ثورات عبر الانترنت

د. عصام مرتجى- غزة

[email protected]

"عش رجبا ترى عجبا " ....  مع أننا لا زلنا في شهر صفر، وصفر فيه ما فيه ، كما قال بعض أهل الفطرة البسطاء الطيبون الذين كانون يتطيرون منه ويخافون من شؤمه (اتق سبع كوامل من صفر، إياك والسفر ،لا تنكح الأنثى...لاتشتري الثوب الجديد ولا تغرس الشجر) ، ففيه كما يعتقدون سبع ليال وثمانية أيام حسوما  نحساتٍ شداد .  ولا شك في أن من الواقعات الشداد في صفر أنه قد قـُبض نبي الرحمات، وفيه كانت واقعة صفين تقسم الفسطاط الإسلامي إلى فسطاطين، ومن بعدها توالت النكبات.  واليوم فيه تتقلب  المنطقة على صفيح ساخن وتتقلب فيه الوجوه والسِحَن والحكومات، ومن يصل به الأجل لرجب القادم  يرى العجب الآت.

كانت الثورة في العصور الغابرة تُعرف برموزها البارزة وشعاراتها الكبيرة " وطن، حرية، عدالة ..."  ، وفقراء يحملون المنشورات يُخبئونها تحت ثيابهم الداخلية ويختبئون بين أزقة الشوارع الفقيرة ليلقون بها على أبواب المساجد والكنائس والمدارس والجامعات. وكان رموز الثوريون القدماء يعلمون بعضهم بعضا :

"نحن شرارة الثورة وجذوتها ولسنا وقودهما ، إياكم القرب كثيرا من القاعدة فتحترقون مع الوقود" !!!

كان للثورة قائدٌ مُلْهَم ، حركاته أوامر وكلاماته شعارات وكتاباته قوت فكري يُعقد عليه جلسات ومؤتمرات.  وكان جمهور الثورة البسطاء ووقودها يعتقدون أن الحياة مراتب، وأن للقادة ميزة ومنحة ربانية، هي التفكير والأوامر، فهُم مُلهمون وجاءوا على قدر من العناية الإلهية لإنقاذهم وتحريرهم ولذا فالواجب عليهم السمع والطاعة.

وكانت المرأة تختبئ في ظلال جدران بيت أبيها أو تنعم في ظل ظريف الطويل زوجها، و إذا ما دق غريبٌ الباب تلوي لسانها بإصبعها بالرد لكي لا يطمع الذي في قلبه مرض حين يسمع النبرات الأصلية لصوتها الحنون ، وبعد رحيل أبيها للدار الآخرة، تبصم على صك بيع ارثها مقابل قصعة من الكبسة في  دعوة غذاء أو صحن قطائف من أخيها المغوار حامي الحمى والدار.

ولكن في هذه الألفية الثالثة، وعصر الإنترنت والفيس بوك والتويتر والبلاك بيرى ، والبلاى بوي،  اخترقت المعرفة حصون المُلهَمين وجدران ظرف الطويل، وفرشت الحرير لأحلام الحرائر على سُررٍ لم تراها إلا في عالم فضاء  الويب  اللامحدود ....

كانوا يعتقدون أنها ثورة العلم، وما أدركوا بأن العلم ثورة.

حينما فـُـتحت أبواب المعرفة على مصراعيها في العقدين السابقين للكبار وللصغار ووللأنثى قبل الذكر، صار الفرد يجوب ثقافات ويقرأ ويشاهد حضارات الآخرين وهو يعبث بمؤشر باحث الويب باللابتوب وهو يجلس على سريره بين جدران أربع تفصله عن قائده المُـلهم، ومعلمه العلامة الذي لا يشق له غبار، وعن أبيه الحصن الحصين، و عن ظريف الطويل.... وصار العقل خارج حُجب الواقع والدين والمجتمع والتقاليد  يدور في فراغ ٍ حُر لا يحده حدود.

كثيرون أصبحوا ينتمون ويشاركون في مواقع لا يعرفون من أنشأها ، ويتبادلون الأفكار والرسائل ويستقطبون الناشئين الراغبين في المعرفة و التغيير من كلا الجنسين.

{وَالطُّورِ  وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ }الطور، 

خرجت المنشورات من تحت الإبط والثياب، لتكون في رقاقة ثم  لتنتشر في لمح البصر للملايين الذين صاروا وقودا للثورات العابرة للقارات عبر الإنترنت.

