مارد في صدري(10)

مارد في صدري(10)

رواية: نعماء محمد المجذوب*

في خضمّ ألم الفراق، لم تنس صباها الذي ترعرع وسط إخوتها، فثمّة رغبة ملحّة تدفعها إلى رؤيتهم.. هل تزورهم، أو تذهب إلى مدارسهم؟.. تتصورهم قد أحاطوا بها، والشوق يعبّر عن نفسه بينهم، وما لبث أن عادوها خوف قديم، فانتفض قلبها كحمامة ذبحت لتوّها، فتراجعت عن هذا التفكير.. وقفت حيرى، وكأنها محاطة بأسلاك شائكة.

شبح الفراق يطاردها، ابتعاد عن البيت وطرد بلا ذنب، ولا جناية.. هل تخدع نفسها حين تظن أنّ زوجة أبيها قد تغيّرت، فتستقبلها بسلام؟.. أم هل تبقى صلتها بإخوتها منقطعة إلى الأبد؟.. ماذا عساها أن تفعل والحنين يستحوذ عليها، واليد القاسية غيّبتهم عنها؟ رأت الأمل ضوءه ضعيفاً، وسط أوهام مظلمة.

كانت تخفّف من آلامها عن طريق تعليم الأطفال التلاوة، ومساعدة البائسين، والتعرّف على نساء الحيّ.. ويبقى الكابوس ضاغطاً على صدرها، يقطع أنفاسها، ولم تتجرأ على الاقتراب منهم، تخشى من ذلّ آخر يلحق بها، وما أصعب الحنين، مصحوباً بالحسرة حيناً، والألم الغاضب حيناً آخر.

أمضت "سناء" زمناً تحاور نفسها، تحاول كتم الحوار، ولكنه يتواصل برعونة.. في أحد أيام الخريف انطلقت عند الظهيرة باتجاه مدارسهم، عسى أن تلمحهم، كان الهواء نشيطاً يحمل رذاذ المطر، ويضرب أغصان الشجر، فتتساقط الأوراق، ثم تنجرف إلى جانب الطريق، كان كتاب تدحرجه الريح، تقلّب صفحاته بنغمات لذيذة الإيقاع، لحقت به، تناولته، كان شبه ممزّق، تراكمت فيه شخبطات، وتصاوير بقلم الرصاص ومن بينها، قرأت اسم أحمد أحد إخوتها، ضمّته بشوق غمرتها سعادة، قبلت الاسم بمحبّة، بصمت تأوهت، وتساءلت:

ترى كيف حالهم؟

أهم في صحة وسرور؟

ماذا حلّ بكتبهم المهملة؟

تذكّرت كيف كانت تحافظ عليها، وتقرؤها في ركنها، بعجب قالت:

أهذه هي الحياة؟ حبّ، شرّ، فراق، عذاب؟.. لا يعلم ذلّ الفراق إلا من ذاق طعمه.. حمّلت صدمتها الشديدة زوجة أبيها، فالإخوة إخوة، بغضّ النظر، من أمّ واحدة، أو أكثر.

كانت تسير في الطريق المرتفع عن مستوى البحر، وأمواجه تعلو، وتصخب والعواصف تزداد، وتلطم وجهه، دعاها المشهد إلى تصور ألوان العذاب لإذلالها، واستحضار الأحقاد ضدها، والزعم بأنها شؤم ونحس.. ارتبكت حين وقفت الأحداث أمامها بصدق، وصراحة وبصوت عال نثرته الريح، قالت:

لماذا لا يرسخ في الذاكرة إلا كل ما هو مؤلم ومريع؟

سأنال حقّي في الحياة بفضل الله شيئاً فشيئاُ، رغم عناد وصلابة الظروف.

الذكريات تلغي الأزمنة، والمسافات، وشعور "سناء" بالغربة يشتدّ، فلا يأتيها من أخبار إخوتها إلا اليسير، كانت تحسب أن التغيير في حياتها ينسيها ما بها، ولكنه في الظاهر ليس إلا تماسكاً مصطنعاً، يتهشّم أمام أدنى هبّة تذكّر، وحنين يعصف بها.

لمحت هيفاء الارتباك في وجه "سناء" سألتها:

- لمَ أراك في حال غير ما تركتك عليه؟

- بالفعل.. لقد استحوذت عليّ الذكريات، وغلبني التفكير، كنت أظن أن الأحداث التي صهرتني جعلت مني إنساناً آخر جديداً، لا ينهار بسهولة، فتشبّثت بالحياة بقوة، وتغلبت على المعاناة ولكن أراني أعود لمواجهتها ثانية.

- أنت لا تصنعين نفسك، قدرك هو الذي يصنعك، وهو الذي يسيّرك تبعاً لظروفك الحياتيّة المختلفة.

- رحلة معاناتي قد طالت.

باستغراب سألتها:

- وأنت في أمان عند هذه الأسرة الطيّبة؟

- معاناتي في داخلي.

- اصمدي، لا تليني، ولا تنهزمي، مهما سقطت الآلام في أعماقك.

صمتت برهة، سألتها هيفاء:

- هل من شيء؟

- أفكّر بالفراق الطويل، إنه ذلّ وظلمة، قد أتفاءل في لمحة ضوء في الظلام.

- اتركي الأمر للظروف.. سأراك فيما بعد.

كانت غيمات تغزو ساحة الفضاء، تساءلت بحيرة:

أيهما يسبق في الهطول، دموعها أم دموعي، وأيهما أكثر تدفقاً؟

هل الدموع والأحزان مبدأ متأصل في الإنسان؟

كانت أسراب الطيور، تحلّق في زخم على ارتفاع شاهق، تبحث عن فضاء جديد، تبدو كبقع من ظلمة الليل المتناثرة في ضياء النهار، أو كنقط نقشت في السماء، تمتد بكثافة إلى أعماق الآفاق، بلا زاد من ظلّ، أو ماء، وتطير إلى الجنوب فوق البحار، والقفار، تقطع المسافات الشاسعة ولا تضلّ طريقها، تعرفه بغريزتها لا تخطئه، ثم تغيب في الأمداء، تصغر، تصغر، وتتلاشى في رحلة بعيدة ولكن تعود إلى أعشاشها في الربيع التالي، هذا موعد هجرتها من كل عام في الخريف.. سرحت "سناء" مع الخيال الطائر وفي أعماقها هتاف:

لماذا حاسّة العودة إلى الوطن ومن المهجر، ضعيفة عند الإنسان؟ نحن بحاجة إلى مثلها، قلوبنا تتحرّق شوقاً إلى من هاجروا وهجرونا.. كل طير مهاجر سيئوب إلى موطنه، وأمي رحلت، ولم تعد، ألا من شيء يدفعها إلى العودة؟.. أم أنا التي تبقى متخبّطة في التجارب.

