مارد في صدري(4)

نعماء محمد المجذوب

مارد في صدري(4)

رواية: نعماء محمد المجذوب

كان الجو دافئاً هذا الصباح.. فالظلمة تدفن الحياة، والفجر يوقظها، والشمس تنعشها، وصراع يدور داخل "سناء"، بين الرغبة بالحرية في أحضان الطبيعة، وقيود الأوامر في البيت، إحساسها ينمو مع نموّها، فتجد نفسها في شباك العذاب، حين ترى إخوتها في غدوّهم إلى المدارس، وهي تلبّي طلباتهم، وتنفّذ أوامر أمهم.. تتألم، تتعجب من حقوقها المهدورة، وتتساءل: لم يعطون وأنا أُحرم؟.. اليد القاسية تقلب أيامها وتملي عليها نمطاً معيّناً لا تريده، تهرب منه إلى السماء بمشاعرها، ترى حياتها هي الرقّ بعينه، مغلولة الكلمة، مغلولة الإرادة، وكأيّ عبد، تتوق نفسها إلى الإشراق والتهويم مع أحاسيسها الفيّاضة، وتشكو لله ظلم العباد للعباد.

عند الشاطئ، مع أشيائها، كان الأطفال يجرون فوق الرمال، وأقدامهم تتقاذف الكرة، وأصواتهم مبلّلة بالمرح والسعادة، كان "حمودة بن جميلة" من بينهم، ما إن رأى "سناء"  حتى هتف وهو يلوّح بيده:

- "سناء"  كيف حالك؟.. أمي تذكرك دائماً.. لماذا لا تأتين إلينا في البيت؟

ابتسمت وهي تقول:

- أنا بخير.. سأحاول زيارتها.

اعتادت "سناء"  أن تقف مع "حمودة" لحظات، كلما شاهدته يلعب تحت القنطرة في الحارة، وتمسح على رأسه بشفقة، وتمرّر في ذهنها حكايته التي التقطتها من أفواه النسوة، وبتعجب تقول: حمودة غريب عن حيّنا، لا يدري حقيقة نسبه.. ثم تتأوّه وهي تهمس لنفسها: كلانا غريبان، سيعيش ويموت ولا يعرف سرّه، وهو في الغفلة سعيد، وأنا غريبة بين أبي وإخوتي.

- "سناء" هل تشاركينني الشطيرة؟

بُغتت من المفاجأة، ضحكتُ وأنا أقول:

- درج المسجد يوشك أن يلتقي مع الشاطئ. قلت: لنسترح قليلاً عنده.

تراخينا فوق الرمال، متكئين على الصخرة، ونحن نثرثر بشيء، وبلا شيء.. التفتت إليّ لتقول:

- أشعر أحياناً بأنّ الهواء ثقيل، وأنا أتخذ من الأرض متكأً، وأنظر إلى البحر، ومياهه تنهل من مشاعري، تنطلق عارية حيث تشاء، وتنكت الذكريات من صدري، وتجعلني كالطير المختنق عند الشاطئ.. ما أكثر الأسئلة الموجعة للقلب! ولا أجد لها أجوبة.

- ما يحصل لك شيء طبيعي.. سنّ المراهقة مريع.. الصبايا تحلمن بالغد القادم، ووجوهنن تضيء بالبشرى.

ابتسمتُ، وأنا أقول:

- يحلمن بمن يطلّ، ويلوح ويقبل من بعيد.. بمرارة قالت:

- وأنا أحلم بخيال باهت.. فأي صوت جديد سيطلّ عليّ؟ وطلاق أمي كان طلقة قاتلة أصابتني وحدي.. الوجع في قلبي كبير يا عزيزتي.

- لا تكتئبي.. ستجدين طريقاً تكون فيه بغيتك.. دعي الأمر لله.

- حقاً، أكره أن يكون وجهي كئيباً، وأكره أن يسكن الرعب في عيني، ورغماً عنّي، تغشى وجهي الكآبة، ويسكن عينيّ الرعب.

- سن الثامنة عشرة ليس سهلاً، هو سنّ الأحلام والرغبات والذكريات و..

برقّة متناهية عرضت عليها ما أرسلته والدتي لها من نقود، رفضت بحدّة، وقالت:

- لا أتقبّل أية معونة.. لا أستطيع أن أكون مدينة لأحد.

- آسفة، لم أقصد إيذاء مشاعرك.. أعلم أنك لا تقبلين الإحسان، سدّديه بعد سنوات.. على فكرة: لرسول الله أقوال مأثورة في الحجاب.

- قرأتها، فيها الحكمة، وتدل على الذكاء الحاد والتوجيه لنا نحن النساء.

