مارد في صدري(11)

نعماء محمد المجذوب

مارد في صدري(11)

رواية: نعماء محمد المجذوب*

كانت "سناء" وأمها في جلسة هادئة في المتنزه، تمتد فوقهما أغصان الشجر كخيمة خضراء، تمنع عنهما أشعة الشمس، وتتسرب من خلالها نسمات رقيقة. وكانتا تخوضان في حديث مليء بالشجون، وأسى الفراق، ومرارة البعاد الجارف، قالت "سناء":

- إن بلدتنا خانها الكثير من أبنائها بالهجرة منها.

هزّت فخرية رأسها... لم تعرف "سناء" إن كانت أمها تقبل التهمة أو تنفيها، وهل كانت مقتنعة برأيها هذا، وكأنها تتهمها بالإهمال؟ أم كان سكوتها لعدم اقتناعها بما تقول ابنتها؟. ثم أردفت:

- كنت أتذكرك مع هجرة كل واحد من بلده.

- الهجرات لن تتوقف، لأنهم يكتشفون أنهم غير قادرين على مواجهة الفقر في بلدهم، وقد يكون العجز في كسب المال، أو في قلة الحيلة.

- أهكذا نبقى مشتتين؟

- لا تزيدي يا ابنتي من ألم روحي، فهذا الشيب يعبر عما في نفسي من قروح.

فشلت فخرية في إقناع "سناء" بالذهاب معها إلى لبنان، خافت على مصيرها، وحين ترى انهمار دموعها، تعزيها بقرب انفراج حالها قائلة:

- أبكي حزناً على فراقك ثانية، وأبكي من ترددي، وحيرة رأيي سأشتاق إليك.

- إذن تعالي معي.

صمتت برهة، ثم قالت:

- لا أدري إن كان الله كتب لي قدراً فيه الفرج، أم أنه سبحانه وتعالى يدعوني أن أختار لنفسي بين الرحيل معك، والبقاء هنا.. ماذا أختار؟ لست أدري.

- دعي الحيرة يا ابنتي، والتردد، ستعيشين مع إخوتك، هم متشوقون إلى رؤيتك

أخذت "سناء" تقارن بين البلدة التي نشأت فيها، والغربة التي ستحياها في أرض غريبة بعيدة، حاورت أمها قائلة:

- بلدتي هي أرضي، وسمائي، أأهجرها إلى أخرى، وأرمي جسدي في أحضانها، وتبقى روحي معلقة ببلدتي، وراسخة في ذاكرتي، وتتجدد معاناتي ويمضي عمري، ويتعمق صمتي، وتكثر الأماني، والأحلام، وأسجن من جديد في قفص الأوهام، ومن ثم لا أعرف سبيلاً للنجاة منها؟.. آه، الغربة قاسية لا ترحم.

لوحت بيدها في رفض قاطع، وبتصميم قالت:

- سأبقى هنا في بلدتي، ولا أتجاوزها إلى غيرها، هي كل شيء في حياتي، لا يمكن تجاهلها مهما كان.

- ولكنك تعيشن في عذاب.

ابتسمت وهي تقول:

- الفرح يولد من رحم العذاب.

وببهجة قالت:

- بلدتنا لوحة فنية كبرى، تحوي الجمال كله، أريد أحياناً أن أعبر عنها في كلمات تهمس في خاطري، فتتمرد، وتفر، فجمال بلدتنا أسمى من الكلمات.

قالت أمها تحثّها:

- لا بد من المحاولات الجريئة لإخضاعها، وترويضها.

هزت "سناء" رأسها أسفاً، وقالت:

- آه، لطالما قلت: أمي هي الوطن، ولكني أرى الوطن أغلى من الأم.

احتضنتْ فخرية رأسها بين يديها، تداري هطول دموعها، فأمامها مهاجرة بعيدة خلف البحار، والقارات، وفي حيرة تتساءل:

هل أذكر لها ذلك؟

لا، أخشى عليها من الفاجعة.

قطع صمتها قرار "سناء":

- سأبقى مع كل شيء تحتضنه ذكرياتي معك... أنا لا أعيش في فراغ... أعيش في بيئتي، تؤثر بي وأؤثر بها... أمي لِمَ خطاك عجلى؟

- هناك من ينتظرني.

- يمكنك أن ترحلي... ستذهبين الآن بمفردك، لم يبق سوى ساعة لانطلاق السيارة، لا تخشي عليّ، بإذن الله لن أضيع.

أصغت إلى أمها، وهي تسمع آخر كلماتها، التي ذابت في دمها.. رحلت فخرية، لم تستطع "سناء" توديعها، على أمل اللقاء بها.

........................

