

- نعم.

- ماذا يلزمك؟

- علبة مناديل ورقية، (فاين).

- تلزمك لماذا؟

- للزكام، للنظافة.

تغير الوجه الأسمر. كشر عن أسنان صفر. عصفت زلازل وبراكين في تجعدات الجبين وحول الشاربين. وقال:

- تظن نفسك في بيت أمك حتى تطلب هذه الطلبات؟

فوجئ حسان بهذا الجواب. قدر أن الضابط المناوب قد تعمد استدراجه بالسؤال عن حاجته حتى يوبخه بهذا الشكل. (ماذا جنيت حتى يعاقبني؟ هل لهذه الواقعة علاقة بسلبية التحقيق؟...)

بعد أن انصرف الضابط المناوب أطل الحارس من النافذة، قال برقة واضحة.

- ماذا طلبت من الضابط؟

- مناديل ورقية.

- ألا تعلم أنه إنسان متعجرف. في الصباح اطلب ما تشاء من الإدارة. ولا تتعب نفسك معه.

إن تجربة السجن تدفع حسان إلى الظن السيء بكل معاملة يلقاها من الجهات الرسمية سواء أكانت حسنة أم بشعة. ومع ذلك وجد نفسه يستمتع بتعاطف أبي الشوارب معه حين صده الضابط المناوب. أيا كان سبب هذا التعاطف، أهو الطبع المتعجرف الذي يجلد الضابط به كل الناس من سجناء ومن مرؤوسين، أم هو الإحباط الذي عصف بحسان فوقع في نفس الحارس.

تلك الليلة قضاها حسان على إحساسين متناقضين. إحساس بمرارة الإحباط، وإحساس بحلاوة التعاطف. ظل إحساس الحلاوة يتضاعف ويأتي على الإحساس الآخر حتى فاجأه أبو الشوارب بالاقتراح الجديد، غسل الممر بالماء والصابون.

مما زاد في مرارة حسان أن جاءه الحارس بعد قليل بقطعة الورق المقوى التي رسم عليها حسان أداة تساعده في علاج الإمساك قال الحارس باقتضاب:

- خذ. لم نفهم عليك أي دواء تريد.

لم يطلب حسان دواء. إنما طلب حقنة مطاطية تمتص الماء، وترسله في الأمعاء الغليظة حيث تنفك عقد الطعام المضرب عن الخروج.

أطل من كوة الباب وجه مدير السجن. ضابط طويل القامة. عريض المنكبين. أشقر الشعر. عسلي العينين. قليل الكلام. لا يتخلى عن لباس الشرطة الرسمي. قال لحسان:

- هيّء نفسك.

(أهيء نفسي لأي شيء؟) هذا ما سأل حسان نفسه عنه، لأن الضابط لم ينتظر ليسمع سؤال حسان، أو لأنه لا يسمح له بالسؤال، ولو كان الأمر غير ذلك لكلف نفسه بتوضيح المراد.

لم يفعل حسان شيئاً غير التردد والارتباك والتجول في شوارع الظنون والاحتمالات.

(إن هذا الضابط لم يدعني من قبل إلى التحقيق أو الحمام. دعاني مرة للاستعداد وكان ذلك يوم طلبت لمقابلة الرئيس الأعلى للإدارة بعد أسبوعين من الاعتقال. وزارني مرة ليعيرني المجلد الثاني من كتاب "فقه السيرة" معلناً أنه من مكتبته الخاصة. فماذا يريد مني اليوم؟)

لهجة الضابط كانت محايدة جداً، لا توحي بخير ولا بشر، أو هكذا خيل لحسان.

أخيراً نودي على حسان، فخرج بقبعة بيضاء مخرمة على رأسه، وبشحاطة بلاستيكية في رجليه، ولم يبدل (جلابيته) الزرقاء السماوية. رافقه جندي مسلح بكامل عدته العسكرية. حين جلس حسان على المقعد الخشبي في سيارة (الجيب) العسكرية جلس الحارس على يساره بجوار البوابة الخلفية للسيارة. بوابة مفتوحة، ترى منها الشوارع والأبنية والمارون. كما ترى البندقية الروسية التي ركزها الحارس واقفة بشكل عمودي بين قدميه وركبتيه. انضم إلى السيارة ركاب مدنيون آخرون ليسوا بسجناء. تبادلوا النظر والهمس حول حسان. انطلقت السيارة تقطع شوارع العاصمة الرئيسة والفرعية.

كان حسان نهباً للتوقعات. أهو نقل إلى سجن جديد، أم إفراج، أم زيارة للأهل، أم مفاجأة غير متوقعة؟!