لم أشأ أن أذكّرها بأكثر من ذلك.. ثم سألتها:

- كيف حالك في البيت؟

- مثل كل يوم، يبدأ بثورة تشق السكون، وينتهي بمثلها، وأنا جزء منها، تنصبّ عليّ الشتائم واللعنات.. أبحث فيه عن التوحّد والترابط والمحبة، فأجدها أموراً تستحيل في ظلمات الظلم، كما تستحيل الألوان في الأماكن المظلمة.. حياتي في انتظار.. لا أحلم بالكنوز، ولكن أحلم بالمحبة.

- وماذا عن إخوتك؟

تنهّدت، وقالت:

- أحبّهم، أشتاق إليهم وأنا معهم، أحضنهم بعيني، ونظراتي، ألثم وجوههم من بعيد.. كثيراً ما أمشي ليلاً على أطراف أصابعي لأراقبهم في أسرّتهم، وأسمع أنفاسهم، وأدثّرهم من البرد.

- يا لقلبك الكبير!

- هم إخوتي، من لحمي ودمي، ليس لي سواهم.

- هل يبادلونك الشعور نفسه؟

- أظن ذلك.. لم يؤذني أيّ منهم.. يُسرّون إليّ بما يجدونه في مدارسهم مع رفاقهم بصوت خافت، فأهمّش مشكلاتهم، وأعوّدهم على السريّة والتسامح، يثقون بي، فيبوحون لي بكل شيء.

- شيء رائع.. أكيد، هذا يخفّف عنك أساك.

- ولكن لا يلبث الأسى أن يغور بمعاملة أمهم الخشنة.

أضاء وجهها ببريق، وهي تذكرهم:

- ما أبهى الصباح عندما يستيقظون!.. أراه ضاحكاً مشرقاً في وجوههم، كالربيع المعطّر.

- وهم كذلك؟

- منشغلون بحياتهم.. أحسّ بأنها تنفّرهم مني، فيتعاملون معي بحذر شديد. حياتي مفردات في كلمات، أحمّلها حبّي لهم، وأحلامي وآمالي.

ثم أردفت تقول:

- فرّقت أمنيات صباي بتجنّيها، وكوتني بنارها.. اعذريني حين أبوح لك بما يثقل نفسي.. آسفة لأنني لم أتوقف عن الكلام.

- لا يهمك.. تحدثي بما تشائين.. دعينا نسير على الشاطئ، فمجال الحديث أكثر متعة.

تابعت بألم:

- لو قدرت أن تحرمني نور الشمس لفعلت، إنها تجرحني، وتوقد الأحزان باستمرار في نفسي، وليس لدموعي إلا الوسادة أفرغها فيها.

- حاولي أن تتقرّبي منها أكثر، فأكثر.

- كم توسّلتُ إليها، وأنا مثخنة بجراحي! حتى غدت الحياة تريني الآمال سراباً واعداً من كل لون.. فأمضي معها في حلم ووهم.. كثر أنيني في فراشي، ليس بأنين من يتوجّع لألم أو مرض، ولكنه أنين خافت مكظوم، يفور من أعماقي، ويفيض بالخوف، وقد يصدر من يدي حركة خفيفة، فأستيقظ فزعة:

- إنه الكابوس، بسبب ما تعانينه من ضغوط نفسيّة شديدة، تفشلين في مواجهتها، وبسبب التربية الصارمة التي تعتمد على الضرب والإذلال، والأخطر من ذلك، تجاهل أبيك وإهماله.

- هذا ما يشعرني بالغربة في بيت أبي.. وأي خطأ يعرّضني للعقاب من زوجته، حتى صار الخوف يعيش معي.

- غريب تصرّفها هذا.. من منّا لا يرتكب الأخطاء؟.. لذا كان لقلم الرصاص ممحاة، نكتب بالقلم، ونمسح الأخطاء بالممحاة.

- حين تغضب تتحوّل إلى وحش مخيف.

- كان بوسعها عمل شيء، قول شيء، لو أرادت الخير.. ماذا تفعلين لتزيلي عنك التوتر؟

- حين أستشعر غضبها وأضطرب، ألجأ إلى القرآن، أحسّ حين أقرأ آياته بالسكن في روحي وجسدي.

- حسناً تفعلين.. هذه أسلم طريقة.

- حتى أضحى الهرب إلى زاويتي سجيّتي.. كما الكتاب سكن أيضاً لنفسي، أهرب إليه من الواقع.

- "سناء" الجئي إلى أبيك.. يجب أن يعلم بحالك.

- لا، لا هذا صعب.. صعب جداً..

- أين ميثاق الأبوّة؟

أردت أن أواسيها بقولي:

- صدّقيني، الناس في الهمّ سواء، البيوت مغلقة على أسرارها.

- لمن أشكو وقد عدا عليّ الزمن؟.. ليس لي سواك صديقة.. عمري يجري سريعاً، ولم أزل دون العشرين.