رؤية الطيور المهاجرة، أيقظت في داخلها فجأة رحلة يخالطها قلق، قلق الشتات، صرخت بألم:

إلى متى الشتات؟

إلى متى، إلى متى؟

متى اللقاء بعد الفراق؟

نظرت إلى المنارة عند الشاطئ، كانت قد تعرضت لشيء من الإهمال، وانطفأ ضوؤها بعدما كان ينتشر في الأجواء.. وأصبحت مرتعاً للطيور الغريبة، ومحطة انطلاق للهجرة.

اتسع معنى الفراق في ذهنها، ضاقت من قلقها، القلق يوشك أن يخمد روح الطموح لديها، وجال فيه حوار:

ألم أتفق مع نفسي لأغيّرها؟

ما بالها اليوم ترحل مع أسراب الطيور، تلاحقها بين أسراب الغيوم؟

هل كانت أمي طيراً شارداً ممعناً في الفرار من الواقع؟.. من الأرجوحة التي كانت تؤرجح حياتها؟

نامت العواصف على أكتاف الشتاء، وارتحل بها إلى أراض بعيدة، أخذت الحياة تتنفّس بيسر وابتسام، وإيناس ودود نديّ، والوجود الغافي يستيقظ رويداً رويداً مع الربيع، وكأنّ أنفاسه مفاجأة، وكأنّ تفتحه ابتهال.

اعتاد أهل البلدة القيام بنزهة جماعية إلى أحد الأحراش القريبة، يعلن عنها مسبقاً، حتى إذا جاء اليوم الموعود، بدأوا بالزحف مع خيوط الفجر.. كان في الجوار باب قلّما يفتح، إن سمعنا صريره، ذهبت عيوننا داخله، يأسر حوشه انتباهنا، كان أشبه بلوحة فنيّة، ليس كمثله فناء، ذو صخور متنوعة الأشكال، والألوان، تنهض من حواشيها الزنابق والورود يتسرب عطرها إلى الحيّ، ويأخذنا العجب من صاحبته (خضرة) الضريرة، فابنتها (نوال) تعمل في مصنع التبغ سحابة نهارها، وخضرة هي التي تزرع وتنسق بطريقة تثير الدهشة، معتمدة على لمساتها وحسّها المرهف، قد أدخل مع "سناء" إلى بيتها، فتقودنا في ممرات متعرجة بين الصخور، تحذّرنا من ليّ عنق زهرة.

خرجت خضرة لتشارك بقدوم الربيع، تتكئ على ذراع ابنتها، والسعادة تغمرها، ونوال ترسم في مخيلتها أبعاد الطريق، وصور الأشياء مقترنة بما يصل إلى سمعها من شقشقة العصافير، ووشوشة أوراق الأشجار، وما يملأ خيشومها من أريج الورود، ونداوة النسمات.

يقع الحرش فوق تل واسع، تظلل جوفه الأغصان المتشابكة، تتخللها أشكال ذهبية، صاغتها الشمس من شعاعها، ونثرتها فوق الأرض، يحركها النسيم الخفيّ.. وعلى مقربة منه غدير صغير يتدفق من ينبوع.. يجري ماؤه رقراقاً فوق الحصى، يروي الماس والحقول.

كان ثمّة طريقان فرعيان يبدتئان من الحرش، ويلتقيان عند بحيرة تجمّع ماؤها في فصل الشتاء، واتسعت في الربيع، بسبب ذوبان الثلوج من أعالي الجبال، تنثر أنغام خريرها في الأجواء، وحولها حقول القمح الزاهية بخضرتها، وأشجار البلوط يقبع فوق إحداها كوخ لفلاح سقفه من القش.

مشاهد شتى توزّعت هنا وهناك، فالزهور البريّة، تترنّح على الأغصان، تؤرجحها النسمات، تلألأت على أوراقها لآلئ الندى، وتغرق الأولاد في كل مكان، فمنهم من يجري وراء الفراشات، إن اصطاد منها أسرها بربطها بالخيط، ومنهم من يحتال على صيد طير النفّج الذي يتخفّى بين السنابل في الربيع، ومنهم من كان يلعب لعبة الحرب يجعلون من الأغصان سيوفاً، ورماحاً، يأتمرون بقائدهم، يصعدون الهضبة طوراً وتارة يهبطون وادياً.. وقد تعقد الرقصات الشعبية ويبدو شيخ طاعن في السنّ، يتوكأ على عصا، استخفّه الطرب، فوقف وسط الحلقة، يردّد الأهازيج بحماسة الشباب.. كانت نظراتنا تتابع المناظر، والضجيج يذوب في أسماعنا.

هكذا الحرش في الربيع، فيه بهجة الحياة، بعيداً عن شئون البلدة، نسرح فيه مع أحلامنا، وتدعونا الطبيعة إليها بمفاتنها الرائعة ولولا الربيع الزائر، يختال بوروده وجداوله الجارية، وشجره المزهر وسرابه المترجرج من بعيد، لما أحسسنا بمتعة الجمال، الذي يخلب عقولنا.

بعد تجوال وجدت "سناء" تجلس عند جذع شجرة، برفقتها كتاب، تقلّب صفحاته، قد آثرت الوحدة والانفراد، ومن حين إلى آخر تصوّب نظراتها نحو الأطفال، يصخبون بأصوات تتسم بالغرابة، كأنها في بحث دؤوب عن إخوتها، ترغب رؤيتهم، لمحت حزناً في ملامحها،فعرفت مدى اشتياقها إليهم.

هيا نتجول عند ضفاف البحيرة، فلربما التقانيهم.

 كان المكان يضم جناحيه على حشد من المناظر، ذات الألوان، والأنواع، والظلال، تلمس شغاف القلب، وتوقع على أوتاره شتى الإيحاءات بقدرة الله تعالى.

كنا ندقق بوجوه الصبيان، والبنات، ثم باستياء قالت:

أظن أنهم قد تغيروا، سنتان مضتا لم أرهم خلالهما.

لقد جئنا لنمرح، ولننسى مآسينا.-

كانت تخفي أحزانها وراء قناع من السرور، سألتني.