أحس حسان بضوء الشمس الغامر إحساساًِ خاصاً، إحساس من يغمس في لجة ماء، وهو لا يجيد السباحة، أو إحساس من ينقل فجأة من أعماق بئر عميقة مظلمة إلى كبد السماء المشحونة بأشعة الشمس المكثفة: انبهار بالضياء. تفتح الأنف والرئتين للهواء الطبيعي. مشاهد جديدة متتابعة متنوعة للناس والأمكنة والأشياء. نوع من الحلم البهيج وليس بحلم. إنه معاناة أشياء محسوسة جداً يؤكد بعضُها وجود بعضها الآخر باستمرار. لولا وجود الحارس المسلح المستيقظ لكان الأمر مشكوكاً فيه. فطبيعة السجن موجودة، والحياة الحقيقية موجودة. أمر مستغرب. لكنه واقع حقيقي. وهو بالنسبة إلى السجين مقبول ومعقول ومطلوب أيضاً. إن الموشك على الموت خنقاً يسعده هبة نفس واحدة.

في هذه الأثناء كانت زوجة حسان قد وصلت إلى العاصمة هي وأولادها الثلاثة: مجاهد وميساء وحذيفة. نزلوا من سيارة (الدارة) وركبوا إحدى الحافلات العامة.

لو أتيح لأحد يركب في طائرة سمتية محلقة في سماء العاصمة، وينظر إلى الأرض لاسترعى انتباهه حركة سيارة (الجيب) العسكرية التي تقل حسان، وحركة الحافلة المدنية التي تقل زوجته وأولاده. كانت السيارتان تتحركان باتجاهين متقابلين، كأن كل واحدة منهما تسعى لمقابلة الثانية، أو كأن كلاً منهما تتجه إلى هدف واحد.

جلست الأسرة الصغيرة على مقعدين متجاورين. الأم وابنها حذيفة على مقعد. مجاهد وأخته ميساء على مقعد. كان مجاهد لا يفتأ يداعب أخويه بالمزاح لتسليتهما وليخفف عن والدته همومها. كانت الأم تشاركهم فتبتسم بين الحين والآخر، وهي تداري هماً عظيماً. إنها مشغولة البال بعسر الهضم الذي ينتاب زوجها بين شهر وآخر، كما تفكر بانشغال باله عليها وهي المريضة بالسكر، ذلك المرض الذي يتضاعف مع تضاعف الهموم والأحزان. إنه لا يريدها أن تحزن مهما أصابه من مكروه، كما يريدها ألا تترك الأولاد يحزنون. أيهم يحبه أكثر هي أم الأولاد؟ إن غريزة البنوة، حب الأولاد للأباء حقيقية عميقة فطرية في جبلة المخلوقات، ولعلها أقوى من حب الأزواج. هي تحس أن حبها لزوجها أعمق وأضخم من حب الأبناء للأباء. في ليلة زفافها قالت أمها له: أنت زوج ابنتي وأبوها. تعني أن أباها متوفى. وقد وجدت فيه الزوج والأب والأم والأخ وأكثر. إن حبها لحسان لا يعدله حب امرأة خلقت من قبل، أو يمكن أن تخلق من بعد. لماذا؟ إن هناك أسباباً كثيرة سبق لها أن أتعبت نفسها في تعدادها، ووجدتها في النهاية أقل مما تحس به. أهي الثقة؟ أم تشابه الأفكار والمشاعر؟ أم تقارب الأمزجة والعادات والطباع؟ أم التواضع؟ أم طول العشرة؟ إنها لم تعرفه من قبل فترة الخطوبة القصيرة. ولم تختره أو يخترها من قبيل العشق والغرام، ومع ذلك تجد أن ما بينه وبينها أضخم وأعظم من قصص العشق والغرام. كانت نفسها منصرفة عن الزواج قبله، ولما تزوجا لم تعد تتصور نفسها بدونه. إنها قضت معه حتى الآن ثماني عشرة سنة خصبة بأيامها ولياليها. ما الذي يجعلها تلحق به إلى ديار الغربة، وتصبر؟ ذلك يرضيه فهو يرضيها. لم يكن يكتم عنها شيئاً. إذا كتب قصة أو قصيدة كانت هي أول من يسمعها منه. حتى تحرش النساء الغريبات به كان يرويه لها، فتضحك معه ولا تشعر بأدنى غيرة. إنها تعلم مدى حبه لها ومكانتها في نفسه، وهل هناك أكثر من أن تفكر بأن تخطب له، وهو يرفض بشدة. قد يعجب الناس من هذا الحب، لكن ما تحس هي به أعجب وأغرب. ولم تحدثهم إلا عن النذر اليسير منه. قال لها مرة: في صغري نزلت من مدينتي جسر الشغور إلى مدينة حلب، وتجولت فيها مع ابن خالي. كنا فتيين لا يجاوز عمرنا الثانية عشرة، فضعنا آخر المطاف، ولما سألنا عن المكان الذي وصلنا إليه.. قيل لنا حارة (عينين). لم أكن أعلم أنك كنت تسكنين مع أهلك في تلك الحارة. فما السر في ذلك؟ قالت له: ماذا لو تعرفت علي في ذلك الوقت وأنا صغيرة السن، قال لها: أنت ما زلت عندي صغيرة السن، وسوف تظلين كذلك. ضحكت آنذاك وصدقته لأنه لا يكذب. لقد جربت معه المزاح فكان يصدق المزاح على أنه جد محض. لا يكذب ولا يتصور الآخرين يكذبون، هل يستحق مثل هذا الإنسان السجن؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