صمتنا برهة.. نظرت إلى الطبيعة تتأمّل، قالت:

- ما أرحب صدرها! أهرب من الصخب والضجيج إلى صخب البحر والريح.. إنه محبب.. أطوف مع النسيم بخيالي حيث يطوف، يحمل إليّ أنفاس الأعشاب البحرية، ممزوجة بآهاتي.. لا أنا، ولا النسيم نرى القرار.

بدهشة طافت الأسئلة على شفتي:

- لِمَ.. لِمَ.. كيف؟..

في حيرة قالت:

- لا أدري.. الكلام لغة التفاهم، والتخاطب معها.

- وكلامها؟

- الضرب والتحقير.

ألقت بنفسها فوق الرمال، وبانتعاش قالت:

- في الطبيعة أجد السلام الذي أنشده، ما أرحمها بنا!

أثناء العودة راودتها فكرة جريئة.. تعلم بأنها قد تأخرت بعض الوقت، وهذا سيثير زوبعة في البيت.. تساءلت: هل أعرج إلى دكان أبي، وأعلمه بقراري؟.. أنا في حيرة من أمري.

عند وصولها إلى مدخل البيت، تناهى إلى سمعها صوت "أم خالد" تقول بسخط:

- تأخرت اللعينة.. أعتقد بأنّها...

دخلت "سناء" وفي فمها كلمات تحدّ:

- أهكذا إذن.. اعلمي بأني سألزم البيت، لن أخرج بعد اليوم إلى بئر أو بحر.. فقط للتنزّه.

رمقتها بارتياب، وقالت وهي تغمز بعينيها:

- ما بك يا بنت.. هل جننت؟

- بل أنا في عقلي.

صوّبت إليها نظرات ملأى بالغضب، وقالت:

- تحتاجين إلى تأديب.

قبل أن تصل إليها، أسرعت "سناء" واختفت في أحد أركان البيت، ثم اطمأنت حين رأتها بعد ساعة مسترخية في نوم عميق.. سنحت لها الفرصة، فوثبت واقفة، وخرجت إلى الحوش تلتمس برودة الهواء تحت شجرة النارنج، وفيما هي كذلك فوجئت بها تسرع نحوها، وبيدها القبقاب الخشبي لتنال منها.. فتح الباب الخارجي، واندفع الأب، وزوجته في حال شتم، والقبقاب لم يزل بيدها، وهي تجري خلفها.. صوته بحنق جعلها تذعر تماماً، وتقف مبهوتة. اهتاج كالأسد، وبسخط قال:

- كيف تتجرئين على ضربها.. كيف؟

ذهلت "سناء" وأطرقت بعينيها، وكتمت أنفاسها، لم تصدق ما ترى وتسمع، وتسمّرت في مكانها.. ثم استدار نحوها، وبعطف سألها:

- أهكذا شأنها معك؟

صمتت، لم ترد إشعال غضبه أكثر، يكفي بأن يشاهد بنفسه جانباً من قسوة زوجته، ثم أسرعت إلى زاويتها.

كان الشجار حادّاً.. حاولت "سناء" أن تضغط على  أذنيها بالوسادة.. وبعد أن سكن الغضب عن أبيها، راحت في نوم عميق.

في هدوء الليل، تسللت إلى الحوش، وجلست تحت الشجرة في ضوء القمر، واستعادت في ذهنها الموقف المفاجئ.. وعند الصباح رفعت الطست مع الأشياء لتنطلق في الطريق إلى البحر.. استوقفها صوت أبيها، وعلامات الدهشة ترتسم على وجهه:

- تعالي.. أريد أن أعرف المزيد.

قالت وهي ترتجف:

- كما رأيت يا أبي.. عرفت شيئاً، وغابت عنك أشياء.

اقترب منها، ووضع يده عل كتفها بحنان ليهدئ من روعها، تأثّرت فبكت، وسحبت كفّه، وانهالت عليها بالقبل والدموع، وفي نفسها رغبة ملحّة بأن تلقي رأسها فوق صدره وتشعره بحاجتها الشديدة إلى عطفه.

كان يبدو في تلك اللحظة هادئاً، مستغرقاً في أفكاره وندمه، فمشهد أمس كشف له عن انتقاص زوجته من قدر "سناء" الإنساني، وعن العنف، والتجبّر من جهة، والبراءة والخوف من جهة أخرى.. وفكّر في وسيلة تخرجها مما هي فيه، وبذهن شارد ولهجة حنون سألها:

- لماذا لم تلجئي إليّ في مثل هذا الموقف؟

- لم أكن لأزعجك.

كانت زوجته قد خرجت من غرفتها، التفتت إليها وبصوت متهدج قال يؤنّبها:

- لقد خنت الأمانة والمسئولية، لا تستحقين أن أثق بك.

