ورطة جنرالات إسرائيل

نبيل عودة

كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة

[email protected]

جبهة عربية ضد الفلسطينيين. هذا هو التفسير الوحيد لما ادلى به الأمير السعودي تركي الفيصل، قائد المخابرات السعودية السابق. اضافة لذلك الموقف المصري ، الذي يصب لصالح العدوان الاسرائيلي، الصمت العربي المدوي ، اذا صح التعبير ،   بذلك بدأت تتشكل في العالم العربي جبهة معادية للفلسطينيين ومؤيدة لما ترتكبه اسرائيل من مجازر ضدهم. قال الأمير تركي بلا خجل: ان حماس مسؤولة عن الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل في قطاع غزة . على الأقل كان المسؤولون العرب سابقا يستعملون اوراق التين للتغطية على عوراتهم السياسية، وما أكثرها... اليوم بعد ان تحول الربيع العربي الى نقيضه لم يعد القادة العرب بحاجة لتغطية عوراتهم الخلقية والسياسية.

الآن تظهر الحقائق بوضوح ، النكبة الفلسطينية أيضا كانت حسب تفسيرات امراء وزعماء العرب نتاج مسؤولية الفلسطينيين، لذلك جاءت الجيوش العربية لتسلم فلسطين وتساهم في تشريد "المعتدين الفلسطينيين". حسب ما هو معروف، كانت هناك خطة صهيونية  من القرن التاسع عشر تعرف بحرف (N)  الضلع الأول هو الساحل الفلسطيني الضلع الأوسط يشير الى منطقة السهول الخصبة داخل فلسطين ، والضلع الثالث يشير الى المنطقة الجبلية الغنية بينابيع المياه. المستهجن ان قرار التقسيم كان تماما حسب حرف ( N) ، اي حسب المشروع الصهيوني. "الجيوش العربية" لم تدخل الى المناطق التي كانت ضمن حصة الدولة اليهودية ، اكتفوا باستعراضات عسكرية بلا فعل مقرر واشتهرت في فلسطين جملة قائد الجيش العراقي "ماكو اوامر"، حين كان يرد على مطالب المقاتلين الفلسطينيين بالدعم او المساعدة العسكرية وللتاريخ الجيش العراقي لم يدخل بأي معركة جدية، مجرد اطلاق عدة قذائف والانسحاب!! وهناك مذكرات بدأت تظهر لكتاب فلسطينيين من داخل اسرائيل، تكشف هذه الحقائق.

 

 كان واضحا ان المشروع الصهيوني جاء ليضمن استمرار انظمة العمالة، ليوفر الحماية لدول اقامها الاستعمار، هنا لا بد من التأكيد على دور اتفاقية "سايكس- بيكو" ، وهي اتفاقية سرية وقعت في ايار 1916  بين بريطانيا و فرنسا  وروسيا القيصرية. في روسيا قامت الثورة البلشفية  وخرجت عمليا روسيا من اطار الاتفاق، تقاسمت الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا حسب "سايكس بيكو"، الاراضي العربية الواقعة بين ايران والبحر الأبيض المتوسط.  حصة فرنسا كانت منطقه سوريا، حصة بريطانيا شملت العراق الجنوبي وحيفا وعكا. بالنسبة للأراضي  بين المنطقتين اتفق  على ان تكون منطقة لدولة عربية مقبلة، بحيث يخضع القسم الشمالي منها لفرنسا والقسم الجنوبي لبريطانيا. واتفق ان تقام لفلسطين ادارة دولية، عمليا اقيمت القاعدة المادية لنشوء جسم جغرافي سياسي يضمن تقسيم العالم العربي ويحافظ على استقراره ( اقرأ استمرار تخلفه وخضوع أنظمته لإملاءات استعمارية)، لذا ليس بالصدفة ان قال احد قادة الحركة الصهيونية ان "الصهيونية هي هدية اوروبا للشعب اليهودي". والهدايا لا تقدم مجانا من المستعمرين!!

 

السعودية لم تتنصل رسميا من تصريحات أميرها تركي الفيصل. ما اراه ان المشروع الصهيوني أنجز مهمته كاملة، العالم العربي اصبح اسما بلا مضمون. ان فشل الربيع العربي ، كان لغياب قوى اجتماعية سياسية منظمة، نتيجة القمع الذي واجهته منظمات المجتمع المدني في العهود الساقطة، لكن يبدو ان الربيع يقودنا الى واقع أكثر سوءا... حتى تستعيد مجتمعاتنا المدنية قدراتها على اعادة ضج الدم الجديد بعروقها.

هل حقا توجد رؤية استراتيجية عربية للمستقبل ؟ من تفيد مثل هذه الخطة اذا وجدت؟ مصر تبتعد منذ السادات عن أي فعل سياسي قومي، اي ان قلب العالم العربي (مصر) لم تعد تشغله اي قضية تتعلق باحتلال اراض عربية بعد ان "استعاد" حصته. السعودية بما تملكه من قدرات هي لضمان بقاء عرش أل سعود، من هنا طرح مشروع ان يتحول  الجيش المصري وقوى عسكرية عربية اخرى الى قوة عسكرية ضامنة لأمن الخليج العربي والسعودية على راسها.

اي لا ربيع عربي ولا شتاء عربي، بل "محيط متجمد عربي" يضمن استمرار وجود العالم العربي خارج التاريخ الانساني.

قد يبدو استرسالي بعيدا عما يجري في قطاع غزة اليوم. "تهمة" حماس الكبرى انها نجحت ببناء جيش منظم، انتبهوا لما يقوله الجنرال الاسرائيلي غازيت: "يجب التعاطي مع حماس كدولة تمكنّت من بناء جيش منظم بشكل ممتاز ولديها جيش يملك هيئة أركان حرب ممتازة وقيادة عسكريّة استعدّت للحرب بشكلٍ مُذهلٍ".