لِمَ يبق "لسناء" بعد رحيل أمها سوى الليل، والوسادة، تشكو همومها، وخديجة الحنون نهاراً، تتبادل معها الذكريات، ويزيدها ألماً ذكرى موت أم مصطفى بلدغة أفعى في الحقل.

ذات مرة، سألت "سناء":

- لم رفضت الرحيل مع أمك، وآثرت البقاء في البلدة؟

بجدية أجابتني:

- الحياة ليست لهواً، وفرحاً كلها، آليت على نفسي تفقد الكسيرات وهذا ما يشعرني بالارتياح.

رأيت وجهها يضطرم، وتوقفت الكلمات في حلقها، منعتها غصة.

- هل بك من شيء؟

هزّت برأسها حين تذكرت موقفاً، هيج مشاعرها، حدثتني قائلة:

- آمنة

بسرعة سألت:

- زوجة الشهيد عرفان، هل حصل لها مكروه؟

سأقص عليك شيئاً مؤلماً.. كانت آمنة تسير في الطريق نحو الفرن، لتعجن، وتهيء للخبز، كعادتها كل صباح، ثم لتعود عند الظهيرة، تحمل خبز أطفالها، وحفنة من النقود.. يوم أمس عند الظهيرة، أحست بخطوات رجل يلاحقها، وبصوت هامس يناديها باسمها، لم تشك بأنها المقصودة، يتبع صوته، صفير الزعران ، وعندها استدارت، رأت في نظراته الريبة، علمت نيته السيئة عند ما مد يده ليناولها نقوداً، و..

- وماذا فعلتْ، هل سكتتْ؟

- رشقته بالشتائم، وبنظرات الاحتقار، ثم أسرعت تتعثر بدموعها وأكدت لي بأنه أحد رجال الأغوات المترفين، الذين يشترون أعراض البائسات بأموالهن.

قلت بضيق:

- أين الغيورون؟... سأخبر والدي بأمرها.

قالت، وهي تتنهد:

- الحياة قاسية، والعيش مرير،... اللعنة على الاستعمار الذي استنزف الكثرة من الرجال، ونهب الخيرات، ويتم الأطفال، ورمّل النساء، آمنة واحدة من هؤلاء... أعرفت لم أفضل البقاء هنا؟ لأني أعيش حكاية آمنة، وبدرية، وحليمة، وأم مصطفى وغيرهن، قلت بأمل:

- ستبقى بلدتنا تلفّ حمانا، وتنبعث منها المعاني الجميلة، تنشدها الأجيال، وتضفي عليهم المحبة، ويرف السلام، بعد حروب طاحنة، استمرت ستاً وعشرين سنة، وستبقى المشاعر، والأمنيات توحدهم بوعي، ووجدان.

قالت:

- أحبّ الحياة فيها، ومنها تنبثق خواطري، ويبقى حبي لبلدتي حلماً وفكرة، أناجيها من خلال نظراتي لطبيعتها الجميلة... كما في حبي لها ثورة على البؤس، والقسوة، والمعاناة، أليس هذا يعني أن الحياة تناديني؟... حياتي فيها تضحية، ووفاء ورضى هادئ في نفسي، مقرون بإيماني العميق.

- الجميع يكافح ويسعى نحو الارتقاء، ولديهم الوعي المرهف للبناء، كما أن الاهتمام بالبائسين واضح جداً، بتوجيه من المسجد... بلدتنا ملأى بأهل الخير، يفكرون بمستقبلها، أمّا الفئة الباغية، العميلة، التي جمعت ثروتها في زمن الاستعمار، فهي قلة منبوذة.

قالت بحماسة:

- الواجب يدعونا كي ننسج بأحلامنا دنيا جديدة، ونثور على الظلم والفساد، فالثورة تبدأ بالكلمات.

ثم ضحكت وهي تقول:

- أعتقد أن المآسي قد أخطأت عندما اختارتني، ستندم حتماً، ربما ظنت أني وجبة لذيذة، ستتأكد بأني لست كذلك، ثم من سيخسر في النهاية، ومن سيخسر من الآخر، أنا أم المآسي.

هتفت بفرح:

- بل هي ستخسر، وتكونين الساخرة.

- من الأجدر أن تكون المآسي في البلدة نداء لوحدتنا، ليس لتشتتنا وتهجرنا... كنت أظن أن أمي ملجئي الذي تتوقف عندها معاناتي، وصبري ولكن لم يتحقق ما أريد، وبقي الليل رفيقي، فلا أتوقف عن الترنح فيه، وفي النهار أرى الهرب من كل هذا في محاولتي الاندماج في البيئة، لأنشد علاقات اجتماعية واعية، برفقة نساء صالحات، نشيطات، تؤهلني كي أكون عضوة فعالة، تملأ البائسات حياتي صخباً، بشكاويهن، وأشكالهن المختلفة، وهمومهن المتناثرة، وتكون ذكرياتي مع أمي، الملاذ في الفراغ.