 واحتار المخبرون والعسس في التلصص على أمراء الثائرين أين يسكنون، وهل يعرف بعضهم بعضا وباسم من يهتفون ؟؟!! وشعارات من يرفعون ؟؟!! ومن هو هذا الهكر المُلهَم الذي ألهم الجماهير بالتحرك ؟؟!! ومن يستطيع أن يهاجم غُرف الشات ويلقي القبض على المتآمرين على أمير المؤمنين ؟؟!!

لا شك أن العقدين السابقين كان في ظلال الإنترنت والإعلام الموجه الكثيرون الذين يصلون الليل بالنهار لقلع أفكار وزرع  بديلها، ويهدمون ثقافات ويروجون لغيرها ، ويهدمون الحصون بعد الحصون وتسقط قلاع بعد القلاع ..... حتى وصلوا للحظة الحصاد.

كان من المفترض إعداد الناس إعدادا جيدا لاستقبال أنظمة الاتصالات الحديثة من خلال برامج مخطط لها تستطيع أن تجهز الفرد لاستقبال ثقافات الآخرين بشكل معقول ومحصن، بما يحفظ انتماء الفرد وعقيدته ووطنيته.

ولذلك وجدنا كثير من الانحدار الأخلاقي والاجتماعي لدى الشباب والناشئين وبعضهم وقع في الانحدار والسقوط الأمني  دون أن يكون تحت رقابة من أحد !!

والآن قد يعجب البعض من تحركات شعبية يقودها ويتزعمها مجموعة من شبيبة الانترنت دون أن يعرفوا من هو زعيمهم ومن هو الذي غزاهم وغذاهم وزرع فيهم روح التمرد ومن هو الذي حدد موعد ومكان التظاهر وما هي أهدافه الحقيقية غير حقيقة بطالة شبيبة الانترنت ؟؟!!

الكثير من المتصفحون لمواقع الانترنت والمتابعون لقنوات إعلامية مميزة لا يعرفون أن هناك إعلاما موجها ، وهم غير محصنين لما يتلقون من معلومات وأفكار..

 هذا الإعلام الموجه يزرع فيهم ويغذيهم بقناعات ومصطلحات وسياسات على مدار الساعة وبشكل متكرر يهدف لدمغ المعلومة في رؤوسهم وفي قناعاتهم.

هذه الثورة في عالم الاتصالات وهذه الغزوات الصامتة، بحاجة لثورة تعيد غرز القيم  والمفاهيم في الشبيبة والناشئين وتضرب حصونها حول القيم والمبادئ الوطنية والدينية التي قد يعبث بها الهكر مخترعي الثورات الإنترنتية.

ولذا أقول نحن بحاجة لأن نبني مجتمعنا ونربي أبنائنا على الحرية الفكرية ونطلق لهم العنان في فكرهم دون أن نحجر عليهم، و نزرع الثقة في الفرد بحيث يواجه كل ثقافات الآخرين ويطلع عليها ويناقشها دون أن تحرفه أو تستخدمه لصالحها.

أنا على يقين أنا الزعماء والملهمين الذين بقوا حتى عصر الثورات الإنترنتية لو يستطيعون إلقاء القبض على مخترعي أنظمة الاتصالات الحديثة ما توانوا لحظة في إلقاء القبض عليهم و خصيهم ووضعهم مع الجواري في الحرملك.  هذه هي عقليتهم وفقا للنظام الثوري القديم.!!

ولكن ، ما هكذا تورد الإبل في الألفية الثالثة، في الزمن الذي غزت فيها إسرائيل المفاعل النووي الإيراني بفيروس طُبخ في معامل الهكر العسكريين الجدد، وفي زمن العصف والقصف الفكري الذي غزتنا فيه قناة الجزيرة على مدار أيام وليال نحسات من صفر، وعشرات النشرات الإخبارية التي تكرر فيها نفس الخبر ليرسخ في أعماق الذاكرة العربية والفلسطينية المستهدفة.

في ظل الانفتاح اللامحدود على المعرفة والثقافات المختلفة التي تغزونا ولا نغزوها حتى الآن،  أقول: لم تعد الحصون تفتح بالسيف ولا بالقصف، ولم تعد الحياة عضلات أو مصارعات، إنما كما قال أخونا الكبير صائب عريقات .... الحياة مفاوضات. ولذا يجب أن نعد لها أبنائنا وأجيالنا الحالية والقادمة بثقافة عربية قومية قوية  تمنع  قيام الشرق الأوسط الأمريكي الجديد والمعدل، الذي يفكك القومية العربية ويمسح الصبغة الإسلامية عن المنطقة لتصبح ملائمة لوجود ربيبته اللقيطة إسرائيل.

كل صفر وأنتم بخير