طاحون الشياطين(9)

طاحون الشياطين

شريف الراس

الفصل الخامس عشر

استقبلني أبو ضاوي عند مدخل الفندق ضاحكاً، كأنه قد جاء لتوّه من قلب نكتة مرحة ومضحكة جداً وقال لي وهو يتدفق حيوية ومرحاً:

- الليلة ستخرج عن نطاق الهمّ والكآبة غصباً عنك، وستضحك من صميم قلبك ضحكاً لم تعرفه في حياتك. فقد أعددت لك سهرة خاصة على عشاء خاص يحضره أطرف مهرج في البلاد. إنه نقيب الصحافة، وقد أوهمته بأنك ضيف من مصر.. أظن أنك قادر على أن تتحدث باللهجة المصرية، فأنا لا أريد أن يعرفك.

فقلت:

- أشكرك.. لكن نفسي ميالة لأن أعتكف الليلة في غرفتي.

فقال معاتباً:

- يا رجل.. هل كفرنا لأننا رجوناك بأن لا تتصل بأحد؟!.. لقد أخبرني النقيب عناد عن مدى تقيدك بالعزلة والتوحّد، حتى جعلتني أشعر حيالك بالتقصير والذنب لما حل بك من ملل وسأم وضجر.. فهل هذا ما أريده لك حقاً وأنت الذي كنت توفر لي كل أسباب الارتياح النفسي كلما كنت أزورك في فيسبادن؟ لا تظلمني يا دكتور أحمد.. فأنا أريد أن أردّ لك بعض الجميل، فديونك عليّ كثيرة، وفي كل مرة كنت أتوسل إليك بأن تأتي لزيارتنا، وها إنك قد جئت للزيارة أخيراً، فهل من العدل أن نقضيها سأماً وكآبة؟!.. هيا يا صديقي.. اصعد إلى غرفتك فاحلق ذقنك وارتد ثياب السهرة وتعال.. نحن ننتظرك في رواق الأندلس.. ولا تتأخر علينا حتى لا تفوتك نكات نقيب الصحافة التي تزيل الهم عن القلب.

قلت مستسلماً:

- إذن هيا بنا إلى حفلتك مباشرة.. فأنا لن أبدل ثيابي.

ومشيت معه، وجاء النقيب عناد خلفنا، ولم يكن رواق الأندلس بعيداً، ولكنني لم أكن أتوقع أن أراه في الليل جميلاً إلى هذا الحد، ربما بسبب البراعة في توزيع الأضواء الخافتة فيه، إنه فسحة مكشوفة تتوسطها نافورة ماء أندلسية لطيفة، وتظللها عرائش الياسمين التي يفوح من نجوم أزهارها البيضاء عطر أخاذ، وهناك تزيينات رخامية على شكل قناطر ومصاطب وأصص أزهار معلقة، وهناك مائدة واحدة يجلس حولها أربعة ضباط لا تخفي ثيابهم المدنية كونهم من أقرب أعوان جعفر الضاوي، ومنهم واحد يرتدي نظارة سوداء، ربما لأن إحدى عينيه من زجاج. وكانوا -عندما وصلنا إليهم- يضحكون وهم مأخوذون بهذا المهرج نقيب الصحافة الذي ما إن رأيته حتى شعرت بأنني أتلقى صفعة قاسية جداً، ليتني ما جئت إلى هذا العشاء، إن خنجراً قاتلاً ينغرس في قلبي، إن هذا "المهرج" الآن هو "النمر" سابقاً، وقد عرفته منذ أن لمحته، وكدت أصرخ بوجهه: "ماذا فعلت بنفسك يا صادر جلعوط؟.. وأين صار سيف الله؟".

