مارد في صدري(2)

نعماء محمد المجذوب

مارد في صدري(2)

رواية: نعماء محمد المجذوب

كان الوقت ضحى، والهواء منعشاً لطيفاً، حين رأيت نفسي تنساق إلى بيت "سناء"، وقفت برهة عند الباب أتأمل البيت من الداخل من خلال تفاريج فيه، شاهدت الحوش مرصوفاً بحجارة ملساء، يبرز العشب من حوافها بشكل عفوي بديع... وفي وسطه تنهض شجرة نارنج، تمتد أغصانها، وترخي ظلالها، ومن بينها تتدلى ثمارها... امتد نظري إلى الليوان، تحيط به الغرف، وتزينه أصص الأزهار المتنوعة.

طرقت البات... سمعت المرأة ترد بصوت مسترخ:

- مين على الباب؟

- أنا

- من أنت؟

- ....

سحبت المزلاج... أطلت بوجه مطلي بالألوان، وقد زينت رأسها بزهرات من الفل، والياسمين... نظرت باستنكار، سألتني:

- ماذا تريدين؟

- "سناء"، أنا صديقتها.

قهقهت باستخفاف وقالت:

- متى كان لـ"سناء" صديقة... ما عندنا صديقة لك.

أغلقت الباب، بصوت مرتفع حدثت نفسها:

- عال، والله عال، البنت "سناء" صار لها صديقة...

وباستفزاز نادتها:

- ألم أقل لك يا بنت ممنوع الكلام مع أحد.. من البيت إلى البئر، ومن البئر إلى البيت...  من البيت إلى البحر، ومن البحر إلى البيت؟

كم حذرتك!!

تحتاجين العقاب، والتربية.

وسمعت الشتائم تنهال عليها، وأنا لا أزال في وقفتي... أرسلت نظري عبر التفاريج، .. شاهدت المعركة من جانب واحد، فيما الصفع وشد الشعر، وسناء تتكور فوق الأرض، تحتمي بجذع الشجرة، تحاول أن ترد عنها الأذى، وهي تقول بصوت خافت:

- التقيت بها مصادفة عند الشاطئ... ما كنت أقصد هذا.

كانت تقدم الاعتذار برقة، ... وتتفادى الضرب.

في أثناء الطريق غمرني إحساس بالعطف الشديد على "سناء" المحرومة من حنان الأبوين، التي لا تجد رفيقة تؤنسها... وتسببت لها بالأذى، عدت إلى البيت، وأنا أعتقد بأن ما رأيت، وسمعت، شيء فظيع لا يحتمل... لم أتجرأ بعد ذلك اليوم من الاقتراب من بيتها، ولكني ظللت أتوق لمشاهدتها.

في ساحة الحارة، عند البئر كنت ألتقي معها... تعرفت على بائسات وهن يملأن من ماء البئر... رسمت في مخيلتي البيئة، كانت أشبه بلوحة رسمت عليها حياة كثير من البائسين، وسناء. واحدة منهم، بؤسها في قساوة أبيها، وفظاظة زوجته... لكن سناء كانت تجد الحصانة في الغض، والتناسي، والتسامح، وتستنكر من المرأة التي لا تجد الحصانة من الكره، والحقد في حبها لسناء ورعايتها لها.

تكرر لقائي "بسناء" في الحي، وفي الزقاق، وتحت القنطرة، وعند البئر، وحين نكون في نزهة عند الشاطئ... صارت الصفيحة فوق رأسها كجزء منها، وخطواتها أكثر انسجاماً مع نتوءات الحجارة. وشعرها لا يزال ينهدل على جانبي وجهها... كنا نتحدث وعيوننا تراقب المكان، قد يشي أحد ما إلى زوجة أبيها، وتقع سناء في ورطة.

في أحد الأيام، عند الشاطئ، قلت لها:

- إنني أنتوي الذهاب غداً إلى المسجد، لأحضر درس عمي الشيخ "عبد الله"، أتمنى أن تذهبي معي، لا نطيل البقاء، مجرد ساعة لا أكثر.

باستغراب قالت:

- كيف يكون موقف زوجة أبي لو علمت بالأمر؟

- أتمنعك...؟

برغبة، وبلهفة قالت:

- أود ذلك... ستمنعني حتماً.

أخذت تصلح وضع الصفيحة فوق رأسها، وهي تشكرني على اهتمامي بها....

- سيأتي وقت أحضر فيه مجلس عمنا الشيخ "عبد الله"، فيه نتعرف على ديننا

- حاولي... استعطفيها... لا تيأسي... لعل، وعسى...

هزت برأسها وهي تقول:

- أن توافق... شيء مستحيل، ..مستحيل.

