هذا هو القائد الشهيد الشيخ عز الدين القسام 2

الفصل السادس عشر

القسام في الشعر العربي

*لقد قيل في رثاء الشيخ القسام الكثير من القصائد والأشعار، ومن أشهر ما قيل فيه ما قاله الشاعر الكبير فؤاد الخطيب:

أولت   عِمامتُكَ   العمائم   كلها              شرفا   تقصر عندهُ   التيجان

إن الزعامة و الطريق مخوفة               غير الزعامة والطريقُ أمان

ما كنت أحسب قبل شخصك أنه               في بردتيه   يضمها   إنسان

يا رهط عز ا لدين حسبك نعمة               في الخلد لا عنت ولا أحزان

شهداءُ بدر ، و البقيعِ   تهللت               فرحا وهش مرحبا رضوان

*وقال الشاعر نديم الملاح ردًّا على بيان حكومة الانتداب الذي أعلن "القضاء على عصابة من الأشقياء -قُطَّاع الطُّرُق في أحراش يعبد"، وهي للشاعر نديم الملاح، وهي بعنوان: "سموك زورا":

ما كان ذودك عن بلادك عارا               بل كان مجدًا باذِخًا ، وفَخارا

سمّوك زورًا بالشقي ولم تكن               إلا بهم ، أشقى البرية   دارا

قتلوا الفضيلة و الإباء بقتلهم               لك َ واستذلوا قومَكَ الأحرارا

أنكرت َ باطلهم وبغيَ نفوسهم             فاسترسلوا في كيدك استكبارا

كثروا عليكَ   بمأزقٍ   لو أنه             ريعَ الخميسُ به لطارَ فرارا

قثبتَّ بين رصاصهم مُستبسلًا             يَتِرون َ منك َ و تدرك الأوتارا

ورأيت كأس الموت أطيب موردا    

                                              من عيشة ملئت أذى وصغارا

يا شيخ عز الدين: رزؤك إنه             أذكى شُعورَ نفوسنا ، و أثارا

علّمتنا كيف الذيادُ عــن الحمى             إن راعه ُ - باغٍ عليه - و جارا

خلصت إلى الديان روحَك حرة             فحباكَ مِنهُ في الجِنان جِوارا

حُمِّلتَ فيهم مِثلَ أجرِ مُجاهدٍ             و تحمّلوا في ظلمك الأوزارا

*وقال الشاعر صادق عرنوس:

من شاء   فليأخذ   عن القسامِ           أنموذج   الجندي   في الإسلامِ

و ليتّخذْه   إذا   أراد   تخلصا           -من ذُله المَوروث- خَيرَ إمام

ترك الكلام و رَصفه   لِهُواته             وبضاعة الضعفاء مَحضُ كلام

أوَما ترى زعماءنا قد أتخَموا الـ           آذانَ     قولًا ؛     أيَّمَا   إتخام

كنا   نظنُّ   حقيقة ً ما   حَبَّرُوا             فإذا   به   وهمٌ     من الأوهام

ضاع المُراقُ من المداد لرسمه           عبثًا ، و ما أفنوا   من الأقلام

ملؤوا الفجاجَ شقاشقًا جوفاءَ لم             تنجح ، سوى في فرقة وخصام

تركوا العدوَّ يَعيثُ في أوطانهم             و تشاغلوا   بتراشق ،   و ترامِ

يا ليت َ عز الدين يبعث بينهم           و يكون - فيهم- درسُه إلزامي

حتى   يبين لهم   سبيلُ قيادةٍ             خرجوا بها عن واجب الأحكام

ويُداويَ الجرح َ الذي أضناهمو           جُرحَ الخُمول ، بمرهم الإقدام

هذا   الفدائي   الجواد   بنفسه             من غير ما نزعٍ ، ولا إحجام

ما كنتُ أعرفه ولا أدري به             حتى تضوّعَ   طِيبُه في الشام

وكذلك النفسُ الكبيرة ُ إن نوت           عملا ،   أسَرَّتْهُ     لحين   تمام

لم يُلهه عرض الحياة واحلًا             كلا ، و لم يشغف بنيل وسام

ما زال يعمل   ساترًا مجهوده            كالبدر ، مُستترًا   وراء غمام

حتى بدا   من عصبة   بدريّةٍ             فتكشّفت   عن مؤثرين   كرام

ما بالُ طاغوت البلاد أصابه             لظهورهم ضربٌ من البرسام

أوَ لم تصفهم - للمـلا - أبواقه           بعصابةٍ ليســــــت   بذات مقام

فلمن تقاطرتِ الجيوش   كأنها           ظفرت بجيش - للعدوِّ-   لهام؟

إنْ يَقْضِ عِزُّ الدين أو أصحابه             فالسرّ   ليس   تكلّم   الأجسام

هيهاتَ تنزع أو تهي أثارها             مهما استعان   بمدفع ، و حسامِ

قل للشهيد و صحبه : أدَّيتمُو             حَقَّ الرسالة ، فاذهبوا   بسلام

*وها هو الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، رحمه الله، يقول في قصيدة له بتاريخ/2/11/1946م:

حَفِيَ اللسان و جفّتِ   الأقلامُ             و الحال ُ حالٌ ، و الكلام ُ كلام

إني رأيت ُ الحقَّ فصلُ خطابه            يتلوه فينا الفيصلُ الصمصام

اصهرْ بنارك غُلَّ عنقك َ ينصهرْ           وعلى الجماجم ِ تُركز ُ الأعلام

وأقم على الأشلاء صرحك َ إنما           من فوقها   تُبنى العُلا و تُقام

وخذ الحقوقَ إليكَ لا تستجدها           إن الأولى سلبوا الحقوق لئام

هذي طريقك َ للحياة فلا تَزغْ             قد سارها من قبلك (القسام)

ذاك الذي هجر الكلام   لفتكةٍ             بِكرٍ، و هل فكَّ القُيودَ كلام

*وقال الشاعر المفكر الإسلامي حسن الباش سنة 1992م ، في ندوة عقدت في "جبلة" مسقط رأس القسام:

بيني و بينكَ   أســرارٌ ، و شــطآن ُ       حيفا و جبلة و القسام   إخوان

بيني   و بينكَ   عزٌّ جئت   مــولده         من كرملٍ مجدُه قبرٌ و إنسانُ

حيفا التي ما روت ْ حاراتها قصصا         إلا و كان َ له من مجدها شان

يا أمتي في رُبا الإسراء ملحـــمة ٌ       فرسانها في صدى القسام ألحان

ذاك الذي سطَّر التاريخ من دمه         و صاغ   مِنبرَه عقلٌ و إيمان ُ

*وقال الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) من قصيدة له، يطلب فيها من العرب أن يوقفوا محاكم التفتيش الجديدة في فلسطين، ويناديهم بأعلى صوته لكي يسيروا على طريق الشهادة الذي سار عليه القسام، فذر أنوار الشهادة على الحياة، وعلم الدنيا أسرار الخلود:

إيهٍ   رجـالَ العُرب! لا                   كنتم رجالًا في الوجود

هل تشهدون محاكم التـ                   ـفتيش في العصر الجديد

قوموا اسمعوا من كلِّ                   ناحيةٍ يصيحُ دمُ الشهيد

قوموا انظروا القسام يشـ                   ـرق ُ نوره فوق الصرود

يوحي إلى الدنيا و من                   فيها     بأسرار   الخلود

***********

*أما شاعر حركة القسام الزجال الشعبي نوح إبراهيم (1913- 1938م)، الذي ارتبط بالشيخ عز الدين القسام وعصبته، فأطلق عليه لقب (تلميذ القسام)، وعندما استشهد القسام، رثاه بزجلية طويلة، لحنها وغناها وسجلها بصوته على أسطوانة، رددتها فلسطين كلها آنذاك، وهي بالعامية بعنوان "عز الدين يا خسارتك"، يقول فيها:

عز الدين  يا خسارتك           رحت     فدا   لأمتك

مين   بينكر   شهامتك           يا   شهيد       فلسطين

عز الدين   يا مرحوم           موتك   درس   للعموم

آه !   لو   كنت   تدوم           يا رئيس   المجاهدين

*********

لقد ضحى الشهيد بالمال والنفس والنفيس من أجل إعلاء كلمة الله، ودفاعا عن حرية الأوطان:

ضحيت بروحك ومالك         لأجل استقلال   بلادك

العدو     لما     جالك         و العدا   منك   هابت

فلسطين   منين   شافت         مثل غيرة   عز الدين

أسست   عصبة للجهاد         حتى   تحرّر     البلاد

غايتها نصر أو استشهاد         وجمعت رجال غيورين

جمعت رجال من الملاح         من مالك شريت سلاح

و قلت:   هيا     للكفاح         لنصر الوطن   و الدين

*********

ويصور مرارة الخيانة التي ذهبت بدم الشهيد، ووقعت النكبة، وسلمت فلسطين لليهود بالمجان:

جمّعت   نخبة   رجال       و كنت     معقد الآمال

لكن   الغدر   يا خال         لعب   دوره   بالتمكين

لعبت   الخيانة   لعبة         و قامت   وقعت النكبة

و سال   الدم   للركبة       و ما كنت تسلّم و تلين

كنت تصيح الله   أكبر       كالأسد         الغضنفر

           لكن     حكم     المقدر       مشيئة   ربّ   العالمين

*********

ما أحلى الموت والجهاد       و لا عيشة   الاستعباد

جاوبوا   رجال الأمجاد         نموت و تحيا فلسطين

الجسم مات والمبدأ حي         و الدما ما تصير مي

معاهـد   الله    يا   خي         نموت موتة عز الدين

واقرأوا الفاتحة يا إخوان       عا روح شهيد الأوطان

و سجل عندك يا زمان       كل واحد منا عز الدين

*********

الفصل السابع عشر

المجاهد الشيخ عز الدين القسام

(مسيرة ملهمة لأبطال المقاومة الفلسطينية،

ولأبناء الأمة الإسلامية والعالَم)

د. علي الصلابي

تعتبر شخصية الشيخ المجاهد عزّ الدين القسّام (رحمه الله) إحدى الشخصيات البارزة في مسيرة المقاومة والجهاد ضد الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والاستيطان الصهيوني “المبكّر” في العشرينيات والثلاثينيات مـن القرن العشرين، وهو الذي تمكن بفضل الله تعالى، وبما امتلك من كاريزما دعويةٍ، وخبرةٍ ومراسٍ، ودوره في التعبئة، والتوعية، والتجنيد، والتنظيم، من قيادة ثوار فلسطين ضد الإنجليز والمستوطنين اليهود في عام 1935م، وأذاقهم الويلات والمرارة لأيام وشهور طويلة.

أصبح المجاهد عز الدين القسّام رمزاً من رموز الكفاح والجهاد ضد الاستعمار في فلسطين، ونموذجاً يُحْتَذَى به في حرب المقاومة الفلسطينية ضد العدو الاستيطاني “الصهيوني”، في التزامه بمنهج الله، وإيمانه، وثباته، وقوة عزيمته في طريق الجهاد والنصر. ولم تكن حياة ذلك الداعية والمجاهد الشامي أكثر من سجل ممتد من المقاومة، ونهرٌ من المطاردات، وأحكام الإعدام، فقد كان عدواً مشتركاً لدول أوروبا المستعمِرة، فحارب المستعمرين الفرنسيين في موطنه الأصلي “سورية”. كما جمع السلاح، وألَّف الكتائب، وحصّل التبرعات المالية، لدعم المجاهدين في ليبيا ضد المحتل الإيطالي، وكانت نهاية حياته حرباً مفتوحة ضد الاحتلال الإنجليزي والصهاينة في فلسطين. وقد نال في حياته التي لم تطل كثيراً أحكاماً متعددة بالإعدام، لكنها كانت أوسمة في سجلات ذكراه، وصحائف مشرقة في حقائب أيامه.

إن البحث في مسيرة المجاهدين ورجال الكفاح والجهاد الوطني، أمثال الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله) لا تنحصر في كونها مراجعةً تاريخيةً لتجربة شخص، بل هي تتبع لمسيرة هذه الأمة العظيمة، وجهاد أبنائها، وربط ماضيها بواقعها الحالي؛ لاستيعاب وفهم سنن الله وأقداره الماضية في التدافع، والابتلاء، والاستخلاف، والتمكين، والتغيير الحضاري.

1- عز الدين القسّام -رحمه الله- مولده ونشأته:

ولد الشيخ محمد عز الدين القسّام في مدينة جبلة السورية، وهي إحدى عرائس الشام القريبة من البحر الأبيض المتوسط، وكبرى المدن التابعة لمدينة اللاذقية السورية، وكان مولده عام 1300ه/ 1882م. وينتسب الشيخ عز الدين القسام لأسرة فقيرة الحال، ومشهورة بالعلم والورع. وكان والده الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المهتمين بالتصوف وعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها. وقد تزوج الوالد من امرأتين؛ الأولى أمه حليمة، وأنجب منها (فخر الدين، وعز الدين، ونبيهة)، والثانية آمنة جلول وأنجب منها (أحمد، مصطفى، كامل وشريف). (وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م(.  

فكان القسّام ابنًا لرجلٍ داعيةٍ، عاش من أجل القرآن، وتحلى ببدائع قيم الدين الإسلامي، وأخذ بالسنام العالي من الاعتزاز بالإسلام، فأطلق على ابنيه اسمي عز الدين وفخر الدين، وكأنه يُهيئهما لأن يظل رنين الاسمين صادحًا في آذانهما في أسرة مشهورة بالعلم والدعوة والتعليم (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023م).

2- ملامح من المسيرة العِلمية والمِهنية للشيخ عز الدين القسّام:

أمضى الشيخ عز الدين القسام طفولته في جبلة، وتعلم القراءة والكتابة والحساب في كتاتيبها، ودرَّسه والده العلوم الشرعية، وكان واحدًا من التلامذة الذين تردّدوا على زاوية الإمام الغزالي (رحمه الله)، وفيها درسَ اللغة والتفسير والحديث والفقه (سارة سعد، الشيخ القسام؛ القصة الكاملة، 2022).

ففي جبلة، تلقى القسّام جزءًا من معارفه الإسلامية واللغوية، وتضلع منها في فتوته، قبل أن ينتقل عامه الرابع عشر مع أخيه فخر الدين إلى الأزهر الشريف لدراسة العلوم الشرعية، وكانت القاهرة يومها سفينة ثقافة تمخر عباب بحر لجّي من الأزمات والمحن التي يعيشها العالم الإسلامي، وليس من أقلها الاحتلال الإنجليزي الذي غرس أظافيره بعمق في وجه أرض الكنانة البهيّ. وفي الأزهر، درس القسّام معارف إسلامية واسعة، وتأثر بكبار مشايخ وعلماء ذلك العصر من أمثال الشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وبالزعماء المناضلين من أمثال: مصطفى كامل، وسعد زغلول، وغيرهم من الأصوات النضالية التي كانت تدق بعنف فكري وسياسي عميق جدار الصمت والجهل والهزيمة. وعاد بعد سنوات يحمل الشهادة الأهلية إلى سورية، وقد تركت التجربة المصرية في نفسه أثرًا كبيراً في حياته العِلمية والعَملية (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، 10/10/2023م).

عاد الشيخ القسام إلى جبلة فقيهًا مُتبحرًا متمكنًا من العلوم والمعارف التي حازها، مستخدمًا إياها لتطبيقها ولإحياء المساواة بين الناس، ولتوزيع الأراضي على الفلاحين المستضعفين المُستغلين من طرف الإقطاعيين، فقد لاحظ الظلم الواقع على الفلّاح الذي ينال جزءاً يسيراً من عمله المتعب، لذا وقف في وجه الإقطاعيين داعياً إلى إعادة الحقوق للفلاحين، ومساواتهم مع غيرهم لكونهم لا يتمايزون عنهم إلا بالتقوى.

وزار القسّام الأهالي، وراح يقنعهم بإرسال أولادهم لتعليمهم القراءة والكتابة، وافتتح مدرسة في جبلة عام 1912م، كما أقام حلقات المساجد، يُعلّم الناس أصول الحديث والفقه. واغتاظ الإقطاعيون من القسام وأفعاله، فبدؤوا بالتحريض عليه، وسعوا إلى التخلص منه، فتآمروا على نفيه إلى إزمير، لكنه كان يستعد لرحلته إلى عاصمة الدولة العثمانية لمتابعة علومه، لذلك استبَق مؤامرتهم برحلته إلى البلاد التركية حيث وجد الجهل منتشراً والأميّة مُتفشية، فراح يخطب في الناس لتوعيتهم بسوء أحوالهم، لكن خُطَبَه لم تلق آذاناً صاغية، فهو لا يُجيد التركية والسامعون لا يفهمون العربية التي يتكلم بها، فقرر العودة إلى جبلة، ليتابع فيها مسيرة تعليم الصغار والكبار حتى يخَلص مدينته من الجهل والاستبداد (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، 10/10/2023م).

وفي ما بعد، هاجر إلى فلسطين عام 1920م، وهناك عمل مدرسًا في مدرسة الإناث الإسلامية، وفي مدرسة البرج الإسلامية للطلاب، وهما مدرستان تتبعان الجمعية الإسلامية في حيفا بفلسطين. وكان يَرعى طلابه علمياً، ويوجههم لبناء مستقبلهم، بإرشادهم لما يوافق قدراتهم من مهنٍ وأعمال.

كما تولى الشيخ القسّام الإمامة والخطابة والتدريس بمسجد الاستقلال في حيفا، والذي أصبح منارة لبث العلم والوعي في حيفا وما حولها، وكانت خطبه ودروسه تتناول كافة شؤون الدين والدنيا، وبث فيها ضرورة العلم والعمل والجهاد حتى يحافظ المسلم على إيمانه وحياته وحريته، من سطوة المحتلين الإنجليز، والمستوطنين اليهود (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

3- الشيخ عز الدين القسام وتجربته الجهادية خارج فلسطين:

بدأ الشيخ عز الدين القسّام بتأسيس، وتحريك ثقافة التطوع، وجهز أول فيلق من المتطوعين الساعين إلى الجهاد في ليبيا حين كانت ترزح تحت أبشع الفظاعات التي مارسها الإيطاليون بعنف غير مسبوق ضد كتائب المقاومة، حيث جهز كتيبة من 250 متطوعاً في الساحل السوري، وقد كانت تلك الكتيبة أول نواة للكتائب شبه العسكرية التي سيواصل القسام لاحقاً تشكيلها في مراحل ومحطات متعددة. ونسق مع السلطات العثمانية لنقل المتطوعين إلى إسكندرونة ثم بالباخرة إلى ليبيا، ولكن هذه الباخرة لم تصل نتيجة تفاهمات بين العثمانيين والإيطاليين، فقفل مع المتطوعين عائداً إلى مدينته (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023.(

ومع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، تطوّع للخدمة في الجيش التركي، وأُرسل إلى معسكر جنوب دمشق، حيث كان يعمل في شعبة التجنيد في جبلة بعد عودته من مصر، كما أنه استجاب لدعوة السلطان العثماني للجهاد، وراح يستحث المقاتلين على محاربة أعداء المسلمين، حتى عاد إلى مدينته مُتفرغاً للعلم والوعظ.

وبعد دخول الفرنسيين إلى الساحل السوري عام 1918، بدأ القسّام بتنظيم المعسكرات، وتطويع الشباب لقتالهم، مُعتمدا ًفي ذلك على التعبئة المعنوية، وبثّ روح الجهاد لمقاومة المستعمر، موقِناً أن القوة الإيمانية أمضى سلاح أمام المستعمر. كما اتصل بالشيخ صالح العلي الذي كان يُحارب الفرنسيين في جبال طرطوس الساحلية، لتنسيق الجهود وتشتيت هجمات المستعمر. وحين عَلِمَ الفرنسيون بأمر القسّام وجماعته، بدؤوا بملاحقتهم، فانطلقوا إلى الجبال يحتَمون بها مُلتجئين إلى منطقة الحفّة في جبل صهيون، فكانوا يغِيرون منها على معسكرات الفرنسيين حتى آلمتهم ضربات الثوار، فأرسلوا وفدًا يفاوض القسام بتعيينه قاضيًا شرعيًّا، لكنه رفض ذلك مجيبًا الوفد: “لن أقعد عن القتال حتى ألقى الله شهيدا" (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

فما كان من الفرنسيين إلا أن أصدروا حكماً بإعدامه، ولكن المقاومة بدأت تضعف نتيجة قلة السلاح والعتاد، كما أن الفرنسيين شدّدوا حملاتهم على مناطق القسّام والثوار. (آمال سامي، في ذكرى وفاته ماذا تعرف عن الشيخ السوري عز الدين القسام طالب الأزهر، 20 نوفمبر 2019م). وبعد ذلك تحول القسّام إلى نمط آخر عندما باع منزله، وانتقل من بلدته إلى قرية الحفّة الجبلية، ليكون عوناً وسنداً لعمر البيطار في ثورة جبل صهيون (1919- 1920)، وبعد إخفاق ثورة البيطار، غادر سورية لاجئاً إلى فلسطين التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، 10/10/2023م).

4- الشيخ عز الدين القسام:

مرحلة الإعداد والتنظيم الجهادي في فلسطين

بعد معركة ميسَلون، ودخول الفرنسيين مدينة دمشق عام 1920م، ارتحل القسّام إلى بيروت ثم إلى صيدا ثم عكا التي بقي فيها فترة يُفاضل بينها وبين حيفا مكانًا للإقامة، حتى قرر أن تكون حيفا مكان إقامته، لأنها سوق رائجة للعمل يَؤمها طلاب العمل والتُجار، وله فيها بعض المعارف والعلاقات، كما أنها مركز ثقافي حيوي. في عام 1921م، وفي يوم جمعة دخل القسام وأصحابه إلى جامع الجرينة في حيفا لصلاة المغرب، فتطوع لإلقاء موعظة، مما شدَّ اهتمام الناس الذي كانوا يتساءلون عن هذا الشيخ الذي لم يروه سابقاً، ثم ما لبثوا أن اجتمعوا حوله لما له من وقار وقدرة على الحديث والخطابة (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، 10/10/2023م).

في البداية، عمل الشيخ عز الدين القسّام معلماً وداعية ومأذوناً شرعياً، فكان ينتقل بين القرى والأرياف والمدن، وكان يزاوج بين أعمال كثيرة من التعليم والدعوة الإسلامية، ونشر الوعي السياسي، وحشد الشباب لمعركة التحرير. وقد سلك القسّام في التدريس بحَيفا نفس أسلوبه الذي اعتمده في جبلة، وركز فيه على الروح الجهادية ضد الاستعمار، ورواية قصص القادة العظماء في التاريخ الإسلامي، والحديث عن الإسلام وفضائله، وعن النشاط اليهودي مُنبّهاً فيه لخطر الهجرة اليهودية، وداعياً الناس لئلا يتساهلوا معها. وكما حرّض على التمرد على الإنجليز بشراء الأسلحة، وتحويل الأموال إلى الجهاد، بدلاً من تزيين المساجد، وبناء الفنادق. وقد دعا ذات مرّة إلى تأجيل الحج، وتحويل نفقاته لشراء السلاح، فالجهاد عنده ليس قتالاً فقط، بل هو بذل للنفس والمال معاً، ويكون باللسان والقلب، وهو تربية شاملة كاملة يجب أن يتحلّى بها الفرد (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

ولقد كانت خُطب القسام مُحفزة لأهل فلسطين للتوجه نحو الجهاد، فقد كان ينتقد التقاليد والخرافات في زمانه، فيظهر مُصلحاً ينتمي إلى الإصلاحيين الإسلاميين المعاصرين، مشجعاً على الالتزام بالأخلاق والقيم الروحية الإسلامية. ولم يُمَيَّزُ القسّام بين الاحتلالين الفرنسي والإنجليزي، فالجهاد مبدؤه مواجهة كل المحتلّين من أجل خلاص الأمة من شرورهم.

عرف القسام بجرأته وصراحته في الدعوة إلى قتال الإنجليز، وتحريضه المستمر على تحرير الأرض منهم، والحيلولة دون إقامة الدولة اليهودية، وفي إحدى خطبه الشهيرة بمسجد الاستقلال في حيفا، رفع صوته في آذان المصلين: “إن كنتم مؤمنين فلا يقعدن أحدٌ منكم بلا سلاح وجهاد”. وقد كان لتلك الخطبة وقع عاصف على الاحتلال الإنجليزي، فبادر باعتقال القسام، ثم أفرج عنه فيما بعد مرغماً تحت ضغط الجماهير الغاضبة. واستمر الشيخ القسّام بالعمل على تنوير عقول الناس، وحثهم على المقاومة، وكسر شوكة العدو، وتغذية نفوس الأهالي بحب الجهاد، وتحرير أرضهم من العدو الإنجليز ((آمال سامي، في ذكرى وفاته ماذا تعرف عن الشيخ السوري عز الدين القسام طالب الأزهر، 20 نوفمبر 2019م).

وفي عام 1926م، ترأس الشيخ عز الدين القسّام جمعية الشبان المسلمين، وقد واظب الشيخ خلال وجوده في الجمعية على إعطاء محاضرة دينية مساء كل يوم جمعة، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى، ينصح ويرشد، ويعود إلى مقره. وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، وكانت الفرصة للّقاء بالقرويين، وإعدادهم للدفاع عن أراضيهم (علي محمد، ملهم الثورة الفلسطينية … 87 عاماً على استشهاد الشيخ عز الدين القسّام، مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، 21 نوفمبر 2022م).