بتأسف قلت:

- لم يكن الناس هكذا فيما مضى، كانوا في خير يغمرهم ويفيض عنهم حتى إذا كان الاستعمار، أفرغ حقده المتأصل في التاريخ. فوقفنا ليشفي غليله باستئصالنا، ومحو هويتنا الإسلامية، وتشويه قيمنا ونهب ثرواتنا.

كانت "سناء" جزءاً من البلدة، تمسكت بها وصورة عن الأرض وحين رفضت الرحيل، قالت: جسدي مادة في المكان، وروحي تسرح في كل مكان من بلدتي، وفي كل زمان، ماضيه وحاضره ومستقبله.

.............................

هبطت عاصفة عاتية، هطل المطر فيها بغزارة وضجت الزوابع... تحت هذا الوابل العنيف، كان الناس يهربون في كل اتجاه، والمظلات الممزقة تطير، وتهرع "سناء" إلى البيت، تحتمي تحت سقفه... تلاه ليل ساكن رقيق وسكنت المخلوقات في مآويها... ثم انكشف الضحى لينير الوجود بإشراقه وضيائه، وتدب حركة الخلق في سعيهم لاكتساب الرزق.

أحست "سناء" بحبها للحياة ككل البشر وعشقت في الحب شذاه، ففؤادها يتعذب وتضغط على صباها من أن يتلهب من الشوق، وبابتهال قالت: ما اعتدت يا ربي التنفس في الخفاء حسبي أنت تحفظني، وترعاني.

اجتاحها إحساس باحتياجها إلى لمسة حنان، وودّ ويد حانية تمسح على آلامها، وتسكب الطمأنينة في قلبها، وتهدهد روحها المتعبة، وخاطرها القلق، وتقول: أهكذا بعد غيبة طويلة تجيء أمي، وتذهب في عجالة؟

الرحيل الثاني كان أشق علي من الغياب.

لم تخفي عني شعورها وهي تقول:

- أرى نفسي أسير وراء سراب، يا لوعتي من وهم السراب!

همست في أذنها:

- تشعرين بحاجتك إلى الاستقرار مع زوج، أليس كذلك؟

- لا أنكرك ما بي، أجري وراء طيف حبيب، وروحي تعانقه في الخيال، ألست كغيري من الصبابا؟.. ألمس طيفه، أتمناه، أحبه أرجوه بلا أمل في لقياه... ألمس طيفه، أتمناه أحبه أرجوه بلا أمل في لقياه... ثم أفرغ حبي للناس، فهو ضوئي في الطريق، وعالمي الذي أحيا، وأتنفس فيه، وتبقى سريرتي في صفاء.

ربت على كتفها، وبابتسامة أمل قلت:

- سيحنو عليك القدر قريباً.

ثم أردفت، أذكرها برحمة الله بها... منذ طفولتها فقلت:

- ما تركك ربك من قبل أبداً... ألم تكلوني أشبه باليتيمة في زمن أبيك، ورعاك؟... ألم يهدك إليه، وحفظت كتابه؟... أليس لجوؤك إلى هذه الأسرة الطيبة رحمة منه سبحانه؟...لقد أشعرك ربك بالأمان، ويسر لك الغنى، وجعل القلوب تتعاطف معك.

- لله المنة والفضل في كل ما يسره لي.

- سيفرج كربك، فقط اصبري، ودعي الأمر له سبحانه.

كانت "سناء" تتهادى فوق رمل الشاطئ، والأفق يتسع أمامها، والنسمات تداعب أهداب ملاءتها، وعيناها تنغرزان في الوجود، تتأمله، وتتصل روحها بخالقها، فيتغشاها شجى شفاف، يمتزج بلوعة الفراق، ولكن صفاء الضحى، أوحى إلى قلبها الأنس، وربط مشاعرها بمظاهر الكون، وأزال منه الاستيحاش، وسرى عنها.

كان حديث صامت يجول في صدرها فيه شكر لنعم الله عليها، وتتساءل بجراءة: لم أبطأ القدر بلقيا الحبيب؟

لم تكن تدري بأن ثمة شاباً من بعيد يراقبها، يمنعه الحياء من الاقتراب، تارة يغرز نظراته فيها، وأخرى يغضها، سرت في نفسها فرحة خفية... استعادت حكاية علاء من الأحاديث المتناثرة، استدارت نحو الطريق ملفوفة بملاءتها، تغمر روحها ألفة.

طفلا علاء يفتقدان الحنان والدعاية بعد موت أمهما، ولم يجد الحي أفضل من تجربة اليتم، والحرمان.

