لن نبكي على غزّة...
عبد العزيز كحيل
إنّ الحالة النفسية التي تعيشها الجماهير العربية والإسلامية لا تقلّ وقعًا عمّا يعانيه الناس في غزّة تحت القصف الصهيوني المتواصل، فكلّها مرارةٌ وإحباطا من حال الأنظمة الرسمية وعجزٌ أمام الغطرسة الصهيونية والدعم السافر الذي تحظى به من أمريكا وكندا والدول الغربية التي تعمى عن حقائق الواقع وبشاعة الجرائم وتصرّ على تحميل المسؤولية للضحية مع تبرئة الجلاّد المعتدي والتماس الأعذار لعدوانه وسياساته.
لقد فقدت مسيرات التنديد بالعدوّ الصهيوني والتأييد لغزّة الصامدة والمقاومة الباسلة طعمَها، بعد أن نغّصَتها مرارة العجز العربي، كما فقدت المهرجانات والندوات والمداخلات الإعلامية وقعَها النفسي، وماذا عَساها تفعل في ساحة تسيّرها الحسابات المصلحية الباردة فلا تترك مكانًا لمشاعر إنسانية ولا تقيم وزنًا لدماء الأطفال والنساء والمدنيّين طالما هي دماء عربية ومسلمة، ولا عجب في كلّ هذا بعد أوسلو والتنسيق الأمني والتنازل الرسمي عن حقّ العودة وعن 80 في المائة من أرض فلسطين والتفريط الواضح في القدس والأقصى.
إنّها المرارة المخزونة من الحكومات العربية التي طالما تاجرت بالقضية الفلسطينية وهي المتسبّبة في التآمر عليها وبيعها لأغراض دنيئة على رأسها المباركة الأمريكية والصهيونية للبقاء في السلطة وتوريثها سواء في الأنظمة الملكية أو الجمهورية، لهذا جاءت سلطة رام الله من أوّل يوم على شاكلة هذه الأنظمة ، منسجمة معها في الاستبداد والفساد والتنازل المجاني عن الحقوق، وأضافت إلى هذه المخازي التعاون الحثيث مع الكيان الصهيوني في تعقّب المجاهدين واعتقالهم واغتيالهم، فكيف نصدّق تباكي رموز هذه السلطة اليوم على غزّة وأهلها والتنادي بتحقيق المصالحة؟ لا، لن نبكي على غزّة، لن نذرف – نحن الجماهير المكلومة - دموع النفاق ولن ننضمّ إلى الجوقة المعروفة، فقد مللنا عزفها وتأكّدنا من زيف أدائها، إنّنا نفضّل ألاّ تجتمع الجامعة العربية من أجل فلسطين ولا من أجل أيّ قضية عربية فهي ضمان لضياعها المؤكّد، كيف لا، وفي غزّة نوائح ثكلى بينما هذه الجامعة الحكومية مجرّد نائحة مستأجرة.
لن نبكي هذه المرّة على غزّة، فهي ليست في حاجة إلى دموعنا ولو كانت صادقة، ولا تنتظر منّا شيئا، فنحن أضعف منها وأكثر وقعًا في الأسر والمسكنة، سجونُنا عربية وزبانيّتُنا عرب وقاتلونا عرب، فلنبك أولا على حالنا ولنتعلّم مرّة بعد مرّة من غزّة، فلنتعلّم منها الحياة الكريمة رغم الحصار والحرب والتآمر، فلنتعلّم منها التمسّك بالمبادئ لا المصالح والمنافع، ولنتعلّم منها هذا الرباط العجيب والاستعداد النوعي للحرب.
مَن قبل حماس وكتائب القسام ضرب تل أبيب والقدس فأثار هلع الصهاينة ؟ مَن غيرُها طوّر الصواريخ والقذائف في ظلّ حصار مستمرّ ومناخ عربي غير مناسب؟ فلماذا نبكي على غزّة ؟ وهل هي في حاجة إلى الدموع والعويل؟ لقد ملّت فلسطين كلّها وخاصّة القطاع المرابط القصائد العصماء والخُطب النارية والتحليلات السياسية اللامتناهية والمناظرات التلفزيونية، لأنّ كلّ هذا صار جزءا من المأساة، والقضية تحتاج بإلحاح إلى مبادرات نوعية أخرى تُنهي المأساة بدل تسييرها مرحليًّا في انتظار عدوان صهيوني جديد، فضلا عن استمرار الاستيطان لفرض الأمر الواقع نهائيًّا على الصراع برمّته.