تذكرت سعاد الخلاف المزمن الذي يثيره زوج أختها بسبب الميراث. ذلك الصهر الذي استدرج الأخوات الثلاث والأخ الذكر والأم إلى دهاليز المحاكم ومراجعات المحامين وتهديدات الشرطة بحجة الحصول على حصة زوجته من ميراث أبيها. لقد اتهم بني حميه زوراً وبهتاناً بالظلم، وهو يريد من وراء ذلك الضغط والابتزاز، وعلى الرغم من إخفاقه لم يكف عن التهديد والوعيد وتجديد الشكاوى، فلما أصبح حسان أحد الأصهار الثلاثة سار على النقيض. أرسل الصهر المعاند أحد الوسطاء يغري حسان بنهب الميراث، فزجره قائلاً: نحن متنازلون عن حصتنا في الميراث.

قال الوسيط: هذا حقكم؟

- نحن متنازلون عن حقنا.

- لا يجوز لكم التنازل.

انتفض حسان الموادع المسامح قائلاً:

- حتى عن حقنا لا يجوز لنا التنازل! أي رجل أنت؟ لو كنت أعرفك من قبل لما استقبلتك في بيتي!!

هكذا كان حسان: زوج يقنع زوجته بالتخلي عن ميراثها لأهلها، زهداً بالمال، وتأليفاً للقلوب، وتأديباً للصهر المعاند الطماع. ومع ذلك يكون مصيره النفي والتشريد والاعتقال. لا حول ولا قوة إلا بالله.

لكن أليس اعتقاله في هذا البلد خيراً من اعتقاله في سورية؟ إن زملاءه وإخوانه يعانون الأهوال، لا خبر ولا مخبر. لو كان معتقلاً هناك لكان في سجن تدمر. ولو كان في سجن تدمر –يا لطيف- لما بقي له أثر. من يصدق أنني أحس بوجوده كأنه معي. أحس برائحته، كما أحس يعقوب برائحة ابنه يوسف عليهما السلام.

توقفت الحافلة التي تقل الأسرة الصغيرة أمام مبنى ضخم. كما توقفت سيارة (الجيب) العسكرية التي تقل حسان وحارسه أما مبنى آخر خلف المبنى الضخم. كل من المبنيين يدير ظهره للآخر، الأول مستشفى مدني يطل على الشرق، الثاني مستشفى عسكري يطل على الغرب. في وقت واحد كان جناحا الأسرة يصعدان سلالم الدرج. وهما لا يعلمان، ويمران أمام الغرف المتناظرة بتواز وتواقت عجيب. فلو انفتح أحد الجدران التي تحجب بينهم لتم اللقاء. أخيراً فحص حسان، وكتبت له وصفة طبية: شراب أبيض كالحليب، يؤخذ جرعات يومياً. على حين أجري فحص تحليلي لزوجته، تستلم نتيجته في اليوم التالي.

لم يضيع حسان فرصته لتفحص الناس وتأمل وجوههم عساه يلقى أحداً من أقاربه أو معارفه، كأنه يحس بأن أحداً ما يخصه غير بعيد عنه. تخيل نفسه يلقى زوجته وأولاده فجأة. ضحك من تخيلاته. كان يتبع الحارس المسلح كما يتبع الطفل أباه. لم يفكر بالهرب، وإن خطر على باله. تساءل عن السبب: أهو الحرية الجزئية التي أستمتع بها في هذا اليوم بزيارة الطبيب. أم هو الضعف الجسمي نتيجة المرض، أم هو الحارس المسلح اليقظ، أم جميع ذلك، أم شيء آخر كالإحساس المبهم بقرب الإفراج؟!

