وقفة لغوية عند كلمتي توظيف وتعاقد في ظرف الخلاف بين الوزارة الوصية على قطاع التربية وبين أطرها

هذه الوقفة فرضها الخلاف الحالي المحتدم بين الوزارة الوصية على الشأن التربوي، وبين الأطر التربوية على اختلاف فئاتها ،ذلك أن هذه الوزارة كما سنت التوظيف من قبل لعقود بعد الاستقلال ،  فقد تحولت منه التعاقد الذي رفضته الشغيلة التعليمية مطالبة بالعودة إلى التوظيف  . والملاحظ أن هذه الشغيلة لم يكن لها  خيار  لا من قبل ، ولا من بعد ، بل كانت مجبرة  أمام أمر واقع تقرره الوزارة التي لم تشاورهم  بالأمس ولا اليوم ، و كانت  هذه الشغيلة مضطرة لقبول الصيغتين فرارا  من البطالة ، ورغبة في الحصول على لقمة عيش .

وإذا  ما نظرنا إلى هذا الذي صار مشكلا بين الوزارة والشغيلة من زاوية  لغوية بالوقوف على  الطبيعة الصرفية أو المورفولوجية لكلمة "توظيف " التي صيغتها " تفعيل " ، وهي مصدر ككل المصادر دال على حدث مجرد من الزمان :" وظّف، يوظّف ،توظيفا " على وزن : " فعّل ، يفعّل ، تفعيلا "، فإن صيغتها تدل على عدة معان هي :

1 ـ التعدية : كقولنا : " فرّحت الصبي " ، ويكون الفعل المجرد منه لازما : " فرح الصبي ".

2 ـ التكثير : كقولنا : " قطّعت الحبل "، إذا جعلته قطعا كثيرة .

3 ـ السلب : كقولنا : " قشّرت العود "، إذا سلبته قشرته .

4 ـ اتخاذ فعل من اسم : كقولنا : " خيّم القوم " ، إذا ضربوا خياما .

وعندما نعرض كلمة "ّ وظّف " على هذه المعاني ، نلاحظ أنها لا تندرج تحت واحد منها ، بل نجدها تدل على الإسناد : كقولنا : " وظّفت فلانا " ، إذا أسندت له وظيفة ، وتفيد الاستثمار كقولنا :"  وظّفت المال" ، إذا استعملته للكسب ، وتفيد التزويد كقولنا  " وظّفت المؤسسة " ، إذا زودتها بموظفين ، وتفيد التعيين  كقولنا : " وظّفت له رزقا  " ، إذا  حددته له وأجريته عليه.

ويمكن الجمع بين معنيين من هذه المعاني  بحيث يقترن إسناد وظيفة ما بإجراء رزق على الموظف ، وهذا حال كل من يندرجون تحت الوظيفة العمومية التي منها وظيفة أطر التربية والتعليم .

أما الطبيعة الصرفية أو المورفولوجية لكلمة تعاقد التي صيغتها " تفاعل " ، فلها عدة معان هي كالآتي :

1 ـ المشاركة : وهو المعنى الغالب عليها كقولنا : " تشارك الرجلان "، إذا اشتركا في شيء ما أو في  فعل ما  ...

2 ـ مطاوعة  صيغة " فَاعَل " : كقولنا : " باعدته ، فتباعد "  .

4 ـ التظاهر بما ليس في الباطن : كقولنا : " تمارض الرجل "، إذا أظهر المرض وهو صحيح .

5 ـ التدرج في الوقوع : كقولنا : " توارد القوم أو توافدوا " أي جاءوا تباعا .

6 ـ ويكون من فعل تَفَاعَل  المجرد : كقولنا : " تعالى الله عز وجل " للدلالة على العلو والسمو ، وعلى التنزيه أيضا .

وإذا  ما عرضنا  على هذه المعاني كلمة" تعاقد " التي جعلتها الوزارة الوصية على قطاع التربية عندنا  بديلة عن كلمة " توظيف " ، نجد أنسب معنى لها، هو المشاركة بحيث تشترك الوزارة مع أطرها في إبرام عقد بينها وبينهم ، وهو عبارة عن اتفاق من المفروض أن يكون عن تراض  وقبول ، و هو ملزم قانونيا للطرفين المتعاقدين ، بحيث يلتزم كل منهما بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه . ولعل أنسب تشيبه للتعاقد هو  ما تتضمنه عقود النكاح  في شريعتنا الإسلامية والتي تشترط الرضا والقبول بين الأزواج ، ولا تصح دون ذلك . وعليه فكل تعاقد دون رضا أو قبول يكون لاغيا أو فاسدا .

