مارد في صدري(3)

نعماء محمد المجذوب

مارد في صدري(3)

رواية: نعماء محمد المجذوب

أيقظتني رائحة الربيع مبكرة، بعثت النشاط في كياني، رأيتني مدفوعة بالرغبة في الخروج إلى البرية، لتلامس عيناي الجمال في وروده، وليسكن في سمعي حفيف الشجر، وتغريد العصافير، ولينتعش صدري بنسيمه المبلل، وأعيش فترة حالمة لمشهد خيالي ممتع.. كانت النحلات والفراشات قد سبقتني، تهفهف، وتلثم النباتات الثرية، وتتناثر في فضاء البرية، فيعود للأجسام توازنها، ويشبع أحاسيسها بالحياة.

من بعيد شاهدت "سناء" كتمت أنفاسي، وأنا أسمعها تدندن بأغنية محبّبة، وهي تتجول بين أشجار الزيزفون، والصفصاف.. ثم استدارت عندما سمعت حفيف خطواتي، وبدهشة قالت:

- مفاجأة رائعة..!

- أراك سبقتني إلى هنا.

- أنسيت قرب المكان من البحر؟

- لا.. ما أجمل الطبيعة في الربيع..! إنها تحثنا على الخروج لاستقباله، ليمتص أحزاننا وآلامنا، ويبدلها بهجة وسروراً، ويمنحنا النشاط والحيوية في جو فردوسي رائع.

- الأعشاب مبللة بقطرات الندى، ترطب أقدامنا.

- محببة تلك الرطوبة.

كانت الشمس تنشر دفئها، وتمتص البلل، وتذيب قطرات الندى.. والجراد الملوّن يقفز بفرح بين أقدامنا، ونحن نسير ببطء.. ثم وقفنا عند شجرة صفصاف، ترفرف أوراقها فوق رؤوسنا، وتؤنسنا بهوائها.

نظرت إلى وجه "سناء" فلمحت فيه شحوباً وخدوشاً، قلت في نفسي: إنها حزينة بلا شك، هربت إلى البرية مبكرة لسبب ما، ليتني أستطيع تسكين ألمها.. ولطالما تساءلت عما سيئول إليه أمرها.

- سناء: إنك تكتمين عني شيئاً ألمحه في وجهك، حدثيني عنه.

سكتت برهة.. هل فتقت جراحها؟.. أعدت السؤال، وفي ذهني أمر ما.

- أرى في وجهك شحوباً، وخدوشاً، ماذا ألمّ بك؟

- أوه.. نعم، حصل أمس أن غفوت في وقت لا يسمح لي بالراحة، لحقت الفوضى في البيت، نهرتني زوجة أبي، تضايقت، فقلت:

- ماذا يحدث لو يكسر ساقي؟

أجابتني:

- تمشين على الساق الأخرى.

- وكيف؟

بصراحة قالت:

- ستمشين ولو كان على عصا للقشّة، وتتدبري شئون البيت مهما كانت الأسباب.. ويبدو أنها استاءت من كلامي، فضربتني بالمقشّة على وجهي.

- أفّ.. ربنا يهديها ويصلحها.

بعد برهة صمت سألتني:

- إلى متى سيظل الحال هكذا.. لم يعد بوسعي الاحتمال.. إنها تسيء التصرف معي باستمرار.. وهل يبقى الإنسان على حال واحدة، لا يتغير؟

- لا.. بل يتغير.. كلنا نتغير يا سناء.

باستغراب تساءلت:

- لماذا تعاملني هكذا.. ألست ابنة أبي، ألست أختاً لإخوتي.. أم هناك أمر يخفى علي؟.. صرت أشكّ بـ..

قلت أهدئها، وأنا أربت على  كتفها:

- أجل.. إنك ابنة أبيك، وأخت لإخوتك بشهادة الجميع.. اسمعي، أريد أن أضحكك، زينب بنت أم علي جارتنا كانت سمراء البشرة، تختلف عن إخوتها، كانوا يمازحونها، فيقولون لها: إنَّا وجدناك في جوال الفحم عند الشاطئ، والمسكينة تصدق ما يقولون، وتظن بأنها ليست منهم، سألتني وهي تضحك:

- وأنا.. أين وجدوني؟

- في جوال الكلس، لأنك بيضاء البشرة.

ضحكنا.. ثم ما لبثت أن تنهدت وهي تقول:

- آه.. أكاد أختنق.. لا أستطيع أن أبكي.

- بل تستطيعين، هيا إبكي.. دعي دموعك الحبيسة تنهمر.

ألقت رأسها بين كتفها، واستدارت إلى جذع الشجرة، ودموعها تتناثر فوق لحائها.

- خفّفي عنك.. حدثيني.. لا تخفي عني شيئاً.

قالت بمرارة:

- إني أقوم بالأعباء المنزلية من غير تذمّر.. وإن أخطأت..

- ماذا يجري؟

- تضربني بقسوة.

- غريب أمرها، كلنا يسمح لنا أن نرتكب الأخطاء، وهذه تسمى تجارب، وتعلّم، وينبغي ألا نعود إليها.