أدارت السيارتان ظهريهما. أخذتا تبتعدان عن بعضهما كأن شيئاً لم يكن. بالفعل لم يكن شيء. فكثير من السيارات يقف، وكثير منها يتحرك. كثير منها يتقارب، وكثير منها يتباعد. ولو أتيح لأحد أن ينظر من طائرة سمتية إلى الأرض لوجد هاتين السيارتين كيف تتباعدان كأن بينهما عداوة، والحقيقة أن بينهما من المحبة والمودة ما الله وحده به أعلم. ولو أتيح لأحد أن يتأمل الأقدار التي جمعت بين ركاب هاتين السيارتين منذ ثماني عشرة سنة حتى الآن، وكيف رسمت لهم هذا المصير، وما تزال ماضية في تصريفه لخر صعقاً.

الليلة السادسة والثمانون

مساء الجمعة 29 آب 1980

حينما أظلمت السماء وراء النافذة المطلة على الدنيا، وبدأت نجوم الليل تلتمع من بعيد كان حسان غارقاً في تأملاته، وهو مسند ظهره إلى الجدار الخلفي، وعيناه صوب الكوة الصغيرة على باب الزنزانة. إن عينيه مفتوحتان. لكنهما لا تريان شيئاً محدداً. الذي كان يرى هو عينان أخريان متربصتان في أعماق الدماغ تتحركان بإمرة الذاكرة حيناً، أو بإمرة العقل أحياناً. وفي أحيان أخرى تتمردان، أو تتحالفان مع الهواجس والأهواء والرغبات أو النعاس.

كانت العينان الداخليتان تتجولان في ممرات السجن، وتتفرسان في جدرانه الداخلية. وتتساءلان: هل هي القدر الدائم، وهل يمكن الصبر المستمر على مناطحة الجدران وازدراد الهواء الحبيس؟

كان العقل يقول: إن هذا الحبس خير من سجون سورية، ويقول أيضاً: ها قد خفت نوبات التحقيق، واعتدلت لهجات المحققين وتصرفاتهم.

وكان الوسواس الخناس يقول: ما الضمان؟ إن الذي حبسك ثلاثة أشهر قادر على تسليمك أو الاستمرار باعتقالك إلى ما لا نهاية.

يعود العقل فيناقش ويحتج ويسوق الأدلة والبراهين، وينتهي إلى التلويح بالأمل القريب. القريب جداً. لكن حجة الوسواس الخناس تستمد الصلابة من صلابة الجدران والأبواب والقضبان الحديدية والهواء المتعفن.

هذا القطاع من نفس حسان قد استطال واتسع على حساب غيره مع مرور الزمن، وهناك قطاع ثان كان يضمر وينسحب إلى الوراء شيئاً فشيئاً، وإن لم يعدم اندفاعات كبيرة طغت أحياناً على ذلك القطاع. هذا القطاع هو التفكير بالعالم الخارجي بسورية: الوطن والشعب والمصير. سورية السجون والاعتقالات والمجازر.

كان حسان يقظاً في ملاحظة التطورات التي تعتري نفسه، فيجرد نفساً أخرى لنقد النفس التي بين جنبيه، وتلك النفس التي يجردها، غالباً ما تمارس دور الشاهد أو الناقد أو الناصح. وفي حالات قليلة يهرب من هاتين النفسين ليصبح شخصاً ثالثاً يراقب الصراع المتفاقم بينهما، فيتعصب لإحداهما أو يصر على الحياد والهرب. وفي النتيجة لا هرب من السجن والجدران والمصير الغامض.

من التطورات التي رصدها في نفسه استطاعته أن يضعف إحساسه بوطأة الزمن مثلما استطاع إضعاف إحساسه بمشكلات ما وراء الجدران، لكن السؤال الذي لم يجد له جواباً: هل هذه التطورات الناشئة عن قوة إرادية تنبع من نفسه واختياره، أم هي نتيجة الخضوع لضغوط السجن والحرمان بكل أنواعه، وبالتالي يخسر نفسه تحت ستار التطبيب الذاتي.

إن كل نظرة يلقيها على الجدار الأصم أو الباب الحديدي كانت ترتد إليه كليلة وهي تقول: أنت إنسان ضعيف. اشتغلت بالسياسة ولست من أهلها فأوردت نفسك المهالك أكثر من مرة، فإذا نجوت هذه المرة، ولا أمل بالنجاة، فلا تكرر المأساة وإلا....

إن كل لحظة يقظة تمر كانت تقول له: ماذا أنت فاعل بنفسك؟ هل تنكر بأنك عاجز، وبأنك لا تحسب حساب العواقب. حتى الشعر الذي أحببته وتفوقت فيه لم تعد تستطيع أن تخطو فيه خطوة واحدة في السجن، والسجن خير ملهم للشعر.