وفي عام 1933 كان القسّام مندوباً عن جمعية الشبان المسلمين في حيفا، وعبر محاضراته، أسهم في توعية الشباب، وتخليصهم من الفساد والضياع، وقد تعززت صلته بالريف الفلسطيني، فأسهم في توعية الناس وحثّهم على الانضمام لجماعته، ليشكّل منهم بعد ذلك مجموعة من الحلقات والخلايا ذات السرية الفائقة؛ لأن عيون بريطانيا كانت موجودة في فلسطين مبثوثة فيها، لذا كانت الحيطة والحذر سمتين أساسيتين في هذا التنظيم، فلا يدخل أحد ضمن هذه الحلقة حتى يتأكد القسام منه، لذا لا توجد أرقام دقيقة عنهم، فقد قيل إنهم 200 و400 و800 أو ما يزيد على الألف، بحسب روايات متعددة (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023م).

5- الشيخ عز الدين القسّام وتشكيل العُصبة القسّاميّة "الجِهادي":

تشكلت العصبة القسامية الجهادية كما ذكرنا، بوساطة الشيخ عز الدين القسام عام 1921، أيّ بعد وصوله إلى مدينة حيفا على الفور. وبدأ الشيخ القسام بتطوير هذه الفكرة بعد عودته من زيارة الأزهر الشريف، وبات هدف الشيخ القسّام هو تعزيز روح الجهاد في نفوس الشعب، وبناء القاعدة التي ستساعده على رفع مستوى تنظيمه، واختيار الأعضاء المناسبين للقيادة والعمل الجهادي (وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م).

آمن الشيخ القسام بضرورة بناء التنظيم القوي، فعمل على إنشاء خلايا سرية متخصصة، ولم يكن عدد الخلية يزيد على خمسة أشخاص، ومع توسع الخلايا تعددت مهامها من الدعوة إلى التحريض على الجهاد والتعليم والإصلاح والوعي السياسي والتكوين العسكري والاستخبارات، وكان يسيّر أعماله وتنظيمه بتؤدة وهدوء، ولم يكن مستعجلاً لإطلاق الثورة، رغم مطالبة عدد من رفاقه وأتباعه ببدء النضال الثوري المسلح عام 1929 بعد حادثة مسجد البراق. وفي عام 1932، انضم عز الدين القسام إلى فرع حزب الاستقلال في حيفا، وبدأ بجمع التبرعات من السكان لشراء الأسلحة والمعدات ((أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، 10/10/2023م).

تميزت العصبة القسّامية بتنظيم دقيق، حيث كانت هناك وحدات متخصصة للدعوة إلى الجهاد، والاتصالات السياسية، والتدريب العسكري، والتجسس على الأعداء. وكان ثبات العصبة على الأسلوب المقتبس من السيرة النبوية يمنع أخذ العون المالي من زعيم أو حزب أو دولة لهم مآرب، في وقت كان هناك أطراف كثيرة تكره الإنجليز، ولذلك حصر القسّام موارد العصبة من تبرعات الأعضاء، ومن التبرعات التي يجود بها أهل الخير. ومن إقامة بعض المشروعات الزراعية، وكان للعصبة أراضٍ في أشرفية بيسان، يشرف عليها الشيخ محمد الحنفي، ويروي الشيخ الحنفي أن القسّام أخذ منه خمسمئة جنيه فلسطيني لشراء السلاح، نصفها من مورد المزروعة، ونصفها الثاني من صندوق الجمعية (محمد شراب، ص 376).

وفي عام 1931، بدأت كتائب العصبة القسامية في تنفيذ عمليات فدائية ضد المحتلين، ومنها الهجمات على المستوطنات الصهيونية، والتجمعات العسكرية التي أقاموها في أطراف حيفا، كما شمل نشاطهم إعداد كمائن للدوريات الإنجليزية.  وكان الهدف الرئيسي هو التضييق على المحتل الإنجليزي، ومنع الهجرة اليهودية، ومطاردة العملاء الفلسطينيين الذين يتجسسون لصالح الإنجليز. ومع ذلك، توقفت نشاطات المجموعة بعد فترة قصيرة، بسبب تسريب بعض أسرار التنظيم إلى الإنجليز، واستمرت هذه الحالة حتى أواخر عام 1935م (وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م). 

6- الشيخ عز الدين القسّام ومرحلة الجهاد العلني:

في نوفمبر 1935، اضطر الشيخ عز الدين القسّام لإعلان الجهاد ضد المستعمرين، على الرغم من عدم استكمال استعداداته العسكرية بشكل كامل. فهو اضطر إلى ذلك، بسبب زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين إلى درجة لا يمكن تحملها، وتوسعهم في الأراضي التي استولوا عليها، فقد وصل عدد اليهود إلى فلسطين في عام 1935 إلى نحو 62000 يهودي، وامتلك اليهود في السنة نفسها، مساحة تقدَّر بـ 73000 دونم من الأراضي الفلسطينية. وجراء تشديد السلطات الإنجليزية الرقابة على تحركاته، قرر القسّام الانتقال إلى المناطق الريفية، وبدء حركة الجهاد من هناك.

اضطر الشيخ القسّام إلى الخروج من حيفا إلى قضاء جنين، وبدأ من قرية كفردان أولى فعاليات الثورة، حيث بدأ رسله يتقاطرون إلى القرى شارحين لأهلها ضرورة الثورة وأهدافها، قبل أن يعودوا برفاقٍ من الشباب والرجال والكهول المستعدين لبذل الدماء قبل المال فداء لفلسّطين) (بوعسكر، ثورة عز الدين القسام في فلسطين وصداها على النخبة الإصلاحية الجزائر والمغرب نموذجاً، 2018، ص 37(.

وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1935م، فجر الشيخ عز الدين القسام شرارة الثورة الفلسطينية الأولى، وأصبح الشيخ القسام المطلوب الأول الذي يسعى الإنجليز لتصفيته أو إلقاء القبض عليه، خوفاً من انفجار الوضع من تحت أقدامهم، ولا سيما بعد أن بدأت كتائبه تحصد الانتصارات تلو الأخرى، عبر عمليات عسكرية دقيقة لم تستطع القوات الإنجليزية، تحديد مواعيدها أو مصدرها أو المسؤولين عنها. وكان لا بدّ للقسام أن يختار موقعاً حصيناً يُحارب منه الإنجليز، لذلك جال في القرى والمناطق المحيطة يستكشف أفضلها، فاختار قرية يَعْبَد (إحدى قرى مدينة جنين الفلسطينية) لكثرة وتكاثف أشجارها وأَحراجها، وكونها ذات موقع إستراتيجي يتحكم بالمناطق المحيطة.

وفي جامع الاستقلال، ألقى الشيخ القسّام خطبته الجهادية الأخيرة، يدعو الناس فيها إلى الجهاد، والخروج على الإنجليز الذين راحوا يفتشون عنه، لكن هيهات. فقد كان متأهباً حاملًا بندقيته ماضيًا إلى الجبال مع العديد من رفاقه الذين لا يمكن حصر عددهم، بينما تفرق بعضهم في القرى دعاة للجهاد، واتفقوا على الالتقاء في قرية نورس.

وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1935م، اتجهت كتائب القسّام، نحو خِربة الشيخ زيد قرب يعبَد، لكنهم في الطريق أحسوا بمن يتابعهم فانقسموا فريقين: فريق إلى الشمال، وفريق إلى حيفا والناصرة. وفي الطريق يُخرب هذا الفريق الأخير سكك الحديد، ويقطع أسلاك الهاتف للإنجليز، ثم يذهبون إلى نورس عند الشيخ فرحان السعدي، ويلتقون جميعاً في الوادي الأحمر بين نابلس والغور، وكان الفريق يضم الشيخ عز الدين القسام وحسن الباير وعربي البدوي وأحمد عبد الرحمن جابر ونمر السعدي وعطية المصري وأسعد المفلح ويوسف الزيباوي. وبينما يسير الفريق الثاني نحو مكان اللقاء نفد الماء، كما أن الأحمال كانت ثقيلة من سلاح وعتاد، ولكن أحد المجاهدين أشار إلى نبع ماء قريب، فجلبوا الماء منه ليرتووا، ثم واصلوا السير حتى خربة الشيخ زيد، مع أن التحرك صار صعباً لأن الطريق أصبحت مزروعة بالجواسيس.

يروي عربي البدوي (كان حارساً في طرف حرش يعبَد): صبيحة الأربعاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1935مع طلوع الشمس، بدأ رجال البوليس يهجمون علينا على ظهور الخيل، فبدأوا بالتوزع والاستعداد للمعركة: تسعة رجال في مواجهة البوليس الذين تزايد عددهم حتى وصلوا إلى ما بين 200 و400. فلم تكن المواجهة متكافئة، فانسحب المجاهدون داخل الغابة، وتمترسوا خلف الصخور، وأصيب أحدهم، لكن رجال البوليس (ومنهم عرب) طوقوهم، وشرعوا يقتربون، فأعطى القسام أوامره بالتصويب على رجال الشرطة الإنجليز، وليس على العرب، لأن الإنجليز أوهموا رجال الشرطة العرب أن المعركة ضد قُطّاع طرق، ووضعوهم في المقدمة (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتًا، 10/10/2023م).

كان المجاهدون يتنقلون بين الأشجار، بينما يُحكم الإنجليز الطَّوْق عليهم، وينادون باستسلام رجال المقاومة، لكن القسام كان يجيب بأعلى صوته: لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله، ثم هتف: موتوا شهداء. فردّد الجميع خلفه بصوت واحد: الله أكبر.. الله أكبر. فنهضوا نهضة رجل واحد يطلقون النار، لكن رصاص الإنجليز كان أسبق، حتى أصيب القسامَ فاستشهد مع ثلاثة من رفاقه (رحمهم الله).

7- الشيخ عز الدين القسّام والمُثل التربوية في مسيرته:

كان النهج النبوي في التربية والإعداد الجهادي، هو الذي سار عليه الشيخ عز الدين القسّام قولًا ومنهجًا وسلوكًا، فكان يوجه المقربين منه وأتباع العصبة بـ: علنية الدعوة، وسرية التنظيم. وعلى هذا نشط في زيارة القرى، والاحتكاك بأهلها؛ يُلقي دروسه ومحاضراته في مسجدها ومضافاتها، وفروع جمعية الشبان المسلمين التي يَرأسها، وكانت كلماته تَشق طريقها إلى القلوب، فتأسرها، تُعلمهم الإسلام، وما ينبغي أن يتحلى به المسلم من عزة وكرامة وإباء، وكيف يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وعرضهم ودينهم، ضد الغزاة من اليهود والإنكليز المحتلين، وكان في الوقت نفسه، يَعرف كيف يختار أعوانه ومساعديه ممن يتوسم فيهم الإيمان وما يستتبعه من صدق وإخلاص وتضحية وجهاد في سبيل الله ينظمهم، ويفكر معهم في الطريقة المثلى للتحرك في مناطقهم بسرية وكتمان حتى استطاع أن يبث القيادات، ويوزعهم في كثير من القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، بل وصل تنظيمه هذا إلى مدينة اللاذقية في سورية، لتكون قاعدة التسليح فيها” عمرو الشيخ، الشرارة الأولى، (موقع صيد الفوائد)

فكان عز الدين القسام أمةً وحده في وقته، ومؤسساً لمدرسة في التربية والإعداد والجهاد، جمع الله في شخصه مواهب كثيرة: معلمًا مؤثرًا، وعسكرياً مُدرباً، وسياسياً محنكاً. وكان جل أتباع القسام من العمال والفلاحين والباعة الجوالين، أزال عن أكثرهم الأمية بجهده، وثقفهم في المساجد والبيوت والمضافات، وجعلهم رجالاً أكفاء للمهام الجهادية. وربط القسام بين التعلم والعمل والإنتاج، وراعى الظروف الواقعية لتنفيذ منهجه التربوي، والتعلم ليس قراءة وكتابة فقط، وإنما شمل التوجيه والإرشاد، ومنفعة الناس.

بهذا المنهج التربوي المستمد من سيرة النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ربّى الشيخ عز الدين القسّام أتباعه الفقراء المعدمين ليكونوا قادة ومجاهدين أوفياء، وكان لسان أتباعه حسب ما قال جمال الحسيني (رئيس الحزب العربي الفلسطيني)، وإبراهيم الشنطي (رئيس تحرير جريدة الدفاع): “الإيمان نور، والتضحية لذة، فمن آمن، وعمل نجا، ومن لم يؤمن قعد وهلك…” ((محمد حسن شراب، 2000م، ص 371 - 375).

وكان من أشهر أقوال الشيخ عز الدين القسّام (رحمه الله ("لا تبيعوا اليهود، ولو شبراً واحداً من الأرض، ومهما أثقلوا الثمن؛ إنّ من يبيعهم أو يُقطعهم أرضًا، يُقطعه الله قطعةً من نار جهنم فيها يتلظّى."

8- اغتيال الشيخ عز الدين القسّام ووفاته:

في 15 نوفمبر 1935م، اكتشفت القوات الإنجليزية، مكان وجود الشيخ عز الدين القسام، وحاصرته في قرية البارد، ولكنه استطاع الهرب مع خمسة عشر فردًا من أتباعه إلى قرية الشيخ زايد. وفي 20 نوفمبر من العام ذاته، لحقت القوات الإنجليزية بالقسّام، ومن معه، وطوقتهم، وقطعت الاتصال بينهم، وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنهم رفضوا، واشتبكوا مع القوات الإنجليزية، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، ارتقى خلالها الشيخ عز الدين القسام، وبعض رفاقه، وجُرح وأُسر الباقون. ووجد الإنجليز في حوزة الشيخ عز الدين القسّام مصحفاً، وبندقيةً، ومسدسًا، وأربعة عشر جنيهًا، فاستشهد معتصماً بمصحفه وبندقيته، والتي كانت زاده في الدنيا، وقد كان مقتله حدثاً عظيماً في تاريخ فلسطين والشام، ودوى ذكر استشهاد القسّام في المدن والعواصم الإسلامية والعربية يومها، واعتبر يوم حزن وحداد لكل المجاهدين والأحرار في العالم. أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حياً وميتاً، الجزيرة وثائقية، 10/10/2023م (ساتيك، عز الدين القسام.. قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، 19/11/2019).

نُقل الشيخ القسّام ورفاقه إلى مدينة جنين، واشترطت السلطات الإنجليزي أن يكون الدفن في العاشرة صباح الخميس بتاريخ 21 نوفمبر 1935، وأن تسير الجنازة من بيت القسام الواقع خارج البلدة إلى المقبرة في بلد الشيخ، فلا يمكن للجنازة أن تسير داخل مدينة حيفا، كي لا يلتف حولها جمع غفير يحوّل الجنازة إلى اشتباك مع الإنجليز، لكن ذلك لم يفلح، فقد خرج في تشييعه أعداداً كبيرة يُقال إنها وصلت إلى عدة كيلومترات (أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، 10/10/2023م).

9- أقوال في الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله) ورثائه:

خلّدت الأقوال والشهادات سيرة الشيخ عز الدين القسّام، ومن أشهرها قصيدة شاعر الثورة اللبناني فؤاد يوسف الخطيب التي يقول:

ما كنت أحسب قبل شخصك أمة         في   بردتيه   يضمها   إنسان

لم يثن عزمك والكتائب شمرت         نصلٌ   يشب توقدا ، و سنان

ووثبت تخترق الصفوف مجاهدًا         و النقع أكدرُ و السماءُ   دخان

آمنتَ باليوم الأخير فلم تخف         و مُكذِّب اليوم   الأخير   جبان

يا رهط عز الدين حسبك نعمة         في الخلد لا عَنتٌ، ولا أشجان

شهداء بدر ، و البقيع   تهللت         فرحًا، و هش مُرحبًا رضوان

وقال فيه الشيخ سلمان التاجي الفاروقي (صاحب جريدة الجامعة الإسلامية): “وعسى الأمة العربية في فلسطين أن تخلد ذكرى هذا البطل عز الدين القسام ورفاقه الميامين بالاستكثار من التسمي بأسمائهم والتوفر على درس سيرهم" (محمد شراب، ص 378).

وقال فيه الدكتور توفيق الشيشكلي في حفل تأبينه: “إن شهيدنا البار الأستاذ المجاهد عز الدين القسام أحيا بعمله عهداً مطوياً سبقه إليه السلف الصالح، وتقاعس الأخلاف عن السير على سنته، فاستعمرت بلادهم، وأصبحوا أذلاء في ديارهم، ولولا تفرق الكلمة، وكثرة الأحزاب، وتخاذل القوم وتحاسدهم، لكتب للقسّام الظفر، كما كتبت السلامة لصاحب الغار عليه الصلاة والسلام" )محمد شراب، ص 379.(

نتائج وفوائد من تجربة الشيخ عز الدين القسّام (رحمه الله) الجهادية:

أصبح الشيخ عز الدين القسّام، علمًا من أعلام الجهاد، يتردد اسمه في فلسطين وسورية والعالم الإسلامي. وعُرف كفاحه وجهاده بــ” ثورة القسّام”. ومن أهم النتائج والدروس المستفادة من مسيرته الملهمة:

*أجمع كل من عاصر الشيخ عز الدين القسّام أو قرأ مسيرته الجهادية، على إمامة وريادة القسّام، فقد تفرد بمنهجه التربويّ، ومسلكه الجهادي، وهو ما بوّأه منزلة رفيعة بين أبطال أمّة الإسلام المدافعين عن أرضها وعِرضها وحريتها.

*دخل الشيخ عز الدين القسّام كأيقونة خالدة في عمق قضية فلسطين، وأصبح رمزاً موحداً وملهماً لكل الأطياف والقيادات وحركات التحرر الوطني في فلسطين، وقد كان استشهاده السبب المباشر لاشتعال الثورة الفلسطينية الأولى (1936 – 1939م).

*أخذ الشيخ عز الدين القسّام وضعه الطبيعي كأحد رموز حركات التحرر في العالم الإسلامي مثل الشيخ المجاهد عمر المختار في ليبيا، والأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وغيرهم من قادة النضال ضد الاحتلال. ومن حق الأجيال الجديدة أن تتعرف على هذه الشخصيات التي انتصرت لقيمة الحرية ورفض الاستبداد والاحتلال.

1- آمال سامي، في ذكرى وفاته ماذا تعرف عن الشيخ السوري عز الدين القسام طالب الأزهر، موقع مصراوي ويب، 20 نوفمبر 2019م.

2- أمين حبلا، الشهيد عز الدين القسام الذي أرعب المحتلين حيًّا وميتًا، الجزيرة وثائقية، 10/10/2023م.

3- سارة سعد، الشيخ القسّام؛ القصة الكاملة، موقع تبيان، 2022.

4- سنان ساتيك، عز الدين القسام… قائد ثورة استشهد قبل اشتعالها، الجزيرة الوثائقية، 19/11/2019.

5- علي محمد، ملهم الثورة الفلسطينية … 87 عامًا على استشهاد الشيخ عز الدين القسّام، مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، 21 نوفمبر 2022م.

6- فايزة بو عسكر، ثورة عز الدين القسام في فلسطين وصداها على النخبة الإصلاحية الجزائر والمغرب نموذجًا، مذكرة ماجستير في التاريخ، جامعة الجيلاني بونعامة، الجزائر.

7- محمد حسن شُرّاب، عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين (دمشق/ بيروت: دار القلم/ الدار الشامية، 2000).

8- وداد زراعي، عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين، مدونات الجزيرة، 8/10/2023م.

*"مجلة المجتمع" الكويتية - 30/10/2023م.

الفصل الثامن عشر

عز الدين القسام

عالم مسلم ومجاهد ضد الانتدابين الفرنسي والبريطاني على الشام

"موسوعة عريق" - بتصرُّف

*محمد عز الدين بن عبد القادر القسام، الشهير باسم "عز الدين القسام".

هو عالم مسلم، وداعية، ومجاهد، وقائد، ولد في بلدة "جبلة" من أعمال "اللاذقية"، وتربى في أسرة متديّنة ومعروفة باهتمامها بالعلوم الشرعية، ثم ارتحل إلى "الجامع الأزهر- القاهرة" سنة 1896م عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وتخرّج منه سنة 1906م، وعاد إلى بلده جبلة، حيث عمل مدرسًا وخطيبًا في "جامع إبراهيم بن أدهم".

احتل الفرنسيون الساحل السوري في ختام الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، فثار القسام في جماعة من تلاميذه ومريديه، وطارده الفرنسيون، فقصد دمشق إبان الحكم الفيصلي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1920م، فأقام في حيفا بفلسطين، وتولى فيها إمامة جامع الاستقلال وخطابته، ورياسة جمعية الشبان المسلمين. واستطاع القسام في حيفا تكوين جماعة سرية عُرفت باسم العُصبة القسّامية، وفي عام 1935م شددت السلطات البريطانية الرقابة على تحركات القسام في حيفا، فقرر الانتقال إلى الريف حيث يعرفه أهله منذ أن كان مأذوناً شرعياً وخطيباً يجوب القرى ويحرض ضد الانتداب البريطاني، فأقام في قضاء "جنين" ليبدأ عملياته المسلحة من هناك.

إلا أن القوات البريطانية كشفت أمر القسام، فتحصن هو وبعض أتباعه بقرية الشيخ زيد، فلحقت القوات البريطانية بهم وطوقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات، وقتل منها خمسة عشر جندياً، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، وانتهت المعركة بمقتل القسام وثلاثة من رفاقه، وجُرح وأُسر آخرون. كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، والتي كانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.

*اسمه وأسرته:

اسمه هو محمد عز الدين القسام، واشتهر باسم عز الدين، ولكن اسمه مركب فهو محمد عز الدين، ولذلك ترجم له الزركلي في أعلامه في حرف الميم باسم محمد عز الدين، وهكذا جاء اسمه في رسالة "النقد والبيان"، وقد جرت عادة الناس في مثل هذا التركيب أن يشهروا الاسم الثاني، ويهملوا الاسم الأول.

*والده: أما الأب: فهو عبد القادر بن مصطفى بن يوسف بن محمد القسام.

وكان الجد مصطفى وشقيقه قد قدما إلى جبلة من العراق، وهما من المُقدمين في الطريقة القادرية المنسوبة إلى الإمام عبد القادر الجيلاني، ولهذا كان أنصار الطريقة القادرية في العراق يقدمون إلى جبلة لزيارة أضرحة عبد القادر ووالده مصطفى في جبلة، فكان عز الدين يردع هؤلاء، ويحثهم على الامتناع عن الحج إلى جبلة لهذا الغرض.

*والدته: تزوج عبد القادر القسام بامرأتين: أولاهما من "قلعة المرقب" وهي "آمنة جَلّول"، فأنجب منها: أحمد ومصطفى وكاملًا وشريفًا. وثانيتهما من جبلة، وهي أم عز الدين، "حليمة قصاب أو القصاب". وقال بعضهم إنها من آل نور الله، ولعل القصاب فخذ من آل نور الله، أو نور الله فخذ من آل القصاب.

أشقاء عز الدين منها: أمين وفخري (أو فخر الدين) وفاطمة (وفي رواية: نبيهة) وكان عز الدين سادس سبعة إخوة وأشقاء، وثاني ثلاثة أشقاء.

كانت أسرة عز الدين القسام تعيش على الكفاف والصبر على الفقر، ولكنّ رصيدها من الذكر الحسن كبير،؛ فهي أسرة متديّنة، ولها حظ من العلم الشرعي، يُحبها الناس لما لها من المكانة الدينية، فمنها أقطاب الطريقة القادرية، وكان للطرق الصوفية أنصار كثيرون في ذلك الزمان، وكان آل القسام مشهورين بالعلم والصلاح، يعطون ولا يأخذون، ويكسبون قُوتَهم من عملهم ولكنّ المؤرخين اختلفوا في وصف حال عبد القادر القسام، فقالوا: إن عبد القادر القسام كان صاحب الطريقة القادرية، وقالوا: إنه رأس هذه الطريقة، والحقيقة أنه ورث الطريقة عن أبيه، وقد نقل أبوه هذه الطريقة من العراق حيث موطنه الأصلي، وقالوا: إن عبد القادر القسام عُرف بأنه كان حدّاداً، وأنه كان تقياً ورعاً ملمّاً بأصول الدين، وهذا ما جعله إمامًا لجامع سوق الحدادين في وسط بلدة جبلة. وقالوا: إنه كان يدير كُتَّابًا لتعليم الصبية تلاوة القرآن، ومبادئ الكتابة. وقالوا: إنه كان يملك حاكورة يزرعها بمساعدة أولاده. وقالوا: إنه كان يعمل في أرض الأفندي. وقالوا أيضًا: إنه كان يعمل مستنطقاً في جبلة، ويقوم بكتابة أوراق النفوس أيام الدولة العثمانية. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال: أن هذه الأعمال والوظائف مَرَّ بها القسَّام ولم يجمع بينها، فاشتغل حدادًا في زمن، واشتغل مستنطقاً في زمن آخر، وكان يُعلّم الأولاد القرآن في بعض أوقاته، وكان يصلي بالناس في جامع السوق مختارا يقدمه الناس للإمامة إذا حضر.