كان صادر جلعوط رفيق صباي في آخر سنة بالدراسة الثانوية، بل إنه كان مثلي الأعلى، لا بل إنه كان زعيم طلاب المدرسة جميعاً. إنه الفتى الرائع الذي سحرنا بشجاعته وجرأته وذكائه وتفوّقه في العلوم كافة، واندفاعه إلى الصف الأمامي في كل عمل وطني أو مشروع ثقافي أو اجتماعي، بل إنه كان صاحب فكرة إصدار مجلة طلابية جعل عنوانها "الوثبة" وجعل شعارها:

شَرَفُ الوثبة أن ترضي العُلا     غَلَبَ الواثبُ أم لمن يغلب

فقد كان "النمر" شاعراً أيضاً، وكان سريع البديهة سريع العطاء، وذات يوم دعينا إلى بيت رفيقنا "وجيه محنّاية" للغداء. (كان وجيه محناية مغرماً بفن الرسم، لذلك فإنه صار معلم رسم، وعندما قرأت كتاب "مأساة العصر" وجدت اسمه بين أسماء الـ 564 معلم مدرسة الذين اغتيلوا أثناء تلك المذبحة الهمجية المروّعة) وما إن دخلنا بيت وجيه الذي كان يعبق بدخان شواء الكبة من منقل الفحم، وجاءتنا أقراص الكبة المشوية المثيرة للعاب، حتى قَدَحَ النمر هذين البيتين:

وكـبةٍ قـد أكلـناها عـلى سَغَبٍ      في منزل الفَطنِ فنان الدُّنى الأرِبِ

جاءت وقد وضعت في الصحن ساخنة     خـدُّ الفتاة التي ماتت من الطرب

هذا هو "المهرج" الذي يريد أبو ضاوي أن يسعدني بالضحك عليه الآن.. وقدمني إليه على أنني صديق من مصر، اسمي عبد الرزاق حلمي، وحينما صافحته كدت أصرخ في وجهه: "كفى.. كفى يا صادر.. كيف تقبل على نفسك أن تكون المهرج الذي يُضحك هؤلاء الحثالة من المجرمين؟".

غير أنني لاحظت أنه وهو يصافحني لم يعرفني.. بل إنه بادرني سائلاً باللهجة المصرية:

- تشرفنا يا سعادة البيه.. إزّيك وإزاي مصر؟.. اجلس حتى أحكي لك آخر نكتة مصرية.

وواصل تدفّقه في سرد النكات، والآخرون يضحكون، وأنا أتأمله مبهوتاً، إنه حليق الشاربين.. أين ذهب شارباك يا صادر؟.. أين وجه النمر؟..

كنا، في ذلك الزمن الرائع، نلقبه "النمر" لضخامة شاربيه وبريق الفحولة في عينيه. كان له وجه نمر وطموح بطل، وهو لم يخيب حدسنا، فقد جاءنا في صباح أول يوم من أيام الامتحان ليخبرنا بأنه رأى في المنام خالد بن الوليد، وأن هذا البطل العظيم الذي كان يتوهج نوراً وجلالاً قدّم له سيفاً من ذهب وقال له: "أيها النمر.. هذا سيف الله مني إليك.. احمله واضرب به أعداء الأمة" وكان صادر -يومذاك- يروي لنا حلمه الرائع بصدق وخشوع.. ثم قال: "معنى هذا أنني عندما تصدر نتائج الامتحان مؤكدة نجاحي بتفوّق فإنني سأتوجه للانتساب إلى الكلية الحربية، سأصير ضابطاً في الجيش العظيم الذي كان خالد ثاني مؤسسيه بعد نبينا محمد".

وافترقنا من ذلك اليوم، هو إلى الكلية الحربية وأنا إلى ألمانيا، وها إن الذاكرة -هذه الفعالية النفسية العجيبة التي تغفو على منسيات تراكمت فوقها مشاغل عشرين سنة- تنتفض في لحظة خاطفة فتطرح إلى دائرة الضوء الساطع كل المعلومات المنسية بأدق تفاصيلها وأبهى وضوحها: مجلة الوثبة، والنمر، وسيف الله، وحتى الشعر.. رغم أنني كنت مشهوراً بعجزي عن حفظ الشعر..