ثم هل أنت فقيه يستطيع تمييز الحلال من الحرام في مواجهة السلطة الباغية من حيث التوقيت والكيفية والأعداد. وهذه الدماء التي أريقت وتراق حتى الآن كم تتحمل من مسؤوليتها؟ لا تعتذر بأنك سجين أيضاً، فالشرع لا يبيح لك بأن تنتحر فضلاً عن أن تسهم في قتل غيرك.

أطل وجه الحارس الخفيف الأسمر من وراء الكوة، وهو يبتسم:

- يا حاج.. يا حاج. أبشرك.

رأى حسان وجه الحارس مشرقاً بألق غير معهود، وسمع كلمة (أبشرك)، ولم يهتز، لم يتحرك، حتى عيناه ظلتا تنظران بلا معنى. أعاد الحارس الأسمر كلماته، وهو يقرع هذه المرة على الباب. ولعله كان يرقص خلف الباب.

- ألا تسمعني يا حاج؟ إفراج. إفراج.

ربما استيقظ الإحساس اللفظي الموسيقي قبل غيره من أحاسيس حسان. ونتيجة إلحاح الحارس على التبليغ لم يجد حسان بداً من التظاهر بأنه علم بالخبر الذي يقتضي فرحاً وابتساماً وشكراً لحامله. إنها صدمة بالنسبة إلى حسان، مثلما كان وقع الإحساس بالاعتقال صدمة. شرع حسان يتكيف مع هذه الصدمة. قال له الحارس: (هيّء نفسك) فأخذ يهيّء نفسه. وقال له: (رتب أغراضك) فشرع يرتب أغراضه. هذا في الظاهر أما في الباطن، فإنه أخذ يعيد ترتيب نفسه وأحاسيسه.

ما إن بدأ يتذوق معنى الإفراج ويتخيل أبعاده، حتى تحرك الوسواس الخناس وقال:

- لا تستعجل بالتصديق، فكم سميت الأشياء بغير أسمائها، وكم دعيت إلى شيء فوجدت غيره. أليس هذا مبدأ من مبادئ السياسة التي تتعلم أبجديتها بالممارسة؟!

ضحك حسان هذه المرة على الوسواس، وسخر منه، ولكن بتحفظ لكي لا يشمت به فيما لو حدثت مفاجآت.

قال حسان:

- ما الذي يحمل الحارس على الكذب؟

- ليس الحارس هو الكاذب أو المخادع، بل ربما كان أحد المخدوعين مثلك.

- سوف نرى على كل حال!

- سوف نرى!

طالت غيبة الحارس النشيط، ضاق حسان بالزمن الذي ينقضي وهو حبيس الزنزانة، ألم يوعد بإطلاق سراحه؟ تذكر أن مسافة لا بد منها بين صدور القرار وتبليغه وبين تنفيذه. حصل له مثل ذلك حين بلغه خبر الإفراج عنه في حزيران 967 الساعة الحادية عشرة ليلاً، ولم يخرج من قبضة السلطة المنفذة إلا في الساعة السادسة صباحاً.

- الإفراج أصبح مؤكداً. لكن متى بالضبط، وكيف؟!

عاد الحارس النشيط وقال:

- تعال استلم أمانتك.

قال حسان في نفسه: (هذه علامة..)

في غرفة ضيقة، مغطاة جدرانها بخزانات صغيرة مرصوصة صفوفاً مزدحمة بجوار بعضها. استلم أمانته. محفظة يد جلدية. جواز سفر. هوية شخصية. مشط. قلم. أوراق بيض. هنأه نائب مدير السجن. شكره على التهنئة. طلب منه أن يعود إلى زنزانته. في طريق العودة صادف المحقق المختص الأسمر. هنأه بدوره، ونصحه بالانتباه لنفسه أكثر، لأن هناك مخاطر محدقة لم تزل متربصة به. شعر حسان بصدق اللهجة، وشعر أيضاً بطابع التعليم الأمني الذي يضطر لقبوله وهو لا يستسيغه.

لما أغلق باب الزنزانة عليه تألم كأنه سجن من جديد، وعلل هذا الألم بشدة الشوق للحرية، لأن موضوع الإفراج لم يعد وعداً، بل أخذ يكتسب أبعاداً ملموسة، وما هي إلا ساعات وينتهي السجن.

في طريقه إلى مكتب المسؤول الكبير صادف حسان زميليه إبراهيم ماضي وعبد الحكيم السيد بصحبة الحراس، كل منهما يتأبط أمتعته الشخصية ومظاهر الابتهاج بادية على محياهما. سلم عليهما، فتلقيا تحيته بالترحاب المشبع بمشاعر البهجة المتبادلة.

في غرفة السكرتير صادفوا زميلهم عابداً، فسلموا عليه. وفي غمرة السلام والأسئلة عن الأحوال كانت كؤوس الشاي وفناجين القهوة المرة تطوف عليهم.

