إيران الجار اللدود

إيران الجار اللدود...!!

حسام مقلد *

[email protected]

كان غريبا جدا أن نرى الشباب البحريني يرفع صورا لرموز شيعية إيرانية أثناء الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها البحرين!! فما شأن الإيرانيين بأمور بحرينية داخلية ومطالب بالإصلاح ينادي بها عدد من البحرينيين؟!!! ولعل هذا هو السر الذي جعل الكثيرين من العرب ينأون بأنفسهم عما جرى في البحرين، وحدا بهم أن يربؤوا بأبناء البحرين شيعة وسنة أن يشاركوا في هذه الاضطرابات المشبوهة، وزاد من مخاوفنا وشكوكنا ما تكشَّف على مدى الأسابيع الماضية من حقيقة نوايا إيران ومطامعها في دول الخليج العربي، فقد أكدت هذه المخاوف المواقفُ الإيرانية الأخيرة من الأحداث في البحرين ثم الكويت، ولعل تصريحات المسؤولين الإيرانيين شديدة الوضوح قد أزالت أي التباس ربما اعترى البعض في فهم وإدراك حقيقة المطامع الإيرانية في المنطقة، فلم تعد المشكلة بين إيران وجيرانها العرب مجرد خلاف بين إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة على بعض الجزر (جزر: أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) حيث تحتلها إيران وتدعي أنها جزء لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية!! بل انفضحت تطلعات إيران التي ترمي لأبعد كثيرا جدا من مجرد الاستيلاء على هذه الجزر الإماراتية الصغيرة النائية!!

والواقع أن تصريحات معظم المسؤولين الإيرانيين مؤخرا بشأن البحرين والكويت تصريحات مخيفة فعلا؛ لما تحمله من دلالات عميقة على مطامع إيران ونواياها المستقبلية المضمرة نحو جيرانها العرب على المدى البعيد، إضافة إلى ما تشتمل عليه هذه التصريحات من أبعاد خطيرة مثيرة للقلق، خاصة فيما يتعلق بمضمونها السياسي والعسكري، لاسيما لو استصحبنا حقيقة تغلغل النفوذ الإيراني في العراق ولبنان، وتمدد تأثير إيران الثقافي، واتساع تواجدها الاقتصادي والسياسي في عدد من الدول الأفريقية، ولعلنا نتذكر الأزمة المفتعلة التي تصر إيران على إثارتها بينها وبين الدول العربية ـ الخليجية منها على وجه الخصوص ـ بسبب إصرارها على تسمية «الخليج الفارسي» بدلا من «الخليج العربي»!! أوليس من الغريب حقا أن تثير إيران هذه القضية كل حين وتلح باستمرار على فتحها في كل مناسبة؟! ولا ننسى في هذا الصدد البرنامج النووي الإيراني وما تمتلكه إيران وتنتجه من ترسانة أسلحة هائلة ومرعبة!!

لكن مع هذا كله تبقى إيران جارة للعرب فهذه حقيقة لا يمكن أبدا تجاهلها، أجل هذه حقيقة جغرافية على أرض الواقع  لا ريب فيها ولا مناص من قبولها والتسليم بها، وكذلك هناك حقيقة دينية وديموجرافية أخرى تقول إن نسبة الطائفة السنية في إيران لا تقل عن نحو40% من عدد السكان، كما أن وجود العرب الشيعة حقيقة ديموجرافية ثابتة هي الأخرى ولا يمكن أيضا الالتفاف عليها؛ إذ لا يمكن إنكار وجود الشيعة كأحد المكونات السكانية في كل دول الخليج العربي تقريبا، وكل هذه الحقائق القطعية الثابتة التي لا نزاع فيها تستلزم من الجميع أن يسعى لإيجاد أفضل وسائل للتفاهم والتعاون والتواصل الإنساني والعيش المشترك بين إيران والعرب، لكن مع الأسف فالحقيقة أن الحكومة الإيرانية بارعة على الدوام في إرسال الإشارات المتناقضة لجيرانها العرب، ولا أدري إن كان ذلك متعلقا بطبيعة لعبة «التُّقية» التي يجيد الشيعة لعبها أم لا؟! فتارة تتشدد إيران ويدلي مسؤولوها بتصريحات بالفعل مفزعة، وتارة أخرى تهدئ اللعب وترخي شعرة معاوية التي بينها وبين العرب؛ حتى لا تستعديهم عليها فيقفون ضدها، وأعتقد أن ذلك برهان ساطع على مدى صعوبة التعامل مع الحكومة الإيرانية، لكن الأمر الواضح كالشمس هو أن الإيرانيين لا يبالون إلا بمصالحهم فقط، والحقائق على الأرض تثبت ذلك كل يوم، وأما فكرة الأمة الإسلامية الواحدة وضرورة الدفاع عن وحدة صفها، وتوجيه كل إمكاناتها لبناء نهضتها وتنميتها، وحماية مقدساتها وتحرير القدس والمسجد الأقصى من الاحتلال اليهودي... فهذا الكلام قطعا حق لا ريب فيه بالنسبة لنا نحن أهل السنة والجماعة، ونحرص عليه بكل طاقتنا، لكن أثبتت لنا حقائق التاريخ المتكررة أن إيران تلوك هذا الكلام  كثيرا لمجرد الاستهلاك العربي فقط!! ورغم ذلك تبقى إيران جارة قوية ينبغي إقامة علاقات طبيعية جدا معها؛ حفاظا على أمن واستقرار وسلامة هذه المنطقة الحيوية بالغة الأهمية للعالم أجمع!! ولعل من الضروري هنا أن نشيد بالموقف الحاسم الواضح الذي اتخذته المملكة العربية السعودية مؤخرا بإرسالها جزءا من قوات درع الجزيرة إلى دولة البحرين الشقيقة؛ للوقوف معها، وحمايتها من الأخطار التي تتهددها، وحماية وحدتها وحفظ أمنها وسلامتها الوطنية في هذه الظروف الحرجة، ولعمري فإن هذا الموقف الصائب لينطلق من أرضية صلبة، ويؤكد أن المملكة العربية السعودية بثقلها العربي والإسلامي والدولي ستكون دوما بإذن الله تعالى رمانة الميزان في المنطقة، وستقف سداً منيعا في وجه أية مطامع في أي من بلدانها، وكيف لا وهي أكبر دول الخليج العربي، وأرض الرسالة، ومهبط الوحي، وحصن التوحيد، وحامية عقيدة أهل السنة والجماعة، وحاضنة الحرمين الشريفين مهوى قلوب وأفئدة مئات الملايين من المسلمين في شتى أنحاء العالم.

