ذكرى رحيل

ذكرى رحيل

sdfgfhd891.jpg

مع اقتراب الذكرى تموج في النفس الذكريات والصور وتفيض الروح بالشوق والألم وتتخطفني مشاعرٌ شتى بين نشيج الروح وأنين الذكريات وألم البعد والفراق

نعم لقد مر على فراقك سبعٌ عجاف

ماذا عساني في ذكراها أقول وأكتب

تالله لم تستطع تلك السنين أن تنسيني ذكرك أو رسمك وطيفك

فتارةً تكبر في مخيلتي فأبصرك شاباً يشع بالوسامة والجمال

وتارةً أراك طفلاً تفيض علينا بالحب والأمل

وبين الصورتين تموج المشاعر والأفكار بماذا أتذكرك...

وبماذا أرثيك...

في ذكراك السابعة يخطر ببالي أن أتذكر قاتلك وأحاول جاهداً أن أعرف

اسمه وشكله

بلده وعمره

عائلته وأطفاله

أقرباءه وأصدقاءه

وأتصور بداية ذلك اليوم

الأربعاء 26/8/2013/

أرقبه وهو يرتدي بزته العسكرية تزينها الرتب والنياشين

وزوجته  تحمل حقيبته

وطفلته تداعبه وتلاعبه وتتعلق بثيابه

بابا لاتنسَ الشوكولاتة والحلويات

وأخوها الأكبر يقول  بابا لاتنسَ دراجتي

تودعه زوجته بابتسامتها الجميلة وتذكره بزفاف أختها والثوب الجميل الذي سترتديه بفرحها

يتمتم بوعودٍ لزوجته وأولاده بتلبية جميع طلباتهم بعد عودته من مهمته

تودعه ابنته بقبلة كرشوة منها على خده...

وزوجته بابتسامةٍ مفعمةٍ بالحب... وولده بضمة حنان إلى صدره...

يقود سيارته إلى مكان عمله في مطار حماة العسكري

ويستقبله حرس المطار بالتحية العسكرية ويفتح له باب الدخول ويقف الجميع امامه باستعداد كأنّ على رؤوسهم الطير

يدخل مكتبه ويطلب من حرسه فنجان قهوته

يجد على مكتبه البريد العسكري ظرفٌ مختوم

بعنوان (سري للغاية)

يفتح تلك المهمة:

إلى العميد الركن قائد الطائرة السوخوي (777) تدمير هدف  في قرية أورم الكبرى في ريف حلب الغربي

ينطلق مسرعاً إلي طائرته وقد سبقه مساعده إلى الطائرة

وتُحمّلُ الطائرة بالصواريخ والقنابل وبراميل الموت

يحوم بطائرته حول الهدف مرةً بعد مرة هدفه وكرٌ للإرهابين والمسلحين كما ذُكر في مهمته

وعلى الارض كان الهدفُ المنشودُ مدرسةٌ  يملأ  ضجيج الطلاب جنباتها حيويةً وبهجةً واملاً بغدٍ جميل ومستقبلٍ باسمٍ

يرن جرس المدرسة معلناً عن فرصتهم واستراحتهم بين الفصلين ويعلو صراخ الأطفال وتتناثر ضحكاتهم لتملأ المكان والزمان

وفجأة يرعبهم ويربكهم صوت الطائرة منهم من يدخل إلى صفه ومنهم من يتطلع إلى السماء

وبين قبلة طفلته وهي تطلب الشوكولاتة والحلوى ومشهد الأطفال يهرعون فزعين خائفين

يضغط على زر الصاروخ الأول ينطلق ذلك الصاروخ محملاً بأماني أطفاله وأحلامهم لينفجر بجدار المدرسة ويحيل ضحكات الأطفال إلى صراخٍ وعويل واستغاثة ودمار

ويسود الهرج والمرج وتتناثر الدماء والأشلاء ويتبدل لعب الأطفال ومرحهم ولهوهم إلى صورةٍ من صور يوم القيامة

يعاود الدوران بطائرته حول هدفه المنشود

ويضغط مرةً أخرى على الصاروخ الثاني

وعلى الأرض يقف محمد بجانب النافذة  وأخته تسنيم تنادي عليه

حمودة ادخل إلي الصف

ويفتح حمودة يديه  وتعلو محياه ضحكته المعهودة.