*طفولة عز الدين ودراسته:

أما طفولة عز الدين فقد أمضاها في بلدة جبلة؛ إذ قرأ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب، ودرس مبادئ العلوم الشرعية على والده، وتتلمذ في جبلة في زاوية الإمام الغزالي لشيخين عُرفا بسعة العلم والمعرفة في اللغة والتفسير والحديث والفقه، وهما الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل، والشيخ أحمد الأروادي.

ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر.

 وبعد عودته إلى جبلة اقترن بالسيدة أمينة نعنوع من جبلة، فأنجب منها ولدًا ذكراً سماه محمد، وثلاث بنات هنّ: عائشة وميمنة وخديجة. وقد وُلد ابنه محمد في فلسطين، حيث كان عمره حين وفاة والده سبع سنوات، وبلغت ميمنة درجة عالية من الثقافة في حياة والدها.

*رحلته إلى الأزهر:

clip_image002.jpg

الجامع الأزهر سنة 1906م، السنة التي تخرج فيها عز الدين القسام فيه

أما طريقه إلى الجامع الأزهر فقد جاءت فيه ثلاث روايات:

الأولى: أنه ركب قارب صيد من جزيرة أرواد إلى الإسكندرية، وانتقل من الإسكندرية إلى القاهرة برا.

  والثانية: أنه غادر متوجهًا إلى القاهرة، وكان يُرافقه أخوه فخر الدين، وعز الدين التنوخي، ورضا مسيلماني، ومصطفى مسيلماني، وذيب البيرص، وناجي أديب (ابن خالة عز الدين) ومنح غلاونجي.

 والثالثة: أنه ذهب مع أبيه عام 1896م إلى جزيرة أرواد القريبة ليسافر على أحد قوارب الصيد إلى الإسكندرية، فسافر عز الدين، وابن خالته ناجي أديب وبرفقتهم أخوه فخر الدين، وعز الدين التنوخي وبعض طلاب العلم. وتجتمع هذه الرواية مع الرواية الأولى في أنه سافر عن طريق جزيرة أرواد بقارب صيد، وتجتمع الثانية مع الثالثة في إثبات رفاق في الرحلة من أرواد إلى مصر.

هناك اتفاق بين الرواة على أن عز الدين القسام ارتحل إلى الأزهر عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، وهناك اختلاف في المدة التي أمضاها في الدراسة؛ فمنهم من قال: إنها ثماني سنوات، ومنهم من قال: إنها عشر وليس هناك إحصاء يُبين المشايخ الذين تتلمذ عليهم القسام، ولا دراسة حول المنهج الدراسي والعلوم التي درسها، أو العلوم التي كان يميل إليها وتبحّر في دراستها.

ومن المُؤكد أن القسام لم يشهد نظام مراحل الدراسة، لأن تقسيم الدراسة الأزهرية إلى مراحل دراسية كان في سنة 1911م، أي بعد مغادرة القسام الأزهر، وكانت الدراسة قبل هذا التاريخ تسير على طريقة الحلقات، دون نظام للقبول والامتحانات والشهادات، ودون التمييز بين مختلف المراحل الدراسية، ودون تحديد للمناهج. وبهذا نستطيع أن نقرر أن عز الدين القسام نال شهادة الأزهر العالية دون أن يمر بالمراحل الدراسية: الابتدائية فالثانوية، بل اعتمدت دراسته على الجهد الحر في الدراسة، وكان الانتقال من منزلة إلى أخرى بمقدار ما يستوعب من العلوم التي تؤهله للارتقاء إلى مصافّ العلماء.

وكانت العلوم الشرعية (الفقه والتفسير والحديث والأصول)، والمواد اللغوية (النحو والبلاغة)، هي مدار الدراسة الأزهرية.

وقد روى عز الدين التنوخي زميل عز الدين القسام أن المال نفد منهما وهما في مصر يدرسان في الأزهر، فاقترح القسامُ أن يُعدّ التنوخي (الهريسة أوالنمورة) وأن يقوما ببيعها، ليُوفِّرا من ربحها حاجاتهما، ويستغنيا عن سؤال ذوي اليسار من رفاقهما، فاستفظع التنوخي الأمر وقال: "ولكني أخجل ولا أستطيع المناداة"، فأجابه القسام: "أنا أصيح على بضاعتنا"، وبهذه الوسيلة تمكن الاثنان من مواصلة الدراسة. وذات يوم جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة، وقبل دخوله الأزهر وجد ابنه إلى جوار القسام خلف صينية الهريسة، فسأل: "ما هذا؟" فأجابه ابنه محاولًا ردَّ التهمة عن نفسه: "عز الدين علمني، وهو صاحب الفكرة"، فقال له: "حقاً لقد علمك الحياة"، وفي رواية أخرى: "لقد علمك الاعتماد على النفس، وكسب الرزق الحلال الطيب، وحفظ ماء الوجه من ذل السؤال".

*العودة إلى جبلة:

تخرج عز الدين في الأزهر سنة 1906م، وعاد إلى أهله بعد أن أمضى عشر سنوات في جوار الأزهر، نال في نهايتها الإجازة العلمية الدالة على تضلعه في العلوم الإسلامية، ويظهر من نهجه الحياتي المستقبلي أنه لم يكن جمّاعةً حافظاً فقط، وإنما كان فقيهًا في كل ما جمع من العلوم والمعارف.

وجعل عز الدين يُدرّس في "جامع إبراهيم بن أدهم" التفسير والحديث، ويلقي الخطب حاضًّا على التمسك بشعائر الإسلام والأخلاق الإسلامية.

كان المجتمع الريفي في ذلك الوقت ينقسم إلى طبقتين: طبقة الأفندية، وطبقة الفلاحين.

أما طبقة الأفندية فقد امتلكت ثلاثة أرباع الأرض، وأما طبقة الفلاحين فإنهم كانوا يعملون في الأرض التي ورثوها عن أجدادهم بما يسدّ جوعهم، وتذهب أكثر خيراتها إلى الأفندية، وقد حرص عبد القادر القسام أن يصحب ابنه عز الدين إلى قصر الأفندي ديب الذي تعمل أسرة القسام في أرضه للسلام عليه وإعلامه بالعودة، ولكن عز الدين رأى في هذا الأسلوب عكسًا للسُّنَّة؛ فالمقيم هو الذي يغشى العائد من سفره ويسلم عليه، وهذه هي سنة المسلمين وعرف الناس، ولذلك رفض الابن نصيحة أبيه، لأنه كان يريد أن يُجنّب نفسه وأباه المذلة، وأن يُصلح العُرف الخاطئ الذي سنّه الظالمون. وقد ضاق الأفندية ذرعًا بوجود عز الدين في هذا الريف الغافي على الظلم، لأنه أخذ ينبّه الغافلين ويرشد الضالين، فقد روى عبد الوهاب زيتون الجَبَلي "أن القوى الإقطاعية من أفندية الساحل السوري قد تألبت عليه، وأرادت نفيه إلى إزمير التركية للتخلص من صوته الجريء".  

وبعد أمد قصير من عودته إلى الأهل جدّد العزم على الرحلة، فتوجّه

إلى إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وذلك ليطلع على الأساليب المُتَّبعة في الدروس المسجدية، ولم يطل مقام القسام في البلاد التركية؛ لأنه شاهد في القرى والمدن التي زارها من الجهل ما روّعه، ورأى أن الجهل هو سبب كل تخلف وفساد، فعاد إلى بلدته جبلة، وهو عازم على البداية من أول الطريق، وقرر أن يتولى تعليم الأطفال في الصباح، وتعليم الكبار في المساء، ووظف كل طاقته وإمكاناته في التعليم.

ولتحقيق هذا الهدف فتح مدرسة في جبلة سنة 1912م درَّس فيها   الأطفال واليافعين نهارا، والرجال الكبار مساءً، بعد أن كان مدرسا في مدينتي بانياس واللاذقية، كما درّس الحديث وتفسير القرآن الكريم في جامع إبراهيم بن أدهم بجبلة، ثم عُيّن موظفاً في شعبة التجنيد بجبلة، فكان بعد فراغه من عمله يعقد الحلقات الدرسية في مساجد البلد.

وعندما صار خطيبًا بـ"جامع المنصوري"وسط البلدة كان المصلون يتوافدون إلى المسجد من أحياء البلدة القريبة والبعيدة ومن القرى المجاورة، "كانوا يتوافدون لسماع هذا النمط الجديد من خطب الجمعة التي تهز المشاعر، وتعالج المشكلات اليومية، وتتناول هموم المسلمين، وتقدّم لهم الإسلام غضاً طرياً بأسلوب سهل يفهمونه"، وكان الخطباء قد تعودوا أن يُسمعوا المصلين كل خطبة كلمات الإطراء والحمد للأفندية والأغوات، أما عز الدين القسام فقد كسر العُرف لما اعتلى منبر "جامع المنصوري" فقال:

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، "كونوا أعزة كرماء"، "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" ولا إيمان لمن رضي بالخنوع، واستكان للظلم، واستعذب العبودية للبشر".

وكان يدعو المصلين إلى محاربة الفقر والبؤس بالعمل الدؤوب واستنباط خيرات الأرض، ويدعو الناس إلى التعاون والمحبة والإيثار.

*محاربة الغزو الإيطالي لليبيا:

كانت الدول الأوروبية الاستعمارية تتسابق لبسط سيطرتها على مشرق العرب ومغربهم منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان بينها صراع، ثم تم الاتفاق على القسمة؛ إذ عقدت اتفاقية بين إيطاليا وفرنسا تنص على أن تتخلى الأخيرة عن مطامعها في طرابلس الغرب (ليبيا)، وتطلق إيطاليا يد فرنسا في مراكش، وضمنت إيطاليا موافقة بريطانيا وروسيا على ذلك.

وفي سنة 1911م قررت إيطاليا الاستيلاء على طرابلس الغرب؛ فحاصر أسطولها مدينة طرابلس في 30/9/1911م. وعندما وصل خبر الحصار إلى مسامع أهل بلاد الشام، ثارت موجة عارمة من الغضب، كان للقسام دور بارز فيها، إذ أخذ يؤثر في جمهور الساحل السوري بغيرته وحماسته وقدرته الخطابية، ويُثير دمَ الأخوّة ويفجر العواطف الكامنة، وقد خرج القسام إلى الشوارع يقود الجماهير في جبلة واللاذقية ومدن الساحل وقراه. وعندما تمكن الجند الإيطالي من احتلال ليبيا انتقل القسام من قيادة التظاهرات الشعبية إلى قيادة حملات تجنيد الشباب باسم الجهاد، للدفاع عن شرف المسلمين ومنع نزول المذلة بهم.

تمكن عز الدين القسام من تجنيد مئات الشباب من الساحل السوري، وقادهم بنفسه، وتعهدهم بالتدريب العسكري والفكري، وقام أيضاً بحملة لجمع الأموال والمؤن الكافية للنفقة على المتطوعين وأسرهم ولمساعدة المجاهدين في ليبيا. كما اتصل القسام بالحكومة التركية العثمانية، وحصل على موافقة الباب العالي في إسطنبول بنقل المتطوعين إلى الإسكندرونة، ونقلهم بعد ذلك بالباخرة إلى ليبيا، فودّع المجاهدون أهليهم، واتجهوا إلى شاطئ الإسكندرونة، ثم انتظروا قدوم الباخرة التي تقلهم إلى ليبيا، ولكن انتظارهم قد طال، ومضى على وجودهم في الإسكندرونة مدة أربعين يوماً أو يزيد دون أن يأتيهم خبر، فرجع المجاهدون إلى مدنهم وقراهم، وبنوا مدرسة بمال التبرعات لتعليم الأميين.

وهناك رواية أخرى تقول: إن عزالدين صمم على لقاء المجاهدين في ليبيا، وأن ينقل إليهم ما استطاع جمعه من معونات مادية، وأنه انتقل سرًّا إلى الأرض الليبية، وأنه التقى المجاهد الكبير عمر المختار. 

*محاربة الاحتلال الفرنسي في سوريا:

clip_image004.jpg

صورة للقوات الفرنسية أثناء غزو الساحل السوري عام 1918م

احتل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري في 10\10\1918م؛ فكان عز الدين القسام أول من رفع راية مقاومة فرنسا في تلك المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجهها، وكان من نتاج دعاياته أن اندلعت نيران الثورة في منطقة صهيون، فكان في طليعة المجاهدين، وقد قاد عز الدين القسام من أطاعه من بني قومه ومن أهل بلدته إلى جهاد الفرنسيين؛ فقد نقل عنه ابن أخيه عبد الملك القسام أنه كان يقول:

"ليس المهم أن ننتصر، المهم قبل كل شيء أن نعطي من أنفسنا الدرس للأمة والأجيال القادمة"، أي أنه كان يريد أن يضرب للناس مثلًا في الجهاد والقتال، ويرفع من معنوياتهم.

وهناك رواية تقول: إنه قبل سقوط الساحل السوري بيد القوات الفرنسية فيتشرين الأول (أكتوبر) سنة 1918م، باع عز الدين القسام بيته ليشتري بثمنه سلاحًا، وتقول الرواية أيضًا: إنه باع بيته في جبلة وانتقل إلى "الحَفَّة" مع زوجته وأولاده.

أما بيع البيت فهو ثابت سواء أكان قبل الغزو الفرنسي أم بعده، ولكنّ الانتقال إلى الحفة مرحلة سبقتها مراحل.

*مراحل الإعداد لجهاد الفرنسيين:

مرت ثورة القسام على الفرنسيين في سوريا بأربع مراحل هي:

 المرحلة الأولى: وهي التعبئة المعنوية، إذ كانت خُطب القسام ودروسه جامعة، يتلقى فيها الناس ثقافة تؤهلهم لتحمل المسؤوليات الاجتماعية والوطنية، فقد استثمر القسام المنبر في التحريض والتعبئة وحض الناس على القتال، وكان يُلقب "داعية الجهاد". وعندما قَدِمت إلى اللاذقية سنة 1919م لجنة كراين الأمريكية لاستفتاء الناس في شأن تقرير مصير البلاد السياسي واختيار دولة تكون وصية عليها، شَخِص وفد من جبلة لمقابلتها، وكان القسام من رجاله، ولما سُئل عن رأيه قال: "لا وصاية ولا حماية"، فقال رئيس اللجنة: "نعتقد أنكم لا تستطيعون إدارة أنفسكم وحماية بلادكم، وأنتم على هذه الحال من الضعف وانعدام التجربة"، فأجاب القسام: "إننا نستطيع أن نُدير أنفسنا، وليس غيرنا أقدر منا على ذلك، إذ لدينا قوة لا يملكها الآخرون"، وأخرج المصحف من جيبه وقال: "هذه قوتنا"، ثم عاد القسام وصحبه إلى جبلة، وصدورهم تمتلئ حقدًا على قوات الحلفاء، وقد أُلِّفَت في جبلة بعدئذ إدارة وَلِيَ فيها القسام القضاء الشرعي.

 المرحلة الثانية: باع بيته وشراء السلاح؛ ليكون قدوة للناس في الجهاد بالمال والنفس، ولاعتقاده أن إمام الناس يجب أن يكون أمامهم في كل ما يدعو إليه.

المرحلة الثالثة: تدريب المتطوعين على استعمال السلاح وفنون القتال، فقد لبّى نداءَه جمعٌ غفيرٌ من أهل جبلة، فأخذ يدربهم على حمل السلاح وفنون القتال عند شاطئ خليج بحري يُدعى "البحيص" جنوب جبلة.

وكان القسام ذا خبرة في استعمال السلاح لأنه التحق بالجيش العثماني عندما دعا السلطان العثماني إلى الجهاد لمحاربة الإنجليز، وللقسام خبرة أسبق من ذلك في إعداد المجاهدين وتجهيزهم عندما استجاب لنداء الحكومة العثمانية للتطوع لحرب إيطاليا في طرابلس سنة 1911م.

المرحلة الرابعة: عندما اكتشفته عيون الفرنسيين المبثوثة في كل مكان أخذوا يُضيّقون عليه ويتربصون به، فلما أوجس منهم الريبة واستشعر الكيد والغدر، رأى أن مُنازلتهم في سهول جبلة المكشوفة تتيح لجيشهم قمع ثورته، فتطلّع إلى موقع أكثر حصانة وأبقى على الكفاح المسلح، فاختار جبال صهيون ميدانًا للجهاد، فيمّم شطرها مع رجاله، واتخذ قاعدة عسكرية في قمة منيعة تقع قرب قرية "الزَّنقوقة"، وطفقوا يغيرون على المراكز العسكرية الفرنسية في الجبال وفي مشارف المدن الساحلية.

وقد كان لعصبته الجهادية أثر شديد الوقع على الفرنسيين، فحاولوا إغراءه واستمالته لوقف حركته، فأوفدوا إليه رسولًا يحمل رسالة شفوية يدعونه فيها إلى مسالمتهم والكف عن مقاومتهم، وإلى العودة إلى جبلة آمناً، ويَعِدونه بتعيينه قاضياً شرعياً في المنطقة، ولكنه رفض دعوتهم وقال لرسولهم: «عد من حيث أتيت، وقل لهؤلاء الغاصبين: إنني لن أقعد عن القتال أو ألقى الله شهيدًا"، فلما عجز الفرنسيون عن استمالته وثنيه عن الجهاد، حَكَمَ عليه الديوان العُرفي فيما كان يُسمى "دولة العلويين" بالموت غيابيًّا، وصدر منشور يضم اسم عز الدين القسام وعددًا من المجاهدين.

ومن أشهر المواقع التي خاضها القسام وجماعته "معركة بانيا" حين تمكن القسام مع ثلة من المجاهدين من القيام بغارة ليلًا على الثكنة الفرنسية، وقتل حاميتها في آذار 1920م. وردًّا على ذلك قاد الجنرال الفرنسي نيجر حملة على فلاحي القرى الساحلية، وقاموا بمذبحة في قرية بساتين الريحان بمنطقة الحفة، حيث جمعوا أهالي القرية في بيدر القرية وأمطروهم بوابل من الرصاص فقُتل مئة وسبعون شخصًا. وبعد هذه الحملات الوحشية اجتمع ما يسمى بالديوان العرفي في دولة العلويين، وأصدر حكمًا غيابيًّا بإعدام عز الدين القسام، وحمّله مسؤولية تعريض الفلاحين الآمنين لما سيلحقهم من الأذى بسبب إيوائهم القسام ورفاقه، ووضع الفرنسيون مكافأة قدرها عشرة آلاف ليرة لمن يدل على مكان القسام، أو يمسك به ويقدمه للسلطات الفرنسية.

اتبعت فرنسا أسلوب الأرض المحروقة والبيوت المهدومة؛ لإرهاب سكان الريف والمدن، ولإجبارهم على التوقف عن مد الثوار بالجنود والطعام، فضعفت الثورة ثم توقفت، لأن المجاهدين لم يجدوا الإمدادات التي كانوا يطمحون إليها من القيادة السياسية في دمشق، فانتقل عز الدين القسام إلى للدفاع عنها من الاحتلال الفرنسي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1920م، فأقام في حيفا.

*في حيفا:

غادر القسام ورفاقه جبال صهيون، واتجهوا نحو جسر الشغور، ثم انتقلوا إلى بيروت، ثم كانت رحلة فردية للقسام إلى دمشق، ثم عاد إلى بيروت، وانتقلت الجماعة إلى صيدا على الشاطئ اللبناني بواسطة عربة يقودها حصان، ومن صيدا أقلهم قارب إلى عكا؛ فأقام فيها أياما أو شهورا، كانت استراحة المسافر، أو للتشاور في أي الأماكن أنسب للإقامة الدائمة، فوازن بين عكا وحيفا، ودرس التركيبة السكانية لكلتا البلدتين؛ فمال إلى المجتمع الحيفاوي؛ لأن حيفا كانت سوقا رائجة للعمل والعمال والتجارة، يَفِدُ إليها طلاب العمل  والتجارة من الأقاليم العربية كافة، وبخاصة الإقليم السوري؛ لأن فلسطين كانت جزءًا من سوريا.

وكان وصول القسام إلى فلسطين سنة 1920م، فيما بين شهر آب سنة 1920م وأواخر السنة نفسها.

*وظائف القسام في حيفا؛ التعليم:

بعد أشهر من قدوم عز الدين القسام إلى حيفا عمل مدرسًا في "مدرسة الإناث الإسلامية" أولًا، وفي "مدرسة البرج الإسلامية" ثانيًا، وذلك في أوائل عام 1921م أو سنة 1922م، وهاتان المدرستان تشرف عليهما "الجمعية الإسلامية" في حيفا، وكان متوسط أجره يتراوح ما بين أربعة وخمسة جنيهات. وكان القسام يُتبع هذه الوظيفة بإعطاء العمال دروسًا في القراءة والكتابة، وذكر بعضهم أن القسام أسس مدرسة لتعليم الكبار القراءة والكتابة، وكان يبُث من خلال دروسه الروحَ الجهادية في الطلاب. واستمر القسام بالتدريس في "مدرسة البرج الإسلامية" حتى عام 1925م.

clip_image006.jpg

عز الدين القسام يرتدي القفطان والعمامة الأزهرية

*الإمامة والخطابة:

تولى عز الدين القسام الخطابة في جامع الاستقلال في السنة التي تم فيها بناؤه، وهي سنة 1925م، وكانت شهرة الشيخ العلمية قد سبقت بناء المسجد، فلما تم بناؤه وجدوا القسامَ خير مَن يقوم بالخطابة في هذا المسجد. وكانت رسالة الجهاد التي هاجر القسام من أجلها تشغل تفكيره، ويبحث عن الوسائل التي تحقق له هذا الهدف، فكان جامع الاستقلال منبره لإيصال هذه الرسالة إلى الجمهور، فامتلك الشيخ أداة فعالة استخدمها استخدامًا ناجحًا لتحقيق خطته لإيجاد حركة جهادية، واستطاع بما أوتي من المواهب أن يجعل "جامع الاستقلال" جامع المدينة الأول، يؤمّه المصلون من قرى قضاء حيفا؛ لأن أخبار خطبته الأسبوعية كانت تتناقلها الرُّكبان، وتجري بعضُ جمله مجرى الأمثال.

أعلن القسام في مسجد الاستقلال أن الإنجليز هم رأس البلاء والداء، ويجب توجيه الإمكانات كلها لحربهم وطردهم من فلسطين، قبل أن يتمكنوا من تحقيق وعدهم لليهود (وعد بلفور)، حيث جعلوه من أهداف الانتداب البريطاني في فلسطين؛ بل هو هدفهم الأول. وحذر عز الدين القسام المصلين في إحدى خطب الجمعة سنة 1927م من التساهل مع الهجرة اليهودية التي تحتل البلاد.

وفي مسجد الاستقلال أخذ يُنبّه عزة الإيمان في نفوس المسلمين، وأن الولاية والطاعة لا تكونان إلا لحاكم مسلم، فكان يردد دائمًاً الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ويُسهب في شرح (وأولي الأمر منكم)؛ بأن أولي الأمر هم المسلمون الذين يُقرّون بالتوحيد؛ أما الإنجليز فلا طاعة لهم على المسلمين، وكان الإنجليز يبثون على لسان القاديانية، ومركزها حيفا، أن الدولة البريطانية وليّةُ أمر المسلمين ولها عليهم حق الطاعة.

ودعا القسام المسلمين إلى التمرد، وحرّضهم على ألا يسمعوا للعساكر البريطانية، ففي أواخر سنة 1934م سأل القسام المصلين من على المنبر: "هل أنتم مسلمون؟" وأجاب: "لا أعتقد"، وسكت قليلًا، ثم تابع كلامه قائلًا: "لأنه لو كنتم مؤمنين لكانت لكم عزة المؤمن، فإذا خرجتم من هذا المسجد وناداكم جندي بريطاني فلا تطيعوا نداءه". واتجه القسام إلى توعية الشعب بالشرور المُحدقة بهم، وكان يُكثر من قوله بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين والسيطرة على البلاد وتأسيس دولتهم.

ومن باب التحريض على الجهاد دعا القسام إلى توجيه اقتصاد البلد إلى شراء الأسلحة، وأنكر في هذا السبيل سياسة "المجلس الإسلامي الأعلى" في تزيين المساجد وبناء الفنادق، وقال:

"يجب أن تتحول الجواهر والزينة في المساجد إلى أسلحة، فإذا خسرتم أرضكم فإن الزينة لن تنفعكم وهي على الجدران". ودعا مرة إلى تأجيل فريضة الحج، وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة.

clip_image008.jpg

صورة ورقة الإجابة التي تقدم بها عز الدين القسام لامتحان المحكمة الشرعية بحيفا الخاص بالمتقدمين لوظيفة (مأذون أنكحة)، وهي بخط يده

وفي سنة 1929م، عُلم أن اليهود يأتمرون للهجوم على "جامع الاستقلال"، فطلب وجوهُ المسلمين في حيفا من السلطات البريطانية أن ترسل قوة لحراسة المسجد من الهجوم المدبَّر، فثار القسام على هذا الاقتراح، وقال من خطاب ألقاه بهذه المناسبة: "إن جوامعنا يحميها المؤمنون منا، إن دمنا هو الذي يحمي مساجدنا لا دم الآخرين"، ووصف الطلب بالجُبن، وعدّه دليلاً على الخضوع والذل، فكان يرفض أي حوار أو معاهدة مع الإنجليز ويقول: "من جرّب المجرَّب فهو خائن"، ولما دعته السلطات للتحقيق في كلامه لم ينكره، فعندما أُوقف أعلنت المدينة الإضراب، فاضطرت السلطات البريطانية إلى إخراجه من السجن، وتجنبت حكومة الانتداب اعتقاله فيما بعد. ويُروى أنه في إحدى خطبه، كان يخبئ سلاحا تحت ثيابه فرفعه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقتن مثل هذا"، فأُخِذ مباشرة إلى السجن، وتظاهر الناس لإخراجه وأضربوا إضرابًاً عامًّا.