أمسك بيد "سناء" مرة أخرى، وضمّها إلى صدره وقال:

- لا تشعري بالقلق بعد اليوم يا ابنتي.

- لا تشغل بالك بشأني، ما يسعدني هو أن أراك بصحة وعافية.

خرج الأب إلى عمله، نظرت إلى السماء بعينين دامعتين وقلب خاشع، وهي تحدث نفسها: إنّ هذا من قدر الله الذي جعل أبي يصل في الوقت المناسب، ليرى شيئاً من معاناتي، وليدرك مدى غفلته التي أوقعتني لسنوات طويلة في براثن زوجته الحقود الشريرة.

كان الموقف بداية الأمان في نفس "سناء" مع حوافز رجولة أبيها، وغيرته عليها، واستسلمت للقدر.. فلن تواجه من اليوم فصاعداً التجبّر والغطرسة بمفردها، بعد أن لمس الأب بنفسه أدوات التعذيب الجسدي والنفسي المريعة، مما أيقظ عاطفة الأبوّة، وهزّ ضميره، على غير ميعاد.

اقتربت منها أم خالد متصنعة الهدوء، وقالت:

- لم أخبرت أباك؟

- لم أخبره بشيء، هو الذي اكتشف الحقيقة.. سامحتك على ما مضى، ولكن..

- ولكن.. ماذا؟ انطقي.

- إنك لا تملكينني بعد اليوم، فإنني أملك نفسي.. في البيت فقط أساعدك ما استطعت.

*  *  *

كان مساء اليوم أجمل لحظات حياتها.. كل شيء كان رائعاً في عينيها.. كانت تجلس في حوش البيت، مسندة بظهرها إلى جذع الشجرة، تستمتع بالنسمات تنثرها أوراقها، حين انساب إلى سمعها صوت أبيها من مكان قريب، وبلطف يناديها:

- "سناء" ابنتي، أنت هنا؟

نهضت بدهشة قالت:

- نعم، أنا هنا يا أبي، هل تحتاج إلى شيء؟

(ابنتي) كانت كأجمل نغمة دغدغت مشاعرها، وتساءلت بتعجب:

(ماذا جرى؟ أراه يكثر من مناداتي بابنته على غير عادته.. أفسحت له المكان، ولكنه دعاها إلى الجلوس، وبصوت هادئ تشوبه الرأفة قال:

- حدثيني عن حالك مع خالتك.

بأنفاس لاهثة ردّت:

- بخير إن شاء الله.. أحاول جاهدة كي أكسب ثقتها.

- أعرف هذا.. إلا أنها صعبة المراس.. خذي هذه..

فتحت "سناء" الصرّة بيدين مرتجفتين، فوجدت فيها ثوباً وحذاء، كانا مستعملين، ولكنهما أدخلا البهجة إلى نفسها.. انكبّت على يديه تقبلهما وتبكي، ومع دموعها انهمرت أحزانها وآلامها.. فلم يكن من شيء أحبّ إلى نفسها من عطفه هذا الذي انتظرته سنوات عديدة.. ومع سكب دموعها حدثت نفسها: لم تأخرت عليّ بحنانك يا أبي؟.. كم كنت أتمنّاه منذ طفولتي!

ثم وضع في كفّها بعض النقود، وربت على ظهرها دون أن ينطق بشيء وانصرف.. كان الثوب جميلاً في عينيها.. إنّ مجرد لمسه يثير في نفسها المشاعر المتدفقة، والرغبة في البكاء.

 وقفت برهة في ذهول تتساءل والأمل يختلج في صدرها:

- هل تصرّف أبي هذا يعني أن عهد الكره الذي تركته أمي في نفسه قد انتهى؟.. لطالما شعرت برغبته في الانتقام منها بشخصي.. أم هكذا كان يخيّل إليّ؟.. لا، لا أظن ذلك.. لا يوجد أب ينتقم من ابنته، مهما كانت الظروف.. إنه الإهمال.. أجل، مجرد إهمال.. ثم تذكرت كلماته الهامسة يوم أمس، حين ضغط على ذراعها وقال لها:

- إيّاك أن تكوني ضعيفة.. لا تثيري أية مشكلة.. ثم تذكرت قوله أيضاً، وهو يمسح على رأسها:

- كلنا نحبّك يا ابنتي، أنا وإخوتك.

أثارت كلماته البهجة في نفسها، رغم مظاهر القسوة التي كانت تبدو في ملامح وجهه، فيما مضى، تخفي حبّه لها، وما يبدر منه كان مداراة لزوجته، وخشيته من ردود الفعل، التي قد تؤدي إلى الخوض في تجربة أخرى هو في غنى عنها.. أليست امتداداً لماض فاشل، وذكرى تخطر أمامه في كل حين.. والآن تراه يتحفّز للإصلاح، ويحاول أن يتحرر من عقد الماضي.