"سناء": آن لك أن تواجهي الخوف بإرادة... أخرجي نفسك من القوقعة، ... صبرت بما فيه الكفاية... الجئي إلى أبيك، نعم الجئي إليه.

ضحكت باستخفاف، وبصوت خافت كأنه ينساب من مكان قريب، قالت:

- هل يشعرني بكونه أباً لي؟

آه... لقد تأخرت، تأخرت... أخشى أن يحصل ما أتوقعه.

- حاولي أن تكتسبي ثقتها... ستلين حتماً، ستلين.

كان القلق واضحاً في نبرات صوتها، وهي تنطق بالعبارة الأخيرة، وتهرع بأنفاس لاهثة، .. كان لكلماتها صدى في نفسي... هل أخطأت بتصرفي هذا... هل نكأت جراحها..؟ أريدها أن تتغير، ولا أريد أن أفقدها كصديقة.

في المساء، بعد عودة أبي، قررت أن أحدثه عن حالها، ومن ثم أرجوه القيام بعمل أي شيء من أجلها... أكّد لي بصوت حاسم محاولاته العديدة، تارة باجتماعه مع أبيها لتحريك عاطفة الأبوة تجاهها، وتارة بعرض المساعدة المالية... للأسف لم ألق منه أي استجابة، ويزعم أن مخالطتها للناس تؤدي إلى إفسادها، وجعلها تثور على من في البيت... لن أستطيع يا ابنتي أن أفعل شيئاً... يبدو أنه قد اصطنعها لزوجته وأولادها.

قلت في نفسي:

- خادمة؟..

ليس بهذه الطريقة المتوحشة، بالضرب، والشتم، والركل بالقبقاب، وشد الشعر.

زفر والدي بضيق، وسألني:

- هل حدثتك بشيء من ذلك؟

- بل بأكثر منه، بحرمانها من الطعام أحياناً كعقاب، وفي الأحوال العادية لا تنال إلا ما فضل من إخوتها.

- أف، ما أغبى أباها!! هل هو غافل عما يجري لابنته؟

ثم أردف:

- احتفظي بصداقتك معها.

اسمعي يا ابنتي، لا داعي لشعورك المستفيض هذا، لسوف تنتهي الأمور إلى الأفضل بإذن الله.

عرفت فيما بعد ذلك، أن والدي يرافقه رجال صالحون، التقوا بأبيها، وأبدوا استعدادهم لدراسة وضعها، ولكنه كان يعتبر ذلك إهانة له، واتهامه بالتقصير، والتدخل في شئون أسرته... عجزوا، رغم ما بذلوه من جهد في سبيلها.

احتضنت "سناء" في أعماقي وأنا أراها عند أب متحجر يضربها من غير سوط، وامرأة مجرمة تضربها بكل سوط، وأيامها تسحق بين دفتي رحى.

ذات يوم ونحن نسير معاً، شعرت بضيق نفسها، فقلت:

- الحياة عجلة مزودة بالعصي، ماذا نفعل كي نستمر في المضي؟

بسرعة أجابت، وهي تضحك:

- نزيل العصي، لكن.. من يدري.. قد ننجو، وقد نعجز أحياناً.

قلت بجد:

- لا بد من تحرير الذات من القلق، والخوف، والسعي لإزالة العقبات، والاتكال على الله سبحانه.

فكرت برهة، ثم بحزم قالت:

- سوف أغامر مهما كانت الطريق طويلة.. أكيد.. ستقصر، وتسهل..

كانت الشمس فوقنا متوهجة عند الظهيرة، قلت لها:

- ستقودنا الشمس قريباً إلى الظل.. هكذا الحياة يا عزيزتي.. ستقودك إلى الفرج.

كانت سناء تعاني الكثير في أمور كثيرة، أشدها التفريق في المعاملة بينها وبين إخوتها، وحرمانها من التعلم في المدرسة، وصحبة الصديقات، وأشياء كثيرة، كأنها تعيش في دنيا غير دنياهم، ولا يدري أبوها عنها شيئاً، ولم تفكر هي في مكاشفته بالأمر.

كانت الأيام تكر، وتتسع، وسناء تنمو، وتتفتح كزهرة عبقة في حميم من جحيم... كنا في الطريق المؤدي إلى شاطئ البحر، حين بثت لي لواعج نفسها، وعبرت عن شدة حاجتها إلى أمها، وتأوهت وهي تشكو قلة اهتمام أبيها بها، وقالت في ألم:

- لم أعد صغيرة، نفسي تتوق إلى ما يبهجني كغيري من النساء الصغيرات، إلى المعاملة الطيبة، والثوب الجديد، والحذاء ذي الكعب و..