نحن في فترة تفرض علينا اعادة تنظيم تفكيرنا، الجيوش العربية الرسمية فشلت حتى اليوم في انجاز ما انجزته حماس من ادارة لحرب في مواجهة اضخم آلة عسكرية واقواها في الشرق الأوسط وعالميا أيضا، رغم الحصار المفروض عليها  ورغم قلة الوسائل القتالية المتطورة لديها.

 قبلها حزب الله فاجا العالم العربي بأسلوب مواجهة عسكرية لا سابق لها  في  الجيوش العربية . للأسف غرق اليوم في حرب أهلية مدمرة للدولة في سوريا.

اذن هل بقيت امال  ملموسة ،على المدى البعيد ، لمستقبل عربي مختلف ؟

 ما الذي يمنع ممثل العائلة المالكة السعودية من تحميل حماس مسؤولية الجرائم التي ترتكبها اسرائيل؟  هل من حساب للجماهير العربية التي أغرقتها انظمتها بالفقر المدقع والاستبداد السلطوي والديني؟

 من هنا يظهر القادة العرب بعوراتهم مكشوفة... مصر تستنكر استعمال اسرائيل المفرط للقوة (ما شاء الله).. واعلامها يتهم حماس بالمسؤولية عن سقوط الضحايا الفلسطينيين. السعودية تلحق ربعها على لسان تركي الفيصل.. اسرائيل تعلن بوضوح ان السيسي هو أفضل ضمانة لأمنها، وان ما يعنيه مصلحة مصر. هل مصلحة مصر ان تغيب عن الواقع العربي ؟ ان تسلم مفاتيح العالم العربي لاحدى القوى المتصارعة على منطقة النفوذ في العالم العربي: اسرائيل ، تركيا أوايران؟ 

لكن المفاجأة ان حماس لم تهرب ... هذا أمر غير مفهوم بعد لا للعرب اولا ولا لإسرائيل ثانيا... ويبدو ان الأمريكان ايضا تفاجأوا ..لذلك تتلعثم سياساتهم في الشرق الأوسط.  اعطوا الضوء الأخضر لإسرائيل للدخول الى غزة.. لكنهم طالبوا بعد تورط اسرائيل بخسائر غير محسوبة ان يوقف القتال فورا. الضغط الأمريكي وصل لدرجة تبادل التهم بين اسرائيل وحليفتها الدولية الوحيدة  لدرجة ان كيري اتهم نتنياهو "بالعناد وعدم الفهم".. تطور القتال وتحوله الى مجازر ضد المدنيين، اربك اسرائيل واربك الغرب المؤيد لها .. لذا  هناك تراجع  امام الضغوط الأمريكية والغربية، ربما أيضا  خوفا من القطيعة مع الولايات المتحدة والغرب ، حتى وزير خارجية بريطانيا حذر اسرائيل من انها "تفقد دعم الغرب لها".. اليوم نتنياهو يتوجه الى الحليف الأمريكي طالبا تدخله للوصول الى اتفاق وقف اطلاق نار.

 ما الذي تغير في ساحة المواجهة وفرض هذا التغيير على موقف اسرائيل بالأساس ؟

لم نتوهم  بقوة تنظيم صغير لا يملك الا ادوات تكاد تكون بدائية امام التكنولوجيا العسكرية الاسرائيلية، بمواجهة اسلحة طيران وبحرية وبرية حسنة التدريب والجاهزية القتالية،  تملك اسرائيل القوة لمحو غزة عن الخارطة الجغرافية، السؤال ما الثمن الذي ستدفعه؟ من هنا المفاجأة الاستراتيجية التي اجترحتها حماس، من هنا سقطت حسابات جنرالات اسرائيل وقادتها السياسيين. الذي يستمع اليوم لتصريحاتهم لا يفهم ما هو هدفهم الأبعد.. الطائرات تقصف المنازل والجوامع والمستشفيات والمدارس... يتحدثون عن قصفهم لمئات الأهداف  العسكرية، هل صارت شبكات المجاري في غزة اهدافا عسكرية؟؟ هل صار اطفال غزة ونسائها وشيوخها ومختلف المواطنين المسالمين اهدافا عسكرية؟

ليس صعبا على اسرائيل احتلال غزة، السؤال أي انتصار سيكون .. التاريخ العسكري يعلمنا ان بعض الانتصارات اوصلت المنتصرين الى حضيض أبشع من الهزائم.

المراقب لتطور الأحداث في حرب غزة يرى بوضوح ان جنرالات اسرائيل يواجهون أكبر فشل في تاريخهم العسكري.. لذا ينتقمون بدون تفكير من المدنيين الفلسطينيين .. وباتوا بحاجة ماسة لحبل انقاذ سياسي من حليفهم الأمريكي!!

آخر ما نشرته وسائل الاعلام الاسرائيلية يكشف عن بداية خلافات حادة وتوتر شديد بين القادة العسكريين للجيش والقادة السياسيين  وتبادل الاتهامات بينهم  حول القصور (الفشل) فى انجاز المهام العسكرية.

ظاهرة "حرب الجنرالات" والصدام بين الجهاز العسكري  والقادة السياسيين  ليست جديدة في اسرائيل، شهدناها بعد فشل الحملات العسكرية وأبرزها حرب اكتوبر 1973، الحرب اللبنانية الأولى 1982 والحرب ضد حزب الله 2006 في لبنان... ويبدو اننا امام مشهد جديد قريبا!!