إلا أنه بعد الأحداث الأخيرة التي عصفت ولا تزال تعصف  بالعالم العربي يجب التنبه جيدا إلى تعاظم المخاطر التي تحيق بمنطقة الخليج العربي من النواحي الدينية والطائفية؛ لأنها مخاطر شديدة الالتباس والتعقيد والتشابك، إضافة إلى الحقائق الجيوسياسية وطبيعة التركيبة السكانية في المنطقة، وليس بخافٍ على أحد رغبة إيران الشديدة ومحاولاتها الدؤوبة لاستمالة شيعة الخليج العربي إليها، وجعل ولائهم لها وليس لدولهم العربية، ورغم فشل الإيرانيين الذريع في إقناع معظم الشيعة العرب بخطتها، وفشلها في استمالتهم إلى جانبها، إلا أن الأوضاع الراهنة تفرض على الجميع ضرورة البحث عن صيغة حضارية مستقبلية تحدد أطر وملامح التعاون بين العرب والإيرانيين، وأتصور أن المرحلة الجديدة تستلزم البدء بمراجعة وتقويم مجمل السياسات السابقة المتبعة في هذا الشأن؛ لاستخلاص الدروس والعبر المستفادة، ثم الشروع فورا في إرساء إستراتيجية واضحة ورؤية متكاملة تبادر إلى معالجة المشاكل العالقة بين العرب وإيران بكل صراحة ووضوح وشفافية، وتبحث عن أساليب جديدة وتدابير مبتكرة تتجاوز إخفاقات الماضي، وتتغلب على مخاوف الحاضر وشكوكه القوية المتبادلة، وتصحح الأخطاء التي اتسمت بها أغلب المواقف التاريخية السابقة!! وفي هذا السياق أود المساهمة بطرح وتقديم المقترحات التالية لما أتصور أنه خطوات مهمة ينبغي الشروع فيها خلال الفترة المقبلة:

1.     مطالبة إيران بالكف فورا عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وبخاصة دول الخليج العربي التي تضم نسبة من الشيعة بين مواطنيها، فهؤلاء المواطنون الشيعة هم في النهاية عرب وليسوا فرسا، ولا يُقبل أبدا أن تحاول إيران الوقيعة بينهم وبين بني جلدتهم من مواطنيهم السنة.

2.     ينبغي لإيران أن تكف فورا عما يعرف بتصدير الثورة، وإذا كانت قد فشلت في ذلك في الماضي فلا تظنن أنها قادرة على أن تنجح فيه في الحاضر؛ فرغم اختلاف الظروف المحلية والدولية الآن، تبقى فكرة ولاية الفقيه وغيرها من الأفكار والقناعات الدينية الشيعية ـ تبقى أفكارا طائفية محضة مبنية على معتقدات دينية؛ وبالتالي ليس مناسبا ولا مقبولا تصدير هذه الأفكار الشيعية لأتباع مذهب آخر يختلف عنهم جذريا في الكثير من الأصول والمعتقدات الدينية.

3.     إيقاف كافة الحملات الإعلامية بين إيران وبعض الدول العربية، وحث جميع وسائل الإعلام ولاسيما القنوات الفضائية في الجانبين على مخاطبة الناس بأسلوب هادئ مقنع، بعيدا عن الإثارة والتهييج، واستخدام كافة أساليب الإقناع الإعلامية الجذابة لاستقطاب الجمهور والتأثير في ميوله وتوجهاته، وإعادة تشكيل قناعاته بخصوص هذه القضية بما يوحد الصفوف ولا يفرقها؛ وذلك تجنبا للصراعات والنزاعات والحروب الطائفية التي ستأكل إن نشبت في المنطقة ـ لا قدر الله ـ الأخضر واليابس.