- اطلبي من أبيك ما ترغبين.

هزت رأسها بانفعال:

- لا.. لا أتجرأ على ذلك.. ولا أتجرأ حتى إلى التحدث معه، و...

- شيء مؤلم حقاً.

كيف حالك هذه الأيام مع زوجة أبيك؟

- إنها تستفزني بلا مبرر، ..تغضبني جداً.. تدفع بي إلى الجنون.. أضغط على أعصابي، وأستعيذ بالله.

- هدئي من روعك، لا تقلقي، كيلا يزداد الأمر سوءاً.

- هذا ما يحصل بالفعل... الوقت لا يتسع لأشرح لك كل شيء.

توقفنا برهة عن الحديث، بابتسام، وبصوت هادئ سألتها:

- هل تنظرين إلى نفسك في المرآة؟

ضحكت، وهي تقول:

- أحياناً.. بل كثيراً.

- ما أكثر شيء يعجبك فيها؟

- عيناي.

- لماذا؟

- لأنها تذكراني بأمي.

- وشعرك بماذا يذكرك؟

- بالليل.

- هل تحبين الليل؟

- نعم، فيه راحتي، وتأملاتي.

- والنهار؟

- آه من النهار! تتورم فيه قدماي من التعب.

رأيت الألم يزداد عمقاً في عينيها، فقلت بعطف شديد:

- لا أريد أن أزيد في آلامك.. ولكنها أسئلة.. مجرد أسئلة قصيرة.

أردت أن أدخل البهجة إلى نفسها، فقلت:

- لك عندي مفاجأة، آمل أن تروقك.

بلهفة سألتني:

- ما هي؟

- احزري.

- أكره الألغاز.

- إنها كتب صغيرة، رائقة، آمل أن تعجبك، سأحضرها لك.

استجاش ذكر الكتب نفسها، لمعت عيناها، وفاجأتني بقولها:

- هل تعلمين بأني لا أدع كتاباً لإخوتي إلا أقرأه، بل وأساعدهم في فهم ما يقرأون.

بدهشة قلت:

- إنك تكبرين يا سناء، وينمو معك إحساسك بالحياة، وتذوقك للقراءة وتتدفق مشاعرك بالألم، والضيق، والحنين، والحزن، وغيرها.

أيمكنني القيام باقتراح؟

- ما هو؟

- أن تسجلي مشاعرك، وأفكارك على الورق.

بسرور قالت:

- أنا أفعل ذلك، أفعل دائماً.

- جميل جداً، آتيني بها كي أعرضها على أختي هيفاء، وكما تعلمين، هي مدرسة في تجهيز البنات، وتشجع الطالبات على الكتابة.

بهدوء قالت:

- سأريك أشياء كثيرة أحتفظ بها.

في صباح يوم ربيعي، كان الجو صافياً، والشمس مشرقة، والهواء منعشاً، حين استيقظت "سناء" متأخرة على غير عادتها، كان البيت هادئاً، وخالياً من صخب إخوتها وضجيجهم، تذكرت حديث زوجة أبيها مع أولادها أمس، تعدهم بزيارة خالتهم غداً، في إحدى ضواحي البلدة، لقضاء النهار عندها... تفقدت أركان البيت، وقامت بكل ما يلزم... تناولت الإفطار بهدوء، ولكنه ظاهري، إذ أحست بالوحشة، بحثت عن وسيلة للهرب منها... تفتحت نفسها على شيء كان مكتوماً... تنهدت بارتياح، إنه الحرية.. الحرية التي تفتقدها.. أخذت تجري هنا، وهنالك، في الليوان بين أصص الزهر، وفي الحوش، وتدور حول شجرة النارنج، وتقفز بالحبل، وتنتعل حذاء زوجة أبيها ذا الكعب المرتفع، وتغني بصوت عال... قامت بأشياء غير مألوفة لديها، لم تكن لتجرؤ على فعلها في يوم من الأيام... تأوهت وهي تتنسم بارتياح عبق الحرية... ثم وقعت نظراتها على بعض الكتب والمجلات، هتفت بلهفة:

- الآن بمقدوري أن أقرأ بصوت عال.. لا أحد ينهرني، أو يقطع علي متعتي.

لم يكن في البيت سوى هرتها التي لمعت عيناها، وهي ترى "سناء" على غير المألوف.. أخذت تجري بجريها، وتموء مع غنائها، وإن جلست تمددت بقربها، وهي تهر بنغم رقيق.