وهكذا استطاع القسام في العشر سنوات التي أمضاها في "جامع الاستقلال" أن يجعل الناس مستعدين لتلبية نداء الجهاد، وصارت الكلمات الجهادية من خطبه على لسان الجمهور، ومن ذلك قوله: "المجاهد رائد قومه، والرائد لا يكذب أهله"، وقوله: "الجهاد رفيقه الحرمان"، ويقصد بالحرمان: الصبر على المشقة.

وكان شعار القسام وتلاميذه: "هذا جهاد، نصر أو استشهاد".

*وظيفة المأذون الشرعي:

حصل عز الدين القسام على وظيفة المأذون الشرعي أو مأذون الأنكحة بعد اختبار فاز فيه على أربعة عشر متنافساً سنة 1929م أو 1930م، ولم يكن القسام يريد الوظيفة لذاتها، وإنما أرادها وسيلة مشروعة للاتصال بالناس في بيوتهم، وفي القرى المحيطة بمدينة حيفا، حيث استطاع القسام أن يعالج كثيراً من القضايا الاجتماعية المتعلقة بالنكاح والطلاق، والتي تعد من ركائز بناء المجتمع القوي المتماسك".

وقد وصف أحمد الشقيري حال عز الدين القسام قائلاً: "كنت على معرفة وطيدة بالشيخ عز الدين القسام، عرفته تقيًّا ورعًاً، خطيبًا دينيًّا صالحًا، واجتمعت به في مؤتمرات "جمعيات الشبان المسلمين" في حيفا وغيرها، ولم يكن يدور في خلَدي أو في خلد غيري، حتى من أصدقائه المقربين، أن هذا الشيخَ المُعممَ إمامَ الجامع كان يُهيئ نفسه لقيادة ثورة مسلحة ضد السلطات البريطانية مباشرة".

وقال المؤرخ أمين سعيد "كان القسام بعيدًا عن الشهرة والإعلان عن النفس، فكان في حيفا كما كان في جبلة وفي جبال اللاذقية وفي كل مكان نزله، كان عنواناً للأخلاق الإسلامية، ومثالًا كاملًا للمسلم الحقيقي، الذي تذوَّق لذة الإسلام، واستنار بنور الإيمان واليقين، فما عُرف عنه ما يريبه أو يُدنّس سمعته، أو يدل على انشغاله بالسفاسف والزخارف، فأحرز مرتبة رفيعة، ونال مقاماً ممتازًا".

وكتب الصحفي عبد الغني الكرمي عن مناقب القسام ومآثره فقال: "عرفته بعد أن أثقلت كاهله السِّنُون، وأربى على الستين، ولكن مجالدة الدهر ومقارعة الحوادث وصروف الزمان ما ألانت له قناة، وما أذلت له جناحًا لأحد، وما زادته إلا ورعاً وتقوى ... كان يمشي مطأطئ الرأس من خشية الله، وكان يتكلم في هدوء وتواضع واتزان، سمة العالم الواثق من نفسه، المؤمن برسالته، الحريص على تقوى الله وبث التعاليم الدينية الصحيحة بين الناس، وما سمعتُه على طول صلتي به لا يحبّ الإصغاء إلى لهو الكلام والمهاترة والاستغابة، فإذا أمعن المتحدثون في هذا الضرب من القول رفع رأسه وقال: "استغفروا الله أيها الناس"، وانصرف عنهم."

العُصبة القسامية؛ مراحل تكوين العصبة:*

clip_image010.jpg

"هذا جهاد نصر أو استشهاد" شعار القسام والعصبة القسامية

مرت العصبة القسامية الجهادية بعدة مراحل:

فقد كانت في المرحلة الأولى فكرةً تُلحّ على القسام منذ هاجر إلى حيفا سنة 1920م، ولم تكن هذه الفكرة وليدة حيفا دار الهجرة، وإنما كانت موجودة منذ بدأ القسام حياته العملية بعد عودته من الأزهر، وعندما انتقل القسام إلى فلسطين بدأ يَدرس البيئة الجديدة التي سينشر فيها دعوته، فتعرّف على الناس وقضاياهم ومشكلاتهم، ودرس الخطط اليهودية والبريطانية لسلخ فلسطين عن بلاد المسلمين.

وكانت المرحلة الثانية هي:

مرحلة الإعداد النفسي للشعب، ونشر روح الجهاد، وبناء القاعدة التي يستطيع أن يرفع تنظيمه عليها، وينتقي منها عناصره المنظمة، وقد ساعده على ذلك ما يملكه من علم وفهم في طبائع الرجال، وقدرة خطابية مؤثرة، وقد بدأت هذه المرحلة منذ تولي شؤون مسجد الاستقلال في حيفا، وفي أثناء عمله في جمعيات الشبان المسلمين، إذ أصبح القسام رئيسًا لجمعية الشبان المسلمين عام 1926م.

وأما المرحلة الثالثة فهي:

مرحلة اختيار عناصر التنظيم، وهي مرحلة مختلطة بالمرحلة السابقة، وفي هذه المرحلة اعتمد القسام على العمل السري لبناء تنظيمه بعيداً عن مراقبة السلطات البريطانية والعصابات اليهودية، ولذلك كان لا يبوح بسر التنظيم إلا لأشخاص قلائل جداً، بعد أن يدرس شخصياتهم وأحوالهم النفسية دراسة كافية. ولاعتماده على السرية التامة والحذر الشديد في اختيار الأعضاء، سار التنظيم بطيئاً، وكان من أهداف البطء في بناء التنظيم وضع الأعضاء المختارين في مرحلة اختبار، وزيادة شحن للنفوس بمعاني الجهاد، وأن يتجهوا إلى تقويم أنفسهم عن طريق العبادة ومجاهدة النفس. وأما المرحلة الرابعة فقد كانت تتمثل بالإعداد العسكري بالتدريب على أدوات الحرب المتاحة، والمرحلة الخامسة كانت مرحلة التطبيق العملي السري بتنفيذ عمليات جهادية فردية.

وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي مرحلة القرار الذي اتخذه القسام بالخروج إلى الجهاد.

قال محمد عزة دروزة تحت عنوان (الحلقات الجهادية وحركة الشهيد القسام):

"وكانت حيفا مركزًا هامًّا من مراكز العمال العرب، الذين كان كثير منهم من مُشرّدي مُزارعي القرى التي بيعت لليهود وأُجْلوا عنها ... وكان لهؤلاء العمال حَيّ خاص مساكنه من التنك والخشب، فأخذ يظهر من هذه الطبقة رجال جهاد منذ سنة 1930م حيث أخذت تقع غزوات جهادية على اليهود ومستعمراتهم في قضاء حيفا، فُهمَ فيما بعد أنها من جمعيات أو حلقات جهادية متدينة وسريّة محكمة التشكيل، كل فرد منها يُجهّز نفسه بنفسه، ويقومون بأعمالهم باسم الجهاد، ولم تستطع السلطات أن تكتشف أسرار هذه الجمعيات، أو تحول دون غزواتها، مع ما بذلته من جهد واعتقال بعض أعضائها".

*طريقة اختيار أعضاء العصبة:

clip_image012.jpg

قمع المظاهرات عقب ثورة البراق سنة 1929م

كان القسام يختار أعضاء التنظيم السري مستخدمًا منهجًا جديدًا، يعتمد على السّرّيّة والدقة والحذر الشديد في اختيار الأنصار، فليس كل من أبدى حماساً للجهاد صالحاً للانضمام إلى عضوية التنظيم، فكان القسام يصر على صفات وأخلاق في الرجل تؤهله أن يكون في هذا التنظيم المحاط بالأعداء، وكانت أولى خطوات اختيار الرجل تبدأ من خلال التقاء القسام بالمصلين في مسجد الاستقلال، وبعد صلاة الجمعة، وفي دروس ما بعد العصر؛ إذ كان القسام يتفرَّس في وجوه المصلين، ويدرس شخصيات المتأثرين بدروسه وخطبه، فيزورهم في بيوتهم لمزيد من المعرفة والملاحظة، ويدعوهم لزيارته في منزله وتتكرر الزيارات، ويدور الحديث في كل زيارة حول الجهاد، إلى أن يؤمن الرجل بوجوب العمل لإنقاذ فلسطين، فإذا اطمأن القسام إلى صاحبه، أدخله في حلقة سرية، لا يزيد عدد أفرادها عن خمسة، وكان لكل حلقة نقيب يتولى القيادة والتوجيه.

ولتنظيم أبناء القرى اتبع القسام مبدأ زيارة القرى، وبخاصة القرى التي يسكنها أصدقاؤه في أقضية حيفا والناصرة وجنين، وإذا كان أحد أفراد التنظيم قرويًّا يسكن حيفا؛ فإن القسام يطلب منه العودة إلى قريته، ليُمَهِّد له عند مختار القرية، ويدعوه لزيارته، وعندما يزور القرية يحرص على التقاء أهلها في درس ديني بعد صلاة العصر، أو مجلس ذكر بعد صلاة المغرب، ومن خلال هذه اللقاءات يتعرف على أكثر الناس تدينًا، وكان يجتمع سرًّا مع من يرى فيهم الحَمِيّة وحُب الجهاد، ومع دوام الوعظ والملاحظة والتأهيل والتعليم يتم تشكيل حلقات جديدة.

ولم تكن تتاح العضوية لأحد إلا بعد مدة من التجربة والمراقبة، ولا يشترط أن تكون التجربة في عمل تقوم به جماعة القسام، فقد تكون التجربة من خلال عمل فدائي يقوم به الرجل في مقاومة الإنجليز واليهود.

ففي ثورة البراق سنة 1929م شارك آلاف من مسلمي فلسطين، وبرز منهم قادة مُخلصون، فتوجهت أنظار جماعة القسام إلى هؤلاء لجذبهم إلى التنظيم السري.

وفتح القسام المجال أمام فئات المجتمع كافة: الغني والفقير، والمتعلم والأمي، والشباب والشيوخ، ولكنّ أكثر أنصاره الذين قبلوا دعوته هم أولئك الذين لم تغرّهم المناصب الحكومية، والذين ذاقوا مرارة مؤامرات الإنجليز واليهود بإخراجهم من ديارهم وأرضهم، ولذلك فإن الكثيرين من أفراد تنظيم القسام كانوا من الفقراء ومن العمال ومن غير المثقفين في المدارس والجامعات. وكان القسام قد أبدى اهتماماً بالمحتاجين والفقراء، فعمل على تحسين أحوالهم المعيشية، وأخذ يكافح الأمية في صفوفهم بالدراسة الليلية واهتم أيضًا بإصلاح المُنحرفين، وكان يُؤمن "أن جُرأة السارق أو القاتل، من المُمكن أن تتحول إلى شجاعة وجهاد إذا تاب إلى الله تعالى، وآمن بالجهاد في سبيل الله"، ومثال ذلك قصة حسن الباير الذي اعترف للشرطة البريطانية بعد أسره إثر "معركة يعبد" فقال:

"أنا من قرية "برقين - قضاء جنين"، وكنت من قبل أسرق وأرتكب المُحرّمات، فجاءني المرحوم عز الدين القسام، وأخذ يهديني ويعلمني الصلاة، وينهاني عن مخالفة الشرع الشريف وأوامر الله، وقبل مدة أخذني المرحوم الشيخ عز الدين إلى أحد جبال برقين، وهناك أعطاني بندقية، فسألته: "لم هذه؟"، فأجاب: "لأجل أن تتمرن عليها، وتُجاهد مع إخوانك في سبيل الله".

وبعد جهود ثلاث سنوات استطاع القسام تكوين اثنتي عشرة حلقة جهادية تعمل كل واحدة مُنفصلة عن الأخرى، وتتكون كل خلية من خمسة أفراد، أكثرهم من عمال البناء والسكك الحديدية، وعمال الميناء، والباعة المتجولين. ثم زاد عدد أفراد الخلية في أوائل الثلاثينات، فأصبحت تضم تسعة أفراد.

*بدء مرحلة القتال:

كان بدء المرحلة الجادة في التسلح والتدريب في أواخر عام 1928م،عندما خطا اليهود خطوة جريئة حيث تجاوزوا المباح لهم عند حائط البراق، وتداعوا من كل أنحاء فلسطين، وتدفقوا إلى الزيارة آلافًا مؤلفة بين مظاهر الحماس والزهوّ، فأثار هذا المسلمين، وتداعوا إلى حراسة المسجد الأقصى والدفاع عنه، مما دفع جماعة القسام إلى الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الإعداد العسكري المسلح، ويذكر أبو إبراهيم الكبير أنه في عام 1928م إثر ازدياد التهديد اليهودي: "طلبنا من الشيخ أن ينتقل من مرحلة الكلام إلى العمل، وطلبنا أن نتسلح ونتدرب، فاشترينا بندقية، وأحضرنا مدربًا كان اسمه محمد أبو العيون، وكانت تبدأ الجلسة بأن يُلقي الشيخ دروسَه، ثم تحوَّلت دروس الشيخ من دروس دينية إلى تحريض على الجهاد، وكان المدرب يقوم آخر الجلسة بتدريب الموجودين على البندقية واحدًا واحدا".

clip_image014.jpg

استجاب الشيخ راشد الخزاعي أمير حاكمية جبل عجلون لنداء القسام، وأمدّه بالحماية والمال والسلاح.

ثم جاءت ثورة البراق عام 1929م لتعجّل بالتحضير العسكري، والانتقال من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية، فأخذ القسام يتولى تدريب المجاهدين بنفسه، وكان يخرج ليلاً يُدرب الأعضاء على الأسلحة، ويوجههم إلى أساليب الكفاح المسلح. ويصف حسن شبلاق (عضو الهيئة المسؤولة عن الحجّارة في أراضي الكبابير بجبل الكرمل وأحد الذين تدربوا على يد القسام) الخطواتِ كالتالي: "كنا نجتمع قبل الخروج إلى جبل الكرمل في واحد من الجوامع الثلاثة: الاستقلال والجامع الكبير (الجرينة) والجامع الصغير، وكان الخروج عادةً على مستوى الحظيرة، ثلاثة أشخاص يعرف بعضهم بعضاً، والحُجة القانونية التي كنا نتسلح بها في خروجنا وجودُ المحاجر، فلي محجرٌ هناك مثلاً، ومعظم الحجّارة السبعمئة كانوا من القساميين، وكان القسام يخرج مع كل حظيرة، ويُعلّمها فكَّ وتركيبَ البندقية وتنظيفَها وكيفيةَ استخدامها".

وكان القسام حازمًا في تدريب المجاهدين، قال أحد القساميين: "كان يأخذنا لدروس التدريب وإطلاق النار، ويطلب منا أن نمشي حُفاةً، وعندما كنا نتدرب في الجبال كان يجعلنا ننام في العراء في جو بارد، وكان يطلب منا السير دون حمل طعام أو ماء، حتى نستطيع تحمل الجوع والعطش، وكان يطلب منا أن ننام مرة أو مرتين في الأسبوع على الحصير بغطاء خفيف، وكان يصرّ دائماً على سرية أنشطتنا، ولذلك كنا نواجه متاعب في بيوتنا مع زوجاتنا وعائلاتنا، لأننا لا نستطيع شرح وتوضيح لماذا ننام بهذه الطريقة، وكان علينا أن نحتمل هذا، لأننا تعاهدنا على تنفيذ هذه الأوامر".

طلب عز الدين القسام العون ممن حوله وقام بالاتصال بكُل الملوك والأُمراء والزعامات العربية في ذلك الوقت، حيث اتصل بالملك فيصل في سوريا طلبًا لِمُؤازرته في ثورته، فوعده ولم يُثمر وعده عن شيء، واتصل بالحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر وطلب منه أن يُهيئ الثورة في منطقته، فأجابه بأنه يرى أن تُحل قضية فلسطين بالطرق السلمية عن طريق المُفاوضات.

 فما أجابه ولبَّى نداءه بالدعم والعون إلا الأمير راشد بن خُزاعي الفريحات، وهو أمير وزعيم عربي أردني (1850 - 1957م)، وقد اشتُهر الأمير راشد الخزاعي بِمُناهضته للانتداب البريطاني في بلاد الشام ودعمه للثورتين الفلسطينية والليبية، كما عُرف عنه معارضته وثورته علنًا ضد النظام الملكي الأردني منذ قدوم عائلة الشريف حُسين بن علي الهاشمي، والملك عبد الله الأول بن حسين والملك إلى إمارة شرق الأردن، كما وقف الأمير راشد الخزاعي -بوضوح وبقوة- مع جهود الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود  في توحيد الجزيرة العربية.

نهض الأمير راشد الخزاعي ليمد القسام ورجاله بالمال والسلاح والمأمن، ووقف إلى جانبه في ثورته، ويُذكر أن عز الدين القسام لجأ مرة إلى جبال عجلون مع عدد من الثوار، وكانوا في حماية الأمير راشد، وقد تواصل القسام مع الأمير من شرق الأردن للمؤازرة وليهيئ الثورة ضد الانتداب البريطاني وأعوانه في شرق الأردن، وقد قدم الأمير الخزاعي إمداداً مباشراً وقوياً للقسام بالمال والسلاح، فضلاً عن توفير الحماية للثوار الفلسطينيين في جبال عجلون الحصينة من فترة لأخرى، الأمر الذي استدعى من الأمير راشد وقبيلته ومعظم عشائر الشمال الأردني للمواجهة مباشرة مع النظام الأردني، وخاصة مع الملك عبد الله الأول بن حسين والانتداب البريطاني الذي حاول تصفية الأمير الخزاعي بقصف مواقعه، وقتل كثير من الثوار الأردنيين الموالين للخزاعي في ذلك الوقت، مما اضطره بعدها إلى مُغادرة الأراضي الأردنية إلى السعودية عام 1937م، واندلعت على إثر لجوئه ثورة في جبال عجلون امتدت بعدها لنطاق واسع في إمارة شرقي الأردن. 

ويذكر صبحي ياسين أنه:

في يوم 12/11/1935م كانت الجمعية تملك ألف قطعة سلاح، وقاعدةَ تسليح في منطقة اللاذقية، وفي هذا اليوم اجتمعت القيادة في حيفا، ودرست الموقف العام في فلسطين، وتقرّر بدء الجهاد العلني.

*بدء الجهاد العلني سنة 1935م:

قال إبراهيم الشيخ، وهو أحد مجاهدي العُصبة القسامية، مُعلّلًا خروج القسام إلى الجهاد العلني: "في أوائل عام 1935م رأى القائد القسام أن المُستعمِر يراقب تحركاتِ القساميين مراقبة دقيقة، وكان القائد يخشى أن يَعتقل الإنجليز النُّخبة الصالحة من إخوانه، فيُفسدَ جميع مُخططات العُصبة قبل أن تظهر، وكان يرى الخروجَ إلى الجبال والطوافَ بالقرى، وحثَّ المواطنين على شراء السلاح والاستعداد للجهاد. وقد أكّد هذا الرأيَ عددٌ من أتباع القسام".

ومن أسباب خروج القسام إلى الجهاد أيضًاً: ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واتساع مساحة الأراضي التي استولوا عليها، فقد دخل فلسطين سنة 1935م 62000 يهودي، وامتلك اليهود في العام نفسه 73000 دونم من الأراضي العربية، حتى كتب المندوب السامي البريطاني قبل نهاية سنة 1935م إلى وزارة المستعمرات يقول: "إن خُمس القرويين قد أصبحوا بالفعل دون أراضٍ يمتلكونها، كما أن عدد العُمال العاطلين في المدن آخذٌ في الازدياد".

وبعد أن حزم القسام أمره وعزم على الخروج، بدأ يتصل بأتباعه وإخوانه ويتحدث معهم في قراره إعلان الجهاد، قال عربي البدوي: "قبل الخروج، كنا لمُدة أسبوع نتباحث، ونجتمع في بيوت مُتفرقة، وأخيرًا قرَّرنا الخُروج. وكان الأمر القيادي الأول: ليتوجه كلٌّ إلى أهله، يستودعهم الله، ويُعاهدهم على اللقاء في الجنة إن شاء الله".

*آخر خُطبة للقسام، وآخر كلماته فيها:

وفي آخر خُطبة له في جامع الاستقلال، فسّر للمصلين الآية الكريمة: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

يقول يوسف الشايب الذي استمع إلى الخطاب: إن آخر كلمات قالها القسام في خطبته:

"أيها الناس، لقد علّمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالماً بها، وعلّمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون".

وبعد ساعة من إلقاء الخطبة، أخذت السلطة تُفتش عنه للقبض عليه ومحاكمته، ولكنه كان قد ودّع أهله وإخوانه، وحمل بندقيته، وذهب وصحبه إلى الجبال. ويؤكد يوسف الشايب أن القسام خرج بعد هذه الخطبة، وأن سيارةً كانت تنتظره خارج المسجد، وأنه لم يشاهده أحد في حيفا بعد ركوبه السيارة.

وأصح الأقوال في زمن خروجه أنه في ليلة 26 أو 27 من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1935م.

*معركة يعبد؛ ما قبل المعركة:

غادر عز الدين القسام وصحبُه حيفا، واتجهوا نحو قضاء جنين، وكان أصحابه في انتظاره في مكان مُتفق عليه، وأما بقية المجاهدين المنظمين في الخلايا فقد تفرقوا في القرى ليكونوا دعاةً إلى الجهاد، وليكونوا القادة المُحرّكين عندما يحين وقت الإعلان والنفير العام. ويبدو أن الموعد كان في قرية "نورس" حيث ينتظرهم الشيخ فرحان السعدي.

وهناك أقاموا في مغارة في أحد جبال القرية، ثم اتجهوا نحو قرية كفر دان، وكانت الشرطة قد أعلنت عن حوافز مادية لتشجيع القرويين على الإدلاء بمعلومات عنهم، ونشرت الشرطة خبرًا يُفيد أن المجموعة المُطاردة في جبال جنين هي عصابة لصوص؛ وذلك لتضليل الناس والحصول على معلومات عن تحرّكها.

ثم انتقلت الجماعة من كفر دان إلى قرية برقين، ومنها انتقلوا إلى جبال قريتي البارد وكفر قود. 

وقد وصف عربي البدوي، وهو أحد أفراد العُصبة المرافقين للقسام، هذه المرحلة من حركة الجماعة فقال:

"أثناء النهار كنت حارسًا، وكان الشيخ وبقية المجاهدين يستريحون في مغارة، وبينما كنت أراقب أتى رجل معه عصا طويلة في رأسها قطعة حديد، وزعم أنه حارس مزروعات القرية، فأبلغت الشيخ القسام بخبره، فأمرني بتركه، وبعد بُرهة أدركت أنه جاسوس، وكان مقتنعًاً أن المُطارَدين عِصابةُ لصوص، وكان البُوليس على الجبل المقابل يتعقبنا، دون أن يعرف تحديد المكان، فأرسلوا شُرطيًّا لنشتبك معه وينكشف مخبؤنا، فأمر الشيخُ - معروفَ الحاج جابر ومحمد أبو القاسم خلف- بالذهاب إليه وأخذ سلاحه، وحين اصطدموا معه ابتدأت المعركة بينهم وبين باقي أفراد البوليس، وسمعنا صوت إطلاق النار، فهيأنا أنفسنا وتفرقنا بانتظارهم، واستُشهد أثناء المعركة محمد أبو القاسم خلف الحلحولي، واستطاع معروف جابر الانسحاب والعودة إلى حيفا".

وفي الثامن عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1935م ترك القسامُ وصحبه جبال كفر قود، واتجهوا نحو "خربة الشيخ زيد" قُرب قرية بعبد حيث الشيخ سعيد الحسان أحد أفراد عصبة القسام، وفي الطريق لاحظ عربي بدوي متابعة الجواسيس خطواتهم، فطلب من القسام أخذ قسط من الراحة لبحث مسألة الجواسيس، يقول عربي:

"كان القسام يأخذ بآرائي مع صغر سِنِّي، فأخبرت الجماعة أن هذه القرى يوجد فيها من يتعقبون آثارنا، واقترحت أن ننقسم إلى فريقين: فريق يتجه إلى الشمال، ويعود إلى حيفا والناصرة، ويقوم أثناء سيره بتخريب سكك الحديد وقطع خطوط الهاتف التابعة للإنجليز واليهود، ثم يذهبون إلى نورس حيث يوجد الشيخ فرحان السعدي، ونلتقي جميعًا في الوادي الأحمر بين نابلس والغور، وهناك تملك الجماعة حرية أكثر، وتخف ملاحقة الجواسيس، فأُعجب القسام بهذه الفكرة، وطلب من المجاهدين الانقسام إلى مجموعتين: الأولى ذهبت إلى الشمال، وهي مكونة من عشرة رجال، ويدلهم على الطريق الشيخ داود الخطاب، والثانية توجهت نحو الغرب إلى ضواحي يعبد، وهم: الشيخ عز الدين القسام، وحسن الباير، وعربي البدوي، وأحمد عبد الرحمن جابر، ومحمد يوسف، ونمر السعدي، وعطية المصري، وأسعد المفلح، ويوسف الزيباوي.