بابتسام قلت، وأنا أدير دفة الحديث:

- في أحضان الطبيعة ننسى مآسينا، ألم نتفق على ذلك؟

- بلى..

ثم نظرت إلى أزهار البرية، بأسف وهدوء قالت:

- في الصيف تذوي الورود والأزهار، إنها كالأحلام، تروق في نفسي كأحلامي، أتشبّث بها، أخشى عليها الذبول، ولا أريد أن تتبعثر أوراقها، هي الحياة.. أيقظ الربيع أنوثتها، ونمّى ملامحها، وأجرى أريجها في صدري.. ثم رنّ الألم في نبرات صوتها، واستطردت قائلة:

- أليس مذهلاً أن تذبل هذه حقاً؟.. لا أستطيع أن أتصور ذلك..

- هكذا الحياة يا سناء.

بمرارة قالت:

- إني أعيش حالة الانتظار الطويل، لأرى تفتح الورود، هي وسيلتي لتفتح الأمل في نفسي.. فيالبؤس الانتظار.. بحثي لاهث، وأملي متأرجح، ولكنني أتوقّع حصوله من أعماقي.

أومأت برأسي وأنا أقول:

- في كل وردة نشمّها، وفي كل قطرة ندى تلثمها، دفء لمشاعرنا، وقشعريرة خشوع في صدورنا.

- إني أذوب في كل زهرة، ولكن..

- ولكن.. ماذا؟

- كرهت الظلال يا عزيزتي، أريد الحقيقة، أبحث عن وردة معينة، مميزة، أنتظرها في كل فصل، أرى فيها..

- وجه أمك، أليس كذلك؟

- بلى.. وجه أمي، لتعيد إليّ الدفء، والنور إلى حياتي.

أردت أن أشغلها عمّا تفكر فيه، فقلت:

- انظري إلى هذا العشب الذي استطال، سيكون علف الماشية هذا العام غزيراً.

أجابتني:

- إنه البرسيم.

بابتسام قلت:

- ليس "بَرسيم" بفتح الباء، ولكن "بِرسيم" بكسرها.

- أهذا مما تعلمته من أبيك؟

- نعم، كثيراً ما يصحّح أبي لنا مفردات العربية.

لم يفارق الضيق نفسها، رغم المتعة التي نحن فيها، كان وجودنا معاً في فضاء البريّة فرصة سانحة، لتفضي إليّ بأحاسيسها المختلفة.. رمقتني بنظرة سريعة، وقالت:

- هل يضايقك سماع حديثي؟

- لماذا أتضايق؟.. إنه الوسيلة الوحيدة لتتخلّصي من آثار القسوة الرهيبة التي تواجهينها.

أردفت:

- إن ظروفي في بيت أبي صعبة، وأجدني أتحدّى هذه الظروف بقدر استطاعتي.. سأبقى كذلك.. فالحياة قصيرة، وأرى ألا أقضيها في الظلم، ولذا قررت أن أواجه الصعوبات و..

بادرتها:

- ولكن بالتأسّي والحكمة.

- أنا لا أشعر بالأمان في البيت، وأكره أن أستمرّ في الحياة في ظل أب ينساني، أو يتجاهلني ومع امرأة سليطة.

وبلهجة ثابتة قالت:

- سأكسر القيد، وأخلع رداء الحزن، وأنسى أسى الأيام السابقة، وأضع حياتي بنفسي، أخطط، وأخطو، والله في عوني.

- مشكلات الحياة كثيرة، كلنا نتعرض لها.. وأمثالك في البلدة كثيرون.. كثيرون..

- ومشكلاتي، سيسعفني عقلي في حلّها.

ضحكت وأنا أقول:

- هنا في البريّة أنت بطلة، وفي البيت هرّة.

ضحكنا معاً، وأنا أضغط على يدها وأقول:

- صبراً سناء، صبراً، ما بعد الضيق إلا الفرج.

لوحت إليها مودعة، اتجهتُ نحو البيت، واتجهتْ هي إلى الشاطئ، ونفسي تحدثني بأشياء كثيرة: سناء تريد أن تتخلص من ظروفها العنيفة بالعنف، وهذه وسيلة رهيبة غير مناسبة في الوقت الحاضر، فيها مجازفة، قد يتفاقم الوضع أكثر.. إنه شيء محيّر.

هبّت نسمات باردة من ناحية البحر، وسرت في جسمي رعدة خفيفة، انتابتني حيرة.. هل الرعدة كانت من الهواء البارد، أم من أفكار سناء الثورية؟.. لست أدري.

*  *  *

كان ليلي مثقلاً بالأفكار، وأحاديث النهار يدور صداها في ذهني، تمثلت من خلالها طفولة "سناء" المعذبة، وها هي الآن في سن الشباب تعاني الأمرّين، وأجهد نفسي في أن أكسب ثقتها.. كنت أركز تفكيري فيما ينبغي أن أفعل تجاهها.. وماذا في وسعي أن أفعل؟.. راودتني أسئلة كثيرة، حاولت أن أهتدي إلى  إجابة مقنعة لها، ولما عجزت، تركت الأمر للظروف.

في صباح يوم مشرق، رأيت أن أخرج، عساي أن أرى "سناء" وأتناقش معها.. في الطريق إلى البحر كالعادة وجدتها.