وها إن الرجل جالس أمامي، على مائدة العشاء، في صورته المزرية والمخجلة: أمعط الوجه كأنه متعهد توريد أرتيستات، بل كأنه المرافق الخاص لمطربة أو راقصة شهيرة، يمشي خلفها كالظل، ويلازمها بمذلة الكلب، ويفاخر بتصفيق الجمهور "للست" كأنه يعتز بانتصار وطني عظيم.

كانت ربطة عنقه على شكل فراشة سوداء، ووجهه الأمعط يلمع بالزيت الذي دهن به الشعر القليل الملتصق بصلعته، وكانوا يضحكون لنكاته وتهريجاته ويحثونه على المزيد وهم ينادونه بلقب "دكتور".. دكتور بماذا؟

حين طرحت هذا السؤال، بأسلوب مهذب، سألني أبو ضاوي مستغرباً:

- إذن أنت لا تعرف هذا؟.. حضرة النقيب دكتور في الصحافة من جامعة لم أستطع أن أحفظ اسمها، لأنها تقع في مدينة ضائعة على سفوح جبال هيملايا.

- وما الذي أوصله إلى تلك المجاهل البعيدة؟

- كان ملحقاً عسكرياً بسفارتنا بمملكة النيبال.. ووجدها فرصة سانحة لأن يسافر إلى تلك المدينة البعيدة التي يصعب حفظ اسمها، فيتفق مع أستاذ جامعتها على أن ينال شهادة دكتوراه في موضوعٍ لم يسبقه إليه أحد، وهو: "التاريخ السري للتراشق بالأحذية في البرلمانات البورجوازية" وقد وافق ذلك البروفيسور الجليل، بلفّته الهندية الضخمة، ولفحته البيضاء الطويلة، وعقود المسابح المتدلية فوق صدره، وفقره المدقع، وافق على أن يقوم بتأليف "رسالة" الدكتور صادر جلعوط، باللغة الإنكليزية طبعاً، لقاء حفنة دولارات، وثوبين جديدين، وصندوق ويسكي.. يا بلاش.. وقد استغرقت العملية ثلاثة أشهر على ما أظن.

فقال النقيب الأمعط معترضاً:

- لا يا أبا ضاوي.. حرام عليك.. فلقد أعطيته -يشهد الله- صندوقي ويسكي اثنين لا واحداً.

فانفجر الجميع ضاحكين.. وأنا قررت الاستسلام فضحكت معهم، الواقع أنني ضحكت على سخفي.. فبعد أن رُوّعت باكتشاف مدى التفاهة التي انحط إليها من كنا ننظر إليه على أنه "النمر" وكان ينظر إلى نفسه على أنه جدير بأن يحمل سيف الله، لم يبق أمامي إلا أن أترك كل شيء ينهار ريثما تنتهي هذه السهرة الفضيحة.

غير أن رمقاً من نزعة الفضول الغريزية في الإنسان الطبيعي دفعني لأن أسأل:

- ثم ماذا حدث بعد ذلك؟

أجاب أبو ضاوي باستخفاف:

- ماذا سيحدث؟... لا شيء.. رجع سعادة الملحق العسكري إلى الوطن، وبما أن الثورة محتاجة لخدماته في مهام ثقافية رفيعة فقد تم تسريحه من الجيش وكُلّف بمهمة رئاسة تحرير جريدة الثورة، خطوة أخرى إلى الأمام، صار نقيباً للصحفيين كما ترى.

ثم التفت أبو ضاوي إلى سيادة النقيب قائلاً:

-- مالك يا دكتور صادر؟.. ضيفنا مهتم بك كل هذا الاهتمام وأنت تهمل واجباتك حياله؟

فتساءل النقيب التافه:

-- أستغفر الله.. خبّروني بماذا قصّرت يا سيدي؟

فأمره أبو ضاوي:

- قم إلى المطبخ وسلهم أين صار العشاء؟ ضيفنا جاع.

فنهض النقيب مضطرباً وهو يقول:

- أمركم سيدي.. أرجوكم عدم المؤاخذة..