قالت خديجة، والبشر يطفح على وجهها:

- لقد ذكرك الشيخ عبد الله، لتكوني زوجة لتلميذه علاء لأنك ذات دين وتقى.

 وبضحكة صامتة قالت:

- ولأنك نضرة كالزهرة المتفتحة.

استسلمت "سناء" بصمت خالطه الحنين، وهمست: لقد كانت أمي عجلى للسفر لو بقيت لشاركتني فرحتي.

قطع الصمت سؤال خديجة:

- ما قرارك؟.. لا سبيل للانتظار، علاء في عجالة من أمره في الليلة الموعودة بدت "سناء" وافرة الحظ من الجمال.. متألقة كالملاك تتطاير حولها الزغاريد.

دهشت وأنا أرى دموعها، سألتها:

- ما يبكيك، وأنت في أبهى لحظات السرور؟

- أبكي من الفرحة، لقد تحقق ما كنت أتمنّاه.

- إنك الآن تقتطفين ثمرات صبرك.. على فكرة، لعلاء طفلان.

- أعلم، هذا ما يسعدني، سأكون لهما أماً، وأوفّر لهما ما لم يوفّره غيري، وأنقذهما من الضياع والحرمان العاطفي.

- أرأيت القدر لم يخطئك، فالأمور تتغيّر، وتجري بسرعة فائقة.

ارتعش قلب "سناء" وهي تخطو خطواتها الأولى داخل بيت الزوجية، تنهّدت بارتياح فالحلم ملء راحتيها، والبهجة استحوذت على نفوس الناس.

قلت:

- أين هذا المنزل من الذي طردت منه؟ لو كانت زوجة أبيك على قيد الحياة، لأكلت الغيرة قلبها، بارك الله لك، منزل واسع وحديقة زاهية، ومضخة ماء فوق البئر، وطفلان كالملائكة.

غامت عيناها قليلاً، وشفتاها تترددان بكلمات الشكر لله، ونظراتها تحوم حول إخوتها، والسعادة ترقص في عيونهم.. ثم طمأنتهم بقولها:

- لن يمنعني الزواج من صحبتكم، والإشراف عليكم..

في سكون الصباح الهادئ، وفي حديقة المنزل، والشجر، والزهور على اختلاف أنواعها والأنوار تنساب على الأشياء والمكان يؤكد سكونه إلا من غناء "سناء" الرقيق الخافت، وضحكات الطفلين وهما يجريان، كانت العصافير تشدو فوق الأغصان، كأنها تقول: دعي الأرق، وانظري إلى كل شيء بسعادة.

رأت أن حياة متكاملة داخل هذا البيت، وهي تحدّث نفسها قائلة: كم كنت أفتقد مثل هذا التكامل الجميل.

سألت زوجها:

- هل أستطيع أن أنسى أمي، والأرق؟

بهدوء أجابها:

- دعي أمك تعيش حياتها كما تريد، وكوني أنت كما تريدين، واعملي على تحقيق أحلامك.

- هل تعلم ما هي؟

- حدّثيني عنها.

- التجربات صورة من مراحل عمر الإنسان، من خلالها وجدت أصعب شيء على اليتيم قهره، وكسر خاطره، وإذلاله، أتذكّر حين كنت ضعيفة غير قادرة على حماية نفسي، فرعاني الله، وأخرجني من الظلم، ثم انهمكت في العمل على ماكينة الخياطة، فكنت في تصالح دائم معها، عرفت أسرارها بدقّة، فأصادقها كأنها إنسان له جوارح، ومشاعر، هكذا كنت ولا أزال، أحاسب نفسي فأفكّها وأنظفها وأعيد تركيبها، مثلي الأعلى: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وأشكر الله أن هداني إليه، وطاوعني قلبي لما يريد، فطاوعتني جوارحي، أشعر بعقلي وفؤادي في تناغم، كل منهما يردّد صدى الآخر.. لذا آليت على نفسي أن أرعى الأيتام والبائسين ما استطعت، وأستمر في تعليم الأطفال تلاوة كتاب الله.

- إنه عمل رائع، يقرّبك من الله سبحانه.

زرتها وهي في جلسة هادئة في ظل شجرة النارنج، ترتشف قهوتها في صمت، قالت في شجى:

- هذا الفنجان يعني لي الكثير، كلما لمسته شفتاي اجتاحني اشتياق إلى قهوة أمي، أضمّه بيدين متلهفتين إليها، ألثم أطرافه، وتنبعث ذكراها في ملامستي له، فتطفر الدموع من عيني، وأتساءل: هل من لقاء آخر، والمسافات الشاسعة تفصل بيننا؟.. أعيش بين سرور دعاه الاستقرار وحزن دعاه البعاد.. لقد طالت غيبتها، وعدتني بالعودة ولم تعد، يبدو أنها استمرأت القرار في إسترالية كما حصل لخالتي في البرازيل، وآخرين في القارات المختلفة.