وبهذا المعنى يكون " التعاقد " فيه من الحرية للأطرف المتعاقدة ، ما ليس في التوظيف ، ذلك أن هذا الأخير عبارة عن إسناد  وظيفة أو تكليف  بها ، بينما يكون التعاقد خلاف ذلك بسبب طبيعته التشاركية .

أما إذا ما غابت عن التعاقد الصبغة التشاركية ، فإنه سيأخذ معنى آخر  بسبب الطبيعة الإلزامية  بحيث  يستأثر فيه طرف واحد  بسلطة  التقرير،  بينما لا يكون الطرف الآخر شريكا ، بل يكون  مجرد أجير أو مستأجر يسرح متى ما شاء من أجره  . والغالب على الظن أن هذه هي الدلالة  التي أرادتها الوزارة الوصية  للتعاقد ، لهذا رفضها المتعاقدون ، وأصروا على أن يكون  التوظيف بديلا عن التعاقد.

وقد يجادل البعض بخصوص هذا التعاقد بالقول إن من انخرطوا فيه أول الأمر كانوا طرفا شريكا فيه ، وقد اطلعوا على مضمونه ، ووقعوا على ذلك ، وهذا ما يجعله ملزما لهم ، والحقيقة أن هؤلاء لم يكن لهم خيار والبطالة تلاحقهم ، والعمر يتأخر بهم ، وقد أقبل عليه  حتى من يحملون شهادات من معاهد عليا  ، ورضوا بمهام غير مناسبة لمستوياتهم العلمية والمعرفية ، ومنهم من لم ينتقى منهم مجرد الانتقاء ، وعلى هؤلاء  ينطبق المثل القائل " رضينا بالهم ، والهم لم يرض بنا " ،  لهذا كان واقع حالهم أنهم في الحقيقة  أجبروا على التوقيع على هذا الشكل من التعاقد الذي لا وجود فيه لشراكة فعلية بين المتعاقدين ، وهو بهذا فاقد للدلالة الحقيقة للشراكة كما تدل عليها صيغته الصرفية أو المورفولوجية " تفاعل " .

ولعل الفرصة  قد أصبحت سانحة اليوم في ظرف الخلاف الحاد بين الوزارة الوصية على القطاع ، وبين أطرها من أجل التزام الدلالة الحقيقة للتعاقد ، وإعادة قطار السير العادي للدراسة في مؤسسات التعليم العمومي إلى سكته  من أجل تأمين بلوغه المحطة ، وهذا يقتضي أن تتخلى الوزرة عن تعنت لا طائل من ورائه ، وعن أساليب التهديد، والوعيد، والعقاب لأنها أساليب لا تليق بمن تعاقدت معهم ، كما  يجب ألا تخس مجهوداتهم من خلال أجور وتعويضات غير مترجمة إجرائيا لقيمتها ، وغير معبرة عن صيانة كرامة أصحابها.

ولا عيب في أن يعاد النظر فيما هو موضوع  خلاف  بين الوزارة وبين المتعاقدين ، ولا يجب أن يعتبر  وزير التربية أن التراجع عن المختلف بشأنه هزيمة  تحط من قيمته ، بل هو فضيلة تحسب له ، وتجبّ ما سجل عليه . و من أجل فلذات الأكباد، وهم رأسمال الوطن ، يجب على الوزارة أن تسترخص المرتبات والتعويضات  التي تؤدى لأطرها  ، وكذا الترقيات ، والامتيازات ...لأن كل ذلك  إنما يعود بالنفع على الناشئة المتعلمة، وعلى المصلحة العليا للوطن  الذي يستحق من الجميع كبير التضحيات  التي سبق إليها من قدموا أرواحهم فداء له  من أجل استقلاله ، وعزته ، وكرامته . .

ولا يجب أن يغيب عن ذهن الوزير وبطانته المركزية والجهوية والإقليمية أن كراسيهم أشبه ما تكون بكراسي الطائرات التي تطير فجأة في الفضاء حين يحين أجل الطائرات ، وإنه لا دوام لسلطة أو منصب أو مسؤولية أو مهمة ، ولا يدوم إلا الذكر الحسن أو الذكر السيء  بعد الرحيل ، " والكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجل من أتبع نفسه هواها "، وتمنى على الله الأماني ، والصلاة والسلام على صاحب هذه النصيحة الغالية  ، والحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين .

وسوم: العدد 1060