وأسرع في الذهاب.. ترى هل يمكن أن يُزدرى إنسان إلى هذا الحد؟.. قلت:

- عفواً.. أما كان بمقدورنا أن نكلف أحد الخدم بهذه المهمة؟

فأفادني أبو ضاوي بالمعلومة العجيبة التي تؤكد على أن الدكتور صادر فلعوط يشعر بسعادة كبرى عندما يكلفه "أحد المسؤولين" بمهمة من هذا المستوى، لأن ذلك يعني أنه ما زال مرضياً عنه.

وتكلم الرجل ذو النظارة السوداء والعين الزجاجية فأوضح المعلومة ذاتها قائلاً:

- هؤلاء أناس كلما أذللتهم أكثر، أخلصوا لك أكثر.. وخصوصاً هذا الإنسان الرخيص.. أراهنكم على أنه مستعد لأن يكون قواداً عند الطلب.

استفزني هذا الإيضاح الجارح فسألت ذلك الأعور وأنا أضغط على أعصابي:

- ألا تظن أنك تبالغ يا حضرة الأخ؟

- لا.. أبداً.. بل إن هذا الرجل أتفه من قواد.. إذ ماذا تقول في رجل ذُبح من أهله أربعون ألفاً ولم يجرؤ على أن ينشر في الصحف كلمة واحدة حول هذا الخبر الفظيع، مع أنه رئيس تحرير ونقيب صحافة.

تحركت أمعائي حركتها اللئيمة التي تضغطها مشاعر التقزز والتقيؤ، فنهضت مستأذناً بالذهاب إلى غرفتي لأنني متعب، وقد شبعت أكلاً من صحون المقبلات.. وتركتهم ومضيت مسرعاً، وتعمدت أن أتوجّه نحو المصعد من ممر آخر لا ألتقي فيه "النمر" غير أنني وجدته واقفاً عند المصعد،  وهو يبكي غامراً رأسه بيده المستند بها إلى الجدار الرخامي اللماع، كان يبكي وينشج بصوت مسموع.

قال لي دون أن يرفع رأسه:

- لماذا جئت يا أحمد؟.. ما الذي جاء بك يا أحمد؟

ثم أشاح بوجهه ومشى نحو ركن المغاسل.

وأنا صعدت إلى غرفتي وقعدت في الظلام أبكي وأبكي إلى أن أدركني النوم وأنا مضطجع بثيابي.


 

الفصل الأخير

جاء الفرج

في مساء اليوم الثالث سلّمتهم رئيساً يستطيع أن يحرّك لسانه لمدة نصف ساعة، وسلّموني الطريق إلى الطائرة السمتية.

كانت تغمرني مشاعر فرح لا يوصف، وكانت تجرفني دفقة شوق هائل:

هل صحيح أنني سأصل بعد ساعة إلى مزرعتنا فأعانق الأطفال سلوى وخالد وفردوس وعبد الفتاح ووداد، وأملأ قلوبهم بالسعادة والسرور؟: "انظروا كم جلبت لكم من الهدايا والفواكه والثياب والحلويات".

هل صحيح أنني سأعود إلى الحاج رضوان وأمنا شفيقة وتلك المرأة الرائعة مقطوعة اليدين.

وأنت يا زاكي.. انظر ماذا جلبت لك؟.. لقد جلبت لك كوفية جديدة لتتلثم بها للمرة الأخيرة لأنني جهزت كل شيء لإجراء عملية التجميل.

كان النقيب عناد يقود الطائرة بثقة واعتزاز وصمت، ولم يكن معنا في الطائرة إلا هذه الصناديق الكرتونية التي تحتوي الهدايا.