- سناء: ليس هناك ما أفعله تجاه حالتك إلا بإخبار أبيك.

بخوف قالت:

- لا، لا، أرجوك..

- بل يجب أن يحيط علماً بحالتك، ولو بالتلميح.

عند الشاطئ تراخت فوق الرمال، كان في عينيها الواسعتين ما ينمّ عن اضطراب أو قلق، وبشيء من الارتباك قالت:

- هل سبق أن شاهدت أبي؟

قلت:

- ألمحه أحياناً وهو يخرج من البيت.. ليس أكثر.,

- آه.. إنك تتكلمين بهدوء.. أرجوك دعيني وشأني.. ليس الأمر سهلاً.

كان اليأس واضحاً في نبرات صوتها، وهي تنطق بالعبارة الأخيرة.. ولكن قلت بإصرار:

- سأذهب إليه، وأحدثه بشأنك.

- سيؤدي ذلك إلى أمور سيئة.

- إنه يحتاج إلى من يهز ضميره، أبوك لا يظلمك، ولكنه يثق بزوجته.

- لا تفعلي أرجوك، فأنا أخبرك بمكنونات نفسي لأننا صديقتان،

- وسنبقى كذلك، فالصداقة خبز الحياة.. وأنا المسئولة عن تصرّفي.

سكتت برهة، ثم قالت:

- فعلاً إنه يثق بزوجته، وهي التي تدفعني إلى الأحزان دفعاً.

- أعلم يا سناء أعلم.. لكل أمر نهاية.. الحياة لا تكون عادلة أحياناً، وتكون ظالمة أحياناً.

- أرجوك فكّري بوضوح قبل أن تقدمي على ما تقولين.. تمالكي نفسك، وتصرفي بعقل.

- فكّرت، وقررت.

ثم سارت "سناء" دون أن تقول شيئاً، ألقيت عليها نظرة طويلة، هززت كتفي، وأنا أقول:

- سوف أغامر من أجلها، فأمرها يهمّني كثيراً.

في اليوم التالي، والأفق مزدحم بالشعاع، خرجت من البيت، وأنا أشعر بالأمان في قلبي، تصوّرت دموع "سناء" تتناثر منها حكاياتها عبر الرمال، وفي صدري حسرة سكبتها من حسراتها وآلامها، فقلت: آن لها أن تستريح، فحياتها في أرجوحة لا تستقر.

كنت أمشي بحذر شديد، وبتمهّل، وخطى جريئة وأنا أتجه إلى دكانه عند أول سوق البلدة، حيث يعمل حذّاء، وكان أن برق في ذهني فكرة حين ألقيت نظرة على حذائي الذي أقنعني بحاجته إلى التصليح، فهي وسيلة تبرر ما أنتويه.

كان شيء ما يجذبني إلى الدكّان، والعبارات تتساقط في فمي قبل أن ألقاه، وشعور قوي يعزلني عن كل شيء، إلا عن نفسي، وما يمكن أن أتعرض لبعض المواقف..

التمرّد صفة لازمتني منذ الصغر، وما تزال، قد يفسّرها بعضهم بمعان مختلفة، ولكنني لم أتمرّد على كل شيء، فقط على ما هو فاسد.. قد يكون حبي خير الناس سبباً لذلك، وقد يكون حبي للحرية.

فكرت في الحقيقة، تطمسها حجب التقاليد، قد تكون حجباً متعسفة مظلمة.. فلم لا نمضي وفي أفواهنا كلام من نور، وفي أيدينا مصابيح لا تنطفئ؟..

في الطريق كنت أرى الوجوه القلقة، المسرعة، العطشى أبداً إلى توحدها بالألق المفقود، في وقع الخطى المتلاشية.. فالحياة في بيئتنا أضحت قاسية بعد الاستعمار، أشبه بلوحة رسمت عليها حياة البائسين، المحزونين.. "سناء" واحدة منهم.. ولكنها لا تخلو من وجود من يعيش بحبوحة من كل شيء.

شاهدت عم "محمود" مطرقاً فوق سندانه الخشبي المرتفع إلى محاذاة صدره، يعالج حذاء بيده، يقلّبه، يطرق جوانبه بخفّة طرقات متتالية، يخيطه، يلمّعه، ثم يلقي به على الرف، بعد أن يتأكد من خلوّه من أي عيب.

- عم "محمود" حذائي هذا يحتاج إلى إصلاح.

لم يلتفت إليّ، إلا بمقدار تناوله للحذاء.. كانت نظرة خاطفة، ثم ردّها إلى ما بين يديه.. نظرت إليه بعينين مفتوحتين، كان طويل القامة، عريض المنكبين، صارم الوجه، يتهدّل شيء من شعره على جبينه، أدرت حواراً صامتاً، وأنا أقارنه بابنته، ودهشت للشبه الكبير بينهما، تذكرت قول النساء، بأنه ابن عم مطلقته "فخرية" فزال عجبي.

كنت أراقبه وهو يتفحّص الحذاء بنظرته، وأستشفّ أفكاره من خلال العقدة المجدولة بين حاجبيه، وهو مطرق فوق السندان، كأنها تجمع هموم الدنيا، وتكثّفها في مهابة، وكانت حركة يده لا تهدأ وهو يخيط بالإبرة، ويقصر الخيط، فتقصر معه أفكاره.