رأيت أن أهدّئ من أشجانها، فقلت:

- أصبحت الهجرة شيئاً عادياً، ففي صدور المهاجرين أحلام تتهادى، وطموحات تمتد، وانطلاقات من واقع متعثر.

- ألم يهزّهم الحنين إلى الوطن؟ أسئلة تتجاذبني بحيرة، لا أدري لها جواباً، سيبقى خيال أمي ماثلاً في خاطري.. أحياناً أرى أنّ من العار أن تأوي النساء المسلمات إلى بلاد الكفر، مستجديات حقوقهنّ المهدورة في أوطانهنّ، يجدن فيها الأمان، والضمان من الفقر، ويغرفن من كنوزها الموعودة.. ألم يكن الصبر أفضل من الهجرة؟

نظر إليها علاء برأفة، وقال:

- لا تشغلي فكرك في أمور لا طائل منها، يمكنك أن تحقّقي مبادئك المثالية هنا، في البلدة، دعي أمك وشأنها، لا تلوميها، هي أدرى بما يفيدها ويفيد أولادها.

بحزن قالت:

- إذاً سنبقى مشتتين.

قلتُ:

- وسنكون نحن كذلك.

نظرت إليّ بارتياب، سائلة"

- هل من سرّ تخفيه عنّي؟

- قريباً، سننتقل إلى اللاذقية، هذه رغبة والدي.

عقد الصمت الحزين في وجوهنا، لم تصدّق ما سمعت، بامتعاض قالت:

- أيمكن أن يكون ما تقولينه، وبهذه السرعة؟.. أترضين هذا؟

- أجل يا "سناء" صار الفراق لغة العصر، يمزّق الجميع، لا يصغي إلى المشاعر، هو حكيم وفيلسوف.. وينتظرني فراق آخر، ستعلمينه بعد حين.

- أهو لغز؟

لم تدري "سناء" مدى لوعتي لفراق بلدتي، ألم تقل الوطن هو الأم؟ وأنا ماذا أقول؟.. أعتبر بلدتي وطني الأصغر، ولد من الوطن الأم، إن ابتعدت عنه في رحلة، شدّني الشوق إلى بحره، وشاطئه وأحراشه، ونهره وجباله وأرواد الماسة الساحرة كقوس قزح تحت شعاع الشمس.

استفقتُ من ذهولي على بكائها، وأنا أقول لها:

- من يخفّف عن الأخرى، أنا أم أنت؟.. ليس باليد حيلة، رأيت أن تتحدث بشيء آخر، فسألتها:

- أي الكتب تقرئين؟

بفخر أجابت:

- مكتبة علاء زاخرة بالكتب المتنوعة، أتلذذ بقراءة أشعار لنازك الملائكة، وصبيحة حداد، وعزيزة هارون، شعرهن يلمس وجداني، ويتغلغل في شغاف قلبي.

- أما أنا فأغرق في قراءة القصص، في صفاء المصيف في الجبال، بين الأشجار، وقرب الجداول، فوق الأعشاب، وألقي خلفي صخب الأولاد، والذكريات تجري حولي، معزولة عن نفسي تجذبني وأجذبها..

*  *  *

رسالى إلى "سناء":

لقد مضى على افتراقنا سنتان، لا أزال أذكر أجمل أيام طفولتي معك، ونحن في صحبة بريئة، كنا نلعب عند الخالة خديجة، ونحن صغار، نجري في دائرة الحوش الصغيرة، فتتسع لنا، كان كل منا يمسك بذيل ثوب الأخرى، وفاطمة معنا.. اليوم جلسنا نذكرك أنا وإخوتي، وفكّرنا أن نلتقي ثانية، لنتعرّف على أيام حلوة قد خلت، ونستعيد الذكريات، هل ما زلت شغوفاً بالقراءة، وأي الكتب تطالعين؟

.......................

*   *   *

رسالة من "سناء":

بلغني خطابك، يصف مدى تآلفك مع المحيط الجديد، كانت كلماتك ترقص ابتهاجاً، والأحداث المثيرة لها كثيرة، منها نجاحك وخطبتك، ولكن ما آلمني هو قرب انتقالك من غربة إلى أخرى، فهل أراك في غربتك الجديدة؟.. إنّ الأقدار لا تنفكّ ترسم لنا آفاقاً جديدة، بأي لون؟ هل هو لون الأحزان أم الأفراح؟

تسألينني عن الكتب التي أقبل عليها، قبل كل شيء أتأثّر بقصص القرآن الكريم، المتناثرة في أحداثها، ومواقفها في سوره وآياته، وأستغرق في تدبّر كل قصة على حدة، ومن كل واحدة أستخلص العظة والعبر، وقد أمدّتني بشحنة من العافية النفسية.