كنت من نافذة الطائرة أرى القمر مبتهجاً أيضاً.. ما أشد بهاء نور القمر الليلة؟! وما أجمل هدوء هذه الامتدادات الصحراوية تحتنا!.. ما ألطف هدوء البادية!.. إنها سرير الأمان والراحة والسلام. "يا حاج رضوان أنا لن أغادر هذه المزرعة أبداً.. سأجلب زوجتي وبناتي من ألمانيا ونعيش معكم هنا، في هذه المزرعة، في هذه الجنة، تحمينا هذه البادية الطاهرة من السموم التي أفسدت كل شيء.. فكل شيء خارج هذه الواحة صار فاسداً يا حاج رضوان. كل شيء. الهواء والطعام والشراب والناس والكتب والثياب. إنه وباء الطاعون. إنه سرطان الدم الذي استشرى واستفحل في كل الشوارع والبيوت والنفوس. إنه مجتمع الشياطين.. إذن دعني أعيش هنا في المزرعة إلى أن تستريح أعصابي وتنضج أفكاري على مهل، في هذا الجو النقي الطاهر، وبعد ذلك فإنني...

قال النقيب عناد:

- ها قد وصلنا يا دكتور.. لكنني لا ألمح أي ضوء في مزرعتكم.

انقبض قلبي. غير أنني حين نظرت من النافذة لم أرَ إلا رقعة المزرعة أكثر سواداً من السهول الترابية المحيطة بها. وكان ضوء القمر ساحراً. فقلت:

- ربما كانوا نائمين.

وزاد خفقان قلبي.. ويا أيتها الطائرة المشكورة شكراً جزيلاً حطّي على الأرض. أريد أن ألاقي أحبابي. إن وطأة الشوق التي أحسّ بها الليلة وأنا لم أغب عنهم إلا ثلاثة أيام هي أشد من كل مشاعر الحنين التي انتابني خلال العشرين سنة بعاداً في ألمانيا.. على أن الشوق وفرحة الوصول راحا يترجرجان فوق أسلاك شائكة من القلق الغامض والخوف من كارثة.

أخيراً حطّت الطائرة. وأوقف النقيب كل المحركات ونزل معي وراح ينقل صناديق الهدايا بعناية ويضعها على الأرض. كنا على بعد حوالي مائة متر من السياج. سألني:

- هل تحب أن أنقلها معك إلى المزرعة؟

- لا.. شكراً.. نتركها هنا ويأتي الزاكي فيحملها.

وصافحته مودّعاً وشاكراً، فرجع إلى طائرته وأقلع وطار بعيداً. أما أنا فقد أسرعت راكضاً إلى بيت المزرعة وأنا أهتف صارخاً وبفرح هائل:

-- يا حاج رضوان.. يا زاكي.. يا حاج رضوان.. يا زاكي..

كنت أصرخ وكأنني كلّما رفعت الصوت أكثر غلّبت مشاعر الأمل والفرح على توجسات الخوف والقلق.. ماذا حدث؟

وعندما وصلت إلى السياج صرت أرى الأشياء بوضوح أكثر.. ماذا حدث؟ ها إن معظم أشجار الزيزفون مكسرة، كأنما اجتاحتها دبابة ثقيلة عمياء. بل إنني رأيت على الأرض آثار جنزير دبابة. صارت نبضات قلبي مثل ضربات طبل تثير موجات متلاحقة من الذعر والشك والروع. ثم حاولت أن أهدّئ خواطري بأن قلت لنفسي: "إن آثار جنزير الدبابة تشبه آثار جنزير جرار زراعي كبير.. لكن هل من مهام الجرار الزراعي أن يجتاح الأشجار فيحطمها هكذا؟". أسرعت الخطى أكثر غير أن ساقيّ صارتا ترتجفان..

مياو.. مياو..

هذا هو القط شحادة، إنه واقف أمام ركام أول غرفة يصل إليها القادم من جهة المدخل، وهي قاعة تربية طيور الفرّي، ولكن لا سقف ولا جدران ولا أقفاص ولا طيور.. بل أنقاض فوق أنقاض.. من الذي هدمها هكذا؟.. يا إلهي.. ماذا حدث؟

صرخت بأعلى صوتي وأنا أرتجف خوفاً:

- يا حاج رضوان.. يا زاكي..