قلت في نفسي: ما أكثر هموم البشرية، وما أعظم ما يملكون إن هم عاشوا في بيئة سويّة.. كم يظلمنا التاريخ أحياناً.. وكم نحن نظلمه أيضاً!! نحن من نصنعه، ونملؤه بالخير، أو بالشر، ويبقى الإنسان في النهاية أكثر أهمية من التاريخ.. كان ثمة سرّ غامض في حياة عم "محمود" أكبر من أن ألمّ به.

رأيت أن أقتل الانتظار بالحديث معه، فهي الفرصة التي أعددتها، تهيّبت الموقف.. شعرت بالرعدة تسري في جسدي.. لم أدر هل كانت من الخوف، أم من إقحام نفسي في أمر لم أعتد عليه؟. ولا أدري ما الذي سيحدث إن ذكرت ابنته.

همست: كم أتمنى أن يعامل "سناء" كما يعامل هذا الحذاء المهترئ! يتفحص حالها، ويتغلغل في حنايا نفسها، ويرعى صباها، ويوليها العناية والرعاية!!

تمالكت نفسي.. تجرأت، فقلت:

- عم "محمود" كيف حال سناء؟

من غير أن يلتفت، أجابني:

- مالك، وسناء؟

باستنكار قلت:

- إنها ابنة الجيران يا عمّ.

- أجل.. هل بينك وبينها معرفة وكلام؟

- لم لا؟.. أكلمها أحياناً، وأمشي معها.. إنها لطيفة ومهذبة، وحساسة و..

تنهّد بعمق، وقال:

- نعم.. إنها كما تقولين.

تنبّه إلى مجاملته لي، وبسخط قال:

- لا نريد أن تتعرف على أحد.. هذا إزعاج لنا كبير.

تسمّرت في مكاني، وعجبت من لهجته الفظّة، وتساءلت: ترى لِمَ هذه الحدة، والسخط.. حملقت في وجهه، وهو مطرق، وابتسمت لنفسي حين لمحت بصيصاً من الغيرة عليه، قلت: قد أستطيع الاستمرار في الكلام.

- عم "محمود" إنك لا تعرف نوع الحياة التي تعيشها ابنتك، إنك هنا في دكانك بين أشيائك، ولا تشاهد ما يجري معها في البيت.

- دعيها وشأنها.

- آسفة يا عمّ.. لم أكن أقصد أن أزعجك.. ولم أقل غير الحقيقة، إنها شابة تحتاج إلى رعايتك.

رمقني بنظرة جانبيّة، وقال:

- إنّ كلامك يبدو خيالياً.

قلت بهدوء:

- الفتيات في البلدة يتعلّمن، و "سناء" محرومة من التعلّم، ومن أشياء كثيرة.

- لا أريدها أن تتعلم، ولا أريد أن تملأ عقلها بالسخافات.

قلت في نفسي:

- شيء مذهل.. إخوتها يتعلمون في المدارس، وهي تحرم من حقها المشروع.

مرت فترة صمت.. ثم فوجئت به يقول بصوت لا يخلو من رنين اللهفة:

- أعلم بأن ابنتي "سناء" ذكية.. ولكن أين التقيت بها؟

تراجعت خطوة، وأنا أرى في عينيه نظرات حادة، وانتابني جزع ودهشة.. كانت نظرات الأب الغيور، وأحسست كأنه يوشك أن ينقضّ عليّ، وكرّر بصوت هادئ، ولكنه شديد:

- أين التقيت بها؟

- قلت لك: في الطريق أحياناً، أو عند الشاطئ بعد خروجي من درس الدين في المسجد، وعند البئر أحياناً.

ورغم بساطة إجابتي، أو أسئلتي، فقد كان يفكر قبل أن يتكلم.. كان في نحو الخمسين من عمره، يرتدي قميصاً أزرق، وسروالاً أسود فضفاضاً.. تنمّ تعبيرات ملامحه عن همّ مثقل، وشيء غامض.. وحين كرّرت الثناء على "سناء" انبسطت أسارير وجهه بالرضا، ثم ما لبث أن هتف بغضب:

- من يسمح لك بالتحدث معها، لا أريد أن يفسدها أحد.

شعرت بأنه لن يتردد في البحث عن وسيلة، لقطع العلاقة مع ابنته، حين قال بلهجة قاسية:

- اسمعي.. لا داعي لأية صداقة مع ابنتي.. انهي كل شيء.. نحن نكره ذلك.

قلت بتعجب:

- نكره.. من تقصد يا عمّ؟

سكتُ برهة، استشعرتُ بضم صوته إلى زوجته.. سطعت الحقيقة بوضوح أمام عيني.. تململت تجاه فكره الضيّق.. إذن هو يتعاون مع زوجته لحرمانها من السعادة والأمان، فعاشت طفولتها معذبة، والآن تعيش شبابها في ضنك، إنهما يقتلانها كل يوم.. سفكا طفولتها، وبراءتها، وها هما يسفكان شبابها.