باطمئنان حدثت نفسها:

- من يدري... سأمرح كما أشاء، وأقرأ كما أشاء، وفي أي مكان أريد، إنه يوم حريتي.. آه.. ما أجمل الحرية.. كم أنا بحاجة إلى تغيير حياتي، وأن تعينني نفسي على نفسي!!

أشرق وجهها بالابتسام وهي تهرب من الخوف الذي يسكنها، وتتعرى من القلق، وتقبل على الكتاب بلهفة.

كانت القراءة تغمرها بمتعة عميقة، ولذة كبيرة، وتستسلم إلى هذا الشعور بسرور.. الفضاء ممتد أمامها، وزهرات النارنج تفتحت ليلاً، تنشر عبيرها في الدار.. لم تكن تحس بمثل ذلك في الأيام الخوالي إلا لماماً، كانت في شغل دائم في النهار، وقيود لا تجرؤ على كسرها.. وفي المساء تلجأ إلى زاويتها وقد نالها الإنهاك.

في هذا اليوم وهي تقرأ، انطلقت وراء الأفكار المنبعثة من الكلمات، ومن بين السطور، ثم تعتريها الدهشة عندما تحس بتوقدها في ذهنها.. كم كانت تحلم بذلك لتتعرف على نفسها من خلال القراءة، وتتعرف على الناس في طباعهم وأخلاقهم، وتعيش مع الأحداث والأزمات التي مرت ببلدها الصغير، ووطنها الكبير زمن الاستعمار قبل مولدها، كان سمعها يخطف بعض الأحاديث من العجائز حين يجتمعن في أرض الحوش مع زوجة أبيها، فيشوقها التعرف إلى الماضي.. تاريخه، معاناة الشعب، فوجدت في القراءة ما تصبو إليه.

تفقدتُ "سناء" هذا اليوم، لم أشاهدها كالمعتاد في الطريق إلى البئر، علمت من جارتنا "أم مصطفى" أنها في البيت وحدها، استأنست بالخبر، فاجأتها بزيارتي.. رأيت البشاشة تبرق في عينيها، وتطوف على وجهها، قد سرحت شعرها بعناية بضفائر ألقتها على ظهرها، والكتاب بشغف تضمه بين يديها، فازدادت سروراً بلقائي.

- أراك اليوم سعيدة يا سناء.. وحيدة في البيت.

بفرح أشارت إلى القطة:

- بل مع صديقتي..

ابتسمت وأنا أدرك طريقة تخلصها من الوحشة والعزلة، بالكتاب، ومع الهرة.

سألتها:

- ألا تسمعين إلى المذياع، إنه وسيلة رائعة للاتصال بالعالم؟

- لا أخفي عليك بأني أسمع وأنسى، وعندما أقرأ أتذكر.

- سمعتك وأنا عند الباب تقرئين بصوت مرتفع.

- لأن البيت خال.. أقرأ أحياناً بهمس، أو بصمت، والقراءة الصامتة تعينني على الفهم، والتأمل فيما أقرأ.

غمزت بعيني وأنا أقول:

- ألا تخشين "أم خالد" وأنت تقرئين بصوت عال؟

بلهجة حاسمة قالت:

- يكون ذلك فقط وهي خارج البيت، كي أعوّد لساني على سلامة النطق بالفصحى، كما يفعل إخوتي.

- يبدو أنك تستمتعين فيما تقرئين.

- جداً جداً.. الجديد من المعلومات يمتعني، ويخفف من ضيق نفسي.

ضحكت وأنا أسألها مازحة:

- هل يتسنى لك الوقت والمكان المناسبان.. على علمي أنك تقضين سحابة نهارك في العمل، حتى تتورم قدماك.

تنهدت وقالت:

- هي لحظات أخطفها من خلال استراحتي اليسيرة، أما المكان فزاويتي المفضلة تحت النافذة، في الغرفة الجانبية، وذهني ينحصر فيما أقرأ، لا ينشغل بشيء آخر.

- بلا شك.. أنت تفهمين ما تقرئين.. ماذا تفعلين إذا كان الموضوع صعباً؟

- أدعه جانباً.. قد أعود إليه فيما بعد.. أحاول أن أغوص فيه كي أصطاد المعاني، وأستشفّ ما وراء السطور.. أعيد الكرة مرات.

ابتسمت وهي تقول:

- يذكرني المعنى الغامض بـ "بدر" صياد السمك في بلدتنا، أراقبه عند الشاطئ، يلقي شبكته مرة تلو المرة، ثم يجذبها فيجدها خالية.. لا يتأفف.. يحاول، وبعد جهد يجذبها بمشقة، ليجدها ملأى بالسمك، فتقفز الفرحة في عينيه كقفز السمك، ويشكر الله على ما أعطاه.. منه تعلمت الصبر في الصيد، هو للسمك، وأنا لمعاني الكلمات.