أخيراً سمح لهم بالدخول على مدير مخابرات العاصمة، الذي كان المحقق الأسمر الطويل في إحدى جولات التحقيق. جلسوا على مقاعد وثيرة متحلقة حول منضدة المدير. كان موقع حسان مواجهاً لمنضدة المدير.

من أول لحظة كانت الجلسة ودية. لكأن المدير صديق حميم جداً، وذو معرفة قديمة بهم. الأمر لا يحتاج إلى تعليل. فموضوع الإفراج وحده يختصر كل التعليلات. ومع ذلك شرع المدير يبتسم ويمزح، ويحدثهم عن أن اعتقالهم كان في البداية لصالح البلد المضيف للتعرف عليهم وعلى هويتهم، ثم تحول الاعتقال لصالح المعتقلين أنفسهم لما كان يترصدهم من مخاطر على يد أعدائهم فيما لو ظلوا خارج الاعتقال: من اغتيال أو اختطاف. لم يكلف المعتقلون الفرحون أنفسهم بتمحيص هذه التعليلات، لأن الشهور الثلاثة طبعتهم بطابع السمع والطاعة، ولأن موضوع الإفراج غالي الثمن. وماذا ينفع النقض أو الإثبات في أمر مضى وانقضى وأصبح ذكرى من الذكريات، أو على وشك أن يصبح كذلك.

من قبيل التواد ورفع الكلفة تجرأ حسان، فسأل المدير سؤالاً جدياً مشوباً بالمزاح، وهو ينظر إلى المحقق الأسمر المختص بجوار المدير:

- بودي أن أسألكم عن مصدر الخبرة المتقدمة التي يتمتع بها المحققون لديكم، خلافاً لرجال الأمن في سورية، بمعنى هل هذه الخبرة نتيجة البعثات الدراسية إلى دول أجنبية متقدمة في هذه العلوم، أو هي نتيجة دورات دراسية أو تدريبية داخل البلد؟

ابتسم المدير والمحقق المختص. تلقف الدور بالكلام المحقق المختص وهو يضحك:

- سيدي إن أبا مجاهد يريد في هذا السؤال أن يكون مستعداً إذا اعتقلناه مرة ثانية.

ضحك الحاضرون. كانت ضحكة حسان أقل من ضحكات الآخرين. قال حسان:

- هذا لن يتكرر إن شاء الله. وما دمتم على هذا المستوى المتقدم، فما يمنعكم من الجواب الصريح؟

في هذه الأثناء كان المدير مستريحاً على كرسيه الوثير الدوار باسطاً ذراعيه على أعالي الكرسي وهو يميل بهدوء، ويستدير مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار. ينفض سيجارته في المنفضة البلورية أمامه بين حين وآخر، بلباسه الصيفي الرمادي الجميل وشعره الأسود الكثيف الذي يكمل أناقته وإشراق أسنانه البيض.

قال المدير بمودة:

- في البداية كنا نرسل البعثات الدراسية لهذا الغرض، لكن منذ سنوات صرنا نعتمد على أنفسنا. نجري دورات دراسية وتدريبية.

لم يندم حسان على جرأته في طرح هذا الموضوع. بل تقدم خطوة أخرى فقال:

- هل من الممكن أن تعطونا فكرة عن مواصفات الأفراد المتقدمين لهذه الدورات، وعن المواد المقررة التي تعطى؟!

بكل رضى واطمئنان تابع المدير حديثه، يدخن، يدور بالكرسي، يبتسم، يمزح، فقال:

- هناك نوعان من العمل الأمني. أحدهما جنائي والآخر سياسي. أما النوع الأول (الجنائي) فهدفه هو تثبيت التهمة على الذي جناها من خلال البصمات والشهود والوقائع والاعترافات وما شاكل ذلك، أما النوع الثاني (السياسي) فهدفه هو التعرف على شخصية المعتقل: ثقافته. ميوله. عواطفه. قوته وضعفه. وبناء على هذا التمييز بين (الجنائي) و (السياسي) يتم اختيار العناصر المرشحة، كما يتم اختيار المواد المقررة.

امتن حسان لهذا الجواب. كاد ينتقل إلى سؤال آخر حين عاجله المحقق المختص بسؤال:

- أخ أبو مجاهد، أليس اسمك الحركي أبا سالم؟

رد حسان على الفور:

- قلت لحضرتك أكثر من مرة ليس لي اسم حركي، اسمي أبو مجاهد. وبس.

ضحك الجميع، كما ضحك المحقق المختص حتى بدت نواجذه المشربة بصفرة التدخين الكثيف. كانت قبة قميصه البيضاء شديدة النصوع بالنسبة إلى بزته السوداء الداكنة.