وتساءلت بمرارة:

كيف يطاوعه قلبه بأن يلقيها لذئبة كاسرة، تتحفّز للانقضاض عليها في كل حين؟

رأيته يعيد النظر إليّ بحدّة، وبوجه مقطّب يقول:

- كل ما أريده منك، أن تبتعدي عنها.

- لا داعي يا عمّ أن أبتعد عنها.. أنا ابنة صديق لك، وهو الذي يشجّعني على صحبتها.

- أشعر بذلك..

ثم قلت بهدوء:

- آسفة.. لم أعلم بأن حديثي يضايقك.

أحسست بالغضب يملأ نفسي، وبمقدرتي على مواجهته، كي أبيّن له الحقيقة.. فكانت الكلمات تتداعى من فمي من غير هلع.

أصابني الجزع وأنا أقول في نفسي:

- يا ترى.. هل يزداد الأمر تعقيداً؟

أرخى عينيه فوق الحذاء.. أعطاني الموقف بعداً ورؤى، ورأيت نفسية "سناء" تمر بمرحلة الضياع، وتحس بالصراع يتحرك في داخلها، فأيهما سيغلب: أهو الخير أم الشرّ؟

كم تمنيت أن ينطلق من قيود العادات المسيطرة عليه، ويعطي لابنته أهمية أكثر بعد حرمانها من أمها.. فيخاف عليها، ويكون صادقاً مع نفسه، ويجردها من الأوهام والشوائب التي ترسّبت بعد فشله من زواجه من أمها، ويجعلها صافية نقيّة، وينظر إلى الحياة بشكل عقلاني، في بداية جديدة، ولا يدع أمر "سناء" لزوجته، تتحكم بها كما تشاء، وذلك كي تحظى بطفولة سعيدة، ومراهقة سليمة.

ازداد تقطيب جبينه.. بهتُّ وأنا أسمع شهقات بكائه، وهو مطرق فوق الأشياء، ودمعات تنهمر يمسحها بمرليته.

حملت حذائي، واستدرت في الطريق المؤدي إلى البيت، وأنا أشعر بالحزن يعتصر فؤادي.. بالرغم من ذلك، راودني إحساس بالانتشاء وأنا أنتصر في هذا الموقف، ولو كان صغيراً.. ثم صحوت من ذهولي على صوت صبيّ يقدّم لي فردة الحذاء ويقول:

- لقد سقطت منك هذه.

- أشكرك.. يبدو أني لم أنتبه، لأني كنت في عجلة.

*  *  *

شيء ما يتكسر في داخلي، يشعرني بأني غير قادرة على شيء، وأتلهف لكل شيء، ولديّ الرغبة، وقد يغشيني الخوف أحياناً.. لشدّ ما أكره الحياة المثقلة بالتوافه، وبلا هدف.. الأيام تفرّ من بين أيدينا، وتنسكب في مجاري الزمن، لا نستطيع أن نستعيدها، والظروف عوامل تقلب الأمزجة، فأراني تارة أحمل قلباً مفعماً، وعقلاً مليئاً بما هو غريب، ومحبّب، ومع ذلك ينتابني قدر من الأسى والحزن، فيمنعاني حتى من الابتسام.

في منتصف الطريق شاهدت "سناء" تقبل عليّ بأنفاس لاهثة، ممتقعة الوجه، سألتها:

- ما بك.. هل تشعرين بشيء؟

بلهفة قالت:

- هل واجهتِ أبي؟

أمسكت بذراعها، وقلت:

- ليس المهم أن أواجهه، ولكن أن يحسّ بك.. أن يتغيّر.

توقفنا قليلاً، قلت أطمئنها:

- سيكون الأمر على ما يرام بإذن الله.. أرجو ألا يغشاك القلق.. اهدئي.. كأنّ شيئاً لم يكن.

- أوه.. إني بحاجة كي أستريح في مكان ظليل، في ركني المنزوي تحت النافذة و..

- أو في ظل صخرة مشرفة على البحر، في جوّ رطيب منعش.. ضحكتُ وأنا أقول لها:

- لا تنسي أن تأخذي صاحبك معك.

- ما هو؟

- الطست طبعاً، المليء بالأشياء، حتى لا تلفتي الأنظار وأنت وحيدة عند الشاطئ.

استوقفتني، وبلهفة قالت:

- احكي لي ما حصل معك في دكان أبي.

- هلمّي يا "سناء"، لا تسأليني الآن عن شيء.

لكنها ألحت، فقلت:

- قابلته، ولمحت الحزن العميق في وجهه، وهو يجلس مع الأشياء يحتضنها، ويصلحها.. إنه يحبك يا "سناء"، يحبك..

ثم أردفت قائلة:

- لا تخبري زوجة أبيك بالأمر.

بسخرية قالت:

- وهل أجرؤ على ذلك؟

بعد أيام عدة، أثناء خروجي من المسجد، عرجت نحو الشاطئ، والتقيت معها:

- هل أنت بخير يا "سناء"؟

- أجل.. ولكن حصل شيء ما في البيت.

- ما هو؟

- مشاحنات بين أبي، وزوجته.

- أبسببك؟

- لست أدري.. لست أدري.