تقدمت بضع خطوات، صرت أمام الشرفة، على حافة الشرفة لمعت زجاجة مصباح النفط وهي تعكس ضوء القمر. أشعلت المصباح وحملته ودخلت.. يا إلهي.. كأنما معركة قتال دارت هنا في قاعة الجلوس، وطراحة الحاج رضوان ممزقة، وكل مفروشات المصطبة مبعثرة، وكل شيء في حالة فوضى وخراب.. من الذي فعل هذا؟.. أين أهلي؟.. ماذا حدث؟

أسرعت إلى المطبخ. أزحت الموقد. مددت رأسي في مخبأ القناة الجوفية، صحت بأعلى صوتي:

- يا حاج رضوان.. يا زاكي.. يا سعاد.. يا شفيقة.. يا أولاد.. هل أنتم هنا؟.. ردّوا عليّ.. أنا أحمد.. مالكم لا تردّون؟!

انتظرت مصغياً بانتباه شديد.. غير أنني لم أسمع إلا طنين نبض الدم في عروق صدغَيّ. صرخت من جديد:

- مالكم لا تردّون.. أأنتم هنا في جوف الأرض؟

لا صوت من المخبأ.. لا شيء غير الظلام والخوف والهلع والغضب وهذا المصباح الواهن الذي تمسكت به وكأنه طوق النجاة، وهذا القط المسكين الذي ظلّ يلازمني وينظر إليّ بعينين شاكيتين. ماذا حدث يا شحادة؟.. ألم يبق غيرك أحد من سكان المزرعة؟

حملت المصباح وخرجت لأبحث عنهم في قاعة الأرانب، غير أن هذه القاعة كانت مهدمة أيضاً، وآثار الدبابة واضحة، والأقفاص محطّمة والأرانب فالتة، كيف لم أنتبه منذ البداية إلى عيونها الحمراء التي تتلامع في حقل البرسيم؟

والدجاج؟.. ماذا حدث بالدجاج؟

لا دجاج هناك ولا ما يحزنون، ولا صوت إلا صوت "شحادة" الذي يموء بحزن كأنه يزيد أن يخبرني بشيء.. حملته على ساعدي ومضيت لأدور حول ركام البيت، وعندما صرت أمام غرفة المؤونة لم أصدّق ما رأته عيناي: كان الزاكي جثة غارقة بالدم، وكان "قطاش" ميتاً بجانبه.

مستحيل.. مستحيل..

رميت القط عن يدي وجلست على التراب أحتضن رأس الزاكي وأبكي:

"يا حبيبي يا زاكي.. أين أهلك يا زاكي؟.. مالك لا تردّ عليّ يا أخي؟"..

وبقيت أبكي وأنا أضم رأسه إلى صدري، كان ملثماً، وكان وجهه ينضح بالرضى والسكينة في ضوء القمر. وكدت في لحظة جنون أمدّ يدي المرتجفة لأكشف اللثام عن فمه، لكنني تراجعت احتراماً لمشيئته، فهذا الإنسان الرائع جدير بالاحترام بل التقديس، إنه بطل..

"أنت بطل يا زاكي، لقد ضحيت بحياتك دفاعاً عن أهلك".

وأظن أنني بقيت هكذا ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات، وأنا أحتضن رأس الزاكي، وأمامي جثة الكلب "قطاش" الذي أثبت أنه أحسن من عشرة رجال من ذلك النوع الذي "تكلبن في عهد الخنازير" لكن كيف اغتيل هذا البطل الشهيد، وكيف قتل هذا الكلب المسكين؟.. كم كانت المعركة شرسة وظالمة بين أولئك الوحوش المدججين بالأسلحة وبين أهلي الذين لا سلاح لهم إلا أيديهم، بل إن سعاد بلا يدين أصلاً؟.. كيف دارت المعركة؟.. من هو النذل الحقير الذي كان وراء هذه الجريمة اللعينة؟

وبقيت جالساً هكذا، ولم يخطر على بالي أن أقوم فأتفقّد بقية عالم المزرعة، فها إن الأشياء صارت واضحة أمامي، إذ أنهم لم يوفّروا من حقدهم حتى برج مضخة الماء ذات المروحة الهوائية الضخمة، فالبرج محطّم والمروحة ساقطة في بركة السمك التي فتح "الغزاة" ساقيتها ففرغت من كل ما فيها من ماء، ولم يبق فيها إلا الطين.. من الذي أخذ الأسماك؟.. من الذي أخذ أقفاص الفرّي؟

حتماً وزير الحرب.