وفي الطريق نفِد الماء، وكانت أحمالنا ثقيلة، فكل رجل يحمل بندقية وستين مشط فشك وحربة صنعها القسام عند أحد الحدادين تيمنًا بسلاح الصحابة، يُضاف إليها الأغطية وأدوات السفر والطعام ...، ثم واصلنا السير حتى وصلنا خربة الشيخ زيد".

*يوم المعركة:

في اليوم التاسع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) أصبحت تحركات الجماعة تُلاقي صعوبة شديدة، فقد وصل إلى جنين عدد كبير من رجال المخابرات والجواسيس، وانبثوا بين الناس في قرى القضاء، وكانوا يتخفون في زي عامل أو فلاح أو زبّال.

وفي اليوم نفسه وصل القسام وصحبه "خربة الشيخ زيد"، ونزلوا في بيت الشيخ سعيد الحسان حتى صبيحة الأربعاء 20/11/1935م، وهو اليوم الذي استُشهد فيه عز الدين القسام.

ويصف عربي البدوي مَشاهد من هذا اليوم فيقول:

"كان يوم أربعاء، وكنت أقف خفيرًا في طرف حرش يعبد قرب خربة الشيخ زيد والطرم، ورفاقي داخل الغابة: الشيخ عز الدين وعصبته.

ومع طلوع الشمس رأيت رجال البوليس يهجمون علينا، وهم على ظهور الخيل، ويتصايحون: "عليهم عليهم".

فأوعزتُ إلى رفاقي بأن يتوزعوا ويأخذوا أماكنهم ...، وبدأتُ أطلق الرصاص، فجعلوا يتركون الخيل ويأخذون مواقع لهم على بطونهم خلف الحجارة والرجوم من أكوام الحجارة.

وابتدأت المعركة غير متكافئة ... نحن تسعة، وهم يتوافدون عشراتٍ عشراتٍ إلى أن اكتمل عددهم، من مئتين إلى أربعمئة، ومُعظمهم يحمل شارة بندقيتين على ذراعه، وهذا يعني أنه قنّاصٌ لا يُخطئ.

مكثتُ مدةً تزيد على عشرين دقيقة وأنا أطلق الرصاص واقفًا، لا يحجبني عنهم حجرٌ أو شجر، والمسافة بيني وبينهم لا تزيد على خمسين مترًا ... وأخيرًا انتبه الشيخ رحمه الله، وصاح بأعلى صوته: "خذ الأرض، لن تموت شهيدًا إذا مت على هذه الحال، أنت منتحر إذا لم تأخذ الأرض" ... تلقينا أمرًا بالانسحاب، والتوغل داخل الغابة، وجُرح الشيخ أسعد المفلح من أم الفحم، وحاولت حمله، فناداني الشيخ: "اتركه واعتنِ بنفسك" ... وفي داخل الغابة وجدنا صخورًا تصلح للتمترس بها ...، ضيقوا علينا الخناق، وأحكموا نطاق الطوق إلا من جهة واحدة، جهة الشمال، وكانت مكشوفة، والانسحاب منها معروفة نتائجه، فقررنا المقاومة حتى مجيء الظلام".

وحين عرف القسام أن أفراد الشرطة يقتربون، أعطى للمجاهدين أمرًا بألا يُطلقوا النار على أفراد الشرطة العرب، وأن يُوجهوا رصاصهم إلى الإنجليز، وكان الضباط الإنجليز قد وضعوا الشرطة العربية في ثلاثة مواقع أمامية، وتمترس الإنجليز خلفهم، ولم تكن الشرطة العربية تعرف حقيقة الجهة التي أُحضروا إليها، وحقيقة الجماعة التي يطاردونها، فقد ادّعوا لهم بأن المطارَدين لصوصٌ يهددون أمن البلاد. واتخذت المعركة بين الطرفين شكل عراك متنقل، وساعدت كثافة الأشجار على انتقال أفراد الجماعة من موقع إلى آخر، ودامت المعركة مستمرةً من الصباح الباكر حتى وقت قُبيل العصر، وقد ثبت المجاهدون وأبوا الفرار، وكانوا يستطيعون ذلك، وبدت أمامهم فرصة للنجاة عندما ناداهم الضابط البريطاني: "استسلموا تنجوا؛ فأجاب القسام: "لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله"، ثم هتف بأصحابه:

"موتوا شهداء"، فردد الجميع: "الله أكبر الله أكبر".

فقُتل في المعركة: القائد عز الدين القسام، وثلاثة من أصحابه: يوسف عبد الله الزيباوي من قرية الزيب في قضاء عكا، وعطية أحمد المصري وهو مصري جاء عاملًا إلى حيفا، وأحمد سعيد الحسان من نزلة زيد، وجُرح في المعركة: نمر السعدي من غابة شفا عمرو، وأسعد المفلح من أم الفحم. وأُسر في المعركة: حسن الباير من برقين، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا، وأحمد عبد الرحمن جابر من عنبتا، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا، وعربي البدوي من قبلان، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا، ومحمد يوسف من سبسطية وأما الإنجليز فقد قُتل منهم أكثر من 15 قتيلًا في المعركة.

نتائج المعركة: استُشهِد القسام في معركة يعبد، فوجدوا في ثيابه مُصحفًا وأربعة عشر جنيهًا فقط، وقد زعم بعض المؤلفين أن القسام باع بيته في حيفا قبل خروجه، ورُوي أن القسام لم يكن يمتلك بيتًا، وإنما كان يسكن بيتًا مستأجرًا، وكذلك رفيقه محمد الحنفي، مع أن القسام والحنفي قد وصلت لأيديهم آلاف الجنيهات، فكانوا ينفقونها في شراء السلاح.

نُقلت جثامين الشهداء من ساحة المعركة إلى جنين، ثم أرسلت إلى حيفا لتُسلّم إلى ذويها، واشترطت السلطات البريطانية شرطين: أولهما: أن يكون الدفن في الساعة العاشرة من صباح الغد، الخميس 21/11/1935م، وثانيهما: أن تسير الجنازة من بيت عز الدين القسام الواقع خارج البلدة إلى المقبرة في بلد الشيخ، فلا يُستطاع السير بالجثامين داخل المدينة.

وصدرت الصحافة المحلية تحمل نبأ وفاة القسام في صفحاتها الأولى، وعندما وصل النبأ إلى الناس أقفلت حيفا محالّها، وتدفقت إلى بيت القسام، وجاءت الوفود من جميع أنحاء فلسطين لتشارك في تشييع الجنازة، وأخذت المآذن تزفّ الخبر في جميع أنحاء البلاد.

وحمل الناس نعوش الشهداء الثلاثة، واتجهوا إلى جامع الجرينة (النصر) في وسط حيفا، مُخالفين شرط السلطات البريطانية، وبعد صلاة الجنازة أبّن الشيخُ يونس الخطيب قاضي مكة الأسبق القتلى بكلمة مؤثرة بين فيها "أجر الشهداء عند ربهم".

 وقالت جريدة "الجامعة العربية" بتاريخ 3/1/1936م: "يحتفل أبناء فلسطين بإحياء ذكرى مُجاهد من سورية الشمالية سقط شهيدًا في سبيل استقلال سورية الجنوبية، وليس ذلك فحسب، بل قاد حملة جهاد لعلها الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام الحديث في فلسطين، وسورية، والشرق العربي بأسره".

وقال عبد الوهاب الكيالي في كتابه "تاريخ فلسطين الحديث" مُبينا نتائج معركة يعبد: "ولقد كان لاستشهاد القسام البطولي أثر عميق في فلسطين كلها، وسَرعان ما أصبح رمزًاً للتضحية والفداء ...، وهكذا ألقت ثورة القسام ظلًّا كبيرًا على المسرح السياسي الفلسطيني، وأصبحت كل محاولة لإقامة تقارب بين الفلسطينيين والسلطات الحكومية مكتوبًا عليها الفشل، وبعد أقل من شهر من اصطدام الجيش بالقسام أصبحت دائرة التحقيقيات الجنائية تعرب عن قلقها من تطور الأحداث، وعمَّ الحقد على الحكومة قرى فلسطين كلها، وأصبح الرأي العام ينظر إلى القسام وأتباعه نظرة تقدير بالغ، ويعتبرهم أبطالًا وشُهداء".

clip_image016.jpg

صورة بلاغ حربيّ تظهر فيه أسماء فصائل المجاهدين مثل: فصيل عمر بن الخطاب، وفصيل القسام، وفصيل علي بن أبي طالب... وهذا من تأثير القسام والعُصبة القسامية

*العُصبة القسامية بعد وفاة القسام:

بعد استشهاد عز الدين القسام قامت القوات البريطانية يوم 8/ديسمبر 1935م بِدَهْمِ منزل نمر السبع رئيس بلدية قلقيلية فاعتقلته مع ابنه أحمد السبع وشقيقه عبد الرحيم السبع بحُجَّة انهم أعضاء في جماعة عز الدين القسام، كما قُدّم العديد من أصحاب القسام إلى المحكمة، فاعترفوا بحمل السلاح والاشتباك مع الإنجليز، وحكوا كل ما كان من العُصبة في أحراش يعبد، فقد كانت هذه المرحلة من الخطة القسامية أن يرى أبناء فلسطين أن هناك جهادًا وثورةً، وأن يُستفاد من منبر المحاكمة للتعبير عن اتجاه جديد يريد أن يفرض نفسه على الساحة، ويُوجّه العمل إلى اتجاه جهادي. قال أحمد الشقيري، وهو أحد المحامين الذين دافعوا عنهم، يصفهم أثناء سجنهم: "إنهم كانوا في حالة نفسية هادئة، لا يشوبهم القلق والجزع، وكانت سكينة الإيمان والتقوى ترتسم على وجوههم، وتتحكم في سلوكهم، ولم يكن فيهم ما ينبئ أنهم خرجوا من المعركة أمس، ولا حرج عليهم أن يعودوا إليها غدا".

ومما قاله الشيخ نمر السعدي أمام المحكمة: "إنني أعترف بكوني صديقًا للقسام ومن أنصاره، وأعتقد أن الشيخ عز الدين القسام على الحق في كل ما عمل، وليس على الباطل، ولم تكن له مآربُ شخصية، وإنما هو مجاهد في سبيل الله والوطن".

وقد هتفت الجماهير في المحكمة للمحكوم عليهم وهم خارجون من المحكمة فخاطبهم الشيخ أسعد المفلح قائلًا: "لا تخافوا علينا، إننا لا نخاف أحدًا إلا الله، نحن على حق، ولا تهمنا القوة ما دُمنا مُؤمنين بحقنا، والله أكبر ولله الحمد"، فرددت الجماهير: "الله أكبر، الله أكبر".

clip_image018.jpg

الشيخ فرحان السعدي، خليفة عز الدين القسام

وأحد قادة ثورة فلسطين الكبرى

*ثورة فلسطين 1936م - 1939:

ثورة فلسطين 1936م: (مقالة مفصلة)

كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك؛ فقد حدد القسام مسؤوليات القادة من بعده، ووزَّع عليهم مناطق فلسطين، وتأخر امتداد الثورة بعد وفاة القسام بسبب مقتل عدد من القياديين في الجماعة واعتقالهم، وخلال الشهور الخمسة (بين وفاة القسام في 20/11/1935م، وبين إعلان متابعة الجهاد في نيسان (أبريل) سنة 1936م قام أتباع القسام بدراسة خطة عمل شاملة لاستمرار الثورة حتى تتحقق أهدافها، وقاموا بالانتشار في الجبال، وتنظيم الجماعات السرية في أنحاء فلسطين، وخصوصاً في الشمال، كما قام المثقفون من أتباع القسام بتحريض الشعب على الجهاد.

ومن المؤكد أن أتباع القسام لم يُلقوا السلاح بعد مقتله، بل قاموا بتنظيم أنفسهم، وأصبح القائد الخليفة هو الشيخ فرحان السعدي، وهو الذي بقيادته بدأت الثورة الكبرى (1936-1939م) عندما قامت مجموعته بقتل يهوديين وجرح ثالث في نواحي قريتي عنبتا ونورس، مما هز البلاد وأحدث جواً عاماً من التوتر، هيّأ النفوس للمشاركة في الثورة، قامت في إثرها حوادث يافا التي أدت إلى اشتباكات بين العرب واليهود. وفي إثر هذه الأحداث تشكلت اللجان القومية في مدن فلسطين وقراها، للإشراف على سير الحركة الوطنية، وأعلنت عن بدء الإضراب الشامل منذ 20\4\1936م، وامتد ستة أشهر كاملة، ثم تشكلت اللجنة العربية العليا لتكون القيادة السياسية الموحدة للعمل الوطني، ومُثلت فيها الأحزابُ كلُّها، وترأسها الحاج أمين الحسيني. 

وقد ثبت أن عُصبة القساميين كانت لها القيادة والتوجيه والتنظيم في شمال فلسطين، عندما تجددت الثورة سنة 1937م، ولها دور بارز ورئيس في قيادة منطقة لواء نابلس وتنظيمها، حيث كانت هاتان المنطقتان أشدَّ مناطق الثورة قوةً وعملاً ونشاطاً. وقد قال المؤلف "رودلف بيترز" صاحب كتاب "الجهاد في الإسلام قديما وحديثا":

"لقد تشكلت في أثناء الثورة الكبرى بفلسطين جماعات كثيرة، شنت حرب عصابات، ونجحت في شلّ الحكومة المدنية، وأخضعت مناطق واسعة من البلاد لسيطرتها، وإن كثيرًا منها كان يقودها أتباع الشيخ عز الدين القسام، وكانت تتصور النضال بمفهوم ديني بحت، إذ كانت تطلق على نضالها اسم الجهاد، وقد شابهت في عملها منظمات الجهاد المبكرة مثل السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، والمحمدية في الهند".

وذكر أن تنظيم القسام أثر تأثيرًا كبيرًا في الثورة الكبرى في فلسطين (1936-1939م).

وقال الأستاذ أكرم زعيتر عن الشيخ القسام:

"لقد سمعتُك قبلَ اليوم خطيبًا مُفوّهًا تتّكئ على السيف وتَهدُرُ من على المنبر، وسمعتك اليوم خطيبًا تتكئ على الأعناق ولا منبرَ تقف عليه، ولكنّك والله اليومَ أخطبُ منك حيًّا". 

*القسام في الثقافة والشعر:

clip_image020.jpg

شاهد قبر عز الدين القسام، وقد كُتبت عليه مجموعة من الأبيات في رثائه نُقشت على شاهد قبر عز الدين القسام مجموعةٌ من الأبيات هي:

هذا الشهيدُ العالِمُ المِفضالُ مَن           قد كانَ في الإرشادِ خَيرَ أمِينِ

هو شيخُنا القَسَّامُ أوَّلُ رافِعٍ           عَلَمَ الجِهادِ بِنا ؛ لِنَصر الدِّينِ

كانت   شهادته   بوقعة   يعبدٍ           في شهر شعبان بحسن يقين

و لِذا حباهُ اللهُ خَيرَ رِضائه           فَضلًا ، و مَتَّعَهُ بِحُسن العِينِ

فلئن تصفْ مَثواهُ في التاريخ قُل:       في أشرف الفِردَوس عِزُّ الدِّينِ

كما قيل في رثاء القسام الكثير من القصائد والأشعار، ومن ذلك ما قاله الشاعر فؤاد الخطيب:

أولت   عِمامتُكَ   العمائم   كلها               شرفا   تقصر عندهُ   التيجان

إن الزعامة و الطريق مخوفة               غير الزعامة والطريقُ أمان

ما كنت أحسب قبل شخصك أنه               في بردتيه   يضمها   إنسان

يا رهط عز ا لدين حسبك نعمة               في الخلد لا عنت ولا أحزان

شهداءُ بدر ، و البقيعِ   تهللت               فرحا وهش مرحبا رضوان

وأما هذه القصيدة فقد جاءت ردًّا على بيان حكومة الانتداب الذي أعلن «القضاء على عصابة من الأشقياء في أحراش يعبد»، وهي للشاعر نديم الملاح، وهي بعنوان: "سموك زورا":

ما كان ذودك عن بلادك عارا             بل كان مجداً باذخا ، وفخارا

سمّوك زورًا بالشقي ولم تكن               إلا بهم   أشقى البرية   دارا

قتلوا الفضيلة و الإباء بقتلهم               لك َ واستذلوا قومك الأحرارا

أنكرت َ باطلهم وبغيَ نفوسهم               فاسترسلوا في كيدك استكبارا

كثروا عليك َ بمأزقٍ   لو أنه               ريعَ الخميسُ به لطارَ فرارا

ورأيت كأس الموت أطيب موردا         من عيشة ملئت أذى وصغارا

خلصت إلى الديان روحَك حرة             فحباكَ منه في الجنان جوارا

clip_image022.jpg

شعار كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس

وقال الشاعر صادق عرنوس:

من شاء   فليأخذ   عن القسام           أنموذج الجندي   في الإسلام

ترك الكلام و وصفه   لِهُواته           وبضاعة الضعفاء مَحضُ كلام

أوَما ترى زعماءنا قد أتخَموا الـ         آذانَ     قولًا ؛     أيما   إتخام

تركوا العدوَّ يَعيثُ في أوطانهم         و تشاغلوا   بتراشق ،   و ترامِ

يا ليت َ عز الدين يبعث بينهم          و يكون فيهم   درسُه إلزامي

حتى   يبين لهم   سبيلُ قيادةٍ             خرجوا بها عن واجب الأحكام

ويداوي الجرح َ الذي أضناهمو           جرح الخمول بمرهم الإقدام

ما كنتُ أعرفه ولا أدري به             حتى تضوّع َ طيبه في الشام

وكذلك النفس الكبيرة ُ إن نوت             عملا ،   أسرّته   لحين تمام

وقد اختارت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) "عز الدين القسام" القسام» ليكون اسمًا لجناحها العسكري، وأعلنت كتائب القسام أن هدفها العام هو "تحرير كل فلسطين من الاحتلال الصهيوني الذي يغتصبها عنوةً منذ عام 1948م، ونيل حقوق الشعب الفلسطيني التي سلبها الاحتلال، فهي جزء من حركة ذات مشروع تحرر وطني، تعمل بكل طاقتها من أجل تعبئة وقيادة الشعب الفلسطيني وحشد موارده وقواه وإمكانياته، وتحريض وحشد واستنهاض الأمتين العربية والإسلامية في مسيرة الجهاد في سبيل الله لتحرير فلسطين".

كما أخرج المخرج السوري هيثم حقي مسلسلًا بعنوان عز الدين القسام سنة 1981م، مثّل فيه دورَ القسام الممثلُ السوري أسعد فضة.

المراجع

1- الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي الدمشقي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، أيار (مايو) 2002م، ج6 ص267-268

2- عز الدين القسام - موقع مقالات إسلام ويب - تصفح نسخة محفوظة 05 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

3- عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين، محمد محمد حسن شراب، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الفصل الثاني: في جبلة من المولد إلى الهجرة، المولد والاسم والأسرة والطفولة، ص30-35

4- الوعي والثورة: دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسام 1882-1935م، سميح حمودة، الطبعة الثانية، 1986م، دار الشرق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الفصل الأول: القسام في سوريا، ص21- 33.

5- البطل المجاهد الشهيد الشيخ عز الدين القسام، مصباح غلاونجي، من مجلة التراث العربي الدمشقية، العددان 13-14، سنة 1984م.

6- عن كتاب (القسام) لعبد الله الطنطاوي - منشورات فلسطين المسلمة

7- عن كتاب (عز الدين القسام)، علي حسين خلف، منشورات دار الحوار، اللاذقية، ونقل المؤلف الرواية عن عدد من آل القسام.

8- عن كتاب (الشيخ عز الدين القسام)، حسني أدهم جرار، دار الضياء، عمّان، الأردن.

9- ألف يوم مع الحاج أمين، زهير مارديني.

10- موقع أخبار فلسطين \ في ذكرى استشهاده الـ 75.. نداء عز الدين القسام بالجهاد لازال صادحاً في فلسطين، بتاريخ 20\11\2010.

11- ثورات العرب في القرن العشرين، أمين سعيد، ص117

12- تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي، أدهم الجندي.

13- أربعون عامًا في الحياة العربية، ص 139.

14- جريدة الجامعة الإسلامية في 22\11\1935م.

15- جريدة فلسطين في 22\11\1935م.

16- القضية الفلسطينية، محمد عزة دروزة، 1\120.

17- تاريخ فلسطين الحديث، عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة العاشرة، بيروت، لبنان، الفصل السابع: ما قبل العاصفة 1930-1935.

18- أخبار فلسطين، غزة (خاص) تحت عنوان في ذكرى استشهاده الـ 75 نداء عز الدين القسام بالجهاد لازال صادحاً في فلسطين نشر في 20/11/2010 - تصفح: نسخة محفوظة 17 أبريل 2016 على موقع واي باك مشين.

19- السبيل الأردنية، عز الدين القسام وراشد الخزاعي، مقال للمؤرخ والإعلامي جمال الشواهين في يوم الجمعة 13 نيسان/أبريل 2012 - تصفح: نسخة محفوظة 28 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

20- موسوعة الحركات الإسلامية، عز الدين القسام .. مصطلح ديني وقائد ثورة، دراسة تحليلية للمركز العربي للبحوث والدراسات، نشرت بقلم رئيس مجلس الإدارة عبد الرحيم علي في يوم الخميس 30 يناير 2014 - تصفح: نسخة محفوظة 14 مارس 2016 على موقع "واي باك مشين".

21- عز الدين القسام، الجزيرة. نت

22- الحاج نمر محمد السبع رئيس مجلس محلي قلقيلية - تصفح : نسخة محفوظة 25 سبتمبر 2017 على موقع واي باك مشين.

23- الشيخ عز الدين القسام: قائد الحركة وشهيد قضية، 1882-1935

24- الشيخ عز الدين القسَّام، شخصيات من العالم العربي - تصفح: نسخة محفوظة 22 أكتوبر 2012 على موقع واي باك مشين.

25- الشيخ محمد عز الدين بن عبد القادر القسام، مجلة صفاء الإسلام، العدد الخامس، 1430هـ - تصفح: نسخة محفوظة 15 ديسمبر 2014 على موقع واي باك مشين.

26- جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، صالح مسعود أبو بصير، الطبعة الأولى، 1368هـ / 1968م، ص177.

27- 75 سنة على استشهاده ... هذه حكاية الشيخ عز الدين القسام مع الثقافة، ياسر علي، بيروت، مجلة العودة - تصفح: نسخة محفوظة 10 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

28- عزّ الدين القسام في الأدب، مؤسسة فلسطين للثقافة- تصفح: نسخة محفوظة 05 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

29- تعريف عام بكتائب القسام، الموقع الإعلامي لكتائب الشهيد عز الدين القسام - تصفح: نسخة محفوظة 6 أبريل 2020 على موقع واي باك مشين.

30- مسلسل عز الدين القسام 1981، السينما. كوم - تصفح :نسخة محفوظة 29 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

وصلات خارجية

31- عز الدين القسام - موقع مقالات إسلام ويب.

32- عز الدين القسام .. الشيخ المجاهد - موقع قصة الإسلام.

33- شهادات حية في الذكرى الثالثة والسبعين لاستشهاد القسام - "الجزيرة. نت".

34- من هو عز الدين القسام؟ محاضرة للشيخ محمد موسى الشريف - يوتيوب

35- القسام والتجربة القسامية - "الجزيرة. نت".

--------------------------------------------------------------------

الفهرس

 

تمهيد

مولد القسام وأسرته

رحلته إلى الجامع الأزهر

العودة إلى جبلة

محاربة الغزو الإيطالي لليبيا

محاربة الاحتلال الفرنسي في سورية

مراحل الإعداد لجهاد الفرنسيين

في حيفا

وظائف القسام في حيفا

التعليم

الإمامة والخطابة

وظيفة المأذون الشرعي

العُصبة القَسَّاميَّة

مراحل تكوين العُصبة

طريقة اختيار أعضائها

بدء القتال

بدء الجهاد العلني

معركة يعبد

ما قبل المعركة

يوم المعركة

نتائج المعركة

العصبة القسامية بعد وفاة القسام

ثورة فلسطين الكبرى (1936- 1939م)

القسام في الثقافة

الفصل التاسع عشر

الشهيد عزالدين القسام .. القصة كاملة!

فهد البيضاني - صيد الفوائد، بتصرف يسير

1- كان رَبْعةً، على شيء من النحول الذي يوحي بكثير معاناة، تُحس وأنت ترنو إليه أن روحه تعمل في جسده كما يعمل السيف في غمده، امتزجت في عينيه حِدّةٌ أقرب إلى الشراسة، مع حزن عميق، دقيق، يغتسل بفرح طفولي سمح.

2- إنه القسام الذي غير مجرى التاريخ، وأشرع أبواب الأمل، وسكب في القلوب وقود الجهاد.. ولقد عثرنا لديه على قصة مختلفة.. لُحْمَتُهَا وسَداها الأمة وعزها ..قصة حافلة بالمشاق والآلام، إلا أنها أيضا مليئة بالأمل والإشراق.