-هل سأنفق عمري تائهة، كالبحار وسط المحيط، في بحث متواصل؟

لا يزالون يسكنون مخيلتي، أعيش كلماتهم... لم أودعهم، إذ قلت: سنتلقي.

كانت ظلال الأشجار، تسري فوق الأرض، والطيور ترف بالتغاريد، وألم الفراق يزحف بجنون في صدر سناء، ويبقى الحلم هو الملتقى.

بابتسام، قلت:

-الحياة هنا، بنسماتها الرقيقة، وشذاها، وجمالها، تدعوك لتحبيها بكل جوارحك، وكيانك، فلا تعذبي نفسك، دعيها تبتهج، وتفرح، هكذا يهمس لنا الربيع، لا تجري وراء سراب، ووهم لقاء.

 استرخينا فوق سفح هضبة، نفترش العشب، وتناولنا اللفافات اللذيذة، ثم شربنا من ماء الغدير الصافي، ونحن نتأمل السهول المزركشة، وننشد الألحان، ونخال صدى أناشيدناٍ، تصل إلى كل زهرة، وحمامة شادية، كانت أقدامنا على الأرض، ولكن روحينا ترفان في السماء، ويبقى الجسد، والروح متصلين، لا ينفصلان.

اتجهنا إلى شجرة صفصاف، نستظل تحتها، كان عش تنبعث منه زقزقة فراخ طير، والأم تزقمهما ما تحمله بين فكيها، قالت سناء وهي تبتسم بحنان:

- الطبيعة يتوالد منها الشجر وترويها الجدوال التي تجري فوق صدرها، والطيور التي تترنم بتغاريدها وقلت:

- نحن والطبيعة توأمان.

ثم فجأة قلت:

- انظري، هذه ليلى مع الأطفال، استلقت على بطنها، تتحدث إلى الضفادع، وهذا أحمد يجري وراء الجراد، والفراشات،صاحت "سناء بصوت، حبسته بين جانبي كتفيها:

- ليلى.. أحمد

اندفعت ليلى تجاه الصوت، يلحق بها أحمد، ضمتهما بحب شديد، وعيناها تدوران في كل اتجاه،تبحثان عن البقية،.. ثم أقبلوا إليها مسرعين متلهفين، وانضم إليهم خالد بوجه مشرق، تبدو عليه الرجولة، ويثب بثقة في حديثه..لم تدر ما حدث بعد ذلك، فقد انفجرت بالبكاء وهي تقبلهم بشوق لا ينضب.. وبكلمات متقطعة تقول لهم:

- سنتان يا أحبابي لم أركم، كنت أذوب شوقاُ إلى لقياكم.. أثناء الحديث،  كانوا يدفعونها نحو جوف الحرش، دون أن تدري، ثم فوجئت بأمهم أمامها، بهتت، تفجرت ملامحها بالألم، ونهضت الأحزان من سباتها، وبتفجع صامت تساءلت:

لم ابتعثت آلامي وقت الفرح؟

أرى الأشباح تطل من عينيها.

رمقتها بطرف خفي، وحاولت أم خالد أن تخفي نظرتها الخبيثة بابتسامة ماكرة، وإخوتها يدعونها بإلحاح كي تعود إليهم، وخالد يمسك بيدها، ويتوسل ويحاول أن يعيد الثقة بينها وبين أمه، لكن العلاقة كانت مهلهلة، يصعب رتقها.

بعد أن استعادت هدوءها، قالت لهم:

- تعالوا نلعب لعبة الصياد خارج الحرش.

هللوا من الفرحة، وخرجوا متمسكين بتلابيبها. قالت لهم:

- أنا الصياد، و..

- نحن العصافير.

- أنتم تجرون،وأيديكم ممدودة كالأجنحة،وأنا أجري، لأصطادكم.

تخلل اللعب صخب، وضحك، يطيرون حولها، وتصطاد واحداُ تلو الآخر، تحجزهم خلف الشجرة. حتى إذا ما انتهت اللعبة، جلسوا فوق الأرض، لاهثين. ثم أشارت إلى نحلة قائلة:

- انظروا،ماذا تفعل؟

بأصوات متشابكة، صاحوا:

- تطير منذ الصباح،من زهرة إلى زهرة، لتجمع الرحيق، وتصنعه عسلاُ.

- إنها تحب العمل، والكفاح، أترون جناحيها القصيرين، لا يهدآن، ولا تعرف الملل، وتكره الكسل.

اقتربت ليلى، وسألتها:

- متى تتفتح الزهور؟

- بعد الفجر، تفيق من نومها على أنواره0

قالوا:

- نحن نحب الربيع كثيراً،

- إنه يجعل الدنيا كأنها في عرس، تتزين بالألوان، والأزهار، يجعلها فاتنة بحسنها.

كان صوت أم خالد يدعوهم بشدة، ليستعدوا للعودة.

تساءلت في نفسها:

- أهكذا بعد أن التقينا، وشملنا الحب، يبعدنا الصد عن بعضنا ثانية؟ .. صدري يموج بدفء حبهم، ولكن الزمن يتمادى في الصدود.

قبل أن يعودوا، نقش كل منهم بحجر على الصخر، اسمه، كذكرى لأسعد يوم.

كانت غيمة على المدى البعيد، تفرغ دموعها، وتراوغنا، بتردد برقها، ورعدها في الفضاء الواسع، والشمس تنحدر نحو المغيب، كسفينة على الشاطئ الوردي، نظرنا إليها بألق، وقلوبنا تلهج بالإيمان.

غسلت النزهة الجماعية في أحضان الطبيعة أحزاننا... ستكون على مر الزمن ذكريات تتداعى، فالتفكير يبعث ما كان منسياُ، كانت فرصة من العمر، لا ندري إن كانت ستتكرر، أم ستصبح هاجساُ، يصعب لقاؤه، بسبب الأرزاء التي تباغت الإنسان؟

ألقينا سلامات الوداع على ما حولنا، ونحن في طريق العودة، وفي نفوسنا أمنيات جذلة، تسكن في خفايانا.

حين أقبل المساء، بكرت البلدة بالهجوع، وسكن الليل، وغرقت "سناء في تأملاتها، تذكرت نظرات خالد المتأسفة، معتذراً عما بدا من أمه، ورغبة إخوتها في الرجوع إليهم... اضطربت، بين حنين غامر، وألم مرير، ثم أخذ النوم يهدهدها بتناغم، ليبعدها عن ذكريات الأحزان، وخواطرها تسيل في كلمات:

عسعس الليل في جانحي

فاستفزني مذعورة

ينكت الآلام في صدري

قد كنت منها مدحورة

ضقت ذرعاً بآهاتي

كفاني يا نوى مقهورة

ضمني يا ليل واهد لي

فأنا في إيماني مأسورة

أسفر الصبح باسماً

فأنا في أنواره مبهورة.