أجل، ألقى الربيع العربي هذه المرّة بظلاله على العدوان، فكانت هناك مواقف رمزية غير معهودة تُشكَر عليها مصر بالدرجة الأولى، لكنّ زيارات الوفود المتتالية إلى غزّة تُخفي، لا، بل تعلن العجز العربي أمام الغطرسة اليهودية والاحتضان الغربي لها، وماذا عسى مصر أن تفعل أكثر من فتح معبر رفع وتيسير وصول الوفود والمساعدات الإنسانية والسعي مع الأطراف الدولية لوقف العدوان؟ كان يُمكن للرئيس محمد مرسي أن يفعل أكثر من هذا لو نجحت الثورات العربية المتبقية وكوّنت جبهة قوية فعّالة تلتفّ حولها الشعوب ويحسب لها الغرب حسابًا جادًّا، لكنّ الرئيس المصري نفسه يعاني منهجمة علمانية داخلية تسعى جاهدة لإفشاله في جميع مساعيه وتثبيط جماعة الإخوان بأيّ ثمن، وهذا يصبّ في صالح الصهاينة من غير شكّ، وتبقى غزّة تعيش المعاناة وتسمع العرب يتألّمون في صمت أو عبر الهتافات بينما يستمرّ العدوان الهمجي .
يُفتي المفتون المترفون في بعض البلاد العربية أن واجب الشعوب ينحصر في الدعاء لغزّة، وأُوشك أن أجزم أن غزّة تستغني عن دعاء هؤلاء، لأن الدعاء عبادة ما انفكّ المسلمون يؤدونها من غير حاجة إلى فتوى، لكن غزّة تحتاج من هؤلاء الشيوخ الموظَّفين عند الأنظمة المُترَفة أن يُفتوا أمراءهم وملوكهم بقطع العلاقات الظاهرة والخفية مع العدوّ الصهيوني وأن يُنفقوا على المقاومة ويسلّحوها وأن يرفعوا القيود المفروضة على العمل الخيري من أجل فلسطين بدل التضييق الذي طال المحسنين هناك، في حين يتنادى اليهود في العالم بجمع الأموال لمساندة المجهود الحربي الصهيوني، فغزّة تأنف أن تنتظر التبرعات الهزيلة الخفية لأنّها أرض شامخة ورجالٌ أصحاب شهامة ونساءٌ مرابطات وجهادٌ مرفوع الراية يدافع عن الدين والمقدسات والأمة جميعًا ، ولولا الأنظمة العربية المتخاذلة والمتآمرة لانتصر في أوّل وقعة مع الصهاينة منذ أكثر من ستين عامًا.
فلن نبكي بعد اليوم على عزّة، لأنّ لها ربّا يحميها وأمّةً تحتضن قضيتَها ومقاومةً تدافع عنها، فلنترُكها تنزع آخر أوراق التوت عن الحكّام الذين طالما تاجروا باسمها، وليكن المدد عبر امتداد الربيع العربي لإزاحة الأنظمة الاستبدادية وتمكين الشعوب من الحرية والكرامة، فحينها ستجد مصر وتونس وليبيا مجالا حيويا أرحب يتيح لها أن تتخذ مبادرات أكثر جرأة وإيلامًا للعدوّ الصهيوني الغاصب في إطار بعث جديد للقضية الفلسطينية خارج قَسَمات الضعف والعجز المعهودة ... فالقطاع المرابط المجاهد لا يريد منّا أن نجهش بالبكاء للتنفيس عن حالنا المزرية وإنما ينتظر من الجماهير أن تمضي بالربيع العربي إلى منتهاه من أجل عزل الكيان الصهيوني سياسيًا ودبلوماسيًا وإمداد المقاومة – وعلى رأسها حماس والقسام – بأسباب القوة لتفرض وجهة نظرها محليا وإقليميا ودوليا وتُملي شروطها في أيّ تسوية مقبلة بعد طيّ صفحة التنازلات المجانية المخزية التي مضى فيا النظام الرسمي العربي وفي مقدمته سلطة رام الله، هكذا يكون دعم غزّة اليوم وغدًا لأنها لن تصمد طويلا – لا قدّر الله – في ظلّ المحيط العربي المتّسم بالتخاذل والعجز والتآمر.