نظرت إلى سناء بإكبار.. بعد برهة من الصمت، تذكرت قولاً لوالدي:

- كانت المدارس في الوطن مقتصرة على المرحلة الابتدائية زمن الاستعمار، بالرغم من ذلك، فقد ظهر الكثيرون من الأدباء والشعراء.. كان سببه الإقبال على كتاب الله تلاوة، وتدبراً، وتفهماً، حتى تميزوا بالحس اللغوي، ودقة الملاحظة، بالإضافة إلى تفاعلهم مع ظروف الوطن، فتفتّقت مواهبهم الفطرية الكامنة في نفوسهم.

ببهجة قالت:

- وأنا أيضاً أتلو آيات القرآن، وأتدبر معانيها ما استطعت.

سألتها:

- ما هدفك من وراء القراءة؟

ابتسمت والأمل يخالجها:

- بناء نفسي بتثقيفها، وتغيير حياتي في المستقبل، والصبر عليها، بحيث لا يفوتني نفع فيما أقرأ.

- لكل شيء؟

ضحكت وهي تقول:

- أتغاضى عما لا يعجبني، وأكره إلزام نفسي بشيء لا أحبه.. أقرأ ما أرتاح إليه.

- إنك تنحشرين في مكان ضيق و..

- أحبه، لأنه ملك لي وحدي.. لا يشاركني فيه أحد.. المساحة تتسع أمامي من خلال النافذة، عيناي تمسحان السماء نهاراً، وتلامسان القمر والنجوم ليلاً، والنسيم يلاطفني بنداوته.

- جميل منك هذه الهمة العالية.. أهنّئ الوقت بك، إذ لا تضيعينه في الكسل، وتستغلينه في المفيد.

- الأوقات يا عزيزتي تدعوننا إليها، لم لا نهتم بها، ونكرمها؟

كنا نتحدث بهدوء.. بلا خوف أو قلق.. النهار ملك أيدينا.. ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، مشوبة بحزن، وقالت:

- لقد حرمت من الصديقات، وزيارة الجيران والأقرباء منذ رحيل أمي، وبخاصة صديقة طفولتي "فاطمة" بنت خديجة، وجدتها أم مصطفى.. أما الآن يخفف أسى نفسي أن أجد وقتاً ثميناً –ولو كان قليلاً- أملؤه بالقراءة، شعاري الآية الكريمة:

بادرتها بسرعة:

- "وقل ربي زدني علماً".

- هذا ما أردت قوله.

- إن زوجة أبيك حرمتك من الصديقات لتستخلصك لأطفالها.. ربما.. ربما أيضاً لأنها غريبة عن بيئتنا، فلم تراعي تقاليدنا، وأخلاقنا.. اصبري يا "سناء".. على فكرة، ما أقدمه لك من كتب ومجلات وقصص هي من اختيار أبي من مكتبته، وعلمت منه أن أمك كانت قد نالت "السرتفيكا" قبل زواجها من أبيك، وعرفت بين النساء بحسن ترتيلها لآيات القرآن الكريم.

دهشت لما سمعت.. توقفت برهة.. ثم قالت:

- القراءة تستثيرني للمزيد، وتشعرني بحاجتي إليها كلقمة العيش، أجد فيها منطلقاً لروحي، ومتنفساً لذهني، وتعلمت منها أسلوباً جديداً في التفكير، والروية في التصرف.

بانبهار قلت:

- إن الله قد متعك بالموهبة، والذكاء وحسن الفهم، عوّضك بهذه الصفات عما حرمت منه.. أخشى أن أكون قد أفسدت عليك وقتك في المطالعة، لسوف أضطر للعودة إلى البيت.

كانت الهرة تتمسح بي، وتقوّس ظهرها، وترمش بعينيها، تدعوني إلى المكوث أكثر.. مسحت على رأسها، ولوحت لها مودعة.

كان النهار يمضي بسرعة، وسناء توزعه بين القراءة والاسترخاء، والعناية بالأزهار وشجرة النارنج، حتى إذا أقبل المساء، والقمر يبزغ في الأفق، سمعت حفيف خطوات إخوتها تقترب من الباب الخارجي، وضحكاتهم تنتشر بمرح.. أحست بشيء يطاردها، وشعرت بقلبها يدقّ كالمطرقة، ويتردد صداه في صدرها، حين داهم سمعها صوت زوجة أبيها وهي تقول:

- سنرى هذه اللعينة، ماذا فعلت في غيابنا.