رسالة إلى "سناء":

أجمل اللحظات لديّ، عندما أخلو بنفسي، جليسي القرآن، أو كتاب، وذكريات تلوح في الخيال، أتمثلك أمامي بقامتك الطويلة، وقد امتلأت ووجهك الطيّب وعينيك وهما تتدفقان حباً لزوجك وطفليه.

الأيام التي قضيناها بحيّنا، تزوّدني بزاد من الرؤية لنفسي، كانت أساساً لرؤية أوسع، تملأ حياتي بالإيجابيات من الأحلام، وتكشف لي جمالاً خفياً خلف الأشياء، وأستطيع أن أجعل حريتي، وفقاً لمبدئي في ديني.

فكّرت كثيراً، لماذا نحبّ الحياة، أنا وأنت فجاءني الجواب، لأنها مزرعة لما بعدها، نقطف ثمارها بلذّة، تساعدنا في أن نقتحم الأحداث الموحشة، ونحطّم الشرّ في داخلنا، وفي غيرنا.

للحياة سرّ بل أسرار، تنكشف لنا شيئاً فشيئاً، ونشعر بجمالها في نسيمها، وطبيعتها ونتلذّذ بتدبّر معانيها التي تطلق أخيلتنا إلى آفاق الكون البعيدة، لنلتقي هنالك بحبّ موصول لا ينقطع، حبنا لله سبحانه.

الإيمان سرّ خفي في القلوب، يفتّحه الوجود، ويدلّنا عليه التدبّر في صفحات الكون، وآيات القرآن.

رسالة من "سناء":

الدنيا مشاغل، وقلبي لا يتوقف عن التذكّر والتفكّر أكتفي بأن أغمض عيني في خلوتي، وأفكر في الأيام الجميلة بصحبتك، وصحبة المعلمة هيفاء، الأيام ثمينة، وهي تكرّ وتفرّ من بين أيدينا، كرمل الشاطئ حينما كنّا نلعب به، لم يخطر ببالي أن نفترق، وترحلين مع أهلك إلى اللاذقية، ثم ترحلين إلى حماة، رحيل بعد رحيل، ما أمرّ الفراق!.. هل أغبطك على التنقل من الشاطئ إلى النهر، ومن الأراجيح إلى النواعير؟.. هل تستطيعين تحمل آلام الفراق؟.. أعانك الله أنت وأمي سواء، إنّ ملتقانا على الورق، ومع الذكريات في الخيال، وسروري بأخبارك عميق.. ما أجمل الأيام، والبلدة التي نشأنا فيها! إني أستمر في قراءة ما يحلو لي من الكتب التي يختارها علاء لي، إحساسي بلذّة القراءة والاستمرار بها فوز كبير، ولم ينطفئ شغفي بها، وهي توسع آفاق فكري، ومن المستحيل أن أتوقف على حافتها، وهذا يؤكد قوله تعالى: وما أوتيتم متن العلم إلا قليلاً.

أكتب إليك وأطفالي يلعبون، ويصخبون، وأنا عاجزة عن ضبط حركاتهم وأسيرة بين أيديهم، ولطلباتهم، ولكنني سعيدة بهم، مستسلمة لهم، أنا وعلاء نعيش في سعادة، مبدؤنا الفضيلة هي أمننا، وسكينتنا، وسرورنا، ونعيش في جنّة، فأيّ مكافأة أفضل لنا في دنيانا؟

رسالة إلى "سناء":

قرأت خطابك وأعجبني ما فيه، وانتابني إحساس بالراحة، واستمتعت بكلامك المعذب فوق الورق، كأنك طير تغرّدين من حديقتك وحولك يزقزق أطفالك، تحملين عبق ذكريات بلدتنا الجميلة، وشعبها الأبيّ، وألثم ورودها وزيتونها وأعانق برّها وشاطئها.

قبلاتي إلى فخرية الصغيرة، ومحمود الصغير، أبيت إلا أن تعيشي معهما، وتحمّلين طفليك اسميهما.

رسالة من "سناء":

قرأت خطابك مرة مرتين، وثلاثاً لشدة سروري بمحتواه، أسمع صوتك من خلال الكلمات، فتملؤني سروراً لأخبارك، وكنت أجري وراء الذكريات معكم، في طريق من السنين طويل، وروحي تملؤني، ولا أراها، كنت منّي قريبة.. حصلت على قصة (إصلاح) وقرأتها، بتأن، وقصصتها على أطفالي، بما يتناسب مع أعمارهم.