قررت ألا تذعن لرغباتهم، فلن تعود إلى مناخ الخوف، والقلق، ولكن سيبقى حبها لهم آسرها، مهما جاء عليها الزمن، ولن يطرق اليأس قلبها بلقائهم.

هتفت بلهفة:

هم إخوتي، أنا منهم، وهم مني.

...................

لم تزل "سناء" ترتقب عودة أمها، هكذا وشى إليها الصبر، ولم تشك بأنها قد شابت، وهرمت، ردّت هذا الخاطر، وهي تؤكد أنها لم تزل فوق حدود ظنها، ووهمها... أخرجت صورتها من بين الأشياء، تأملتها، أحاطتها بشيء من التغيير، وتساءلت:

هل يمكن أن أعرفها، أو تعرفني إن عادت بعد غيبتها الطويلة؟

أخشى أن بكون الزمان قد ذهب بجمالها، وتفردت بأنينها الفراقي.

وهل تشتكي للقمر تصاريف الأقدار، أم هي مشغولة بأمور لا أدري عنها شيئاً؟

قد تعيرني الطيور أجنحة من نور، أسري بها في الفضاء، بيني وبين القمر ودّ منذ طفولتي، يتوغل في أعماقي، ويهمس في قلبي همسات وإيحاءات، ويغسل أحزاني، وتلتصق عيناي في السماء، وتشغلني الكواكب والنوم لدي مفقود، وأرى الحياة خلالها جميلة، وتمور بي الأحلام، فأحاورها ، وأتمنى عودة أمي من النوى، والشتات... لم يتطرق اليأس إليّ، هكذا يهمس لي الأمل ، ثم لا ألبث أن أتساءل:

أتبقى دنياي الحزينة في أحشائي، وعيناي تجريان بالعبرات؟

أأبقى غريبة عن دنيا أترابي؟

ألهن حياتهن، ولي الموت؟

مسحت دمعتين تدحرجتا على خديها، وحمّلت الكلمات شكواها:

آه من وحشتي، وغربتي

خان أنيني ما استتر

خذني إلى سماك يا قمر

وارحمني، كغيري من البشر

كان الليل يضم بغشائه كل شيء، ويخفيه، ولكن يوقظ مشاعرها، وذكرياتها، وآلامها، وأحزانها، وكأن الليل عالم آخر، غير عالم النهار.

لمست هيفاء الأحزان في نفسها، فقالت لها:

- لست غريبة في البلدة، الحياة لا تعاديك، ولا تريد موتك، فأنت تحيين في نفوس الناس، لكن أفكارك المتشائمة تميتها، أرويها بالبسمة، وتلاوة القرآن، والعمل، والنسيان.

- أنا في حيرة، خيال أمي يردّد كلماتها، وحكاياتها، كلما قلت نسيت، عادت الذكرى نشيطة، لا أدري، أيدوم ظلها مشتتاً؟

- قد تظهر في حياتك فجأة، وتعيد إليك البشاشة.

خفف العمل من أرقها، وبدد من مخاوفها، ولكن الذكريات تثب إلى ذهنها، عندما تجتمع مع خديجة في ثرثرة لا تنتهي، فالذكرى تتبع الذكرى، وخديجة تحدثها عن زمن سعيد عاشته مع صديق زوجها، فقالت:

- كان كثيراً ما يبكي في الليل، وهو يغطي وجهه بالوسادة، كي لا نسمع نشيجة، وإن سألته أجابني: لأنه الشوق إلى أمي التي تنتظرني مع إخوتي في المغرب، أفكر بالسفر، ولكن البحر واسع، والطريق طويل كما أني لا قدرة لي على فراقكم.

- وتسأل بلهفة:

- ألم يعلم عنهم شيئاً؟

- أبداً، لا صلة بينه، وبينهم، حتى خطفه الموت فجأة.

ثم بتحسر قالت:

- كان حنوناً، كريماً، محباً، حلو الشمائل.

شعرت "سناء" أثناء الحديث، بأن خديجة لم تزل رهينة ذكرياتها، ولا تزال تعتقلها حيثما كانت.

في ضحى اليوم التالي، والشمس ترتفع مبتعدة عن الأفق الشرقي وهي في أبهى تألقها، وتسرب إلى الأجسام دفئاً، ناعشاً، أحست "سناء" بحاجتها لنزهة قصيرة، تروح فيها نفسها عن أرق الليل، وهواجسه... استكانت بجوار صخرة ناتئة عند الشاطئ، تتأمل بنظر واع، استجاش المشهد وجدانها، وخشع قلبها، وتحركت روحها، نحو قدرة الخالق المبدع، فتعانق حسها، بجمال الوجود، ترفع عينيها إلى السماء، ثم تغرزهما في الشاطئ الرملي المبسوط في مداه، وصخور تبرز منه بأسنتها، يضربها الموج، ويستدرج السمك إليها... كان شعورها يغرق في هذه التأملات فتتنفس براحة، راحة السجين الذي أعتق، ونال حريته.

تخلل السكون أصوات ممجوجة، استدارت، رأت كهلاً يتلوى في مشيته كالثعبان، بيده قارورة يرتشف منها بين لحظة وأخرى، منظره أرعبها، رأت أن ترجع قبل أن يقترب منها، وقتئذٍ واجهت هيفاء، أخذت تهدئها، وتحدثها عن أبي "بدر"، هذا الرجل الذي ٍأرهقه الانتظار، لعودة ولده من المهجر، ثم يكتشف بعد عناء كبير أن ابنه قد غرق في عالم مليء بالبهجة، وصار الانتظار مجرد ذكرى مهينة، مزقت قلب أبي بدر، وغرق في كؤوس الخمر، ظاناًُ أنها قد تعيد إليه إحساسه بالحياة، فجعلته يترنح في الطرقات، ويتحدث مع خيال ابنه، وكثيراً مايرى نائماُ على قارعة الطريق، غارقاً في بوله.

باستنكار قالت سناء".

- الحضارة في المهجر، أفسدت ما فطر الله الإنسان عليه،... منظر هذا الأب يثير الشفقة.