ولكن إذا كان هذا الوغد مصرّاً على احتكار تربية هذا النوع التجاري من الطيور، فلماذا ينهب عساكره الأسماك والدجاج أيضاً؟

إذن فوراء هذه الجريمة قائد سرايا الفتوحات الكريه.. ألم يجن جنونه عندما صرخ بوجهي في القصر غاضباً: "من أنت حتى تتحداني؟". هل كان هذا انتقامه مني؟.

ولكن لماذا لا نقول إن الفاعلين هم جماعة الرئيس ذاته، بعد أن أبلغهم إسكندر الحفيان بأنني شتمت إلههم المزيف؟

أم أنه وساف بوجقل؟

أم أن...

سمعت عواء ذئب فانتفضت مذعوراً وأفقت من كل تلك التساؤلات لألاحظ أن القمر قد غاب وأنا لا أدري.. فما العمل؟..

كان صوت عواء الذئب قريباً.. إنه هنا في المزرعة، وإن عواءه المزعج يوحي بأنه غاضب أو منزعج.. يرى أمامه فريسة جاهزة ولكنه لا يستطيع الوصول إليها، وهو جائع جداً..

 

ما العمل.. لا مناص من النهوض وتفقّد الأمر.. إذ ربما كان أهلي هناك، أنزلت رأس الزاكي عن صدري وأرحته على الأرض، وحملت المصباح وتوجهت نحو مصدر الصوت المرعب، وحملت بيدي الثانية قطعة خشبية من حطام البيت.. ومضيت.. إلى أن وصلت إلى شجرة التوت..

كان ثمة ذئب ضارٍ تتلامع أنيابه في هذا الليل البهيم، وهو يقفز نحو شيء معلق بحبل الأرجوحة التي كنت قد صنعتها للأطفال.. غير أنه كان يقفز غاضباً ويسقط حانقاً دون أن يصل إلى ذلك الشيء الذي يريد أن يفترسه ليسدّ به جوعه.

تقدمت نحوه بشجاعة المجنون أو المستميت الذي ما عاد يهمه شيء. تقدمت وأنا أصرخ به وألوّح بالعصا الغليظة غاضباً. يقال إن الوحوش تخاف الضوء.. المهم أن الذئب ترك الساحة ومضى في حال سبيله، فأسرعت إلى الأرجوحة أريد أن أرى ما هو هذا الشيء الصغير المعلق في حبلها؟..

لا.. لا..

صرخت بأعلى صوتي وأنا أنظر إلى السماء: لا.. لا..

كانت جثة طفلة مشنوقة بالحبل..

ورحت، وأنا أكاد أنفجر غضباً، أرتجف ذعراً، إنني لا أجرؤ على أن أتقدم أكثر لأعرف أية طفلة؟! هل هي سلوى؟.. فردوس.. وداد؟.. دفعت نفسي إلى الأمام غصباً عني وحدقت أكثر وأنا أرفع المصباح بيدي عالياً. فصرخت كالمجنون: سلوى.. سلوى..

لقد شنقوا هذه الطفلة الصغيرة بحبل الأرجوحة..

ما أطول هذه الليلة وما أفظع أهوالها؟

حللت الأنشوطة من حول العنق النحيل، وأنزلت جثة هذه الحمامة البريئة ذات الشعر الحريري الطويل، واحتضنتها وجلست حانياً رأسي فوقها أبكي.. وأبكي.. وأبكي حتى الفجر.. لم يغمض لي جفن ولم تهدأ براكين الأسئلة الملتهبة داخل جمجمتي التي تكاد تنفجر..