عرفت لذة التمرّد ظلّ هذا الإحساس يلازمني، أشعر بحياتي القديمة تتساقط شيئاً فشيئاً، كالرداء، أو كورق الشجرة، تبعثرها الريح، ولا أبالي بها، وتبدو غريبة عنّي، كان هذا الإحساس يسعدني، وكنت أحتفل به في قلبي.

رسالة مني إلى "سناء":

فكرت كثيراً في خطابك الأخير، وفي عباراته الجميلة، فغمرني إعجاب شديد، وأحسست بروحك تصفو وتصعد إلى معان رائعة، وتدبرك في معاني القرآن الكريم، والمطالعة هما اللذان جذباك إلى الصفاء والسمو، إنها الرغبة في تطوير النفس، التي تعمل المستحيل، لم تشدّك ترهات في الواقع، ولا الشهوات والأهواء، التقينا في المشاعر المعنوية، ومن مائدة القرآن تغذّينا.

أشواقي إليكم، وروحي دائمة السفر إليكم، لا يمكن أن أنسى الحياة في الحيّ بجواركم، وحين تحنّ إليه نفسي، أزوره في الخيال، وأتفقد الجيران، لأطفئ لهب الحنين إلى الماضي.

رسالة من "سناء":

إن الحب في الله شعور سام، لا يمكن للواقع أن يضاهيه فالواقع ضيق لا يشبع رغباتنا النفسية، فيه النفاق والكذب والتظاهر والتفاخر وهذه صفات ننكرها في واقعنا الإسلامي، نحن نتطلع إلى الأسمى والأمثل... إن الحياة قاسية جد قاسية، والحياة تدوسنا وتنهكنا بالظروف المتناقضة، وتدوس أحلامنا وتمنياتنا نجري لتحقيقها برغبة، فإذا ما تحقق الشيء صار عادياً وقلّت قيمته، تظل الرغبات أحلاماً جميلة، حتى نملكها كما المال نكسبه، وننفقه ثم يصبح شيئاً عادياً.

لا أريد أن أجري وراء الواقع، الواقع متاع الدنيا القليل الفاني لذا وجهت واقعي بحيث يكون أكثر جدية، وأكثر جمالاً فتعلقت باهتمامي بأطفالي، وتوجيههم نحو الفضيلة بالإضافة إلى نشاطي الاجتماعي.

أقرأ بنهم، وآخذ حذري من التأثر بكتب منافية للقيم، فالقراءة تضيء ما في داخلي، وتمنحني الفكر والسلوك، والمطالعة المستمر تحتاج إلى الأوقات المتسعة، مثل الوجود.

رسالة من "سناء" إلى أمها:

... ترغبينني بالهجرة إلى أسترالية، فيها الثروة والعيش الهنيء، إني أفضل يا أمي أن أعيش في عش صغير، وحياة متواضعة أملكها في بلدتي على أن أعيش حياة كبيرة تملكني أشعرتني وكأنني هبطت فجأة من السماء إلى الأرض، وعدت إلى الحياة من جديد... وشعرت بموجة من السرور وأنا أقرأ خطابك، وأعدت قراءته مرات، وأغمضت عيني وأنا أتصورك أمامي واحتضنت خيالك.

...................

حين بدأت أعدّ الحقيبة للسفر الطويل، دارت بي الأرض، وكأنها تحتضنني، وأحسست بها هي التي تملكني، ولست أنا التي أملكها. هي التي تجثم في صدري، وعلى أكتافي، وتسوقني إلى حيث لا أريد، ولكن الواجب يحتم عليّ زيارة بعض أبنائي الذين هاجروا إلى أستراليا، ومعرفة أحوالهم... لكن قبل السفر انتابني قلق، أخفيت وجهي، وأنا مازلت أمضغ الضيق الذي استولى علي، وأغمضت عيني على صورة الشارع الذي أسكن فيه، وقد اخضرت على رصيفه الأزهار وأزهرت وأصغيت بسمعي إلى أنين النواعير، وكأنها تودعني بحزن... وأمام النافذة التي تناديني منها الشمس حين إشراقها والهاتف الذي يهمس في أذني بكلمات الصديقات، أحسست بذهني يصفو وروحي تهدأ وهمست بجوارحي المضطربة.. سأعود، سأعود.

كان يشدني في أسترالية التعرف على فخرية، ثم كان ما أردت وجدتها قد ازدادت وقاراً في المهجر، واحتفظت بحيويتها، وحديثها المنطقي... كنت أنظر في عينيها النجلاوين، وتلامس نظراتي تعبيرات وجهها، فأستشف منها أموراً خفية، وكانت تملاْ الوقت حديثاً ولم ترفع عينيها عن التطلع إلى الماضي والمستقبل... استغربت من قسوة الأقدار جعلتني أسألها:

لماذا تتأخر الآمال هكذا دائماً؟.. ولماذا تسقط أحياناً بعد أن يجف الزرع؟

برزانة أجابتني:

- إن شاخ المرء ومات، فإنه لم يمت فما زال يانعاً، مخضراً باقياً في أبنائه.