وسط دخان النرجيلة، ورنين الملاعق في أكواب الشاي، ومن خلال أحاديث النسوة، وهنّ متكئات على الوسائد في الليوان، بين أصص الأزهار، تذكّر "فخرية" التي رحلت مع أمها إلى لبنان بعد طلاقها، ولم تعد، كان ذكرها يثير الغيرة في نفس "أم خالد" ويجعلها مهووسة، وبخاصة حين يثنين عليها بالفهم، والاستقامة.

بعد تسوية الأمر مع ابنته، صارت زوجته مصدراً لإيذائه، والإساءة إليه، من حين إلى آخر تعادوها الروح العدائية، وتلوي عنقه بكثرة الأولاد، ويعاني منها ألواناً من العذاب النفسي حتى حرمته راحة البال، فكان تارة يصرخ في وجهها، وتارة يتذرع بالصبر، وقد يلجأ إلى تأديبها بالضرب وهو في ثورة الغضب، فتخرج إلى بيت أهلها لساعات طويلة، فيطمئن، وينام ملء جفنيه، وكثيراً ما راودته فكرة طلاقها، ثم يمسك عن التفكير حين يتصور الماضي يعود إليه في صورة أخرى، فيرأف بأولاده، وتهدأ ثورته.

ازدادت المشاحنات، وتوترت العلاقة بينه وبين زوجته، وتسارعت التطورات في البيت، التي تثيرها نفسيتها الشريرة، وتؤدي به إلى الانفجار.

كان "محمود" أبو سناء حين يستلقي في فراشه، يجافيه النوم وهو يصغي من بعيد إلى صراخ زوجته، ويترقب المزيد بعد صحوة ضميره، واهتمامه بابنته، وأحياناً تستولي عليه الهواجس، فيحاول أن يبدّدها ويعلل نفسه بأنها مجرد أوهام، ويتلمّس من اٍلأسباب ما يستريح إليها.. ولكن كثيراً ما يحس بظلال الموت تلقى عليه.

في حياته حقائق كان يخفيها في صدره.. وعن "سناء" بعضاً منها، كان الماضي كالشبح يطارده.. لذا لم يعرف السعادة الحقيقية رغم جهده في تكوين أسرة كبيرة، ونظامه في عمله.

في إحدى المرات، قال لزوجته واللهفة ترتسم على وجهه، وفي نبرات صوته:

- فيما حصل لسناء منك، يمكننا أن ننساه، فلست أنت المخطئة وحدك، أنا اكثر منك خطأ.. إنّ خطأك يمكن تبريره بسهولة بما تعلمين.

انبرت بوجهه، وبحدّة قالت:

- بماذا.. ولم..؟

ببرود أجابها:

- بالغيرة من أمها، لشبه "سناء" بها، وهي لا ذنب لها في هذا.

سكتت برهة، وهي تداري ما بدا في وجهها ثم قالت:

- وخطؤك أنت؟

- فلأني وثقت بك، وتركت لك أمرها، فلنتعاون على إصلاح الأمور فيما بيننا.

انبرت صارخة، وهي تؤكد عدم احتمال وجود ابنته معها في البيت أكثر من ذلك.

بتعجب قال:

- ما الذي دهاك؟.. كفّي عن الصراخ.. الناس عادة يبحثون عن الإجابات السمحة، من غير نقاش، أو إثبات لتصفية الأجواء، وأنت على حال واحدة لا تتغيرين.. عجباً لأمرك.

دخلت غرفتها غاضبة، وهي ترفض تقرّبه من ابنته، والتعاطف معها، والتعويض عن تقصيره تجاهها، وصبا "سناء"  يستعيد ذكرى الماضي، بعد أن سحب الزمن عليه رداء النسيان.. كان يجد في ذكاء "فخرية" وحبّها للتعلم تفوقاً عليه، وتقليلاً من مكانته، وجرحا لرجولته، حتى كثر الجدال بينهما، وانتهى بالطلاق.. ومع مشاعر الندم، يتساءل إن كان قد ظلمها، أم أن التقاليد هي التي ظلمتهما؟ فعرف البيئة كان يحكم للشخص حق الزواج من ابنة عمه على سواه، بغضّ النظر عن أمور أخرى.

التقيت مع "سناء"  عند مفترق طريقين، وقفنا تحت القنطرة نتبادل الحديث، حانت مني نظرة إلى الخلف، فوجئت برؤية "أم خالد" تبرز في زقاق جانبي، لتسير وراءنا مباشرة، ضغطت على كفّ "سناء"  أنبّهها، وقلت لها:

- لا تأبهي بها.