- امثاله كثيرون، يعيشون على أمل عودة أبنائهم، محملين بالذهب، صمتت برهة، ثم قالت:

- إن الهجرة تشي بمرارة الشتات في أصقاع الأرض، فالسعادة في الوطن صار يشوبها القلق.

بحدة قالت" سناء":

- أرى في الهجرة خيانة لحب الوطن، ووفائه.. من خلال اندماجي في البيئة، اكتشفت حاجة الناس إلى بعضهم، لا إلى تفرقهم.

- والأعجب من هذا ، أن الكثيرين من أبناء الوطن المهاجرين ينسلخون من انتماءاتهم تحت تأثيرات الحضارة الغربية، ويستبدلون هوياتهم العربية، التي هي على تراثنا بأخرى.

- ما الأمور التي ترغمهم على الهجرة؟

- ظروف اجتماعية، واقتصادية قاسية،

- لا شك أن الاستعمار قد غير الموازين، ودفع إلى الهجرة، بالإضافة إلى الأخبار السيئة، والكئيبة التي تصلنا باستمرار، وتطاردنا في كل مكان.

بعد أيام، والنهار صافٍ أتيت بيت خديجة، وبصوت خافت قلت:

- هل علمت يا " سناء" بما حصل لزوجة أبيك؟

ثبتت نظرها بوجهي، وبخوف سألت:

- هل حصل شيء ؟ أخبريني .

- بكل أسف، استحوذ عليها المرض، وأدى بها إلى الشلل.

استبعدت "سناء" الأمر، واستغربته، كأنه شيء لا يكاد يكون.. أبعد هذه القوة، والطغيان؟

قلت لها :

- أنا مثلك، أوشكت ألا أصدق، حتى رأيتها بأم عيني.

- أهذه نهايتها؟ وهل يمكن شفاؤها يا ترى؟

- يقول الطبيب غير ممكن.

بقسوة قلت:

- ماذا كانت تتوقع؟ لقد سرقت شبابك، ومالك.

- تعيدني الذكرى إلى سنوات خلت، حين طردتني طرد الكلاب.

أما الآن، فلا أريد أن تستفزني الأحقاد، سأذهب لزيارتها كي أخفف عنها.

- إنك طيبة جداً، طيبتك نابعة من إيمانك.

- أنظر إليها بائسة كغيرها من البائسات، تحتاج إلى المساعدة.

همست لها قائلة:

- عودي إلى إخوتك هم بحاجة ماسة إليك.

- لا أقدر.. سأطل عليهم بين وآخر، وأدربهم على العناية بأمهم.

- لماذا؟

- لا أقدر أن أستكين للمألوف ثانية، فذلك يجعلني مستغرقة في هموم جديدة.. إن اكتفيتُ باجتزاز نفسي ذبلت، وضعفت وقصّرت في تأدية رسالتي نحو نفسي، ونحو بيئتي.

ثم ابتلعت لسانها، ودهمتها غصّة، سألتها:

- ما بك؟

- خالتي التي تفنّنت في ظلمي منذ صغري، لا يمنعني من تقديم المساعدة إليها.

أحسّت لشوق طفولي إلى البكاء، إحساس طفلة شاحبة، غريبة تستجدي العطف، يهاجمها الحزن الآن، ويقتحم أعماقها، يحملها في زورق مليء بالدموع.

سألت نفسها:

أأذهب إليها بعد الذي كان؟

أجابتها:

أجل، من أجل إخوتي، أحبّهم، رغم ما كان.

التفتت إليّ قائلة:

- لن أثير الماضي، سألقيه ورائي، وأتعامل معها بفطرتي النقيّة، ولا يمكن أن أستهين بإخوتي.. هل أنسى نظراتهم المحبّة؟ لا أقسو على أمهم، أو أنتقم منها أبداً، فليس في خلقي هذا، مهما علت عداوتنا.

بلهفة قالت لي:

- هيا نزرهم، وبيدي هديّة لخالتي.

*   *   *

في البيت الذي ترعرت فيه "سناء" نظرت إليها خالتها بعينين مكسورتين، فمشت مشاعر الرأفة في قلبها، وأقبلت عليها بوجه بشوش، وعبارات حانية، وأصلحت من شأنها، ليس لأنها تحبها، فقد مات الحب بينهما، ولكن شفقة ورحمة، وسهرت الليل بجانبها. في الصباح سألها إخوتها:

- أيمكن أن تبقي معنا؟

هزّت برأسها قائلة:

- آسفة، ليس بي رغبة، سأكون عندكم كل يوم لساعات.

الوضع الجديد جعلها في توتّر، تعالجه في الهرب إلى أحضان الطبيعة البكر، فهي في حنين دائم لها، تفرغ عندها آلامها، ترى فيها إيقاعات متنوّعة، تلمس وجدانها لمسات رقيقة، تنبثق من مشاهدها، وتخلع على قلبها إيحاءات، وأسفاراً، تتساءل بعجب:

هل بين قلب الإنسان ومشاهد الكون لغة سريّة، تغور في أعماق المشاعر؟

وهل ثمّة صلة بين روحه وبينها، في تجاوب، ومناجاة بغير صوت؟

إحساسات عندها، تشعرها بالأنس في الحياة، وتوقظ قلبها لينطلق إلى هذا الكون.

تقابلنا عند درجات المسجد، سألتها:

- كيف حال أم خالد؟

- غفر الله لها، لا هرب من قدر الله، لكل قدر حكمة.

- التجارب تتساقط عليك بكثرة.

- إنها أفادتني، ومنحتني قوة واعية، وإدراكاً أفضل لذاتي، وأبعدتني عن توافه الأمور.

- شعورك هذا لنيلك حريتك.

- وبإقبالي على كتاب الله فقد نمّى قدرتي تجاه التكاليف والواجبات.

سكتت برهة ثم أردفت:

- كنت أشعر أحياناً بالإلهام في داخلي، فأخشى أن أتصرّف ويكون تصرّفي فيه خطأ، فأسأل من هم أعلم منّي، فتنجلي الغشاوة عن عيني.

- إنّ البلدة تنظر إليك باحترام، يليق بك.

ضحكت وهي تقول:

- من رماد الكارثة، يكون النجاح، والفضل لكتاب الله، معانيه نبّهت مشاعر اليقظة والتقوى في أعماقي، سأظل قريبة منه، أهتدي بهدية، وأستضيء بنوره.

- إنّ لدينا قدرة، أودعها الله فينا، واستعداداً نفسيّاً للتغيير نحو الخير، فهداك الله إليه، وأيقظ فيك هذا الاستعداد.