وتزيدها ألقاً غمازته الجميلة.

وهو يقول

أنا مابخاف من الطيارة

ينطلق الصاروخ الثاني مع أمنية سيادة العميد بدراجةٍ جديدةٍ لولده

ينفجر الصاروخ بباحة المدرسة وتلتهم النيران جسد محمد فاتحاً ذراعيه وتعلو محياه ابتسامة الموت ويسلم روحه الطاهرة إلى بارئها ويلفظ أنفاسه الأخيرة مع نيران جسده وروحه

ويعود سيادةُ العميد بطائرته إلى مدرج المطار بعد أن نفذ مهمته المقدسة

وتتعالى صيحات الاستغاثة في بلدة أورم وتهرع سيارات الإسعاف وصافراتها تملأ الأجواء والطرقات

أمٌ تبحث على أشلاء ولدها

ووالدٌ يبحث بين الركام والرماد عن قطعة من فلذة ولده

وبين الجثث المتفحمة والجلود المشوهة وروائح الفوسفور وشواء الجلود والبارود

يترجل سيادة العميد

من الطائرة منتشياً بعمله

وفي المساء يعود أدراجه إلى منزله محملاً بطبقٍ من الحلوى والشوكولاته المحلاة برائحة الدم

وبدراجةٍ ملونةً بكراسات الأطفال مضرجة بدمائهم ودموعهم

وثوباً جميلاً لزوجته مزركشاً بأشلاء جثثهم المبعثرة ووجوههم المشوهة وأجسادهم المنسلخة

يقبل ابنته ويمسح على رأس ولده

ويضم زوجته بحبٍ وحنان

وتعلو ضحكاتهم في تلك الليلة مبتهجين بماحمله والدهم من هدايا وحلويات

وبالطرف الأخر

ينفطر قلب أم ولاء وهي تنادي وتبحث بين الأسرة والجثث عن ولاء

ولاء ولاء الله يخليكم حدا شافلي ولاء

ويحترق قلب أم سهام على فتات ماتبقى من جمال ابنتها

وكذلك أم فاطمة ودارين

وقد سبقهم محمد وفداء ومصطفى

يبيت الأهالي بين دموع القهر وفقد ضناهم وأطفالهم

قلوبٌ ملوعة وأرواح مكلومة على فراق فلذات أكبادها

كيف كانت ليلتهم بين الألم والوجع؟؟؟

إنها الحرب ومفرزاتها القذرة

ويبيت سيادة العميد بين فرح زوجته ونشوة ابنته وسرور ولده

ويأوي إلى فراشه متعباً منهكاً من عمله وبطولاته

وبينما هو يغط في نومه العميق

يجد نفسه يمشي على جسرٍ بوادٍ سحيق تشرئب ألسنة النار ولظاها من طرفي الجسر وتتخطفة ست عشرة يداً من اليمين ومثلها من الشمال

كلٌ يجذبه ويشده إلى ذلك الوادي

ووجوه فتيات وصبية تتعلق بتلابيب ثيابه تناديه وتصرخ به

يبدأ بالصراخ والعويل وينادي بأعلى صوته

أنقذوني

أنجدوني

أغيثوني

وفي آخر الجسر تقف ابنته وزوجته وولده

يمدون إليه أيديهم ولكن عبثاً يحاولون فلايصل إليه إلا صراخهم

ويستيقظ على صوت بكائهم ونحيبهم

يهب من نومه فزعاً  مرتجفاً وفي أذنيه صدى وعويل أطفاله وأطفال الوادي السحيق

يطير النوم من عيني أم محمد

ويجافي مقلتي أم ولاء

وتنضح مآقي أم الفدا بالدموع والقهر والألم

وفي غمرة هذه النيران التي تمزق أفئدتهم وأرواحهم بكاءً على أطفالهم

تأخذهم سِنةٌ من النوم

فترى محمد يلعب بالكرة مع فداء في حديقةٍ غناء والينابيع تفيض بالماء الرقراق وصوت العصافير والبلابل يملأ المكان