رمقتنا بنظرة جانبية، ثم اختفت فجأة.. عرتني الدهشة من تصرّفها، تراقبنا ونحن في الطريق إلى البحر.. تابعنا السير بهدوء واستأنفنا الحديث.. قالت "سناء" بارتباك:

- إني أشعر بالخوف.

- من ماذا؟

صمتت برهة، ثم ارتسمت المرارة على وجهها، وقالت:

- ستسبب لي مشكلة في البيت.

- ألم يشجّعك والدك على عدم الاستسلام للضعف، كوني قويّة.. إن ضعفت ازدادت سيطرة عليك، لتقطع أية علاقة لك مع الناس.

عند الشاطئ، أخذت أرسم بإصبعي خطوطاً متشابكة على الرمل، وأنا أنصت إلى "سناء" بصمت، ثم قالت لي:

- إنها تسيء سمعتي أمام النسوة حين يزرنها.

قلت بجدّية:

- بل تدفن سمعتها في الحيّ بافتراءاتها، لا تحفلي بأكاذيبها.

- كنت أكثر ما أخشاه أن يبقى أبي يعيش في الأوهام، وأبقى أعيش في سفوح الحياة نهب الظن بي، حتى قدّر الله أن يعلم الحقيقة؟

- أرأيت؟.. ما كان أبوك مغفلاً، بل متجاهلاً، يراقب ويترقب، حتى حسم الأمر بنفسه.

أشرق الابتسام على وجهها، وقالت:

- أيقنت بأنه سيكشف الحقيقة في يوم ما.

- بلا شكّ قد تغير.

- الحياة تدعو إلى التغيير.. علم ادّعاء زوجته، وسخافة أقوالها.

- هل كانت تقصد إلى تحطيم حياتك؟

- هكذا يبدو، ثم أمرني بعدم مغادرة البيت إلا للضرورة.

- والماء، من يحضر الماء و..

- ستنحلّ المشكلة تدريجياً.

ثم نظرت إلى الطست نظرة طويلة.. شكا إليها طول الصحبة، وتشقّق حوافَه.. لقد آن لهما أن يستريحا، في صمت قالت:

- كلانا مبتل يا صاحبي.. ستنحلّ الأمور.

بعد رجوعها إلى البيت، سألتها زوجة أبيها وفي عينيها ارتياب:

- أين محفظتي؟

- لا أدري عنها شيئاً.

- ابحثي عنها.

- انظري.. إنها هناك.

- كيف وجدتها؟

- هي التي وجدتني، هي أمامك فوق الخوان.

*   *   *

كان الشتاء هذا العام قاسياً، عارياً من كل شيء، يخلع ماضيه، ويشدّنا ببرده، وأمطاره ويدعونا إلى العزلة، فيه تمتزج الروعة بالروع، والمعاناة بالمتعة، والنشاط بالجمود.. شتاء بلدتنا الساحلية مميّز، يختلف عن كل الأشتية الأخرى، نعيش فيه لحظات تترواح بين قسوة البرد ودفء الرطوبة، والاستمتاع بأشياء كثيرة.

قررت أن أتسلّل من البيت هذا اليوم.. أخذت أهبط في الطريق الملتوي، المؤدي إلى الشاطئ، حتى وصلت إلى السور الأثري الراسخة جذوره في قاع الساحل بين الصخور، كان الموج يلطمه بين مد وجزر، يجرف معه الطحالب والأعشاب البحرية، ويتركها فوق الصخور الناعمة، وددت لو أني أحمل ورقة وقلماً، وأرسم منظر الشتاء الرائع.. ولما تأهّبت للرجوع سمعت صوت "سناء" تحاول أن تجعل نبراته هادئة وهي تقول:

- إذاً، أنت هنا؟

- أجل، لقد تأخرتِ.. انتظرتك طويلاً، ولما مللت الانتظار تمشيت قليلاً على الرمال، والموج ينثر رذاذه على قدميّ.. الشتاء عند الشاطئ دافئ.

ورغم شحوب وجهها، كانت تحاول الابتسام.. تنبهت، فقلت بانبهار:

- تبدين رائعة بالحجاب.

بسرور قالت:

- ارتديته عن اقتناع.. وقفت أمام المرآة أتأمل نفسي، وبابتسام قلت: يقولون إن الثياب تصنع الإنسان، اليوم أراني إنسانة جديدة، اختلط بكائي بضحكي.. شاهدتني أختي فسألتني باستغراب:

- ما بك.. هل من شيء.

أجبتها:

- لا شيء.. فقط تذكرت حنان أبي فبكيت، وارتديت الحجاب، فسررت، وضحكت.

قلت بتعجب:

- أرى التغيير يزحف إلى مظهرك، ونفسك معاً.

- أجل.. والتمرّد يخرج من القمقم، فأحاول كتمه.. تابعت فقالت:

- وأنا في ذهولي، سمعت النداء المعتاد:

- هيّا يا بنت.. أحضري الماء.