في حوار معها قلت:

- أرى هنا الفساد منتشراً في كل مكان، يبدو في عري المرأة، والمخدرات، وأشياء كثيرة.

- إن الفضيلة لم تمت وهي أمان الخائفين، وسكينة الورعين.

ابتسمت وأنا أقول:

- أرى الجمال في كل شيء في الوجوه، والبيوت، والطبيعة.. أعجب للفضلاء، ينتظرون أن يكافئوا على فضيلتهم بالجنة وهم هنا في الجنة.

بجدية قالت:

- جنة الدنيا هنالك في الوطن.

صمتت برهة، وعندما رفعت وجهها، رأيت عينيها مكسوتين ببريق رقيق من الدموع... ولفتني نبرات صوتها في موجة من الحزن كانت تتمنى أن تجد في وطنها ما تجده هنا، ثم أردفت:

- التغيير كان حلماً لنا.

قلت:

- الأحلام لا تموت.

- الماضي فات، والحاضر يفوت.

- والمستقبل سيأتي، ويفوت.

- والأيام تكر تباعاً في كلمة ثمينة اسمها الزمن.

- كالرمل تتساقط بنعومة.

بعد صمت هادئ، قلت:

- علمت بأنك تقولين الشعر منذ صباك، هل تسمعيني بعضاً منه:

تناولت أوراقاً، احتفظت بها في درج المكتب، وأخذت تلقي شيئاً منه، بصوت ذي نبرات متموجة، تتآلف مع المعاني كان أكثره يدور حول "سناء" والوطن، فيه رقة وحزن، وهو مفعم بالإيمان والأمل بمستقبل جميل، لم تعد تخاف من الماضي، ألقت مخاوفها في بحر النسيان وأغرقتها... سكت على مضض وأنا ألوك في فمي مئات الكلمات.

قالت وغشاء رقيق برق في عينيها:

- الشعب في الوطن طحنه الاستعمار، وبقي إباؤه وكبرياؤه.

باستنكار قلت:

- نسمع بعطف بريطانيا عليه، هل هو تنافس، أو شعور حقيقي؟

- ذلك ما يحدثنا عنه التاريخ.

ثم أردفت:

- كنا ونحن في الوطن، ننتظر انهيار الحضارة الغربية، وننعي عليها بالتردي مستلهمين، ومقلدين لما نقرأ ونسمع، نتوجس من أساليب حياتية، لم تكن في حسباننا، تتعدى على إرثنا ولم تدخل في وعينا ثم بالمقارنة وجدنا أننا بالفعل نحتاج إلى إعادة النظر فيما حولنا.

قلت باستغراب:

- من خلال وجودي في أسترالية، رأيت أن الاستعمار أرانا في بلادنا الجانب المظلم، السيء من تدمير وإفساد لقيمنا ونهب لثرواتنا ولم يرنا الجانب المضيء.

- أجل.

سألتها باستفزاز:

- هل تشعرين وكأن حياتك أرجوحة بين أسترالية والوطن؟

- أنا كغيري من المهاجرين، ممنوعون من الفرار، وشاردون في البحار، أرواحنا في أوطاننا، وأجسامنا في المهجر. فنحن في تأرجح مستمر.

قلت:

- هذا ما لاحظته وسمعته من مهاجرين، وأنا في الطائرة، إنهم مصممون على العودة إلى أوطانهم، يعملون في المهجر، ويكسبون ويبنون هناك، ويقررون الموت فيها... هل آن لك أن تستريحي في الوطن، أم تبقي ممعنة في الفرار؟ وهل يعود الفرح إليه؟

تنهدت، وبأسف شديد قالت:

- لن تهدأ الرحلات في الجو والبحر، ستبقى محملة بالمهاجرين لحكمة أرادها الله.

قلت:

- أنت لا تنتمين إلى هذه الشواطئ، انخلعي منها واستديري. شاطئنا في انتظارك، وعينا "سناء" لا تزالان تسيلان بالدموع لفراقك.

- أنا مثلها في اشتياق دائم، سأعود بإذن الله لأموت فيه، لا يعوضني شيء عن وطني.

- هل تحدثينني بالتفصيل، عن حياتك، وحياة الجالية العربية؟

نظرت إلي وهي تمرر ابتسامة امتزجت بضحكة في وجهها، قائلة:

- هذه قصة أخرى، سأحدثك عنها في وقت آخر.

         

الهامش :

* أديبة سورية تعيش في المنفى