3- عام 1300هـ/ 1883م وفي بلدة جبلة الساحلية كبرى مدن اللاذقية السورية ولد (محمد عزالدين بن عبد القادر بن مصطفى القسام).

4- والده "عبدالقادر" كان يعلّم القرآن والكتابة في كتَّاب يملكه، وجدّه "مصطفى" كان قد قدم من العراق وهو من المقدمين في الطريقة القادرية الصوفية.

5- تزوج عبدالقادر بامرأتين: "آمنة" وقد أنجبت له: أحمد ومصطفى وكامل وشريف.

والثانية "حليمة القصاب" وأنجبت: (بطلنا عزالدين) وأمين وفخرالدين -أو فخري- وفاطمة.

6- أسرة القسام مثل مئات الأسر التي كانت تعيش على الكفاف والرضا بما قسم الله، وكانت أسرة متدينة، يحبهم الناس ويجلّونهم لما لديهم من صلاح وعلم.

7- كان بيتهم يتكون من غرفة طويلة من الطين، مقسمة إلى 3 أقسام مفتوحة على بعضها:

واحدة للعائلة، وأخرى للمؤونة والعلف، والثالثة لنوم البقرة!

8- كان الطفل عز الدين كثير التأمل والتفكر.. في الصباح يعاون والده في العمل، وبعد العصر يذهب للكتّاب يحفظ القرآن ويتعلم مبادئ العلوم.. ثم تتلمذ على الشيخين سليم طيارة وأحمد الأروادي.

9- لما بلغ 14 سنة، ولبروزه وتفوقه، سافر للدراسة في الأزهر الذي كان في ذلك الوقت لا يزال قويا شامخا، وكان يزخر بالعلماء الراسخين، وإليه يرحل الطلاب من كل بلد.

10- في مصر حدثت له قصة تدل على عصاميته، حيث انقطع المصروف عنه وعن رفيقه "عز الدين التنوخي" فاقترح القسام أن يصنعا حلوى "الهريسة" ويبيعاها للطلاب.

11- فقال التنوخي: "أنا أخجل أن أُنادِي على بضاعتنا" فقال له القسام: "أنا أصيح على البضاعة". وبعد مدة جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة.

12- فرآهما والقسام ينادي على الحلوى، فسأل: "ما هذا؟". فخجل التنوخي وقال مُتنصِّلاً: "عزالدين علمني، هو صاحب الفكرة". فقال: "حقا! لقد علمك الحياة".

13- مكث القسام ما يقارب الثمان سنوات في حلقات الأزهر، ولم يقتصر على تلك الحلقات بل كان ينهل من كتب الأئمة المتقدمين، وظهر ذلك جليا في اتباعه الدقيق لمنهج السلف.

14- كان شغوفا بالقراءة، واسع الاطلاع، موسوعي المعرفة، كثير الاهتمام بالتاريخ، أما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه فقد أولاها عناية فائقة أفادته فيما بعد.

15- كما أنه في مصر تأثر بأخبار الثورات العربية السابقة كثورة أحمد عرابي.. ورأى المحتل الإنجليزي وما يفعله في مصر حيث قد مضى على احتلاله لها 14عاما.

16- عاد القسام إلى قريته جبلة بعد نيله الإجازة العالمية وتضلعه من علوم الإسلام.. عاد ابن الـ 22 عاما ليبدأ حياة مليئة بالبذل والجهاد، وليغير مسار أمة!

17- فور عودته من مصر قام بهدم الطبقية السائدة في بلده، فقد توافد الناس للسلام عليه، لكن والده فاجأه عندما طلب منه الذهاب للأفندي - الإقطاعي الذي تعمل أسرة القسام في أرضه - ليسلم عليه، فقال في أنفة:

18- "المقيم هو الذي يأتي ليسلّم على القادم". فقال والده: "لكنه الأفندي يا

ولدي!". فطمأن والده وقال: "الأفندي لن يستطيع أذيتك بسبب قوتي بعلمي وإيماني".

19- لذا ضاق الأفندية به ذرعا فتألبوا عليه وحاولوا نفيه إلى بلدة أزمير التركية؛ للتخلص من صوته الثوري الجريء الذي صار يؤلب الناس ويوقظهم!

20- تزوج القسام من "أمينة نعنوع" فأنجبت له 3 بنات "ميمنة وعائشة وخديجة"، ثم - فيما بعد - في فلسطين أنجبت ابنه الوحيد "محمد" قبل استشهاده بـ 7 سنين.

21- حلّ الشيخ محل والده في "الكتّاب" واشتغل بتحفيظ القرآن الكريم للأطفال، وأخذ أيضاً يدرّس بعض العلوم الحديثة، ثم أصبح خطيبًا.

22- ولكي يرتقي بالتدريس والتعليم قام برحلة إلى تركيا للاطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وعلى خطب الجمعة، ودروس ما بعد صلاتي العصر والمغرب.

23- ثم عاد فتفرغ للتدريس في المساجد والمدارس وتجمعات العُمَّال وكل مكان، للأطفال والكبار والفتيات، وكان له حلقات في الجامع يدرس فيها التفسير والحديث.

24- ووفّر كل طاقته وإمكاناته للتعليم.. وكان يزور بيوت القرية ويقنع الأهالي بضرورة تدريس أبنائهم، وقام بفتح مدرسة يدرس فيها الأطفال نهارا والكبار ليلا.

25- وكان يخطب في مسجد المنصوري بطريقة مختلفة عن الخطب التقليدية، فأصبحت القرية لا تتخلف عن صلاة الجمعة، وبدأت آثار دعوته تنتشر ويلمسها الجميع.

26- كانت خطبه تهز الوجدان وتحرك المشاعر، وتعالج المشاكل اليومية، وتتناول أحوال المسلمين، وتقدم الإسلام صافيا بعيدا عن البدع، بإسلوب سهل مفهوم.

27- كان همه الأول تخليص الدين من الشوائب وإخلاص العقيدة لله، من ذلك أنه حارب ذهاب الناس لـ (مقام الخضر) على سفوح جبل الكرمل لذبح القرابين.

28- ومنع من زيارة قبر جده ووالده من قِبل أفراد الطريقة القادرية الذين كانوا يأتون من العراق لأجل ذلك، وبيّن لهم أن شد الرحال لزيارة القبور أمر محرم.

29- وحذّر- فيما بعد - من بدع كانت في الأذان والصلاة، وأنكر على فرقتي البهائية والقاديانية اللتين كانتا في حيفا وعكا، وأنكر المشاركة في جنازة عباس البهائي.

30- لذا اتهموه بالوهابية!.. قال في كتابه (النقد والبيان): "خشينا أن يرميا مؤلفه بالنزعة الوهابية التي هي حجة العاجز لترويج الباطل وإضاعة الدين". .

31- وكان التصوف منتشرا فقاومه بعلم وحلم، وحزم أحيانا، حتى صحح عقائدهم وبصّرهم، وردهم للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح النقي الواضح ... في ساحات الوغى ...

32- ولما قامت الحرب العالمية الأولى تطوع في الجيش العثماني لجهاد الإنجليز، فصار خبيراً في استعمال السلاح.. فقد كان مولعاً بالجهاد، كارهاً للغزاة.

33- سنة 1329هـ/ 1911م حاصر الإيطاليون طرابلس في ليبيا. ولمّا وصل الخبر غضب الناس، وثارت ثائرة القسام فخطب فيهم ودعاهم للجهاد بالمال والنفس.

34- فاستجاب له الكثيرون، فاختار منهم 250 مجاهدا، وانطلقوا عن طريق ميناء الإسكندرونة، لكنهم أُرجعوا!

فسافر القسام سرا، والتقى بالمجاهد الكبير الشيخ عمر المختار، وسلمه التبرعات.

35- بعدها بـ 5 سنوات قامت الثورة العربية (الغبية) على العثمانيين، وصار العربي المسلم يقاتل بجانب الإنجليز الذين وعدوه بإقامة مملكة عربية له!

36- فصارت القوات العربية تحتل القرى والمدن وتطرد الجندي التركي منها، ثم تأتي بعدها جيوش الحلفاء لتستلمها!

37- فلم يشارك القسام في هذا الخطأ التاريخي الذي وقع به المتحمسون من العرب، وكان يرى أن لولي أمره العثماني حق الطاعة وأنه لا يجوز الخروج عليه.. وكان العلماء يصرخون بالناس: ظلم العثمانيين خير من استعمار المشركين.

38- فوقع المحذور، وتخلص العرب من العثمانيين، لكن الأصدقاء الغربيون

نقضوا عهودهم، ونفذوا اتفاقية سايكس بيكو، وتقاسموا الكعكة العربية الشهية!!

39- كانت سوريا من نصيب فرنسا، فدخلتها عام 1337هـ/ 1918م وقسّمتها دويلات (حكومة لبنان الكبير- حكومة اللاذقية العلوية - حكومة لواء الاسكندرونة ...

40- فكان القسام - كما تذكر كتب التاريخ - أول من رفع راية المقاومة في المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجه فرنسا، وكان من نتائج دعايته أن انطلقت الثورة في جبل صهيون في اللاذقية.

41- ونقل عنه ابن أخيه عبد المالك القسام أنه كان يقول: "ليس المهم أن ننتصر.. المهم قبل كل شيء أن نعطي من أنفسنا الدرس للأمة وللأجيال القادمة".

42 -واندلعت الثورة السورية الأولى، وكان هناك 4 مجموعات للثورة المسلحة: (مجموعة إبراهيم هنانو، ومجموعة صالح العلي، ومجموعة صبحي بركات، ومجموعة عمر البيطار).

43- وانطلق القسام يحث الناس على الجهاد، وقام بتدريبهم على السلاح، وباع بيته واشترى 24 بندقية، ثم أنشأ هو ورفاقه - منهم أخوه فخر الدين - قاعدة عسكرية بين الجبال، وصار يتعاون مع عمر البيطار.

44- ولما قدِمت لجنة "كراين" الأمريكية لاستفتاء الناس بشأن تقرير مصير البلاد واختيار دولة تكون وصية عليهم! قابلهم القسام وقال:

45- (لا وصاية ولا حماية). فقال له رئيس اللجنة: لكنكم لا تستطيعون إدارة أنفسكم، لضعف تجربتكم! فأجابه: "بل نستطيع، إن لدينا قوة لا تملكونها" وأخرج مصحفا كان في جيبه!

46- وخاض القسام ومن معه معارك أشهرها معركة "بانيا"، حيث قاموا بغارة ليلية على الثكنة الفرنسية وقتلوا حاميتها!

47- وحاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه بتوليته القضاء، وأرسلوا له زوج خالته ليساومه! فرفض واستمر في طريقه.. لم يدركوا أنه كان قد باع نفسه لله واشترى جنته!

48- وفي جبال اللاذقية خاض مع الفرنسيين معارك ضارية، وكبدهم الكثير من الخسائر في الأموال والأنفس، فصاروا يرسلون لقتاله الفيلق تلو الفيلق.

49- وجعل الفرنسيون يحكمون قبضتهم على المنطقة موقعا إثر موقع.. وصار المجاهدون يتقهقرون يوما بعد يوم، ويفقدون الذخيرة والسلاح!

50- تذكر "خيرية القسام" ابنة شقيق القسام: أن الطائرات الفرنسية قصفت قريتهم، فاضطرت الأسرة للرحيل بفزع شديد، بعد أن أحرقت القذائف مكان سكناهم وأثاثهم.

51- ثم إن الأغنياء والوجهاء الذين كانوا يؤازرونهم أخذوا ينفضّون من حولهم ويعلنون ولاءَهم للفرنسيين، ولاسيما بعد استشهاد البيطار وكثير معه!

52- أيقن القسام أنه مهدد بالتطويق، فاتجه برجاله إلى حلب، وانضم إلى إبراهيم هنانو فجاهد معه حتى انقض الفرنسيون على حركته، وبسطوا نفوذهم على سوريا.

53- وحكم الفرنسيون على المجاهدين الذين أفلتوا من أيديهم بالإعدام، وفي مقدمتهم القسام، ووضعوا مكافأة عشرة آلاف ليرة مكافأة لمن يمسك به أو يدل عليه!

54- عندها غادر القسام إلى دمشق ونزل عند صديقه القديم عزالدين التنوخي صاحبه في الأزهر. وهناك كان له شرف المشاركة في معركة ميسلون التي قتل فيها البطل يوسف العظمة.

55- أما خبر الثلاثة الآخرين: - صبحي بركات: خان الثورة وألقى سلاحه مؤمنا بالحل السلمي!

- إبراهيم هنانو: خاض سبعة وعشرين معركة دون هزيمة، ودوخ الفرنسيين ثم غُدر به.

56- صالح العلي: رغم أنه علوي إلا أنه صدق في ثورته، وقويت شوكته.. ثم تخلى عنه "الشريف فيصل" وقلّ سلاحه وتفرق أنصاره فهزم.

57 -يلاحظ أن هذه المجموعات الثلاث كان لها تحالفات خارجية إما مع "كمال أتاتورك" أو"الشريف"، فلما قطعوا الدعم عنهم هُزموا، وبعضهم كان يتلاعب بهم!

58- فالشريف فيصل خان حليفه صالح العلي، وكمال أتاتورك تخلى عن إبراهيم هنانو، وصبحي بركات أقنعوه بترك الثورة!! فأخذ القسام من ذلك دروسا وعبرا.

59- جاهد القسام في سوريا ما يزيد على السنة، فكانت هذه الفترة بتنوع تجاربها وتحالفاتها؛ مدرسة تربى فيها واستفاد منها كثيرا فيما بعد..

60- وعرف خلالها كيف يمكن لفلاحين وبسطاء أن يواجهوا جيوشًا مدربة أحدث تدريب، يتحدونها بإرادتهم الصلبة، وعقيدتهم الراسخة، وثقتهم بالله سبحانه!

... إلى فلسطين الجريحة ...

61- بعد الحكم عليه بالإعدام، وبعد تشتت المجاهدين، قرر القسام مغادرة سوريا إلى فلسطين، فخرج عام 1338هـ/ 1920م إلى حيفا.

62- خرج القسام إلى حيفا يرافقه 6 من شباب سوريا المجاهد: أحمد إدريس، والحاج علي عبيد، ومحمد الحنفي، وخالد الصالح، وظافر وعبد المالك القسام ابنا أخيه مصطفى.

63- وحيفا ميناء ذو خليج بحري هام، ومما يميزها بعدها عن نفوذ العائلات الكبرى وصراعها الذي أضر كثيرًا بمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية وأعاق اتحادها.

64- كما تتميز بأنها كانت سوقا رائجة للعمل، يفد إليها العمال والتجار من الأقاليم العربية كافة، خاصة الإقليم السوري لأن فلسطين كانت تابعة له.

65- كما كانت حيفا قاعدة من قواعد التهويد، ومركزا لسلطات الانتداب البريطاني، ومنطلقا لأسطوله، وقد نصب فيها المدافع وبنى القلاع ومخازن الأسلحة!

66- وصل الشيخ القسام ورفاقه إلى حيفا عصر يوم جمعة، وصلّوا المغرب في جامع الجرينة، وقام القسام بعدها بإلقاء كلمة لفتت أنظار المصلين وأَسَرَتهم بروعتها!

67- في صلاة العشاء قدموه ليصلي فبكى وأبكى وأخذ الخشوع منهم كل مأخذ، ثم أقبلوا إليه يصافحونه ويدعونه إلى بيوتهم، لكن قيّم المسجد فاز بضيافته وأصحابه.

68- ثمّ نزل الشيخ القسام ضيفًا عند قريبه الحاج أمين نور الله، الذي كانت له علاقة مع أعضاء الجمعية الإسلامية في حيفا، ثمّ سكن في بيت الحاج عبد الواحد.

69- ثم بعد فترة لحقت به زوجته وبناته، حيث نقلهم سائق من بيروت أدخل أسماءهم في جواز سفره. فاستأجر لأسرته بيتا في الحي القديم مع الفلاحين النازحين. فلم يملك بيتا حتى استشهد.

70- ثم لحق به أخوه فخر الدين لكنه لم يشاركه الثورة رغم أزهريته.. ولحقت به أمه وعاشت لحظات استشهاده.. أما والده فقد مات قبل خروجه إلى فلسطين.

71- بعد شهرين عاد رفيقه خالد الصالح إلى سوريا فقبض عليه الفرنسيون وأعدموه بطريقة بشعة؛ حيث جمعوا سكان القرى ثم سكبوا الكاز عليه فأحرقوه حيا!!

72- وصل الشيخ عز الدين القسام إلى حيفا وقد شارف على الأربعين من عمره، وفي جعبته تجارب تربوية وجهادية كثيرة، وخبرة في قيادة الجمهور وفي أساليب الدعوة.

73- وفي حيفا صادف فراغا كبيرا ينتظر من يملؤه، فأقبل الناس عليه، وألقوا مقاليد أمورهم إليه، خاصة أن مجتمع حيفا شبيه بمجتمع جبلة، وله الظروف نفسها.

74- ترك القسام بلده المحتل، ونفر إلى فلسطين إدراكا منه بأنها جوهر الجهاد وأهم مواقعه، وأنه على أرضها يتحدد مصير الصراع الطويل بين الإسلام والغرب!

75- وكانت رؤية القسام للخطر الصهيوني على فلسطين تنبع من ثقافة عميقة تدرك أبعاد المشروع الصهيوني مبكرًا بفضل قراءاته عن ذلك، ومنها ما كان ينشره رشيد رضا في مجلته المنار.

76- كما أدرك مبكرا عبثية الوسائل السلمية في مقاومتها بعد تجربته مع الفرنسيين، فكان القسام حازماً وواضحاً أن الجهاد في سبيل الله هو وحده الحل لوقف أطماع اليهود.

77- رأته ابنته "ميمنة" يوما متحمسا يردد أناشيد الجهاد فخشيت عليه ولاطفته قائلة: "إن الطرق السلمية هي خير طريق يمكن أن يسلكه شعب أعزل كشعبنا، لأن القوة يجب إن تجابهها قوة مثلها، ونحن لا قوة لدينا ولا مال، فالحسن أن نسعى إلى حقنا بالطرق السلمية". فصرخ بها قائلا: "اصمتي يا ميمنة"!.. كانت رؤية واضحة جلية.

79- اتخذ القسام مسجد الاستقلال منطلقا، حيث استوطن فقراء الفلاحين الفلسطينيين الذين نزحوا من قراهم المغتصبة وصاروا يسكنون عشش الصفيح المتهالكة!

80- كان يتقرب إلى الفقراء كثيرا، ويكثر من مجالستهم، وحدث مرة أن هزئ منه كبار التجار في حيفا لكثرة مجالسته فقراء "بوابة عكا" ورفضه الجلوس معهم!

ومرة بحث عنه أحدهم فوجده يأكل مع "عامل الحمّام" الذي دعاه للإفطار!

81- كان لكلام الشيخ بين الشباب تأثير كبير، وكان يتأقلم مع البسطاء ويجد لغة مشتركة معهم، كذلك نجح بالتغلغل في أوساط النشطين من القوميين وأثّر فيهم.

82- كان تخطيطه طويل المدى، فأخذ يعلم الفلاحين والشباب، ويحارب الأمية المنتشرة بينهم، حتى أنه فتح فصولا -"صفوفا"- ليلية لمن ينشغل منهم في النهار بأعماله.

83- وفطن لطبقة الشباب المثقف الذين يجتمعون في "جمعية الشبان المسلمين" فانضم إليها ثم صار رئيسا لها، فاستفاد من انتشارها لنشر العلم والدعوة للجهاد.

84- وواظب في الجمعية على إعطاء محاضرة مساء كل جمعة، وكان يسهر الليل في إعدادها وترتيبها.

وكان يخرج كل أسبوع مع بعض الشباب؛ للدعوة في القرى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

85- وبذل من خلال الجمعية جهدا رائعا، وأعطاها الكثير من وقته حتى أنه كان ينام أحيانا على كرسي الجمعية ولا يعود إلى البيت!.. حقا لقد باع القسام تلك الروح لله.

86- وأنشأ فروعا للجمعية في القرى فصارت مكانا مفضلا للقرويين؛ يجتمعون بها ويتناقشون بشأن عدوهم الغاصب. وأحدها كان له دور بارز في إنجاح العمليات العسكرية.

87- لم يركز القسام على الأغنياء وأصحاب الجاه - وإن كان لم يهملهم - فقد أدرك أن الجماهير الكادحة أقدر على البذل والتضحية، فتوجَّه بخطابه إليهم، وشكّل منهم فيما بعد تنظيمه المسلح.

88- وكان يقول: "إني أرجو خيراً من الفلاحين والعمال، فهم واثقون بالله مؤمنون بالجنة، وهم أقرب للتضحية وأجرأ، وهم أقوى بنية وأكثر احتمالاً للمشاق".

89- أيقن أن الفلاحين والعمال هم أكثر الفئات استعدادًا للتضحية.. وذهب أبعد من ذلك في مخالفة قادة الأحزاب النخبوية؛ فوجه خطابه للمنحرفين!

90- فأيقن أيضا أن جرأة السارق والقاتل والمنحرف قابلة للتحول إلى شجاعة حقيقية وطاقة نافعة إذا ما ارتدع هذا المنحرف عن غيه وآمن بالله وبالجهاد في سبيله.

91- فحاول هداية هؤلاء فنجح.. ومنهم (حسن الباير)، كان سارقا فاهتدى على يديه، وزوجه الشيخ ابنته، وكان عضده الأيمن. وقد طال عمره فلم يتوفى إلا يوم الأحد 14/7/1404هـ.

92- عطية المصري: أصله من مصر، كان ذا طباع سيئة، وكان يشرب الخمر بمنزله فيتشاجر مع زوجته مما يؤدي إلى إزعاج جيرانه، فذهبوا إلى الشيخ وأخبروه بحاله.

93- فجاء وسهر عندهم، وأرسل لعطية، فقضى سهرته معه، وتكررت الزيارات وتوثقت العلاقة بينهما حتى اهتدى، ثم استشهد بجانبه كما سيأتي!

94- أحمد الطيب: كان من "قبضايات" حيفا، يقضي وقته في المقاهي والخمر والتشليح، فدعاه الشيخ فاهتدى، وصار يعمل على تهريب وتخزين الأسلحة للمجاهدين!

95- نوح إبراهيم: شاعر شعبي اشتهر بأهازيجه الشعبية الحماسية، كان يتيما عند راهبة نصرانية، توثقت صلته بالقسام فاهتدى، واستشهد في الثورة الكبرى، وكان بعد وفاة القسام يرثيه كثيرا، وإذا طبع ديوانا جعل صورة الشيخ على الغلاف.

96- صار الشيخ ينشر الوعي بين الناس فأقبلوا عليه.. وكان إذا خطب أقفرت الشوارع!

وتوافد الناس حتى من القرى المجاورة للاستماع إلى خطابه البارع الصادق، الذي كانت الأمة بحاجة ماسة إليه.

97- وقد كان القسام متحدثاً لبقا، وخطيبا بارعا.. في صوته تهدج وحماسة، وفي نبراته رنينُ ألمٍ ممضّ، وفي عينية بريقٌ من بأس وقوة!

وكان كذلك حسن المعاشرة، ذا شخصية آسرة!

.. المرحلة الأولى: تهيئة الناس للجهاد..

98- وكان يحرص على الجلوس مع رفاقه بعد صلاة الفجر في حلقة صغيرة، يتحدث فيها عن فضائل الجهاد، ومكانة المجاهد، وثواب الاستشهاد في الآخرة.

99- وتولى التدريس في عدة مدارس في حيفا، فجمع بين المنهج الدراسي والتوجيه التربوي، وربط الناشئة بالصحابة والفاتحين، واستخدم المسرح لغرس الجهاد في نفوسهم، فمثلوا حطين وعين جالوت وغيرها.

100- وكان أثناء تدريسه يسأل طلابه عما يريدون أن يكونوا، فكانوا يتمنون كوظائف آبائهم، إلا واحدا قال: (أريد أن أصبح قائدا مسلما) فشجعه ولفت الأنظار إليه.

101- كان هو في نفسه قدوة تقيا نقيا، هادئا، قليل الكلام، لا يسمح بالغيبة أبدا، وإذا سمعهم يخوضون رفع رأسه وقال: "استغفروا الله أيها الناس"، ثم انصرف.

102- كان قويا شجاعا ماضي العزم، وصفه أحدهم فقال:

"هذا الرجل كانت عنده النعم نعم، واللا لديه لا"! وكان يُنكر البدع وينهى عنها، ويكتب في الصحف.

103- وأوذي لإنكاره بدع الجنائز، وألف مع القصاب كتاب (النقد والبيان) في الرد على بدعهم، فأزعجهم جدا، وحاولوا تشويه سمعته، وسعوا لمنعه من الخطابة!

104- ورفيقه كامل القصاب - لمن لا يعرفه- من رؤوس السلفيين في الشام، وكان - فيما بعد - إحدى الشخصيات التي اعتمد عليها الملك عبد العزيز رحمه الله في تأسيس إدارة المعارف بمكة.

105- ومن قرأ الكتاب اتضح له الدقة العلمية التي ارتقى لها، وتبحره في العلوم، وفهمه العميق لما يَكتب حوله، وسيسلم له بصحة وقوة ما ذهب إليه.