من مكاني، دون أن ألتفت، قلت:

- أودّ يا خالتي أن تعلمي بأن خروجي إلى البئر والصفيحة فوق رأسي أو الطست تحت إبطي، لم يعد يليق بي وبكم، لقد التزمت الحجاب و..

ولكنها أسكتتني بقولها:

- اخرسي يا بنت.. هذه تقاليدنا المتعارف عليها.

أجبتها:

- هل هي قوانين.. من سنها؟

قالت لي:

- كلامك سخيف.

قلت لها:

- كفي عن السخرية بي، أريد منك أن تصغي إلي ولو لمرة واحدة.

اعتبرت جدالي طول لسان، فاقتربت مني، ورفعت يدها لتضربني، دفعتها، وأنا أقول بثبات:

- القهر المتراكم يولد الانفجار... لا تزالين على عادتك، تريدين أن تزرعي الرعب في نفسي، وتستغبي عقلي.. لم أعد طفلة، الأمور تغيرت.

قالت: - أبوك أفسدك.

قلت: - بل أصلح شأني.

ثم رأيت أن أهرب من أمامها. ولم يكن هربي جبناًَ، ولكن حسماً للمشاكل، وتهدئة لثورة غضبها... ثم ارتأيت أن أخرج لإحضار الماء اليوم، أو لأيام ريثما يتغير الحال.

ازدادت الأمور تعقيداً بين "محمود" وزوجته، وكثر تفكيره بمصير ابنته وتدهورت صحته... ثم على أثر مشاحنة شديدة، أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته.

كانت الفاجعة مريرة على قلب "سناء"، فالأيام الحانية انقضت فجأة، كانت كومضات البرق الخاطفة، أرعدها صحو الضمير، وانبثاق عاطفة الأبوة، مشت بدربها شهوراً قليلة، حجزت آلامها إلى حين، ثم لتعود ثانية، وتتجرع الأحزان بشكل آخر، وأخذت الكوابيس الرهيبة تراودها، وتقتات من راحتها.

صار المسكن عقيماً بعد وفاته، كان حين يبتسم تومض ابتسامته في أعماق نفس "سناء" على ندرتها، وحلت الفظاظة محلها فتفر منها خلف الجدران في زاويتها، أو إلى البحر، تحمل مشاعر صباها بداخلها، وعنده تفور ذكريات طفولتها، وتحلم بألوف الأشياء، وترتد حسيرة، فهل يصنع السراب شيئاً، وأصداف أيامها لم تزل متحجرة؟

جئت إليها أواسيها، فقلت:

- هوني عليك.. نحن مجرد عابري سبيل، في هذا الزمن الطويل.

بنبرة حزن، قالت:

- إنه عالم شديد الغرابة.. إذا حُكم علينا بالموت، فلِمَ يزرع فينا إرادة الحياة؟

- لنعبد الله بالطاعة والتقوى، ألم تقرئي قوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)؟

- بلى.. قرأته... التفكير الكثير يسبب لي الإجهاد.

- ليس من الحق أن نتحدى مشيئة الحق.

- أخشى أحياناً أن يفلت الصبر مني، ويجعلني أتصارع مع الواقع، وأحياناً أجهل التعامل مع نفسي...

تنهدت وهي تقول:

- موت أبي المفاجئ جعلني في أرجوحة.. لقد ذقت بكتفه طعم الأمان.. كيف أواجه المستقبل المجهول، وأنا في حالة من التوتر والخوف؟.

- ستنصلح أمورك بمشيئة الله.. فكّري بنفسك.. مشاعر التوتر ضعف، جابهي الصعاب بروح مرنة.

- موته جعلني أعيش نصف ميتة.. أشعرني بالفراغ.. والموت ليس أسوأ من الحياة الفارغة.

- ذكرى وفاته تحييك، لا تميتك.

- كيف؟

- تذكّري وصيته لك، بألاّ تستسلمي إلى الضعف.. التجربة تساعدك على إعادة بناء شخصك بطريقة أفضل.. ألم تفكّري بتعلّم مهنة؟

- هذا سؤال مثير، من غير جواب مثير.. كيف يتسنّى لي ذلك، ووقتي ليس ملكي؟

سكتت برهة، ثم قالت:

- كنت أشعر وأنا في لحظات الصفاء مع أبي، أنه يتوق إلى أن يقول شيئاً يخفيه عنّي، ليؤكد به براءته، وألحظ الحيرة تطوف على وجهه، ثم يمسك عن الكلام، ويضغط بكفّه على فمه.