كان وجهها شاحباً، ملوناً بالخوف وهي تقول:

- إن عاصفة الغضب عندما تهب في البيت، أتمنى أن أهرب منها إلى البحر، متذرعة بغسل الأشياء.

كانت سناء تقيم علاقات الأشياء بشكل جديد، يستثيرها خيالها، ومقدرتها في ابتداع صور تجسم رؤيتها للحياة، وتثير ما في نفسها، فتعبر عن إحساسها بالكتابة.

باستغراب سألتها:

- ما الذي يدفع زوجة أبيك للمعاملة السيئة، أمرها عجيب.

- قد يكون الغيرة من أمي التي لم ترها، بخاصة حين يذكرن الشبه بيننا.

سكت عن الكلام لبرهة، ثم قلت:

- لا عليك يا "سناء"... انسي كل شيء.

- أحاول أن أنسى.

- من الحماقة أن يفسد المرء حياته بالتذكر لكل المآسي.

ابتسمت وهي تقول:

- أصبحت شابة، علي أن أتحمل... سأريك ما أكتب، إن مجرد قراءتها يثير في نفسي إحساساً بالمتعة.

- جوانب الحياة مختلفة، فيها الفرح، والكئيب، والمخيف، والعاقل هو الذي يعرف كيف يتعامل معها... الظروف والبيئة تجران المرء على مواجهة نفسه.

سمعتها تضحك، سألتها عن السبب، أجابتني: عندما أتوتر أبدأ بالضحك، قلت:

- وسيلة طريفة، فلنضحك معاً.

استطردت، فقلت:

- هل بمقدرتك التفاهم مع زوجة أبيك؟

صمتت برهة، ثم قالت:

- سأحاول.. لقد تغيرت، لم أعد طفلة، أصبحت إنساناً آخر، لي القدرة في التعبير عن نفسي... حقاً، لا أستطيع الصبر أو الصمود أكثر.

شجعتها بقولي:

- هذا رائع.. تطور رائع، فالأمور ستجري تلقائياً بسبب أو بآخر، فقط تمالكي نفسك، ولا تضطربي، ولا تخشي من فظاظتها.

في البيت، اقتربت "سناء" من زوجة أبيها، جثت على ركبتيها وبتضرع قالت:

- هل يمكنني أن أتحدث معك يا خالتي؟

رمقتها بسخرية، وسألتها:

- بشأن ماذا؟ خير إن شاء الله.

- أنا بحاجة إليك، كحاجتي إلى أمي، ساعديني على المضي في حياتي، نحن نعيش في بيت واحد، كالغرباء، إلى متى سنبقى على هذا المنوال، الأمور بحاجة إلى تقويم.

سكتت برهة، لترى رد الفعل عند زوجة أبيها، ثم تابعت:

- إلى متى وأنت تهربين مني، وأنا أهرب منك، هل حياتي، ومستقبلي متعلقان بك، وبإخوتي؟. فقط أريد أن أعرف.

أجابتها بلا مبالاة:

- وماذا بعد؟ هل انتهيت من كلامك؟.. لقد سئمت الإصغاء إليك.

- أستحلفك بالله أن تغيري أسلوبك معي.

صرخت بوجهها، وهي تقول:

- كيف تريدين أن أعاملك حين تقصرين في أعمال البيت؟

- خالتي، أرجوك، لا تلوميني دائماً، وتتهميني بالتقصير، وفعالك معي فوق أي اعتبار.. أرجوك، كفي عن ضربي، أصبحت في السابعة عشرة من عمري،.. الضرب يؤلم نفسي وجسدي معاً... لا أدري.. لا أدري.. كيف أرضيك.

ابتسمت ساخرة من أفكارها، وقالت لها:

- إنك لا تعنين شيئاً بالنسبة لي.

لم تحفل بكلامها، وتضرعها، وباستكبار قالت:

- لقد حان الوقت ليتناول الأولاد العشاء، أسرعي وأعدي لهم المائدة.

كانت "سناء" تنساب في حديثها بشكل سهل، تلقائي، بعيد عن المراوغة والتزويق، ثم رأت أن تقطع الحديث، وتصمت.

همست لنفسها بانكسار:

- أعلم أني لا أعني لك شيئاً، سفكت طفولتي، والآن تسفكين شبابي، افتقدت الإحساس بالأمان في كنفك، جعلتني أشم رائحة الطعام الساخن، أشتهيه ولا أتذوقه إلا بارداً، ومن فضلات إخوتي، عوضتني عن حنان أمي بالقسوة... لا أدري لم هذا الحقد الدفين في صدرك تجاهي.. ألشبهي بأمي التي لم تريها في حياتك... لم أكون الضحية لانفصالها عن والدي، ويكون انعكاسه مريراً في حياتي..؟

غيرتك ولدت الكره لي، والرغبة في احتقاري، وإذلالي..