106- ولزيادة مساحة تأثيره صار الشيخ مأذونا يتجول بين الناس الذين قد لا يحضرون للمسجد، وصار يستغل الأعراس لبث الدعوة والتعليم والتواصل مع الناس.

107- ووظيفة المأذون حصل عليها بعد فوزه على 14منافسا، وصار بهذه الوظيفة يخدم المجتمع فيما يخص الإصلاح الأسري ومعالجة المشاكل الاجتماعية.

(وانظر صورة ورقة إجابته، وصورة غلاف كتابه:

 https://twitter.com/fh25/status/499261471251914752 )

108- وفي إحدى جولاته وقف على قطعة أرض خصبة فابتاعها وعهد بها إلى أحد أعوانه، وصار يستغل مواردها في شراء الأسلحة للمجاهدين وإعانة المحتاج منهم. كان يخطط.

109- في هذه الأثناء كان المد الصهيوني يتوسع، وكانت خطورته تزداد دون أن يتصدى له أحد، وكان الإنجليز يتولون حماية المخطط الصهيوني والتمكين له!

110- فرأى القسام ضرورة ضرب هذا الاستعمار البريطاني، وذلك في وقت كانت الزعامات والأحزاب الفلسطينية تسعى لمفاوضة بريطانيا وتتجنب مواجهتها!

111- بل كان الفلسطينيون والعرب - على رأسهم الشريف حسين - يرون أن الإنجليز ليسوا كالفرنسيين والإيطاليين، وأنهم قوم متحضرون سينشرون العلم والصناعات!

112- لقد وصلتهم أخبار وحشية الفرنسيين والإيطاليين، بينما بريطانيا تتودد لهم وتعطيهم من معسول الكلام المؤكد بأنواع المواثيق، فانخدعوا لهم، ونسوا أنهم لم يفوا بوعدهم بعد ثورتهم على الأتراك.

113- بل إن الأمر استفحل حتى أن جريدة القبلة - الصادرة بمكة والناطقة باسم الشريف - كتبت: (الإنجليز ضيوف ومن أهل الكتاب؛ فينبغي أن نُحسن استقبالهم)!

114- أما بطلنا القسام فقد آمن وأيقن بأن الثورة المسلحة هي الطريق الأوحد لإنهاء الانتداب البريطاني، والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين.

115- وكانت القاديانية -ومركزها حيفا - يبثون بين الناس أنه يجب طاعة الإنجليز، وأنهم صاروا ولاة أمر! فأبطل القسام ذلك، وأوضح أنه لا طاعة إلا لولي أمر مسلم، وأوجب عصيانهم.

116- ولما جاء خبرٌ أن اليهود يأتمرون للهجوم على جامع الاستقلال؛ اقترح الوجهاء أن يطلبوا من البريطانيين إرسال قوة لحراسة المسجد! فثار الشيخ وخطب قائلا:

117- (إن جوامعنا يحميها المؤمنون منا، إن دمنا هو الذي يحمي مساجدنا لا دم الآخرين)، واتهم أصحاب الاقتراح بالجبن والخور.. فأوقفته السلطات وسألته عما قال فلم ينكر منه شيئا.. وأضرب الناس حتى خرج.

118- ولقد كان أسلوب الثورة المسلحة أمرا غير مألوف للحركة الوطنية الفلسطينية، واقتصر نشاطهم على المظاهرات والمؤتمرات وإرسال البرقيات، بل منهم من سخر من دعوته للجهاد!

119- لذا كان إبراهيم طوقان يخاطبهم ساخرا:

أنتم   رجال خطابات منمقة               كما علمنا وأبطال احتجاجاتِ

أضحت فلسطين من غيظ تصيح بكم: "خلوا الطريق فلستم من رجالاتي"

120- كانت مهمة القسام صعبة.. والناس قد خنعوا للاحتلال.. فأخذ يستثير حماستهم .. كان يصرخ بهم: "أيها الرجال.. يا نساء وشباب فلسطين.. البلاد في خطر"!

121- وكان يقول: "إن الصليبية الغربية الانجليزية، والصهيونية الفاجرة اليهودية، تريد ذبحكم كما ذبحوا الهنود الحمر في أمريكا.. تريد إبادتكم".

122- وكان يقول: أيها المسلمون ألا تفهمون؟ الله فرض عليكم الجهاد ليحميكم، ويحمي أعراضكم (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) لقد ملأ اليهود بلادكم، لقد سرقوا أرضكم!

123- وكان يستثير غيرتهم: "إنهم يريدون اللعب بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وتحويلهن إلى خدم وسبايا". ويردد: "اعلموا أن خلاصنا فقط بأيدينا".

124- وكان يشن هجومه على السماسرة وباعة الأراضي لليهود، فأحسوا بخطره وصاروا يشكونه لدار الحكومة لعل الإنجليز أن يكفوه عنهم، لكنه مضى في طريقه.

... المرحلة الثانية: تكوين التنظيم المسلح ...

125- وهكذا استطاع القسام في العشر السنوات التي قضاها في جامع الاستقلال ومع الطلاب وبين العمال، أن يهيئهم للجهاد، وصارت كلماته الجهادية على ألسنتهم.

126- وكان شعاره وتلاميذه: (هذا جهاد نصر أو استشهاد). وكانوا يقولون لمن يأمل من الانجليز الوفاء بوعدهم بأنهم سيمكِّنون لهم: (من جرّب المجرب فعقله مخرب)؛ لأن الإنجليز خانوهم بعد ثورتهم على الأتراك.

127- ثم أخذ يأمر الناس بالتسلح علانية!.. طلب مرة من المصلين أن يقاوموا الأعداء، فقام أحد الناس وقاطعه قائلا: بماذا نقاوم ونحن لا نملك سلاحا؟ فأجاب: بقتلهم وأخذ السلاح منهم!

128- يروي أحمد السعدي - رئيس بلدية جنين - أن الشيخ في إحدى خطبه كان يخبئ سلاحًا تحت ثيابه فأخرجه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتني مثل هذا"!

فأخذ للسجن، وتظاهر الناس حتى خرج.

129- كان يشتعل غضبا وثورة، وكانت كلماته تلتهب كأنها جمر أحمر!

في احدى خطبه صاح بالمصلين: "هل أنتم مؤمنون؟" فاندهشوا. فأجاب "لا اعتقد" وسكت!

130- فسرت همهمة وانشدت الانظار نحوه فقال: "لو كنتم مؤمنين لكانت

عندكم عزة المؤمن، فإذا خرجتم من هذا المسجد وناداكم جندي بريطاني فستُهرولون نحوه".

131- ويقول: رأيت شبابا يحملون مكانس لكنس الشوارع هؤلاء مدعوون لحمل البنادق، ورأيت شبابا يحملون فرشاة لمسح أحذية الأجانب، هؤلاء مدعوون لحمل المسدسات.

132- وكان رفاقه مثله.. كان كامل القصاب يدخل على تلاميذه ويطلب إخراج الكتاب، ثم يسحب مسدسه ويشير إليه قائلا: "تعلّم هذا قبل هذا" ويُشير للكتاب.

133- دعا القسام للتسلح وبدأ فيه.. بينما اقتصرت الزعامة الفلسطينية والأحزاب و"المناضلون" على ما يسمونه (الطرق المشروعة) مفاوضات، مظاهرات، مؤتمرات!

134- وكان تنظيمه سريا للغاية، يتكون من حلقات لا تزيد عن تسعة أعضاء، ولها قائد يوجهها، ولا تتاح العضوية لأحد إلا بعد مدة من التجربة والمراقبة.

135- حيث أنه كان أثناء الدروس والخطب يتفرس وجوه الحاضرين، فيزور بعضهم، ثم يدعوه لبيته ويحدثه عن الجهاد، فإن رأى فيه إقبالا ضمه إلى حلقة سرية.

136- واتسع التنظيم بعد أن طردت سلطات الانتداب البريطاني سكان 22 قرية من قرى "مرج ابن عامر" واستولت على أراضيهم! واتسع أكثر بعد ثورة البراق:

137- ففي عام 1347هـ / 1929م - أي قبل الاستشهاد بـ 7 سنين - كانت البداية الفعلية لمرحلة الإعداد العسكري المسلح.. فقد خطا اليهود خطوة جريئة!

138- حيث أنهم تداعوا للتوافد إلى حائط البراق، وتدفقوا بأعداد هائلة من أنحاء فلسطين.. فتنادى المسلمون لحراسة الأقصى واندلعت ثورة البراق!

139- ووقع شهداء، وقُدم الأبطال (فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم) للمحاكمة فأعدموا، فخطب القسام خطبة نارية وهو متجهم الوجه دامع العينين فقال:

140- (يا أهل حيفا، ألا تعرفون فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم؟ ألم يجلسوا معكم في دروس جامع الاستقلال؟ إنهم الآن على أعواد المشانق). كانوا من طلابه!

141- وانتفض بعض قادة التنظيم يطالبون الشيخ القسام بإعلان الجهاد، لكنه رفض ذلك لعدم اكتمال الاستعدادات.. ثم أمضى سنوات أخرى في اختيار العناصر وتدريبها.

142- وبعد جهود 3 سنوات استطاع تكوين 12 حلقة جهادية، تعمل كل واحدة منفصلة عن الأخرى، غالبهم من عمال البناء، والسكة الحديدية، والباعة المتجولين!

143- ثم بلغ عدد الشباب الذين أعدهم القسام للجهاد 200، وعدد من هيأهم نفسيا وعلميا 800.

وكان عدد قادة التنظيم 9، وقادة الفروع 22. إضافة إلى آلاف المتعاطفين.

144- وحميت الاستعدادات.. وتكاثر الأتباع.. وكان شرْط الانضمام أن يشتري سلاحه الأول من ماله، لأن بذل المال إنما هو تدريب على بذل الروح لله، ومن بخل بالمال فهو بالنفس أبخل.

145- وعندما كثر الأتباع وتفرقوا في المدن والقرى رأت القيادة العامة أن توزع الأعمال على إدارات متخصصة، يتولى كل منها شأنا محددا.

فكانت كالتالي:

146- (جماعة شراء السلاح): يديرها حسن الباير ونمر السعدي.

(الاتصالات السياسية): يديرها محمود المخزومي.

(الاستخبارات والتجسس): يتولاها ناجي أبوزيد.

147- (التدريب العسكري): بإشراف "جلادات" وهو ضابط عثماني سابق، حيث أرسل القسام "حسن الباير" إلى تركيا فأتى به. وكان يدربهم أيضا محمد أبو العيون.

148- (التمويل) لجمع المال من الأعضاء والأنصار ورعاية أسر المعتقلين والشهداء. كل عضو قسامي يدفع عُشر دخله شهريا، وكثير منهم كان يبذل كل ما يملك!

149- لذا فإننا لا نبالغ إذا قلنا: لقد ربى القسام رجالا ووجههم وهذبهم حتى

أصبحوا جيلا فريدا يمكن نظمه في سلك رجالات المثل الأعلى في تاريخ جهاد المسلمين!

150- يقول أحد القساميين:

"كان الشيخ يأخذنا لدروس التدريب وإطلاق النار، ويجعلنا نمشي حفاة، وننام في الجو البارد في العراء، مع الجوع والعطش".

151- ورغم ريادة القسام ورفاقه في تشكيل منظمة مسلحة؛ إلا أن المؤرخين أجمعوا على نجاح الشيخ وجماعته في تجاوز أخطاء البدايات، وعلى دقتهم، وسريتهم الفائقة!

152- تمكن الجهاز المالي من توفير المال لشراء مئات البنادق الحربية،

وكانت الخطة تقضي ألَّا يعلن الجهاد حتى يتوفر في المخازن 1000 قطعة من السلاح.

153- وقبل بدء الجهاد العلني قام التنظيم بعدد من العمليات الفدائية الفردية آذت العدو، وكانت تدريبا عمليا، وكسرا لحاجز الخوف، وفتحا لباب الجهاد.

154- كانت أولى العمليات الفدائية: الهجوم على مغتصبة الياجور قرب حيفا ليلة 17/11/1349هـ 1931م فقتلوا ثلاثة يهود، وعادوا دون أن يتركوا أثرا!

155 -ثم توالت العمليات على كل من: مغتصبة بلغويا، مغتصبة كفارهاسيديم، مغتصبة عتليت، مغتصبة العفولة.. عمليات قوية ودقيقة وناجحة، أرعبت العدو!

156- واستمر سيل العمليات في فترات متعاقبة: قنص لضباط الإنجليز، تخريب لسكك حديدهم، هجوم على معسكرات بريطانية.. وكانت تخف عند اشتداد الطلب.

157- ثم نفذوا عملية نوعية أقضت مضجع العدو وأقلقته، وهي عملية (نهلال) ليلة 1351/8/23هـ 1932م ومغتصبة نهلال هي أكبر الرموز الصهيونية في فلسطين.

158- فقد قام أحمد الغلاييني الذي يعمل سمكريا، بصنع ألغام في معمله، ثم قام مجاهد آخر بزرع أحدها في منزل حرس المغتصبة، فانفجر وقتل اثنان وجرح آخرين.

159- وفي بعض العمليات قبضوا على المُنفذين، فلم يدلوا على القسام ورفاقه، وصبروا على السجن والتعذيب، بل حتى على الإعدام.. لقد خرَّج للأمة جيلًا مختلفًا!

160- احتار اليهود والانجليز، وحاول جواسيسهم معرفة الفاعل، لكن من دون جدوى.

غير أن خطب الشيخ الجريئة جعلتهم يستدعونه للتحقيق، ثم أطلقوه لمّا لم يجدوا أدلة كافية.

.. المرحلة الثالثة: إعلان الجهاد..

161- أوائل 1354هـ/ 1935م اضطر القسام لإعلان الجهاد قبل اكتمال الاستعدادات، لمّا أحس أن العدو يراقبه ويضيق الخناق فخشي من ضربة تقضي على مخططه.

162- كما أن الهجرة اليهودية قد ازدادت فدخل في ذلك العام 62000 يهودي! أما أقوى دوافع إعلان الجهاد والاستعجال فيه فهو ما اكتشف في ميناء يافا!

163- فقد تم - مصادفة - اكتشاف عملية تهريب ضخمة للأسلحة الحديثة مرسلة لليهود.. فقد رست في ميناء يافا سفينة تحمل 537 برميلا من الإسمنت البلجيكي.

164- وبينما العمال ينزلون البراميل سقط أحدها وانكسر. فتفاجؤوا أن الذي داخله أسلحة وليس إسمنتا! (رشاشات ومسدسات ورصاص وبنادق) بينما الإسمنت طبقة رقيقة للتمويه.

165- فانتشر الخبر المذهل بين الناس.. فغضبوا وثاروا.. وعندها قرر القسام إعلان الجهاد.. وقال: "إن لم نهاجم اليهود فإنهم سوف سيهاجموننا".

166- أما مفتي فلسطين فقد دعا الأحزاب للاجتماع، فكان غاية فعلهم أن شكلوا لجنة قابلت المندوب (السامي) وطلبت السماح لهم بالإضراب فرفض.. يا للعار!

167- قبل إعلان الجهاد قام الشيخ بجولة في عدد من المناطق لدراسة جغرافيتها، واختيار أنسبها لتكون قاعدة عسكرية، خاصة الجبلية ذات الغابات الكثيفة.

168- الثلاثاء 15/8/1354هـ 1935م اجتمع قادة التنظيم اجتماعا مطولا، ودرسوا الموقف العام في فلسطين، ثم كان أن قرروا: إعلان الجهاد في سبيل الله.

169- وخطب الشيخ آخر خطبة له فقال: "أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون.. إلى الجهاد أيها المسلمون"... وودّع الناس فأجهشوا بالبكاء، وأقبلوا يقبلون يده.. ثم انطلق.

171- وصدر الأمر القيادي الأول: (ليتوجه كلٌ إلى أهله، يستودعهم الله، ويعاهدهم على اللقاء في الجنة)!! يا لها من لحظات!

172- وكان هو قد استلف من زوجته حليها، واشترى به سلاحا.

كما أن أصحابه كانوا قد باعوا حلي زوجاتهم وبعض أثاثهم، واشتروا بها رصاصا وبنادق.

173 -بعد ساعة من الخطبة كانت السلطات البريطانية تفتش عنه، لكنه كان قد حمل بندقيته وودع أهله وخرج وصحبه إلى الجبال.. لقد خرج ليصدّق أقواله بأفعاله.

174- وكانت الخطة هي الطواف بالقرى وحثهم على حمل السلاح، لا أن يواجهوا العدو مباشرة مع قلة العدد، لكن الله الحكيم قدر ما قدر، وهو أعلم جل وعلا.

175- ويذكر بعض المؤرخين أن القيادة القسامية قررت احتلال حيفا لمدة ثلاثة أيام بقصد إحراز مكسب عسكري يكون حافزا لقيام الشعب بثورة عامة في كل المدن.

176 -اتجه القسام وصحبه نحو منطقة جنين ذات القرى الكثيرة، ومن بينها يَعْبُد ذات الغابات الكثيفة، ولهذا اختارها، ثم إن كثيرا من أصحابه من أهلها.

177- في ذلك الحين نشرت الصحف خبرا هز العالم العربي يقول:

(إن شيخا يقال له القسام - يلبس الكوفية والعقال والبنطال الكاكي - يتدرب في غابات يعبُد يستعد للجهاد)!

178- صار القسام وأصحابه يتنقلون بين القرى يدعون للجهاد، وتفرق بقية المجاهدين في القرى الأخرى للغرض نفسه، وليحركوا الناس عندما تحين ساعة الصفر.

179- وأقام الشيخ ومن معه في مغارة بأحد الجبال.. وهناك جرت رياح القدر بما لم تشتهِ سفن القسام وأصحابه!

لقد حصل ما غير مجرى الأحداث، وعجل المواجهة التي لم تكتمل الاستعدادات لها، ولم تكن ضمن الخطة!

180- حيث إن أحد مكلفي الحراسة اجتهد اجتهادا غير مناسب، فأطلق النار على دورية رآها بالقرب منهم ظن أنها تريدهم.. فقتل الشرطي اليهودي.

181- فأثار ذلك الشكوك، وربط العدو بين غياب القسام وما حدث قرب الجبل، فكثف الدوريات الأمنية وبث الجواسيس..

فأمر القسام بالانتقال إلى قرية أخرى.

182- وأعلن البريطانيون جائزة لمن يدلي بمعلومات عن قاتل الشرطي، ونشروا للناس خبرا أن هناك عصابة لصوص في جبال جنين على من يراهم الابلاغ عنهم!

183- وبدأت القوات تتعقب مجموعة القسام دون أن تحدد موقعهم، وصدّق بعض الناس أنهم لصوص، فرآهم أحدهم فدل عليهم، فوصلت القوات واشتبكت مع المجموعة.

184- فاستشهد في المواجهة أحد المجاهدين، ثم استطاعت المجموعة الانتقال إلى جبل آخر..

لكنهم لاحظوا أن العملاء يتعقبونهم .. فقرروا أن ينقسموا إلى مجموعتين.

185- المجموعة الأولى: وعددهم عشرة، ذهبوا شمالا.

والمجموعة الثانية: وكانوا ثمانية القسام تاسعهم، واتجهوا غربا إلى قرية يَعْبُد.. كان ذلك قبل الاستشهاد بيومين.

186- وفي اليوم التالي أصبح تحركهم صعبا جدا، فقد وصل إلى جنين عدد كبير من المخابرات والجواسيس، وانتشروا مُتسترين بزي عامل أو فلاح أو زبال!

187- ووصف مراسل صحيفة "فلسطين" جنين وقراها بأنها قد تحولت إلى "ساحة حرب" لكثرة من توافد إليها من رجال الشرطة والعملاء.

188- استطاع الشيخ وصحبه الوصول لقرية" الشيخ زيد" ونزلوا عند أحد المشايخ.. ثم غادروا في صبيحة يوم الأربعاء 23/8/1354هـ - 20/11/ 1935م يوم الشهادة!

189- دخل القسام ورفاقه إلى غابة كثيفة في جبل بالقرب من قرية يَعْبُد التي سميت المعركة باسمها.. وهناك كان الشيخ وبعض رفاقه على موعد مع الشهادة.

190- استعان العدو بطائرة استطلاع حلقت فوق القرية، وحددت موقعهم.. وبينما كان أحد المجاهدين خارج الغابة للحراسة، إذا به يرى العدو يطوق الجبل!!

191- مع طلوع الشمس أغار الأعداء على ظهور الخيل وهم يتصايحون.. فتوزع المجاهدون، واتخذوا مواقع الدفاع خلف بعض الصخور.. وبدأت معركة غير متكافئة!

192- وترك العسكر الخيل وانبطحوا على بطونهم متمترسين ببعض الحجارة، وصاروا يتوافدون عشرة عشرة حتى بلغوا 200 معظمهم قناصة، بينما المجاهدون 9!

193- وُضعت الشرطة العربية في الخطوط الهجومية الثلاثة الأولى! فأصدر القسام أوامره المشددة أن لا يقتلوهم، وأن يوجهوا رصاصهم إلى الإنجليز فقط!

194- وقيل: إن الشرطة العربية لم تعلم حقيقة الجهة التي أُحضروا إليها، وحقيقة الجماعة التي يطاردونها، وقد صدّقوا أنهم لصوص يهددون أمن البلاد!

195- اتخذت المعركة شكل عراك متنقل، وساعدت كثافة الأشجار على ذلك، وترك العدو جهة واحدة ليخرجوا منها فيحصدوهم، لكنهم تنبهوا لهذه المكيدة.

196- وحمي الوطيس، وكان العدو لا يعرف عدد المجاهدين فظن أنه يحارب جيشًا كبيرًا لما لاقاه من مقاومة شديدة، وكان الرصاص يصم الآذان!

197- وثبت الأبطال.. وبدأ القتل في الأعداء.. واستطاع المجاهدون أن يسقطوا 15 بريطانيا، إلا أن البلاغ الرسمي لم يعترف سوى بمقتل ثلاثة!

198- استمرت المعركة حتى قبيل العصر، واستشهد أحد المجاهدين، وجرح آخرون، وضاق الخناق على البقية، وكان سبيل النجاة هو الاستسلام لكن الرجال ثبتوا.

199- ونادى الضابط البريطاني: استسلموا تنجوا.

فصاح القسام: (لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله). ثم قال لرفاقه: موتوا شهداء خير من الاستسلام للكفرة.

200- وكان الإنجليز يريدون القسام حيا؛ لأنهم يعلمون أن استشهاد قائد ثائر سيؤجج نفوس أمّته، وسيصبح مشعلا يضيء طريقهم، وقدوة دائمة لشبابهم!

201- وقاتل الشيخ ذو الـ 54 عاما قتال الأبطال.. وكان يناوب في قتاله بين البندقية والمسدس.. في الوقت التي كانت شفتاه تلهجان بالدعاء..

202- كان يدعو الله بالنصر، فمنحه الكريم أعظم نصر، كان يرجو من الله الفوز، فرزقه سبحانه أعظم فوز!

رزقه الشهادة في سبيل الله.. أعطاه ما كان يرجوه ويتمناه!!

203- وأخيرا.. سقط البطل! أخيرا.. اخترقت رصاصات الغدر ذلك الجسد الطاهر فمزقته! أخيرا.. استطاعت الكلاب المتكاثرة والثعالب الماكرة أن تقضي على الليث!

204- استشهد القسام فوجدوا في ثيابه مصحفا، و14جنيها.

أما الأسرة والأطفال والوالدة المقعدة فقد تركهم لله، وهو سبحانه خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

205- استشهد القائد عزالدين القسام، وسقط بجانبه اثنان من رفاقه (عطية المصري - صاحب القصة - ويوسف الزيباوي) رحمهم الله وغفر لهم وجزاهم عنا خيرا.

206- وجرح: نمر السعدي وأسعد المفلح. وأُسر: حسن الباير وأحمد جابر وعربي البدوي، وحكم عليهم بالسجن14سنة، ومحمد يوسف.

رحمهم الله ورضي عنهم وأرضاهم.

وكان شيخهم القسام يخبرهم - من قبل- عما سيلاقونه، ويؤكد لهم أن هذا الطريق محفوف بالتعب والمشقة، ومن كلماته التي حفظوها منه: "الجهاد رفيقه الحرمان".

207- بعد انتهاء المعركة تعمد قائد العدو فتسجيرالد إهانة جثة الشيخ - رحمه الله تعالى- ويقال: إنه داس على رقبته! لذا حاول المجاهدون اغتياله فيما بعد.

208 -نُقل الشهداء من ساحة المعركة إلى جنين، ثم أُرسلوا إلى حيفا فتسلمهم ذويهم، وتسلم فخر الدين أخاه الشهيد.. وصدرت الصحافة المحلية تحمل نبأ الشهداء على صفحاتها الأولى..

209- فاهتزت فلسطين للخبر المذهل، وكانت جنازته مشهودة.. واضربت حيفا إضرابا كاملا، واكتسحت نفوس الناس موجة كلها عواصف وزعازع وزفير كزفير النار!

210- وعندما وصل الخبر إلى الناس أقفلوا محالهم، وتدفقوا لبيت القسام، وأخذت المآذن تزف خبر الشهداء في جميع أنحاء البلاد..