استمرّت معاناة "سناء" من سوء معاملة زوجة أبيها، بعد الوفاة، وكثيراً ما كانت تعاقبها ظلماً، وتريها ألوان العذاب، كانت معها أشبه بالذئب تنظر إليها بعينين متوثبتين، تحاول ردّها في التقرب منها، ولكن المحاولات كانت شاحبة كغيرها، مبعثرة، ذات نهاية سلبية.. تمنّت أن يطوف السلام بينهما، وتتعاملا بودّ، ولكنّ الوضع كان يزداد تفاقماً، وكان لديها جنون الارتياب.. فقد حدث مرة أن رجعت "سناء" متأخرة بعض الشيء، نظرت إليها بحدّة وسألتها: من هو الرجل الذي كنت تكلمينه في الطريق؟ أجابتها: لا أحد يا خالة، فقط صديقة لي منذ الطفولة، وبتودّد قالت: أتمنى أن نكون صديقتين، وليس عدوتين.

كانت كثيراً ما تتلقى الإهانات بالصمت، وفي كل حفلة للعواصف في البيت، تهرب منها إلى زاويتها، ويعقبه سكون.. فصدرها يموج بالكره والانفعال، وتتمادى في الصدود.

تساءلت في سرّها:

- هل أخطأت عندما سلكت معها درب الشكوى؟.. كثيراً ما أحاول أن أغتصب البسمة من ثغرها، بقلب يطوي الحزن والكمد، ولكنها كالصخر دائماً، وتتأبّى عليّ.

أثناء الضحى، عند درجات المسجد، توقفنا بعد غياب لأيام عديدة، كان الحزن يلوح على ملامح وجهها، سألتها عن حالها، بيأس أجابتني:

- إنها تستمر في عقابي على لا شيء، لم أنظر إليها لأيام عديدة، بعد أن جلدتني بالحزام.

- غريب أمر هذه المرأة الشريرة.. لم جلدتك؟

- لتأخري قليلاً، ولأنني بدأت أهتم بمظهري.

- حقاً.. إنه لأمر مزعج.

- كانت ليلة قاسية، ملأى بالكوابيس، ليس لديك فكرة عن الليلة التي أمضيتها.. ما زلت أشعر بالخسارة الفادحة لموت أبي.

- هكذا حالنا، يكون ألمنا أشد على من نفقده.. اهدئي، ستكون الأمور بخير.

ثم قلت بحذر شديد:

- هل عرفت الحقيقة، والسبب في الضغط عليك؟

- استعرتها من أحاديث النساء، ولكن بطريقة مشوشة.. هل يمكن أن توضحيها لي؟

- آسفة يا "سناء" أعلم أن الخبر سيئ يزعجك، ولكن يجب أن تعلمي.. فقط تمالكي نفسك.. لقد سجّل أبوك البيت والدكان لزوجته.

- إنها مفاجأة مذهلة.. لم أكن أدري.

- حصل هذا منذ طلاقه من أمك، وزواجه من الأخرى.

صمتت "سناء" لبرهة، ثم قالت:

- هذا هو السرّ الذي أخفاه عني.

- من أجل ذلك، تحاول إبعادك عن البيت بأساليب شتى.

هزّت برأسها، وهي تقول:

- ليس بهذه السهولة.. لا أستطيع أن أفارق إخوتي.

- لا عليك يا "سناء"، انسي ما قلته لك.

تنهدت وهي تقول:

- إن المال لا يصنع الإنسان.. إنني أضع مصيري تحت رعاية القدر، وسيأتي اليوم الذي أبدأ فيه حياتي من جديد.

ثم أردفت فقالت:

- أشعر بأنها تزداد خشونة معي، وتطفئ الابتسامة على شفتي، وتزيد من حزني.

اضطرم وجهها، وقالت:

- أصبحت مربوطة بهذا البيت، لا أعرف كيف أعيش بعيدة عنه.

- جامليها بقدر الإمكان.

- ليس من طبعي الالتواء، والمداراة القائمة على النفاق والخداع، أخشى ألاّ أقدر على الصمود أكثر، رغم محاولتي التسامح، إنها تجرح قلبي بتحقيرها وإهمالها.

نظرت إلى الأفق البعيد، ثم قالت:

- لماذا تفسد أرواحنا بأشياء الدنيا، وتفسد الدنيا بأشيائها، وفي النهاية نجد أنفسنا ممتلئين بالشوائب؟.. هل هذه هي الحرية التي ننشدها؟.. أم أنها نفي الأرواح من جذورها؟.. لو فكّر كل إنسان منا كيف يعيش وكيف سيعيش، لوجدنا أننا أبداً مخدوعون، لأننا مقلدون، نفكر كما يفكرون، ونعمل كما يعملون.

أغمضت عينيها، وراحت في ذهول.

- ما بك.. هل أنت بخير؟..

- أجل.. أفكر لا أكثر.. وليساعدني الله.

يتبع إن شاء الله..