*   *   *

في اللحظات الهادئة، والبيت خال، أدارت "سناء" آلة الخياطة، تخيط ثوباً لطفلة، ابتسمت بشوق وهي تسري بحلم بعيد، في عشّ تحيط به الرياحين، ويفوح منه عطر زهر النارنج، مع طفلة تلاعبها يشاركها حبيب، لم تتبيّن ملامحه، يجريان بين الأشجار، ويقطفان من الثمار، استسلمت لتداعيات الخيال، وامتزج ماضيها مع حاضرها في تناقض، وتضارب بين اللذة والألم، وأزيز الآلة يملأ سمعها، وينساب في كيانها، إن توقف الصوت غمرها سكون المكان. واحتضنت الثوب بحنان.

كان صمتها كبحر في يوم صائف، ساكن السطح، هادر الأعماق، وفي الشتاء يثور مع عواصف الطبيعة، آخذاً بها إلى مسرح الذكريات الهوجاء، في بيت هجّرت منه، وفي الربيع تغمرها السعادة منتشية من عطر زهر النارنج، يعيدها إلى عهد الطفولة الرقيقة.

لم يكن من السهولة أن تنفض عنها رداء الذكريات المتشبّث بكيانها، وأصبح جزءاً منها.

نظرت إلى الآلة وتساءلت:

هل يبقى مستقبلي رهيناً بهذه؟.. أم يتحقق الحلم الذي يراودني؟

العمل يرضي بعض رغبات نفسي، ولكن لا يشفي غليلها.. ففي أعماقي حشرجة، أحاول أن أتغلّب عليها بالمكتسبات الجديدة.

وتبقى في حيرة، وترى الوضع المهين للنساء البائسات، وتتساءل:

ألا من ثورة تمور في أعماقهن؟ لماذا يظللن مخنوقات بالقهر والحرمان والألم، والصبر؟ من ينقذهن ويأخذ بهنّ إلى عدل الإسلام، بعد أن سرقت منهنّ حقوقهنّ؟ أليس من العار أن يتنعّم الجاهلون ويرمين في ظلام الظلم؟

من سيعلن الثورة باسم حليمة، وبدرية وآمنة وخضرة وخديجة، وأخريات من البائسات؟

أما معاناتها فكانت تطويها في كبرياء أنثوي، وكرامة شخصية.. وتنقلها الذكرى إلى أبيها، كم كان فظاً، جلفاً، جافياً مع أمها غير قادر على التواصل الإنسانيّ معها!.. فانقلبت ضدّه وثارت، وأبغضته وهجرت المكان.

أمور بصّرتها بالواقع، فجعلتها متحرّرة من التقاليد المنافية لدينها، واعية بشخصيتها، مستفيدة من التجارب.. كانت كثيراً ما تنكفئ على ذاتها، وتتوحّد معها، وتسبر أعماق نفسها المتمرّدة تارة، فتستسلم لليأس، ثم ما تلبث أن تنطلق بوله إلى الأجواء العليا في أحضان الطبيعة، تبثّها شكواها، وأحاسيسها المتضاربة، وتصغي إلى وشوشاتها وكأنها صدى لما في نفسها، وتمتدّ روحها في صلة إلهية، لا يضاهيها صلة أخرى.

*   *   *

في صباح باكر، كانت طيور جميلة غريبة تحوم في صحن الدار، تقترب من "سناء" مرفرفة، ثم تبتعد، وهي تنثر ألحاناً بإيقاعات كأنها عبارات من كلام، استشعرت "سناء" وكأن شيئاً محبّباً سيكون.. ما هو؟ لا تدري.. فسرّه الإلهام.. جرت إلى أشيائها، أخرجت صورة أمها، تأمّلتها، تساءلت: أيمكن أن؟.. أنا غير متشائمة.

قلت ببرود، وهي تحدّثني بما شاهدت:

- ألا تزالين متمسّكة بهذا الحلم، وبماض بعيد؟ زمان أمك غير زمانك، هي في شغل عنك بعالمها.

- لا يهمني ما تُشغل به، وما تفعل هي، يهمّني ما أفعله أنا.

كانت تضغط على ورقة وقلم في كفّها، سألتها:

- أريني ما تكتبين.

بهدوء قالت:

- أرسم خواطري ومشاعري بالحروف، والكلمات قد تكون تافهة بنظرك ولكنها عميقة في نفسي.

بصوت مرتفع أخذت أقرأ:

إلى متى تخدعني الأماني؟

وأطمع في لقاء أمي

فقلبي من شوق يذوب

وأغدو في شغل وهمّ

كفاني ما أقاسي من عذاب

ونفسي تموج في سراب

فهل أبقى في الودّ وحدي؟

وعمري يمضي عاماً بعد عام

فغربتي ليس يشغلها شبابي

ولكن ذكريات تمر كالسحاب

بانبهار قلت:

- لم تخذلك الكلمات.

- لأني أحبها، أليس القرآن من هذه الحروف؟

ثم بسخرية ضحكت وهي تقول:

- أراني أجترّ مشاعري، وأذيبها في كلمات.

- وتطوين عمرك باجترارها، في عالم من الهمّ والحزن.

بعد برهة سألتها:

- هل تذهبين إلى زوجة أبيك، وتتفقدين إخوتك؟

- باستمرار، فقط يوم أمس لم أقدر، ولكن وجّهت أختي سلمى للعناية بها.

بعد صمت قالت:

- يبدو أن حالتها ميئوس منها.

- سأخبرك شيئاً، فلا تجزعي، لقد وجدت هذا الصباح ميتة.

هلعت، وبنبرة حزن قالت:

- إنه خبر مخيف، حقاً.

- وأهلها الآن في بيتها.. توخّي الحذر أثناء وجودك عندهم، وتمالكي نفسك، وتصرّفي بتعقل.

- هذا ما سيكون.. آخر مرة كنت بجانبها طلبت مني السماح فرجوتها أن تهدأ وتطمئن.

*   *   *

كان القمر قد تلا الشمس بنوره اللطيف، يترقرق، ويوقظ الودّ في القلب، وينساب برقّة في العيون، ويسري في سماء زرقاء بغير حدود، تتناثر فيها النجوم، والكواكب، أسرارها غامضة، تسبّح البارئ الذي أوجدها، وأمسك السموات والأرض كي لا تزولا.