لملمت سناء أشياءها، وأسرعت إلى ركنها الخاص تدسّها فيه، وهي تدعو الله أن يساعدها على قول الصواب، فلا تخطئ معها.

أخذت أم خالد تلقي تساؤلاتها السريعة بصوت مقزّز، ووجه كئيب:

- هل كنست يا بنت، هل غسلت، هل...؟

- فعلت كل شيء، كل ما تأمرين به يا خالتي.

- هل أخذت الطعام إلى أبيك في الدكان؟

- نعم، أخذته.

- هيا اغربي عن وجهي.

شعرت "سناء" بالدموع الحارة تملأ عينيها، وبهمس قالت:

- يا إلهي.. ما أفظّها، ما أخشن كلامها، وأقسى مشاعرها!!

ضمّت إليها إخوتها بحنان وشوق، ثم اتجهت إلى ركنها.. ألقت بجسدها فوق الفراش.. وبنشوة عارمة قالت:

- على كل حال.. إني أبارك هذا اليوم الذي عشت فيه بحرية.

اقتربت بوجهها من النافذة، وهي تود أن تصرخ وتقول:

- آه.. ما أجمل الحرية.. ما ألذ طعمها!!

*  *  *

نهضت "سناء" في اليوم التالي مبكرة، لبثت برهة وهي لا تدري أين هي، تنبهت إلى الحقيقة، بقيت في الفراش مستمتعة بالدفء والاسترخاء.. تذكرت.. لا يمكن البقاء أكثر، أعمال البيت كالعادة تنتظرها، ..ثم الخروج إلى البئر، وإلى البحر..

في هذا اليوم لم تتململ.. انتابها إحساس خفي ممتع، تماوج في صدرها، نظرت إلى الطست المليء بالأشياء، وإلى الصفيحة الفارغة، وشعرت بالرغبة في الانطلاق، وارتسم الارتياح على وجهها.. مر بذهنها صورة "خضرة"، وأختها "بدرية" العمياوين، وهما تملآن الجرار من البئر، أحست بشوق نحوهما، اعتادت على رؤيتهما، لم تكونا تتضجران من العمل، كانتا تحدثانها، وتسألان عن صحتها.. في إحدى المرات ذكرت "خضرة" أمامها "فخرية" أمها، ولكن سرعان ما ضغطت أختها على يدها، وقالت: هيا يا "خضرة"، وراءنا أشغال كثيرة.. شعرت سناء بشيء تكتمانه عنها، تساءلت في نفسها: ما هو...؟ إنها لا تدري.. شذرات من مواقف تنبهها، وتترك آثاراً غامضة، ثم لا تلبث أن تتلاشى.. بلهفة حدثت نفسها:

- لماذا في هذا اليوم بالذات تدفعني الرغبة الشديدة للخروج؟

أهي الحرية تستدعيني إلى الهرب من الضغط والقسوة؟

هل هو ولادة لشعور جديد أيقظه يوم أمس؟

لم تتردد.. خرجت والطست بصحبتها.. استدارت في الطريق المؤدي إلى البحر.. المنازل قائمة على جانبيه، مغلقة أبوابها، على مسافة بعيدة تبدو المنارة، ومن ثم البحر من ورائها.

وقفت أمام مياه البحر الغارقة بأشعة الشمس، الزوارق يؤرجحها الموج، تحمل بعض الناس إلى جزيرة "أرواد"، وأخرى تعود منها.. شعرت بشيء من البهجة تطفو في نفسها، لم تدر كنهها، هل هي لذكرى بعيدة خطرت أمامها مع أمها، وهي دون الخامسة؟.. وتغيم الخاطرة، فلم تستطع أن تسيطر عليها كانت عيناها ترحلان من الناس.. كم تمنت أن ترحل معهم!!. بكت... لم تبكي..؟.. لا تدري.. والزوارق الرمادية تختفي شيئاً فشيئاً.

كانت الذكريات تستيقظ في ذهنها، وهي تتأمل البحر، وشعور لذيذ يستجيش في صدرها، مسافات وأزمنة يختصرها التصور.. وكأن هذا اليوم بداية لحياة جديدة.

شعرت بتطور يزحف إلى نفسها، لامست صدرها وردفيها.... أحست بتغير في جسمها.. سخرت وهي ترى أن طريقة حياتها ثابتة لا تتغير، فما زالت تخضع لتحكم العادات منذ وقت الاستيقاظ من النوم، حتى وقت الإخلاد إلى النوم، تقوم بالأعمال بصورة تلقائية، تتم بحكم العادة، بتوجيه من زوجة أبيها، حتى تكون لديها السرعة في الاستجابة دون أدنى تفكير.