وولاء تتوسط صويحباتها وهن يلبسن طرحاتٍ بيضاء كبياض الثلج

ويشع النور من وجهوهم كأقمارٍ تبددُ حلكة السماء

وفجأةً تتنتفض أجنحتهم ويحلقون في تلك الجنان من شجرةٍ إلي شجرة ومن نهرٍ إلي نهر ومن وادٍ إلى جبلٍ ومن سهلٍ إلى ربوة

بوجوهٍ نضرة كأنها لؤلؤ مكنون يضحكون ويلعبون  ويتنعمون

يهب سيادة العميد من نومه إلى شرفة بيته وقد هاله وأفزعه حلمه ويشعل سيجارته

من هي هذه الوجوه...?

ومن هم هؤلاءالأطفال...?

وماهو هذا الوادي الرهيب...?

اسيقظ من نومه ولكن لم تستيقظ إنسانيته بعد

سيادة العميد :

أعلم أن مهمتك عسكرية مقدسة وأدركُ حرصكَ على أداء واجبك تجاه وطنك

ولكن أين ستهرب من قلوبِ ووجعِ اثنين وثلاثين أباً وأماً وعائلاتهم وأخوتهم

هل شعرت بألم أولادكَ وزوجتكَ على طرف الجسر الأخر يستنجدون بك

وانت لاحول لك ولاقوة لاتستطيع نجدتهم وأنقاذهم

أنا موقنٌ بأنك تحمل قلب إنسان فيه نوازعُ الخير والشر

دعك من نظارات  قاداتك ونظارات من حولك

انظر إلي بعقلك وقلبك وعينك

كيف تراني وانا أحملُ جثة طفلي متفحمةً وقد سرقت منه ضحكته وبراءته

لن أخاطبك بالأحقاد والضغائن

لن أتبادل معك الأتهامات والشتائم والسباب

سأخاطب بذورَ الخير داخلك وهمسات الحب التي تداعب بها أطفالك

هل فكرت مرةً بلوعةِ الأمهات

هل تصورت يوماً أن تحمل أطفالكَ أجساداً مشوهةً من النابالم والفوسفور الأبيض

هل فكرت يوماً أن مهمتك وهدفك قد يكون مخطئاً

سيادة العميد اليوم تمر الذكرى السابعة لمجزرة مدرسة أورم في ريف حلب الغربي والتي ذهب ضحية بطولتك فيها اثنين وثلاثين طفلاً وطفلة

واليوم تغدو ابنتك في عمر الورود عروساً تنتظرُ عريسها على فرسٍ أبيض

ويعتلي ولدك منصةَ التكريم في جامعته

ويبقى اطفالنا في قبورهم

كبراعم الورود تنتظر الربيع كي تزهرَ وتملأ المكان والزمان بأريجها

أنا على يقينٍ بأني سألتقي بك في يومٍ من الأيام وأتمنى أن يكون قريباً ذلك اليوم

سأطلبُ رؤيتك وأتبادل معك الحديث بكل أحترام

وسوف أسألك سؤالاً واحداً لن أكرره:

هل ترضى أن يموت أطفالك بين يديك حرقاً وتضيعُ معالمهم وتحترقُ براءتهم وضحكتهم ولاتملك أن تقدم لهم يدَ العون ولا أن تفديهم بنفسك وروحك

سنلتقى إن لم يكن وجهاً لوجه فعلى وسائل التواصل الأجتماعي

سنلتقي إن لم يكن في هذه الدنيا فعند من تجتمع عنده الخصوم

سنلتقي ولن أحرقك ولن أقتلك ولن أمثل فيك

سأوقظ فيك ضميراً مخدراً وإنسانيةً جوفاء قتلتها أحقاد السياسة وذهب ضحيتها الأطفال

أنا والد أحد هؤلاء الضحايا

سأبحث عنك وأسأل عنك

لن يضيع ذلك التاريخ

26/8/2013

مجزرة مدرسة اورم

كثيرون سيبحثون معي عن قائد تلك الطائرة

سيُعرفُ اسمك وسيقرأ أولادك تلك القصة

وسيحكمِ الله بيننا وبينك بالحق إن لم يكن في الدنيا

فعند ميزان عدله وقسطه