اضطربت "سناء"، ولاح عليها مظاهر الاضطراب.. أسرعت الخطى إلى ركنها، أرادت أن تنفس عن نفسها بالصراخ.. ليس لها إلا النافذة المطلة على الخربة.. كانت صرختها موجعة، يدوي صداها في صدرها، وتقول في ألم:

- آه، من يسمع لصرختي؟

*    *    *

كان الجو صحواً، والشمس مشرقة، تملأ الكون ضياء، وبهاء، والهواء لطيفاً منعشاً، يبعث النشاط في الأجساد، والانشراح في النفوس، حين انطلقت "سناء" بالصفيحة الفارغة، وفي فمها أغنية رقيقة تترنم بها، وتسمع نفسها... كانت الصفيحة الوسيلة لتنسم الحرية، والتمتع بالطبيعة.

قبل أن تنطلق، ألقت نظرة على نفسها في المرآة، تحدثت معها، فقالت:

أراني اليوم نضرة.. فقد نمت مبكرة، واستيقظت مبكرة.

كان الطريق خالياً من المارة، وهي تمشي بتمهل... سكن سمعها صوت خافت ينادي اسمها، أعقبه ضحكة قصيرة، جعلها تصحو تماماً من ذهولها... استدارت، شاهدت رجلاً يمشي وراءها، ويدعوها للسير معه.. في انبهار قالت:

- ماذا.. ماذا تقول؟.. اغرب عن وجهي، وإلا صرخت، وأسمعت الحي صراخي..

كانت تحاول أن تبدو هادئة.. كرر الدعوة.. أردفت:

- أعتقد بأنك تعرف من أنا.. إنني ابنة رجل يغار على الشرف والعرض.

تقدم نحوها.. تراجعت إلى الوراء، ووجهها مفعم بالغضب.. التزم الصمت، ثم ولى هارباً.. ترددت، هل تستمر في طريقها، أم تعود إلى البيت؟.. هزت برأسها حين تصورت زوجة أبيها وقد علمت السبب، فإنها ستقلب الحكاية رأساً على عقب، لتجعلها فضيحة تنتشر في الحارة... آثرت السكوت، ومتابعة السير، مع الحذر الشديد.

عاد الرجل نفسه إلى الحارة بعد عدة أيام، يركب حصاناً، يثير الغبار بحوافره، تنحت عن طريقه.. حاول المروق بمحاذاتها.. هدأ من حركة الحصان، ليقترب منها، تعجبت، وتساءلت:

- لماذا.. لماذا؟

حاولت أن تهتدي إلى إجابة مقنعة.. عجزت.. ابتعدت.. حتى إذا جاوزها، تابعت سيرها.

في صباح أحد الأيام، سمعت وقع خطواته وراءها، وبهمس يقول:

- أريد أن أتحدث إليك.

بصوت حاولت أن تجعله هادئاً في نبراته، قالت:

- ليس هناك ما يدعو إلى الحديث بيننا.

غلبها الخوف، فهربت تحتمي منه في أحد الأزقة كي تضلله.. حتى إذا بدأ الناس يمشون، اطمأنت، فقد أصبحت في حمايتهم.

تكرر الموقف لم ييأس.. نظرت إليه بثبات، وبلهجة حاسمة قالت:

- يمكنك أن تطاردني سنوات، ولكن تأكد من شيء واحد، هو أنني لست من النوع الذي تريد.. وها أنا أتوعدك للمرة الأخيرة بإعلام والدي، والشيخ عبد الله بأمرك.. فقد يؤدي إلى جريمة يسفك فيها دمك.. ابتعد عن طريقي أيها الأحمق... لم يَرعَوِ... سمعت حفيف أوراق نقدية في يده.. اقترب منها، يغريها بها.. صرخت في وجهه:

- عليك اللعنة أيها السافل.. دعني وشأني.

تخيلت الضجة التي يمكن أن تحصل بصراخها، فرأت الهرب أفضل وسيلة، يحثّها الخوف والاضطراب.. تساءلت في نفسها: لم يحوم حولي؟ التقاليد لا ترحم، ولا تفرق أحياناً بين المذنب والبريء.. ليس لي إلا الاحتراس.

في ركنها الهادئ، تهالكت على فراشها بإعياء، كانت النافذة مغلقة، تمنع عنها جلبة الحيّ.. ابتسمت وهي تتصور ما يصيب هذا الرجل من إهانة إن علم أبوها بأمره.. نهضت، واستردّت نشاطها بالماء البارد.

قررت المواقف في ذهنها، تصورته واحداً من خارج الحيّ، دلّ على ذلك من تصرفاته، ونبرات صوته، واعتلائه الحصان، وهو يخال نفسه كالضفدع.. وكان أن تهادى إلى سمعها من أحاديث النسوة، أن أشخاصاً يغرون الفتيات بالمال، ويستدرجونهنّ إلى أثرياء يقصدونهم، وهم يقحمون أنفسهم في المخاطر، ويغامرون بحياتهم، مقابل حفنة من المال.

التقيتُ "بسناء".. أخبرتني بمطاردة الأحمق، وطلبت مني كتمان الأمر عمّن حولها، قلت أطمئنها:

- محاولات تبدر من شبان مخادعين لبعض الفتيات، والأمر خطير على الساذجات منهمنّ.

أحسست بالعطف الشديد، حين لمحت الحزن العميق بادياً على وجهها، وطلبت منها أن تصفه لي كي أخبر والدي.