استلقت فوق الرمال، كانت أنفاسها تتردد مع عبق أعشاب البحر، فقررت أن تغامر ببعض الوقت، لتستمتع بالطبيعة دون خوف أو قلق.. كل ما حولها يحثها على التأمل، والتفكر في الكون، وفي نظام الحياة، وتتغلغل في خباياه بالتصور، والخيال، وفي نفسها رغبة ملحة في تحويل عاداتها التقليدية إلى أفعال فيها الشعور، واليقظة.

كثير من الأطفال كانوا يلعبون فوق الرمال، ومن النسوة من يغسلن الأشياء في تجاويف الصخور كعادة قديمة... تعمقت في الاستغراق، وتجاذبتها الخواطر، ورجعت بها الذكريات إلى ضفاف طفولتها، فأحست بالدمع يتعلق بأهدابها... انتفضت في مكانها حين سمعت صوتاً يقول لها:

- ماذا بك يا سناء، هل تشعرين بشيء؟

فتحت عينيها، فرأت طفلاً في العاشرة ينظر إليها بعطف شديد:

- ما بك، هل رطوبة الجو تزعجك؟

- لا، لا شيء من هذا.. فقط أشعر ببعض التعب، والحاجة إلى الراحة.

- هل أجلس معك؟

- لا، لا.. الواقع أني أحب الوحدة... على فكرة، كيف عرفت اسمي؟

ابتسم بعفوية وهو يقول:

- من لا يعرف اسمك.. "سناء بنت فخرية".

- أجل، أنا هي "سناء بنت فخرية".. أرجو أن لا تزعج نفسك من أجلي، أنا بخير.

بسخرية حدثت نفسها:

- ظروف حياتي تفرض علي العزلة عن البشر، أراهم ولا أكلمهم.. سئمت.. فإلى متى..؟

كانت رائحة البحر مغرية، والرمل دافئاً من أشعة الشمس، وصخب الأمواج يخلع السكون من القلب والمكان، والطيور تصوت في الفضاء، تحلق تارة، وتهبط تارة أخرى، تباغت طفو السمك، لتلتقطها بمناقيرها.. وحكايات الأطفال، والنساء الصغيرات تتناثر مع الهواء، وتتخم ذاكرة البحر.

يعصف "بسناء" الشجن، فتلوذ بالصخور، تجلس بينها، علمتنها أن تكون صلبة مثلها، هي تتحمل لطم الموج، والأعاصير، و "سناء" تتحمل صفع الألم، والقهر، كلاهما يصبر على البلايا.

بحيرة ساءلت نفسها:

- ماذا يجري لي؟

أرى اليأس يدفعني أحياناً لأفتش عن الأمل في نفسي، كي تنجلى وتصفو... ثم يقترن الألم بالبسمة، وتقول:

- أرجو أن يكون يومي خيراً من أمسي.

صارت أحاسيسها تتسع في صدرها يوماً بعد يوم، وهي في الطبيعة ترجع الحوادث، وتعلمها الحياة ما الحياة، وأن التشاؤم يندفع من داخلها وليس من الحياة... ثم أدركت أنها لم تصل بعد إلى مرحلة شجاعة الموقف، وصراحة القول، والرفض.. كانت ترخي على الطبيعة شباك الرؤية، وتشعر بالظمأ الشديد للمعرفة، تراقب فعل الريح وهو يجرح وجه البحر الأملس، ويحيله إلى حبك متتابعة، والبحر يستسلم... يصبر.. لامست وجهها بكفها، تذكرت مواقف أليمة.. شدت ما بقي من شعرها الناعم برفق، ثم أخفته تحت ياقة ثوبها، تنهدت وهي تقول:

- أنا وأنت يا بحر نذوق المرارة.. ونصبر.

كانت تعيش في جنة من فصول الخيال لذيذة، تتمنى لو أن النهار يمتد والدهر يتمطى، وتستسلم إلى أحضان الطبيعة، بنقائها، وبراءتها، وإلى الحقيقة بصراحتها.

كانت روحها الشابة تثب إلى التغيير، وتحويل العادات إلى شيء جديد، فيه الحيوية والنشاط، بالتفكير، والتخطيط.. كان في داخلها شيء يتحرك كالوحش يريد الخروج، ويكسر الجامد من المألوف، ويعتقها من القيود... حثتها أمنيتها على تحسس الحرية عند الشاطئ، مع النسيم تطوف معه، ومع الفضاء الواسع تمسحه بناظريها، ومع الطيور تحلق بتحليقها، ومع انسياب الزوارق، ووشوشة المويجات، ودغدغة السمكات، وجري السراطين وهي تختبئ في زوايا الصخور... كانت تتابع الأشياء بعينيها، فيتساقط الإعياء من هشيم نفسها، منهمراً على هشيم الرمال.