4.     مطالبة إيران بكل وضوح وحسم وقوة بضرورة التوقف فورا عن محاولتها نشر المذهب الشيعي خارج مناطق تواجد الشيعة المعروفة، وامتناع الشيعة تماما عن الترويج للفكر الشيعي بأية وسيلة من الوسائل بين الأوساط السنية، وبالمثل امتناع  السنة تماما عن الترويج للفكر السني بأية وسيلة من الوسائل في الأوساط الشيعية؛ وذلك حسما لمادة الجدل والنزاع والخلاف.

5.     السعي لتوفير آلية فعالة تُعنى بمتابعة وعلاج الخلافات الطائفية التي تثار من آن لآخر بين الشيعة والسنة، ومراجعة وتقويم الإجراءات المتخذة في هذا الصدد، والتأكيد على سياسة التسامح والعيش المشترك، والسعي إلى تحقيق أفضل ظروف للتعايش السليم وتقليل مخاطر الاحتكاكات بين الطرفين، وطرح مبادرات جديدة باستمرار تحاول منع الأزمات، واستباق الأحداث، والحد من تصاعد تطوراتها غير المحسوبة.

6.     الحد من تزايد النفوذ الإيراني في بعض المناطق والدول الإسلامية السنية بأفريقيا وآسيا عن طريق دعم أنشطة ومشاريع  الدعوة الإسلامية في هذه المناطق السنية لإيقاف المد الشيعي بها، والحد من نفوذ إيران، والقيام كذلك بواجب الدعوة إلى الله تعالى بين المسلمين السنة..

7.     يجب فورا على إيران إيقاف كل سياسات التهميش والتجاهل التي تتخذها بحق السكان السنة لديها من أبناء إيران، وفتح الأبواب الموصدة في وجوههم، وتقديم الدعم ولتشجيع والمساندة لهم، وإتاحة الفرصة أمام النابهين منهم لإكمال تعليمهم ودراستهم العلمية في كل التخصصات التي يرغبونها، وتسهيل وتيسير سبل الدراسة أمامهم سواء في إيران أو في الدول الأخرى، ومواجهة كافة سياسات التمييز الذي تمارسه ضدهم المؤسسات الإيرانية المختلفة، ومساعدتهم في الدفاع  عن أنفسهم واسترداد  حقوقهم المسلوبة والعمل على حمايتها.

8.     إشراك مؤسسات المجتمع المدني من كلا الجانبين في متابعة الأوضاع عن كثب في الجانب الآخر؛ للوقوف على حقائق الأمور، وتبديد المخاوف والشكوك، وإزالة كل أسباب القلق والتوتر والاحتقان الطائفي، والقضاء على عوامل إثارة الفتن والنزاعات في مهدها قبل أن تكبر ويستفحل خطرها ويتطاير شررها هنا وهناك حاملا الخراب والدمار لأبناء الأمة الإسلامية كلها لا قدر الله!!

وختاما أود القول إنه من الطبيعي جدا أن يوجد جدل واسع ولغط عقدي وفكري طويل بين السنة والشيعة، من الطبيعي أن يحدث هذا الجدل مع اختلاف المعتقدات والأفكار، وتفاوت الناس في المدركات والتصورات، ولسنا هنا بصدد الحديث في ذلك فهذا ساحته مجالس العلم وكتب العقيدة والدراسات المقارنة بين العقائد والأديان والملل والنحل والفرق والمذاهب...، ولكن كل ما يعنينا هنا هو التأكيد على أن سنة الله تعالى في خلقه هي الاختلاف والتنوع، قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" [هود:118،119] وقال عز اسمه: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" [المائدة:48] وقال سبحانه: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [النحل:93] فإذا كانت هذه هي سنة الله تعالى في خلقه، وستظل ماضية كذلك بإذن الله تعالى إلى قيام الساعة فهل من الحكمة في شيء أن تنشب الصراعات الدينية فيما بيننا؟! هل من الحكمة أن نظل نتحارب ويأكل بعضنا بعضا حتى نفنى عن آخرنا؟!! أم أن المنطق والعقل يقضيان بأن يحترم كل منا رغبة الآخر وحريته الدينية، وأن نتعاون فيما بيننا من عيش مشترك؛ لتحقيق الحياة الكريمة لكل واحد منا، وفي الحقيقة ما أجدرنا جميعا ما دمنا في النهاية أبناء أمة واحدة ونعيش في منطقة واحدة، ونسكن في جوار واحد ـ ما أجدرنا أن نتسامح ونتصافح ونتعاون فيما بيننا في أمور الدنيا لتحقيق الحياة الحرة الكريمة اللائقة بنا جميعا،"إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود : 88].

                

 * كاتب إسلامي مصري