- خبّريني يا حبيبتي.. ماذا فعلوا بك؟.. من هم المجرمون القتلة المتوحشون؟.. أين ذهب خالك الحاج رضوان والآخرون؟

- ولكن هل تنطق جثة طفلة؟

- بدلاً من هذا الكلام السخيف قم وانتقم.. انتقم.. اضرب.. اضرب..

- اخرس أنت.. أنت بالذات اخرس تماماً.

- ولنفترض أن الطفلة هي الآن حمامة بيضاء في بساتين الجنة.. فأين الحاج رضوان والآخرون؟

- سؤالك يجب أن يكون هكذا: أين شعبنا كله؟.. أين الطريق؟.. أين منهاج الخلاص؟

- بدلاً من هذا الكلام الفارغ قم وادفن الجثة.. ها قد انبلج الفجر.

حملت جثة الطفلة ورحت أبحث عن معول ورفش. وجدت طلبي.. حفرت ثلاثة مثاوي، ودفنت سلوى، والزاكي.. وقطاش.. ثم حملت القط شحادة على يدي ومشيت.. وتعمّدت أن لا ألتفت يمنة أو يسرة، فأنا ما عدت أريد أي شيء في المزرعة، غير أنني رأيت الحمار "صابر" واقفاً ينتظر شيئاً ما. "عفواً أيها المخلوق المسكين، أنا مضطر لأن أتركك وحدك". كان الحمار واقفاً حدّ سيارة "هيئة الأمم" التي يبدو أن الدبابة دحمتها فقلبتها على أحد جانبي الطريق.. ثم إنني مررت بموضع صناديق الهدايا فركلت أحد الصناديق بقدمي وتابعت المسير وأنا أشد على عضلات رقبتي حتى لا ألتفت إلى الخلف فقد كنت أود لو أرجع إلى ضريحي سلوى والزاكي فأبقى عندهما.. غير أنني تابعت المسير ولم ألتفت خلفي أبداً.

*       *       *

مرت سيارة "باص المبعوجة" التي يقودها سائق سمين مصاب بضيق التنفس، فوجدت رجلاً نائماً على طرف الطريق، عند مفرق مزرعة الطاحون، وهو يحتضن قطاً، وعلى ثيابه آثار دماء.

توقفت السيارة وصاح السائق بمعاونه:

- انزل وأيقظ هذا المجنون.. عمرك رأيت رجلاً يحتضن قطة؟.. حتى تصدّق كلامي جداً حين أخبرتك بأنه مجنون.

سمعت كل هذا الكلام، فنهضت، ونفضت التراب عن ثيابي، وحملت "شحادة" على ساعدي وصعدت إلى الباص، الذي كان شبه فارغ من الركاب، فجلست في الصف الأمامي..

سألني السائق:

- إلى أين يا أستاذ؟

- ما هذا السؤال؟ هل يذهب باصك إلى غير العاصمة؟

كانت نسائم الصباح رطبة منعشة، والنوافذ مفتوحة.. والمعاون الذي جلس بجانبي ينظر إليّ من طرف عينه منتظراً أن يرى مفاجأة من هذا المجنون، وأنا ما أحببت أن أخيّب توقعاته سحبت من جيبي بطاقة السفر وقلت له:

- هذه بطاقة سفر بالطائرة إلى ألمانيا.

ومزقت البطاقة ورميت فتاتها من النافذة.. فأصيب الرجل بالذهول.. فسحبت من جيبي جواز السفر وقلت له:

- هذا جواز سفر ألماني.. أنا أحمل جنسية ألمانية.

ومزقت جواز السفر ورميت فتاته من النافذة، فقام الرجل ومشى إلى حيث السائق، فانحنى خلفه وهمس في أذنه شارحاً ما رآه. فقال السائق معتزاً بنباهته:

- هل صدّقت الآن أنه مجنون؟

ومضت سيارة الباص في طريقها باتجاه العاصمة.

انتهت