أشياء كثيرة تفتحت لها نفسها، ما كانت لتأبه لها، كان الوقت يملكها، وليست تملكه، والحرية عنيدة، شريدة تستعصي عليها، واليوم تشعر بحلاوتها، ويجنح خيالها، ويفور طبعها.

كثيراً ما ترخي العنان لأحلامها، وتمتطي الأمواج، وتجد في الطبيعة حناناً ورأفة، تخشى عليها من وهج الشمس، فتمد لها الظلال عند منحدر الصخر، ويطيب لها السمر مع السمكات الهاربة إلى الهاوية..

كنت قد خرجت من المسجد بعد حضوري درس الدين مع عمي الشيخ عبد الله المجذوب وأعلم بوجود "سناء" عند الشاطئ ذلك الحين.. بحثت عنها وجدتها تتكئ على صخرة كانت نظراتها مشتتة في أرجاء الطبيعة، وفي ذهول.. غافلتها بصمت، لمست كتفها، اندهشت.. بادرتها بقولي:

- أهنا تختبئين يا سناء؟

- لا أختبئ.

بابتسام قلت:

- إنها مجرد عبارة لا أكثر.. شعرت بحاجتي للحديث معك فجئت إليك.

- وأنا أشعر بمثل ذلك.

- أرجو أن تكوني بخير.

- فقط أشعر ببعض السأم.. تذكرت أشياء في طفولتي.

- إن كانت سيئة وجب نسيانها.. اطردي السأم من نفسك.

تنهدت وهي تقول:

- يحكون كثيراً عن الحرية في مجالس السمر، فأقتنصها هنا فقط.

أشارت إلى البحر، وبتعجب قالت:

- من يدري ما تحت الماء؟

بادرتها:

- أسماك، وحيتان، وجثث غرقى، وأشياء مهشّمة، و..

- بل أقصد الأسرار في أعماقه، كما في صدري.. آه يا عزيزتي من الوحشة، والغربة، وذكريات الماضي.. هل تبقى مدفونة يا ترى، أم ستنفجر يوماً ما؟

- بل ستنفجر، وتطفو على السطح.

قلت مازحة:

- ماذا كنت تفعلين هنا؟

ضحكت وهي تقول:

- أسير على الغيوم.

- إذاً، أهلاً بك على الأرض.

ثم بضيق قالت:

- إن في داخلي طفلة خائفة، تتصارع مع وحش.

- الوحش هو التمرد، يريد الخروج، دعيه ينفلت.

- كيف؟

- بتلاوة القرآن، والتعرف على أحكامه، وحقوقك، وبالعلم والمعرفة كلها وسائل تعينك على إخراج الوحش من نفسك.

- صدقت، هذا ما أحاوله.

- الحياة يا "سناء" لا تتغير إلا بتغير ما في نفوسنا، حرّري عقلك، يتحرر جسدك، وستكون أمورك على خير.

طافت البسمة على وجهها، وبرقت عيناها وهي تقول:

- بحديثك تخففين عني.. وأنا معي أضحك من أعماقي، ولكنه ضحك يمتزج أحياناً بالحزن.

.. إنك تحافظين على قوتك بهذه النزهة اليومية، اعتبري مجيئك إلى البحر نزهة، كي تحافظي على عقلك بالتأمل والتفكّر، وبتثقيف نفسك.

- ولكن..

- ماذا؟

- لا أدري.. هل أحدثك عن طفولتي، لأتخلص من بعض أشباح الماضي؟

- فيما بعد.. عبّري عنها بالكتابة.

بلهفة بادرتني:

- كثيراً ما أكتب، حتى غدت الكتابة هوايتي المفضلة بعد القراءة.

- رائع، شيء رائع، ثابري ما أمكنك ذلك.

سألتها بهدوء:

- ما رأيك بمناقشة الكتاب الذي تقرئين، وتحددين فكرته؟

- هذا يسعدني، ويساعدني في السيطرة على شرود ذهني وتشتت فكري.. عسى أن أبني نفسي وأتحرر من همومي.

نظرت إليها بإعجاب وقلت:

- سبحان الله، فعلاً، إنك تتغيرين يا "سناء"!

أردفت بفخر:

- يا ابنة فخرية.

- يجب أن أبرح حالاً.

حملت الطست تحت إبطها، واندفعت فوق الرمال، ثم انجرفت في الطريق المؤدي إلى داخل الحي.. تابعتها بنظري، وأنا أخشى عليها من العتاب لمغامرتها ببعض الوقت.

يتبع إن شاء الله..