كانت "سناء" كلما ضغطت عليها الذكريات، سهرت الليل كتلك النجوم، وتتساءل: هل براها الحزن وسهّدها الهمّ مثلي؟.. تجد مشاعرها معها في صعود، وهبوط تتناهى بالبشر والأمل تارة، ويعود إليها البكاء تارة أخرى.. تتردّد بين نجاح في شيء من تحقيق الحلم، وأخرى مع الفشل.. ويهبّ نسيم الليل يلفحها، فتتصور خيال أمها، تضمّه بين جانحيها، ولا تدعه حتى يتبعثر بعد زوال النسمات.. فالصمت في الليل يسرقها من صخب الآلة، وضجيج الناس، وهدير الأمواج، إلى كهف الذاكرة، يحاورها، لا تنقده، ولا ينقدها، هما صريحان، ينزع الخوف من أعماقها، ويبث فيها الاطمئنان.

في يوم صاف، نديّ الهواء، ناعشاً أوراق الشجر، توقفت عند الظهيرة في منعطف الطريق سيارة، نزلت منها سيدة تناهز الخامسة والأربعين، بدت مرهقة، تختلف في زيّها عن نساء البلدة، ولكنّ السمة كانت واحدة.

أخذت تتجوّل في الأمكنة، وهي شبه مقفرة، تستغرب من التغيّر الذي طرأ عليها، تبحث عن معالم صورتها في ذهنها، وعند مدخل القنطرة، تردّدت نبضات قلبها بشدة، انحدرت في الزقاق المتعرج، كانت روائح الأزهار البلدية تنتشر من أحواش البيوت، فتنتشي منها، وتستدعيها إلى الاسترسال مع ذكريات ما قبل عشرين عاماً.

عاد إليها شعور الصلة قوياً، بينها وبين الأشياء، فرجّع في نفسها حنيناً ممزوجاً بفرحة لقاء واعد، مرتقب.

كان السكون يغمر الأمكنة، إلا من مواء قطط، تتقاتل حيناً، وتتناغم حيناً آخر، ومن رفيف طير يحمل بين فكّيه غذاء فراخه، ومن ثم تخنقها الدموع، عندما تطلّ على الحيّ الذي جمع ذكرياتها المتأصّلة مع طفولتها وشبابها.

كانت ترى نفسها كسمك السلمون الذي وضع بيضه في موطنه الأصليّ، وعبر بحاراً، استغرقت عمره، ثم يجرفه الحنين والوفاء ويعود إليه، ليموت بين سربه.. وجف قلبها من هذا الهاجس. رفضته، همست في سرّها، كيف أموت هنا، وأولادي في وطن آخر؟

عبق القدم يثير أشجانها، وهي في الأحياء.. وأمام باب زاد الإهمال من تفاريجه توقّفت، جمعت أصابعها في بطن كفّها لتطرقه، تردّدت، انتابها ضيق، وحذر، ثم ارتأت أن تتجه إلى آخر، طرقته بلهفة الشوق، ومن ثم أطلّ وجه طيب الملامح، فيه تساؤل حائر، شيئاً فشيئاً اتّضحت الصورة الغائمة، وخفقت الأفئدة، بلهفة بادرتها خديجة:

- فخرية؟..

- خديجة؟..

كان اللقاء حاراً، طوى دهراً مديداً في لحظة آسرة.

- ما خبر ابنتي؟

جذبتها خديجة بيدها إلى داخل الغرفة، وفي فمها بسمة هامسة، وهي تشير إلى سرير، ترقد فيه صبية كغصن البان قدّاً، وكالوردة نضارة وفي وشوشة قالت:

- هذه "سناء" يا فخرية.

وقفت الأم الولهى مبهوتة عند أقدام السرير، وسألت:

- أفي حلم أنا؟

- بل هي الحقيقة.

صحت "سناء" على نشيج بكاء، وقفت صامتة، ذاهلة، تسارعت الصور في مخيلتها، وانبعث من بينها صورة أمها، أقبلت عليها تمسك بيدها، وتلمس وجهها، وبحب منهمر، ضمّتها، وهي تقول:

- طال غيابك يا أمي، عشت رهينة الانتظار مع خيالك في كل سكنات وخلجات حياتي.

ألجمت المفاجأة الأم، وانفجرت الاثنتان بالبكاء.. كان الشوق يجمع بينهما، كلقاء الأرض العطشى إلى الغيمة الممطرة، وتجول بينهما الأسئلة، وفي أجوبتها الصدق والصراحة، تبتلّ منها عروق نفس "سناء" وتخلع عنها رداء الشكّ، قالت:

- كنت أتصوّرك دائماً، حتى رأيتك حقيقة، فكرت بك كثيراً، وأفنيت أيامي، وأنا أتحدث إلى خيالك في ذهني، وفي صورتك، والآن وأنا في غمرة الفرح باللقاء نسيت مآسي الفراق.

- اعذريني يا سناء، كانت حياتي في البلدة ضنينة، فهل أكون فيها متسكّعة، اضطررت للرحيل مع أمي وإخوتي إلى لبنان، ثم شاء القدر أن أتزوج ويكثر أولادي، وتكرّرت مأساتي بموت أبيهم، وهم صغار، وبتنهيد قالت:

- كان الشوق يعربد في صدري مثلك، ويخاطب خيالك، لم يشغلني عنك شيء، ولو للحظة من عمري.

- آه يا أمي، ذكرياتي معك، عشت أحتضنها وأخشى عليها، وحين ترى فخرية غزارة دموع ابنتها، تغرّيها بقرب انفراج حالها، وإصلاح ما مضى، وتقول لها:

- إنك تحيين في قلبي، وتملئينه بالشوق، والتفكّر بك، من أجلك احتملت وحشة الليل، أفرّ إليه من دنياي ومشاغلي لأحيا مع طيفك في البيت الذي ترعرت فيه، وعند شجرة النارنج التي زرعتها يوم مولدك، ومع خصلات شعرك أسرّحها، ومع مرحك، وجريك مع قطّتك، ووراء الفراشات أتذكر كل لحظة عشناها معاً، وأنت تكبرين في ذهني يوماً بعد يوم.

- كنت في الليل أنسى النهار، وأفرّ من دنياي مع القمر، والنجوم، أحمّلها رسائلي إليك.. أضحك، وأنا أتذكر الأجنحة النورانية، تحلّق بي في الفضاء، وأتساءل: هل في القمر زرع وشجر، هل طيور تطير فيه، وجداول تجري على سطحه؟ إذاً لسكنت فيه مع خيالك، لا أبرحه، وأترك قلبي يحلم، وينسى الهجر، والمعاناة.. ثم لا يلبث الليل أن يعدني بلقياك.

