وقفات مع الخدمة الإلزامية

وقفات مع الخدمة الإلزامية – 4

د.خالد الأحمد *

الضباط يسرقون طعام الجنود

خدمة العلم نعني بها الخدمـة العسكريـة الإلزاميـة ، المفروضة على كل مواطن سوري ( ذكر ) إذا بلغ الثامنة عشرة من العمر ....

ذكرت في الحلقة الأولى التربية العسكرية ، ومكانتها في المجتمع المسلم ، وعرضت في الحلقة الثانية مادة التربية العسكرية ( الفتوة ) كما درستها في المرحلة الثانوية ، وذلك في دار المعلمين بحمص ( 1962 – 1965 م) ، ولابد من التنوية بأن مادة التربية العسكرية ( الفتوة ) تمهيد للخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا ، ثم تطرقت إلى لمحة تاريخية للخدمة الإلزامية في سوريا وسوف أعرض في هذه الحلقة ومايليها صور معاصرة للخدمة العسكرية الالزامية في النظام الأسدي  ...

1-  طعـام الجيــش :

 كان السوريون يضربون المثل بطعام الجيش ، لكثرته ، وكثير من الشرائح الفقيرة السورية قد لاتشبع اللحم والفواكه والحلويات قبل الخدمة العسكرية ، ومن عادة الريف في الخمسينات وحتى السبعينات أن لايكون اللحم يومياً ، بل أحياناً في المناسبات فقط ، أما اللحم في الجيـش  فكان يومياً على طعـــام الغداء ، ومعه ( الدوسير ) فاكهة أو حلويات ،وقد رأيت ذلك خلال خدمتي ( 1970- 1972) ، مع ملاحظة أن طلاب الضباط يعتنى بهم وبطعامهم أكثر من الآخرين ، ومع ذلك كان الطعام فائضاً عن حاجة المجندين ، ولاتجد جائعاً في القوات المسلحة السورية ... بل كان كثير من طبقة ( ضباط الصف ) يطعمون أسـرهم من طعام الجيش الفائض والكثير ...

وخلال خدمتي كان الضباط يفرزون مرة واحدة خلال الخدمة ، للإشراف على استلام الأرزاق من ( المقاول ) ، لمدة أسبوع – كما أذكر – وكنت أرى الكميات الهائلة ، والنوعيات الراقية ، التي يسلمها المقاول لمطبخ اللواء ، وكيف كان ضابط الصف يتعجرف على المقاول فيرفض استلام البرتقال مثلاً لأنه لا يحقق شروط التعاقد ومنها على أن لايقل حجم حبة البرتقال مثلاً عن كذا حجم معين ، كما كان أحد أقاربي أمين مستودع المواد الغذائية خلال دورة ضابط المدرعات في اللواء السبعين التي ألحقت بها يومذاك ، وكنت أرى في المسـتودع الكميات الهائلة من الأرزاق ، ومنها ( الصنوبر ) و ( اللـوز ) و( الحلويات ) و( السمن العربي ) وغيرها ...

وكان العسكري المجند يتقاضى راتباً في حدود ( 20 – 25) ليرة سورية شهرياً ، تكفيه لمصاريف الجيب ( النثريات ) ، ولم تكن العادة أن تدفع الأسر الريفية أو أسر العمال في المدن لأولادها مصروفاً خلال الخدمة العسكرية ....بل كان ضباط الصف ، والضباط المجندون يصرفون على أسرهم من رواتبهم التي يتقاضونها خلال الخدمة الإلزامية .... وكان الضابط المجند يتسلم راتباً حوالي (300) ليرة سورية ، في أوائل السبعينات ، كانت تكفي أسرة صغيرة ، بل يصرف بعضنا على والديه منها ، وقد يساعد إخوانه ...

أما اليوم خلال النظام الأسدي فقد سمعت هذه الاسطوانة من كثير من المواطنين السوريين تقول : التحق ولدي بالخدمة العسكرية ، ويتطلب مني مائة ألف ليرة سورية على الأقل مصاريف له ، فقلت عجباً لهذه المصاريف !! قال : طعام وشراب ، يقتله الجوع إن لم أدفع لـه ، قلت : وأين طعام الجيـش !!؟ قال : يبيـعه قائد الوحدة ، قبل أن يطبخ ، ثم يفتتح بقالات ، واسـتراحات تبيع ( السـاندوتـش ) يعمل فيها ( مجندون ) ، ويمولها قائد الوحدة نفسـه ، ويستلم أرباحها ، وهكذا صار الضابط قائد الوحدة ( كالمنشار ) يأكل في الخشب ذهاباً وإياباً ، يبيـع أرزاق الوحـدة ، ويضع ثمنها في جيبـه ، ثم يبيـع الطعام للمجندين ويكسب المال لصالح جيبـه الخاص ... ونقلت هذه المعلومة لي من القادمين من سورياعدة مرات ، وتقاطعت حتى صارت حقيقة قائمة ....  

الصيدلي أو الطبيب أو المهندس وأمثالهم :

هذه الفئة كانت تسمى يوم أن خدمنا العلم في بداية السبعينات ( النظام الحديث ) ، وكانت تقضي فترة دورة الأغرار ( أربعة شهور ) تتدرب على النظام المنضم والأسلحة الفردية ، ثم يفرز كل منهم إلى الإدارة المناسبة له ، فالطبيب إلى الوحدات الطبية ، والمهندس إلى وحدات الهندسة للاستفادة منهم في الجيش والقوات المسلحة ...

أما اليوم فالطبيب والمهندس والصيدلي وأمثالهم من أصحاب الأعمال بعد دورة الأغرار وربما قبل أن تنتهي ، يتفاهم مع قائد وحدته ، على أن يعود إلى عيادته أو صيدليته ، أو مكتبه الهندسي ، وآخر الشهر يذهب يوماً واحداً إلى الوحدة العسكرية التي قيد اسـمه فيها ، فيستلم راتبه العسكري ليؤكد حضوره ومواظبته على الوحدة ، كما يسلم قائد الوحدة نصف دخله من عيادته على الأقل ، أو ثلاثة أرباعه ، - حسب الاتفاق -، ثم يعود إلى العمل في مهنتـه في الحياة المدنية وشاع هذا الأسلوب ، وانتشر بين الضباط ، وصار من البدهي أن قائد السرية عنده ( 5 ـ 10 ) عساكر مجندين يعملون لحسابه ويدفعون رواتبهم لـه ، أما قائد الكتيبة فيصل عددهم إلى ( 20 ـ 30 ) عسكرياً يدفعون له ، وقائد اللواء لـه (100) مجند عسكري يعملون لحسابه في الحياة المدنيـة .

وهناك صور كثيرة من هذه ( الســخرة ) سنمر عليها في الوقفات القادمة إن شاء الله تعالى .

               

    * كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية