هكذا يكون الرجال وإلا فلا
محمد فاروق الإمام
[email protected]
يروي
الدكتور معروف الدواليبي هذا اللقاء الهام بين الجنرال
ديجول
والملك فيصل بن عبد العزيز قبيل حرب حزيران عام 1967، يقول الدكتور
الدواليبي ( ص 201) من
مذكراته:
أنا لي تجربة مع
الجنرال ديجول من يوم قضية استقلال سورية، فمع أنه كان محاطاً بعناصر يهودية
(صهيونية).. فديجول عندما يعرف الحقيقة يغيــّر مواقفـه، ولذلك كنت حريصاً على لقاء
الملك فيصل بـه، وألححت في ذلك وأصررت..
وكانت هناك رواسب
قديمة لدى الملك فيصل وولي العهد الأمير خالد، وموقف سلبي من ديجول منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية، وتابع الدكتور الدواليبي، إصراره على اللقاء حتى كان الملك فيصل
في زيارة لانجلترا، ومنها إلى بروكسل، وكان ديجول يرى نتيجة لمساعي الدكتور
الدواليبي ألا تكون دعوة رسمية لفيصل، وإنما يخرج من بروكسل، ويمر في طريقه بديجول،
فرفض الملك فيصل وأصر أن تكون دعوة رسمية، لذلك تجاوز الملك فيصل باريس إلى جنيف ثم
عاد منها إلى باريس.
ما نراه من مواقف
القادة العرب في هذه الأيام وهم يتسابقون إلى إرضاء أمريكا أو التمرغ على أعتابها
أو التوسل لعقد لقاء مع مسؤوليها.. هذه المواقف المخزية والمخجلة التي ما عرفها
العرب في تاريخهم القديم والحديث.. فهذه قبائل بكر وتغلب تنتفض على قلب رجل واحد
عندما علمت بقتل كسرى لملك العرب النعمان بن المنذر، وخاضت معركة غير متكافئة مع
الفرس الدولة الأقوى في العالم في حينها وهزمتهم في (ذي قار) وثأروا لملكهم النعمان..
وهذا الخليفة هارون الرشيد يكتب على ظهر كتاب نقفور عظيم الروم الذي يهدده به:
من أمير المؤمنين
هارون الرشيد إلى (كلب) الروم نقفور الجواب ما تراه ما لم تسمعه...
وهذا يوسف بن
تاشفين يرد على رسالة ألفونسو السادس ملك الفرنجة الذي بعث رسالة له يخوفه من جحافل
جيشه قائلاً:
من أمير المسلمين
إلى صعلوك الفرنجة.. وقفت على رسالتك والجواب ما تراه عند اللقاء...
وهذا السلطان عبد
الحميد الثاني يطرد زعيم الصهيونية وايزمن من بلاده ويقول له:
والله لو ملأت لي
خزائن الأرض ذهباً لن أفرط في ذرة تراب من أرض فلسطين...
وهذا الشريف الحسين
بن علي يقول للورنس عندما عرض عليه الموافقة على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين
استشاط غضباً وقال: والله لو قطعتم هذا (مشيراً إلى رأسه) عن هذا (مشيراً إلى جسده)
لن يكون ذلك.. ففلسطين وقف إسلامي لكل المسلمين في العالم...
وفي هذا السياق
لابد لنا من الحديث عن اللقاء الذي تم بين الملك فيصل بن سعود والجنرال ديغول رئيس
الدولة الفرنسية.. وكان اللقاء في اليوم الأول أو الثاني من حزيران عام (1967م)
وكان مع الملك فيصل ولي عهده الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون حيث جلسا مع رئيس
وزرائه السيد جورج بومبيدو، وبدأ الاجتماع بين الرجلين فيصل وديجول ومترجم:
قال ديجول: يتحدث
الناس أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر، وإسرائيل هذه
أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع..
أجاب الملك فيصل:
يا فخامة الرئيس أنا أستغرب كلامك هذا، إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمراً
واقعاً، وكل فرنسا استسلمت إلا (أنت) انسحبت مع الجيش الانجليزي، وبقيت تعمل
لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلبت عليه، فلا أنت رضخت للأمر الواقع، ولا شعبك رضخ،
فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع، والويل يا فخامة الرئيس
للضعيف إذا احتله القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديجول أن الاحتلال إذا
أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً ....
دهـش ديجول من سرعة
البديهة والخلاصة المركزة بهذا الشكل ، فغير لهجته وقال:
يا جلالة الملك
يقول اليهود إن فلسطين وطنهم الأصلي وجدهم الأعلى إسرائيل ولد هناك...
أجاب الملك فيصل:
فخامة الرئيس أنا معجب بك لأنك متدين مؤمن بدينك، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس،
أما قرأت أن اليهود جاءوا من مصر!!؟ غـزاة فاتحيـن...حرقوا المدن وقتلوا الرجال
والنساء والأطفال، فكيف تقول أن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود
مستعمرون، وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة،
فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة فقط!!؟ أنصلح
خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما!!؟ ونحن العرب أمضينا مئتي سنة
في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها ....
قال ديجول : ولكنهم
يقولون أن أباهم ولد فيها !!!...
أجاب الفيصل:
غريب!!! عندك الآن مئة وخمسون سفارة في باريس، وأكثر السفراء يلد لهم أطفال في
باريس، فلو صار هؤلاء الأطفال رؤساء دول وجاءوا يطالبونك بحق الولادة في باريس!!
فمسكينة باريس!! لا أدري لمن ســـتكون!!؟
سكت ديجول، وضرب
الجرس مستدعياً ( بومبيدو ) وكان جالساً مع الأمير سلطان ورشاد فرعون في الخارج،
وقال ديجول: الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السـلاح المصدر لإسرائيل... وكانت
إسرائيل يومها تحارب بأسلحة فرنسية وليست أمريكية....
يقول الدواليبي :
واستقبلنا الملك
فيصل في الظهران عند رجوعه من هذه المقابلة، وفي صباح اليوم التالي ونحن في الظهران
استدعى الملك فيصل رئيس شركة التابلاين الأمريكية، وكنت حاضراً ( الكلام للدواليبي
) وقال له: إن أي نقطة بترول تذهب إلى إسرائيل ستجعلني أقطع البترول عنكم، ولما علم
بعد ذلك أن أمريكا أرسلت مساعدة لإسرائيل قطع عنها البترول، وقامت المظاهرات في
أمريكا، ووقف الناس مصطفين أمام محطات الوقود، وهتف المتظاهرون: نريد البترول ولا
نريد إسرائيل، وهكذا استطاع هذا الرجل (الملك فيصل يرحمه الله) بنتيجة حديثه مع
ديجول، وبموقفه البطولي في قطع النفط أن يقلب الموازين كلها .