- كنت إذا نظرت إلى طفلة ناديتها، وتأمّلتكِ في وجهها ثم أغرق في همومي.

- لك منّة في عنقي بإرشادك في صغري، سيّر حياتي وعلّمني الصبر، ونما معي.

- الصبر يعلّم الإنسان أشياء كثيرة، ما أروعه، وما أجمل العدل وهما يلتفيان، إنهما نابعان من أصل الجمال، من الجمال ما هو محسوس تدركه العين، ومنه ما تتحسسه النفس المرهفة، ويدركه العقل، كالقيم والأخلاق الفاضلة.

دمعت عينا خديجة، وهي تراهما، وتسمع تحاورهما، ثم غمر "سناء" صمت وذهول، فسألتها:

- ما بك يا "سناء" وأنت في غمرة الفرح باللقاء؟

نظرت إلى أمها، بعينين دامعتين، قائلة:

- أرجعيني طفلة يا أمي، واغمريني بحكاياتك، وتوجيهاتك، أن تكوني أمي، هذا الشيء الوحيد الذي أفخر به، لقد ضمّدت جراحاتي بمجيئك، كنت أعاني الأسى والحرمان.. الله يعلم ويشهد الليل، والبحر والقمر كم كنت أبكيك، وأشتاق إليك، بعد أن تركتني طفلة، بأيد قاسية لا ترحم. و..

- ثم طردت من بيت أبيك.

- كان طردي رحمة من الله، فيه انفكاك أسري، فألجأني إلى هذه الأسرة الطيبة.

بهمس سألتها أمها:

- ما مصير الأشياء التي تركتها في بيت أبيك؟

- أحضرتها معي، إنها تبهجني جداً، كنت أضمّها بشوق، وأجد فيها ريحك، وما كنت أتوقف عن البكاء، وأنا أقيس الثوب تلو الآخر، وأراه مطابقاً على جسدي، وأنا حينئذ غير قادرة على شراء ثوب.

- هل تعلمين بأني قد تركتها، لتتذكريني دائماً؟

- لا تقولي ذلك، لأني سأعود إلى البكاء ثانية.

أرادت فخرية أن تغيّر دفّة الحديث، سألتها وهي تعانقها بنظراتها:

- كيف كنت تقضين أيامك؟

سردت عليها تفاصيل كل شيء، ثم قالت:

- .. وإن شعرت بالسأم، أو هزّتني مواقف، أنا في غنى عن مواجهتها، انطلقت بنزهة في أحضان الطبيعة.

- أنت محقّة، ساعة في ظلال الأشجار، أو فوق صخرة عند الشاطئ دواء لهمومنا التي تتراكم فينا رغماً عنّا.

ثم أردفت:

- ما أجمل هذا النهار، وما أروع الأصيل! أنوار شمسه شفّافة في الأجواء، لوحة فنيّة كبرى، هيا بنا.

كانت فخرية تمضي مع "سناء" نحو الشاطئ، وروحها مثقلة بركام السنين، والغربة تجتاحها في بلدة ليست هي بها غريبة، وفي السماء تلوح بعض الغيوم، ولا مطر فوق الأرض.. كان الأولاد يلهون والصبايا يمرحن كالأطفال، و"سناء" مع أمها تشعر وكأنها نسمة من نسمات البحر، وشعاع من أشعة الشمس.. ثم قالت:

- كثيراً ما ردّدت بين هذه الصخور صوتي، وغنائي، وكثيراً ما صفت روحي في صمت مهيب، رائع بالمعاني، كنت كثيرة الذهول، أخفي رؤاي خلفه، وروحي في صعود، تفيض بالنفحات الإلهية.. في هذه الأمكنة كنت معك، وكنت معي، حتى إذا غابت الشمس، وحان رجوعي، أودعت الطبيعة سرّي، وأنا واثقة بأنها لا تبوح به.

- نحن مشتركتان بنفس الإحساس رغم البعاد.

فوق سطح البحر، كان زورق ينساب بهدوء، متجهاً إلى جزيرة أرواد، قالت أمها:

- الزورق وسيلة للنقل، وأيضاً للتنزّه، أتذكرين حين كنت صغيرة، و..

بسرعة بادرتها:

- حين كنا معاً في القارب، مشهد الزوارق يذكّرني دائماً بها، كنت أمدّ يدي في الماء، لأمسكه بأصابعي، فينزلق من بينها فتضحكين وتقولين: مهلاً يا صغيرتي، وأنت تشدّينني إليك، كان حسّي بالدعابة في الماء بهيجاً ولذيذاً.

التقيت بسناء بعد أيام، لمحت ضيقاً في ملامحها، سألتها:

- لم الحزن وأمك معك؟ ابتسمي، ظننت أنك ستكونين سعيدة جداً.

بقلب ينفطر ألماً أجابت:

- قريباً سترحل، وستعود إليّ الوحشة.

- عليك أن تكوني أشدّ صموداً في مواجهة الوحشة.

- كان بي رغبة أن تستقرّ هنا.

- مستحيل.. أنسيت أنّ لها أسرة تنتظرها؟

- لم أنس لقائي بها كان تهميشاً للزمن، وبدءاً لآخر.. وددت لو ألقاها غير مقيّدة بأحد غيري، ولا تفكر بالرحيل ثانية..

- تزوّدي ما استطعت من حديثها وإرشاداتها.

- لقد ظنّت بزواجها الثاني، أنها على قمة عالم مستقر، فيها الحياة رغيدة، التي لا يمكن معها إيجاد ثغرة، لكنها اكتشفت أنها تعيش على الحافّة، وأنها في عين العاصفة.

سكتت برهة، ثم استطردت:

- الرجل يرى سعادته في شعوره أنه القائد في البيت، وأن نجاحه المتواصل يكون في كل متطلباته الجسدية، والعاطفية، والمالية، وهي مهمة تعني الكثير للرجل. ولكن تتناقض أحياناً مع الواقع، فيرى الرجل مدافعاً عن رجولته المهددة.

- لأنه لم يستطع أن يتسلل إلى وجدانها.

ثم قالت "سناء":

- علمت من أمي الأسباب التي أودت بحياتها مع أبي، وكنت أنا الضحية.

- تطبيق شريعة الله يحقق السعادة للرجل، والمرأة معاً.

- لندع هذا الحديث، إنه يذكرني بماض حمل المآسي.

يتبع إن شاء الله..

     

* أديبة سورية تعيش في المنفى