استأنف المحقق:

- لاحظ سيدي. حتى اللحظة الأخيرة وهو يصر على أنه ليس له اسم حركي.

- ليست القضية قضية إصرار! (قال حسان لنفسه: لن تحظى مني بشيء ولو في لحظة الإفراج. ما رأيك؟!)

فتح المدير ملفاً وبدا أنه يريد الكلام. فصمت الحاضرون.

- قبل أن نودعكم بالسلامة أحدثكم في أمرين. أولاً: بوسعكم أن تقيموا في بلدنا هنا مدة أسبوع، تختارون بعدها السفر إلى أي بلد ترغبون به.

قفز إلى ذهن حسان الأرشيف والكتب التي صودرت من بيته، فقال:

- عفواً. والكتب التي احتجزت من بيتي والخزانة، ما مصيرها؟

لم يكف المدير عن الابتسام:

- غداً أبو بعد غد ترسل لنا ولدك مجاهد. يطلب الأغراض من الأستاذ (وأشار إلى المحقق المختص) وتسلم له.

- شكراً.

- العفو. الموضوع الثاني خطير. أرى من واجبي أن أحيطكم علماً بأهم الأحداث التي وقعت في مدة اعتقالكم. لقد وقع حادث رهيب في سورية، كان سبباً من أسباب التفهم لقضيتكم والعطف عليكم.

أحس حسان وزملاؤه المعتقلون بخطورة الموضوع، لا لأن ملامح المدير والمحقق المختص قد تغيرت، بل لأن السياق كله يدل على ذلك، بدءاً من الإفراج المفاجئ وانتهاءً باختيار موضوع بعينه للحديث قبل لحظة الوداع الأخير.

في تلك اللحظة دخل الحاجب حامل القهوة المرة، فأشار له المدير بالانصراف مباشرة فانصرف.

تعلقت عيون المعتقلين وأسماعهم وقلوبهم بشفاه المدير تستكنه الموضوع المهم. أطفأ المدير سيجارته. اعتدل في جلسته. قال متأثراً بلهجة متهدجة:

على أثر محاولة مخفقة لاغتيال الرئيس السوري ساعة وداعه لأحد الرؤساء، قامت سرايا الدفاع بقيادة أخي الرئيس بعملية انتقامية في يوم 27 حزيران الماضي.

تذكر المعتقلون المجازر الانتقامية السابقة. أخذ يكر في مخيلاتهم شريط المجازر. مجازر جسر الشغور واللاذقية وحماة...

- وردت أنباء فحواها أنه في صباح يوم 27 حزيران هبط في مطار تدمر الحربي"21" طائرة هليوكبتر من حماة تحمل "350" عنصراً من رجال سرايا الدفاع، وعشرة هليوكبترات من دمشق تحمل مئتين آخرين. وصدرت التعليمات لثمانين رجلاً منهم بالتوجه إلى سجن تدمر. وإلى عشرين بحراسة الهيلوكبترات. وأن يظل الباقون في حالة تأهب. وقسم الثمانون إلى وحدات كل منها تضم عشرة رجال، وبمجرد أن دخلوا السجن صدرت إليهم الأوامر بقتل السجناء في زنزاناتهم وفي عنابر النوم، ويقدر عدد السجناء بين "600- 1000" سجين.

نحن نأسف لما حصل، كما نأسف لنقل هذا الخبر الفاجع.

قبل أن ينتهي المدير من رواية الخبر كانت المرارة قد بدأت تزحف إلى نفوس المعتقلين. وكان كل منهم قد بدأ يتفاعل معه على طريقته الخاصة التي لا تختلف في مجموعها عن طريقة إخوانه الآخرين، لكنها ملونة بخبراته الشخصية وبمعلوماته التفصيلية عن أسماء الأخوة المعتقلين في سجن تدمر من مدرسين وطلاب وعمال وفلاحين وأطباء ومحامين ومهندسين وعسكريين وحتى النساء والأطفال.

تخيل حسان لحظة البدء بالمجزرة كيف فغرت أفواه المعتقلين العزل، وتعلقت عيونهم الذاهلة بفوهات البنادق الرشاشة، فكاد يصعق.