بهمس أخبرتُ أبي بما تتعرض له "سناء" وخشيتها التحدّث إلى أبيها، لما تعلم من انفعاله وعصبيّته، وتصرّفه أحياناً بغير حكمة.

كانت "سناء" قد أصبحت طويلة القامة، لفّاء، حساسة بطبعها، نشيطة، تبرر نشاطها بأنها تحبّ الحياة، وتحبّ أن تشترك في بنائها، ولا تريد أن تفوتها رؤية الأشياء منها. قلت لها:

- لقد غدوت أكثر جاذبية وجمالاً و..

قاطعتني، وهي تحاول أن تبدو حادّة:

- لا تكوني مبالغة أكثر مما ينبغي.

قلت لها:

- نحن في بيئة لو نظرت الفتاة فيها إلى رجل، تعني الكثير.. "سناء" عليك أن ترتدي الحجاب من عدّة سنوات، فكيف بك وأنت الآن في هذا السنّ، تثيرين رغبة الشباب، وضعاف الإيمان، فيتحرّشون بك، ويعرضون سمعتك لما لا يحمد عقباه.

بهدوء قالت:

- فعلاً، هذا ما ينبغي أن أفعله، ولكن..

- ولكن.. ماذا؟

- بعد أن أملك حرّيتي.. أشعر وكأنني أعيش في زمن الرقّ.

- كلامك خطير يا "سناء".. من أين لك هذه الأفكار؟

باتزان قالت:

- من الكتب.

صمتُ برهة، ثم سألتها:

- كيف كان تصرّفك تجاه الرجل؟

- نهرته مراراً.. لم أحدّث زوجة أبي بالأمر.

- حسناً فعلت.. فقد تأخذ كلامك على شيء فاسد.

- هذا هو قصدي بالتحديد.. تصوّري.. إن شعوري بالوحشة والغربة يزدادان عندما أكون في البيت.

- طبعاً، لأنك لا تطمئنين إليها.

- إني أهرب من البيت، لأني لا أطيق رؤية الوجوه المتجهمة.

لم تستطع "سناء" أن تنقطع عن الاتصال بالطبيعة، مهما كانت الظروف، لملمت الأشياء في الطست، وجلست عند الشاطئ.. رأت الزوارق تعشق الأمواج، وتشتاق إلى العودة.. استولى عليها الصمت، ضجر الصمت من نفسه، صار عويلاً في صدرها.. من يدري به.. من يدري؟.. تمنت لو كان له أصوات أجراس، يفجّر الفجر، ويوقظ الشمس، ويشيد من أحلام صباها قصوراً وقناديل.. نظرت إلى السماء بعتق، وهمست:

لمَ لا يطفو السلام كما تطفو هذه الغيمة الخضراء؟ لم لا تطلق الريح حمائم السلام، ويتوقف الرعد؟.. ما أعذب الحلم حين يضحي حقيقة! تغزله الأنوار أعشاشاً هنيّة، نهرب إليها من الواقع.. من منّا لا يعيش الأحلام في زمن الرعد؟.. هي التي تجعل الأرض القاحلة جداول على أكتاف الوديان.. والنجم في السماء يهدي رسائل للحالمين.

ألقت إلى الطست نظرة طويلة، صارت تشعر بالراحة لنفسها مع هذا الشيء، يعتقها من القيود والضيق، معه لا تشتكي أبداً.

لمسة رقيقة من كفّي على كتفها، وسلام خافت أفاقها من ذهولها، وهي بين الصخور، وساقاها مغمورتان في المياه إلى ركبتيها.

- أراك في شرود.

- أشعر بالاستياء قليلاً، تراودني خطة لهدف بعيد..

- هل تصرحين لي به؟

- فيما بعد.

- هل طاردك الرجل هذا الصباح؟

- لا..

ابتسمت، وأنا أقول لها:

- أعلمت أبي بأمره، أظنّه قد عرفه، وتصرّف معه بما يناسب.. ولكن احترسي دائماً، فالأشرار كثيرون..

"سناء": دعيني أحدثك بشيء مهم، سبق أن ذكرته لك.

حملقت بوجهي، وقالت:

- ما هو؟

- أما قرأت أمر الله تعالى في الآية الكريمة: (وقل لنساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهنّ).

- بلى، مرات عدة.. سبق أن قلت لك لا أرتدي الحجاب إلا بعد أن أنال حريتي.

- هراء، هذا هراء، الحجاب ضرورة ملحّة لنا.. آه.. تذكرت قولاً في إحدى المجلات للكاتبة الإنجليزية "آني رورد" تقول فيه: (ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة، والعفاف، والطهارة، يمثله رداء المرأة، وإنّه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل مثلاً للرذائل، بكثرة مخالطة الرجال).

لبثت برهة تفكر، وتوازن، ثم سألتني:

- هل الحجاب يمنعني من المجيء إلى البحر، أو إلى البئر..

ثم بلهفة قالت:

- إنني أتشوّق لرؤية النساء البائسات وهنّ يحملن الجرار لملأن الماء.

تحيرتُ في الإجابة.. لم أرد أن أزيد آلامها، وأنا أواجهها بالحقيقة، صمتّ، وفجأة قالت:

- قد أواجه مشكلة مع زوجة أبي.

يتبع إن شاء الله..