تذكر حسان أول من تذكر زملاءه المدرسين المربين أمثال الأستاذ نبيه رفيق الصبا، والأستاذ صبري ذلك الجار الكادح والد الشهيد، والأستاذ عدنان البار بوالديه واخوته. تذكر أستاذ الجامعة الدكتور حسن المختص بالفيزياء النووية الفلسطيني الأصل الذي خلف أسرة لا معيل لها. تذكر أعضاء مجلس نقابة المحامين في سورية بما فيهم رئيسها. وتوقفت ذاكرته وقفة طويلة عند مجموعة واحدة من معتقلي دير الزور. تلك المحافظة النائية التي كانت بمنأى عن الأحداث الدامية. إنها مجموعة طلاب من الحلقتين الإعدادية والثانوية، عددهم ثمانية وثلاثون فتى وشاباً، جريمتهم أنهم اشتركوا في تظاهرة. بعضهم لا يزيد عمره عن اثني عشر عاماً، وبعضهم أقارب أو أشقاء. وبعضهم وحيد لأمه ولأبيه. وأحدهم اعتقل برغم الرصاصة التي استقرت في ظهره أطلقها عليه أحد رجال السلطة.

ماذا جرى لسورية، وإلى أي حد وصل فيها البغي والطغيان؟

أحس حسان بانفجارات عنيفة تتابع في أعماقه. تلك الأعماق التي تطبعت في السجن على الهدوء والاستسلام للواقع. كان عاهد نفسه على ترك السياسة والانكفاء على الهموم الشخصية إذا هو يحس بأن الهموم العامة التي وأدها واحدة واحدة في جحور صخرية غائرة قد تحولت إلى عبوات ديناميت ناسفة، تضاعفت قواتها مئات المرات، وحطمت كل ما أقامه السجن من حواجز، وما ختم عليه من أختام وطوابع. ست مئة، ألف شهيد، هكذا مرة واحدة. إنهم صفوة البلد في العلم والأدب والإدارة والسياسة والاقتصاد والجيش. كل واحد له أهل وأقارب أو زوجة وأولاد. جيران وأصحاب وزملاء. إن فرنسة المستعمرة بل إسرائيل لم تقترف مثل هذه الجريمة. ولماذا؟ لأن رئيس الجمهورية تعرض لمحاولة اغتيال. ألف رجل مقابل رجل وأي رجل؟ لم يشترك واحد من الألف بمحاولة الاغتيال، ولعل المحاولة كلها ملفقة أو مختلفة لتسويغ الجريمة، وهل يمكن أن تسوغ؟!

من يستفيد من هذه المذبحة الهائلة؟ من قتل النخبة السورية وتلطيخ وجه سورية بعارها الذي لا يمحى؟!

إنها انعطافة هائلة في تاريخ سورية، لها ما بعدها من آثار ضخمة لا يمكن تصورها ولا تصور أبعادها وتشعباتها.

هل يمكن تصديق ما حدث؟ أنا لا أصدق! لكن الرجل يؤكد، وليس بحاجة للكذب. مضى أكثر من شهر على الحادثة. إنه زمن كاف، للتأكد من صحة الخبر. وإذا كان صحيحاً فما العمل؟!

كل هذا جرى في غيابنا؟!

أنا لم أعد نادماً على تورطي في السياسة، أنا بحاجة للتعويض عن كل ما ينقصني في السياسة والقتال.

إن عيونك السود يا نبيه لتدعوني إلى معاقبة القتلة المجرمين.

إن تلاميذك يا صبري وعدنان ويا حسن لغاضبون.

أما أنتم يا حملة الأقلام والأفكار والإبداع فإن الحضارة لغضبى على فقدكم أضعاف أضعاف ما يفتقدكم أهلكم وأحبابكم الكثيرون.

ألف شهيد. ما هذا؟ ألف شهيد أعزل! نحن في مسلخ أم في بلاد الشام؟ بلاد العربية الفصحى والدين الحنيف.

نهض مدير مخابرات العاصمة، فنهض الحاضرون. سبقهم إلى الباب. مد يده يصافح المعتقلين، يودعهم واحداً واحداً، على حين اصطف عدد من المحققين في الرواق الطويل مودعين. لا بد من الابتسام في لحظات الوداع والإفراج، ولا بد من أن تتحرك الأعماق حركتها الخاصة بها.

- إن الحراس المرافقين سوف يوصلونكم إلى بيت رئيس اتحاد الأدباء صديقكم الذي كان يتابع قضيتكم. (كانت هذه آخر كلمات المدير.)

بينما كانت سيارة المرسيدس الجديدة المجهزة بأحدث أجهزة اللاسلكي تنطلق بحسان وعابد إلى بيت الأديب الصديق، سأل حسان نفسه سؤالاً، وكان الليل الساجي شاهداً بنجومه المتلألئة:

- هل كان من الضروري لمثلي أن يعتقل أو أن يشتغل بالسياسة؟

لم ينتظر جواباً. كانت الدنيا كلها تقول بلسان الحال والمقال:

- نعم ضروري.

انتهت

          

* أديب سوري يعيش في المنفى