(وهنا لابد من دمعات)

211- كتب مراسل إحدى الجرائد يصف حال أهل يافا بعد تلقيهم الخبر:

وجوه ساهمة، ونفوس حيرى، وأفئدة مضطربة، طُفت الأندية على اختلاف نزعاتها فلم أسمع إلا الثناء عليه وتعداد خصاله الطيبة.

212- وكان لمقتل الشيخ ورفاقه دوي هائل في الشام ومصر، وصُلي عليه صلاة الغائب، وبكاه ورثاه المجاهدون والعلماء والشعراء والأدباء والسياسيون.

213- وحُملت الجنائز الثلاث إلى الجامع؛ للصلاة رغم محاولة الإنجليز منع ذلك، وبعد الصلاة أَلقى الشيخ يونس الخطيب - قاضي مكة الأسبق - كلمة مؤثرة.

214- أُخرجت الجنائز بصعوبة بالغة، وكان المشيعون قد توافدوا من أنحاء فلسطين، فتحول الموكب لمظاهر هائلة.. وارتفع دوي صوتهم كالرعد القاصف ينادي: الانتقام.. الانتقام.

215- وهاجم المشيعون مقر الشرطة وحطموا سياراتهم، فأقبلت كتيبة

لمنعهم، فأنزل الناس الجنائز وهاجموهم، وألقوا الضابط جيمس وجنوده أرضا وطردوهم.

216- ورفض الشباب الثائر حمل الجنائز على سيارة، وحملوها على أكتافهم إلى المقبرة التي كانت تبعد عن البلد 5 كم.. وهناك رأوا لأول مرة شهداء يدفنون بثيابهم المخضبة بالدماء الزكية!

217- عندما شاع خبر الشيخ القسام ذُهل زعماء الوطنية لأنهم كانوا يظنون أن لا أحد في الميدان يخالف نهجهم، ولأن القسام فتح بابا للجهاد لا يستطيعون وُلوجه!

218- ولما شُيعت جنازته لم يحضروها، ما عدا قادة حزب الاستقلال، لأن القسام باستشهاده قدم دليلا على فشلهم وخطأ أساليبهم النضالية السلمية العقيمة.

219- لكن طلاب القسام أيضا لم يحضروا الجنازة!

لقد انطلقوا إلى الجبال لمواصلة مسيرة بطلهم، وانضم إليهم شباب جدد ألهب حماسهم استشهاده!

220- ظن الإنجليز أن مقتل القسام أنهى المشكلة، لكنهم لم يعلموا أنه أعد رجالا بالمئات يخلفونه من بعده.. فصَدق الشيخ في قوله: (نحن عود ثقاب لإشعال الجهاد)!

221- وكان القسام ورفاقه قد وضعوا خطة يسيرون عليها في حال استشهاده! فلم تمر 6 أشهر إلا وأشعلوا الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1355هـ/ 1936م!!

222 -اندلعت تلك الثورة يقودها تلميذه فرحان السعدي الذي ما لبث أن أُعدم وهو صائم في الـ80 من عمره! وكان القساميون هم القادة في أغلب المناطق!

223- ثم تسلم الراية المجاهد عبد القادر الحسيني فقاد الجهاد حتى استشهد عام 1367هـ/ 1948م.. إن مجرد تذكر القسام وهو مضرج بدمائه كان يستثير هممهم!

224- وبعد 53 عاما أتى المجاهد الشيخ أحمد ياسين فأنشأ حماس التي استأنفت طريق الجهاد عام 1407هـ يقودها أبطال كانوا يوم مقتل القسام في أصلاب آبائهم!

225- وكان أمام طلابه مهمة أخرى لا بد أن ينجزوها!

إنها الانتقام من الجواسيس الذي كانوا يتجسسون على القسام ورفاقه، وبعضهم كان يعذب رفاقه في السجون، خاصة العميل (أحمد نايف) والعميل (حليم بسطة).

226- فاغتالوهم وعددا آخر من العملاء.. ولمّا اغتالوا (أحمد نايف) امتنع الناس من السير في جنازته، وأغلقوا مساجدهم لئلا يصلى عليه، فدفنه الإنجليز ليلا ووضعوا حارسا لئلا يُنبش!

227- بعد استشهاد القسام بثلاثة أيام كتب أكرم زعيتر في بعض الصحف: "ليس من سبيل إلى الخلاص إلا الجهاد الدامي، وقد فتح لنا فقيدنا الباب فلنلِجنَّه، وإنا لفاعلون، إنها دعوة جديدة أخذت تظهر على ألسنة الناس لم نكن نعرفها، نفخت في الأمة روحا لم تكن تفطن لها، لقد سمعتك من قبل خطيبا، لكنك اليوم أخطب منك حيا".

229- الشاعر عبدالرحيم محمود:

حَفي اللسان وجفت الأقلام * والحالُ حالٌ والكلام كلام

هذي طريقك للحياة فلا تزغ * قد سارها من قبلك القسام

230- حسن الباش:

إيهٍ فلسطين من للنار يضرمها           حين استلذت على الأحلام أجفان

من للكلوم سوى القسام يا بلدي         من لي إذا اغتصبت بالغدر شطآن

231- عبد الكريم الكرمي:

إيهٍ رجال العرب لا كنتم رجالا في الوجود

قوموا انظروا القسام يشرق نوره فوق الصّرود

يوحي إلى الدنيا ومن فيها بأسرار الخلود

232- وتحدثت الصحف الغربية عن القسام ورفاقه، حتى أن صحيفة

الاوبزرفر اللندنية كتبت تقول: (جهاد العرب الحقيقي في سبيل التحرر، بدأ بقيام حركة القسام).

233 -وفي أول مؤتمر نسائي لفلسطين وقفت ميمنة ابنت القسام وقالت: (الحمد لله الذي شرفني باستشهاد أبي، وأعزني بموته ولم يذلني باستسلام

أمتي) وأغمي عليها أثناء ذلك!

وقد توفيت رحمها الله يوم الإثنين 10/5/1425هـ.

234- وقال حمدي الحسيني: "إن القسام عدلّ من هذه القضية ما اعوجَّ".

وقال الشيخ سليمان التاجي: "القسام نقل القضية من دور الكلام إلى دور العمل".

235- وقد وصف أحمد الشقيري - أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية - القسام وإخوانه فقال: (لم تجرِ على ألسنتهم تعابير "الكفاح المسلح" و"الحركة الوطنية"، فقد كانت تعابيرهم "الجهاد في سبيل الله"، لقد صنعهم الإيمان، فصفت نفوسهم، وتعاظمت عزائمهم، وأحسُّوا أن حبلهم مع اللّه قد أصبح موصولا).

237- وقال متعجبا: "كنت أعرفه جيدا واجتمعت به، ولم يكن يدور في خلدي أن هذا الشيخ المعمم كان يهيئ نفسه لقيادة ثورة مسلحة ضد السلطات البريطانية".

238- ويقول رشيد الحاج إبراهيم: "إنه الزعيم الشعبي الكبير، ذو الرأي النافذ والكلمة المسموعة، ومع ذلك لم يدُر في خلدي أن القسام يقود عصابة جهادية".

239- إن أصحاب هذه الكلمات الذين عاصروا القسام، كانوا يرسمون في مخيلتهم صورة بطل.. يرجون وجوده، ويتمنون خروجه.. وفجأة اكتشفوا أنه (كان) بينهم!

240- وقال جمال الحسيني: "ثورة القسام كانت ثورة علينا جميعا، إذ يقول كل واحد منا: في قلبي إيمان وإخلاص، ولكني مثقل، وورائي عائلة أخاف عليهم، لكن القسام وأصحابه خرجوا عن أعشاش فيها قطع لحم كأفراخ العصافير، ينتظر كل منها مُعيله ليضع في منقاره ما يسد به جوعه، خرجوا لإحقاق الحق".

342- ويقول الدكتور رويحة: لقد أحيا القسام وإخوانه في قلوبنا الأمل بعد أن كدنا نفقده، ليتني علمت بعصابتهم لكنت والله أول من ينضم إليهم فهذا سبيل الخلاص وحده.

243- هذا هو القسّام الذي دوخ الأعداء حيا وميتا.. والذي يحق لفلسطين بل للأمة أن تفتخر به.. وإن من العجيب الغريب أن مسؤولين في حركة

فتح عابوا على الموسوعة الفلسطينية جعلها القسام أحد موادها، لأنه سوري! والحقيقة أنهم خشوا الفضيحة إذا قورنوا به.

244- للقسام أحفاد من بناته، ولابنه محمد 4 أبناء و3 بنات. وهذا رابط لقاء مع الدكتوره/ ابتهال بنت محمد بن عز الدين القسام:

http://www.toyorps.com/vb/archive/index.php/t-253.html

245- أما بعد: حقا لقد أتعبتني أيها الشهيد، أيام طوال وأنا أعدل وأبدل في هذه التغريدات، أحاول جاهدا أن ألملم أطراف سيرتك الفريدة؛ وأنى لي ذلك!

246- ولا زلت كلما طالعت كتابا أو مقالا عن القسام تجلت لي جوانب وأخبار جديدة، فأنا بتغريداتي هذه لم أطلعكم إلا على القليل من تاريخه المدهش.

247- وهكذا هم العظماء والقادة الحقيقيون، لا نستطيع الإحاطة بسيرتهم مهما كتبنا، ليبقى الواحد منهم منبعا تنهل منه الأجيال المتعطشة، على مدار الزمن.

248- ولقد كنت - سابقا - أقرأ بعض قصص القسام وأخباره العجيبة فأظن أنها موضوعة أو مبالغ فيها، لكنني لما رجعت للكتب وجدتها مسندة موثقة متواترة!

249- انظر لكتاب حسني جرار- أحد مراجعي - وكيف يوثق معلوماته من الصحف الصادرة بعد استشهاده، أو من أهل بلده، أو من بعض رفاقه الذين لم يتوف بعضهم إلا عام 1404هـ!

250- فسلامٌ عليك شيخي عزالدين، سلامٌ عليك يا من أعز الله بك الدين.

سلام عليك يا ثقابا أشعل شموع الأمل في الأمة، ويا شهيدا أحيا الله به موات القلوب.

جمع وتلخيص: فهد بن حمد البيضاني. القصيم - محافظة النبهانية 20/ 10/ 1435هـ، صفحتي على تويتر: https://twitter.com/fh25

المقالات والتلخيصات السابقة: twitmail.com/profile/fh25

(يوسف بن تاشفين - معركة شقحب - عين جالوت - قصة حامد البلادي - حكايتي مع الكتب - لقاءاتي مع أفراخ الليبرالية - رواية القوقعة 12 سنة في سجون الأسد...).

المراجع:

1- شيخ المجاهدين في فلسطين، لمحمد حسن شراب. (وهو عمدتي؛ لامتيازه بالدقة ومناقشة الروايات والترجيح بينها)

للتحميل: http://www.waqfeya.com/search.php

2 -أعلام الجهاد في فلسطين الشيخ عزالدين القسام، لحسني أدهم جرار.

3- ثورة المجاهد عز الدين القسام وثورة الحجارة لعبد الوهاب زيتون.

4- مقالات في عدد من مواقع النت.

وهذه مادة مرئية من أجمل ما سمعت عن القسام، د. محمد موسى الشريف: http://safeshare.tv/w/nLoWCCGKxP  

والحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى.

الفصل الحادي والعشرون

الشيخ عز الدين القسام

ولد عز الدين القسام في بلدة "جبلة" التابعة لقضاء "اللاذقية" في سورية عام ١٨٨٢، نشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى، أبوه الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية، وأمه حليمة قصاب من عائلة علم ودين.

كان أبوه من المهتمين بنشر العلم، حيث درّس في كُتّاب القرية القرآن الكريم والعربية والخط والحساب وبث روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية، ثم عمل لفترة مستنطقاً في المحكمة الشرعية.

تعلم عز الدين في كتاب البلدة القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وتميز بنبوغه وتفوقه على أقرانه وامتاز بميله للتأمل وطول التفكير.

بعد تفوقه في دراسته في الكتاب، التحق عز الدين للدراسة في "الجامع الأزهر" في مصر؛ فقد كان الأزهر في ذلك الوقت منارة كبرى لنشر العلوم الإسلامية والعربية؛ فحضر دروس الشيخ محمد عبده، وارتوت نفسه من علمه وفهمه.

كما تتلمذ على معظم حلقات الأزهر، واعتكف في أروقة مكتباته، وكان يرافق اهتمامه بدروس العلم اهتمام آخر بحركات التحرر التي كان يغذيها رجال الأزهر، ففهم عز الدين أن الإسلام دين عز وقوة وتحرر وجهاد.

تعرف القسام في مصر إلى الاستعمار الغربي وجهًا لوجه، حيث كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني المباشر بعد ثورة عرابي عام ١٨٨٢م، وكان فيها تيار المقاومة الإسلامي للاحتلال قويًّا، كما رأى القسام هجوم المفكرين

المتغربين على الإسلام فكراً وحضارة وتاريخاً، وعايش بنفسه الصراع الدائر بين هؤلاء وبين المفكرين الإسلاميين، كما تعرف في مصر على المشروع الصهيوني بأبعاده، وأدرك خطره على الأمة الإسلامية، وأنه وليد الاستعمار الغربي، وسمع عن تطلعات الصهاينة وأطماعهم في فلسطين. وبين مدرسة الشيخ محمد عبده ومدرسة الشيخ رشيد رضا الشامي المقيم في مصر اتضح أمام عيني الشيخ عز الدين القسام الجهاد وسيلة للدفاع عن حقوق الأمة وللعودة بها إلى سابق مجدها.

عاد القسام إلى جبلة عام ١٩٠٦م بعد أن قضى عشر سنوات في الدراسة في الأزهر، بعدها حصل على شهادة الأهلية، ومن ثم قام برحلة إلى تركيا للاطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وبعد عودته عكف على التدريس في زاوية والده، في جامع السلطان بن أدهم قطب الزاهدين.

كما أخذ القسام دور والده في تدريس أطفال البلدة قواعد القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعض العلوم الحديثة، وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة، وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه موضع احترام الناس، وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة فقدم الإسلام بفهمه الواسع الطلق، وربطته بكثير من المواطنين صداقات متينة، فكثر أتباعه، وعظم شأنه، وذاع صيته.

لما دخلت القوات الإيطالية طرابلس الغرب "ليبيا" عام 1911م، قاد القسام

مظاهرة طافت شوارع جبلة تأييدًا للمسلمين هناك، ودعا الناس إلى التطوع لقتال الطليان، وجَمع التبرعات للأسر المنكوبة، إلا أن السلطات التركية منعته ورفاقه المتطوعين من السفر إلى ليبيا، فعادوا بعد أربعين يومًا من الانتظار، وبنوا مدرسة بمال المتبرعين لتعليم الأمّيين.

وعندما دخلت القوات الفرنسية سورية عام ١٩٢٠، رفع القسام راية المقاومة ضد المستعمرين الفرنسيين في الساحل الشمالي لسورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين حملوا السلاح في الثورة (1919- 1920م) 

 مع المرحوم عمر البيطار، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته ـ وهو كل ما يملك ـ واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية جبلية ذات الموقع الحصين.

حاول الفرنسيون إقناع الشيخ القسام بترك الثورة والرجوع إلى بيته وإغرائه بالمناصب، إلاّ أنه رفض عرضهم، ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، وطارده الفرنسيون فقصد دمشق ومنها إلى فلسطين.

عاش القسام ورفاقه في حيفا، ونزلت عائلاتهم في بيت واحد في الحي القديم من المدينة، وهو الحي الذي يجمع فقراء الفلاحين النازحين من قراهم بعد الاستيلاء عليها وتوطين اليهود المهاجرين إلى فلسطين.

أبدى القسام اهتمامًا حقيقيًّا بتحسين أحوال معيشة هؤلاء الفلاحين، وبدأ يكافح الأمية في صفوفهم من خلال إعطاء دروس ليلية، وسرعان ما أصبح فلاحو المنطقة الشمالية وعمالها يكنون له المودة والاحترام بفضل زياراته المتكررة لهم وبما يتسم به من أصالة في الخلق والتقوى.

عمل القسام مدرسًا في المدرسة الإسلامية بحيفا، وكان يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى الدور المستقبلي الذي ينتظرهم في ظل وجود الاستعمار، ثم عمل إمامًاً وخطيبًا في جامع الاستقلال بموافقة من مفتي القدس وزعيم الحركة الوطنية الحاج محمد أمين الحسيني، واتجه القسام في أسلوبه إلى توعية الشعب الفلسطيني بالأخطار الماثلة أمامه، وكان يُكثر من القول:

(بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلد وتأسيس دولتهم).

كما كان للشيخ القسام دروس في المسجد تقام عادة بين الصلوات المفروضة، وقد جعل منها وسيلة لإعداد المجاهدين، وصقل نفوسهم، وتهيئتها للقتال، معتمدًا اختيار الكيفية دون الكمية.

عمل على تأسيس "جمعية الشبان المسلمين" عندما استفحل الخطر البريطاني في فلسطين وانتشرت الجمعيات التنصيرية التي تدعو إلى تنصير المسلمين، وقام القسام من خلال نشاطه في الجمعية بتربية جيل من الشباب المسلم، الذين أنقذهم من دائرة الانحراف والضياع بسبب قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية، وأدخلهم في دائرة العمل الجاد لصالح الوطن ... كما أنه وثق اتصالاته بقيادات المدن الفلسطينية الأخرى، وكسب عدداً من شباب المناطق المختلفة للانضمام إلى تنظيم الجهاد. وقد واظب القسام خلال وجوده في الجمعية على إعطاء محاضرة دينية مساء كل يوم جمعة، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى، ينصح ويرشد ويعود إلى مقره. وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، وكانت الفرصة للّقاء بالقرويين وإعدادهم للدفاع عن أراضيهم.

عمل القسام مأذونًا شرعيًّا لدى محكمة حيفا الشرعية سنة ١٩٣٠م، وقد كانت هذه الوظيفة للقسام وسيلة من الوسائل التي اتصل عن طريقها بمختلف فئات المواطنين من شباب وشيوخ، وعمال وفلاحين، وطلاب وموظفين، وتجار وحرفيين، وتحدث إليهم وأقام معهم علاقات قوية كان لها أثر كبير في اتساع دائرة حركته الجهادية.

يُعَدُّ القسام صاحب دعوة مستقلة، وأسلوب متميز، وحركة جهادية رائدة سبقت جميع الاتجاهات في ميدان الجهاد المعاصر في فلسطين.

ويتلخص هذا الأسلوب:

في تربية جيل من المجاهدين؛ فكان يعقد اجتماعات سرية مكتومة في بيته، وفي بيوت بعض أصدقائه، يحضرها عدد من الأشخاص المغمورين (غير البارزين أو المعروفين في ميدان الحركة الوطنية)، وكان يختارهم من الذين يحضرون دروسه ومواعظه، ويقوم بتهيئتهم وإعدادهم للجهاد، ويكوّن منهم خلايا جهادية، تقتصر عضويتها على نفر من المؤمنين الصادقين الذين لديهم الاستعداد الكامل للتضحية والفداء.

وعندما تم إنشاء القوة المجاهدة بشكل متكامل، كانت مقسمة إلى وحدات مختلفة المهام، حيث لكل وحدة دور خاص بها تتولاه، وهذه الوحدات هي:

 الأولى: وحدة خاصة بشراء السلاح.  الثانية: وحدة خاصة للاستخبارات ومراقبة تحركات العدو البريطاني واليهودي.

 الثالثة: وحدة خاصة بالتدريب العسكري.

الرابعة: وحدة خاصة للدعاية في المساجد والمجتمعات، وأبرز أعمالها الدعوة إلى الجهاد. الخامسة: وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية. السادسة: وحدة جمع المال من الأعضاء والأنصار، ورعاية أسر المعتقلين والشهداء.

ولماّ قطعت الحركة شوطًا من الإعداد تم فيه تهيئة المقاتلين للجهاد، ابتدأ رجال القسام بتنفيذ عمليات فدائية ضد المستوطنات اليهودية عن طريق إعداد كمائن والهجوم على أفراد محددين ومستوطنات معينة، بهدف دفع اليهود في الخارج إلى وقف الهجرة إلى فلسطين.

ولم تكن أعمال القسام مهاجمة المستعمرات فحسب، وإنما قاموا بمجموعة أعمال أخرى ذكرها الأستاذ أميل الغوري في كتابه (فلسطين عبر ستين

عامًا)؛ فقال:

"أمَّا الأعمال التي قام بها القساميون فكانت من أروع ما قام به المجاهد في فلسطين، وعلى الرغم من كثرتها وتعدد أشكالها ومظاهرها، فإنها ظلت محاطة بالسرية والكتمان إلى مدى كان معه أكثر الناس يجهلون مصدر هذه الأعمال، بل كانوا لا يعرفون إطلاقاً بوجود حركة القساميين، وكان من هذه الأعمال: ملاحقة وتأديب الذين يخرجون عن الشعب ومصالحه، مثل التعاون مع الحكومة ضد الحركة الوطنية، والتجسس لحساب المخابرات البريطانية، أو بيع الأراضي لليهود أو السمسرة عليها للأعداء.

وكان من أعمال القساميين العديدة الواسعة النطاق:

التصدي لدوريات الجيش والشرطة، وقطع طرق المواصلات والإغارة على ثكنات الجيش ومراكز الشرطة، ومهاجمة حرس المستعمرات اليهودية، وزرع الألغام والمتفجرات فيها". 

وفي الوقت الذي اعتبرت فيه أعمال القسام بمثابة الروح التي سرت في أوصال الأمة، فحركت الهمم وشدت العزائم، وحفزت الناس إلى العمل، كانت الحكومة البريطانية تعلن عن مكافآت ضخمة لمن يدلي بأية معلومات عن منفذي هذه الأعمال، لأنها فعلاً ألقت الرعب في قلوب اليهود الذين رأوا ولأول مرة عملاً جديداً من حديد ونار، وهذه لم يتعود عليها اليهود في فلسطين ...

وازدادت الحكومة البريطانية واليهود ذعراً وبثوا الأرصاد، ونشروا الجواسيس في الليل والنهار، وصار الاعتقال لمجرد الشبهة. لذا أصبحت تحركات جماعة القسام تلاقي صعوبة شديدة، إذ استطاعت الشرطة الإنجليزية الحصول على معلومات بشأن عدد أفراد الجماعة وأسمائهم وأسلحتهم، نتيجة التحقيقات المكثفة التي قامت بها، وكذلك استطاعت الحصول على معلومات تساعدهم أكثر وأكثر على تحديد مكانهم.

وأخيرًا، وفي أحراش يعبد في منطقة جنين يوم ٢٠ تشرين ثاني عام ١٩٣٥م، حددت الشرطة البريطانية مكانهم وهاجمتهم بقوات عسكرية كبيرة، ودارت معركة رهيبة بين المجاهدين والشرطة، صمد فيها رجال القسام، وقاتل شيخهم قتال الأبطال، وظل يكافح حتى خر صريعًا في ميدان الجهاد شهيدًا كريمًا في سبيل إعلاء كلمة الله فوق أرض فلسطين، واستشهد معه بعض إخوانه المجاهدين، وجرح آخرون وتم أسرهم.

نقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشيعت جثامينهم الطاهرة بتظاهرة وطنية كبرى، نادت بسقوط الإنجليز، ورفض الوطن القومي اليهودي.

كان لاستشهاد القسام أعمق الأثر في شباب فلسطين في الثلاثينات والأربعينات، كما أصبح القسام رمزًا للتضحية والفداء، مما جعل بعض المؤرخين يَعُدُّونه بحق "شيخ ثوّار فلسطين".

*"المعجم الجامع في تراجم المعاصرين"- "المكتبة الشاملة".

هذه المعلومات أخذت بتصرف عن:

(الشيخ عزالدين القسام قائد حركة وشهيد قضية (، حسني جرّار، دار الضياء للنشر والتوزيع- عمان، طبعة أولى، ١٩٨٩م.

(موسوعة السياسة) د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، طبعة ثانية،١٩٩٠ ج٤ ص ١٠١ـ ١٠٣.

المصدر: موقع إسلام أون لاين.: www.islam-online.net

المراجع

*أولا- الكتب:

1- "الإسلام وحركات التحرر العربية". لأستاذنا المؤرخ د. شوقي أبي خليل رحمه الله، ط2؟ دار الفكر- دمشق، 1991م.

2- "الأعلام". للزركلي، ط15، دار العلم للملايين - بيروت، 2002م.

3- "الأعلام الشرقية في المئة الرابعة عشرة الهجرية". لزكي محمد مجاهد، ط2، دار الغرب الإسلامي - بيروت، 1994م.

4- "تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي". للأستاذ أدهم آل جندي، ط 1، مطبعة الاتحاد - دمشق، 1960م.

5- "الشيخ عز الدين القسام: قائد حركة وشهيد قضية". للأستاذ حسني أدهم جرار، ط1، دار الضياء - عَمَّان، 1410هـ - 1989م.

6- "عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين". للأستاذ محمد محمد حسن شراب، "سلسلة أعلام المسلمين" رقم (77)، ط1، دار القلم - دمشق، 1421هـ - 2000م.

7- "معجم البلدان". لياقوت الحموي ت 626هـ، ط1؟ دار صادر- بيروت، 1397هـ - 1977م.

8- "المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري". لنخبة مؤلفين سوريين، ط1، المؤسسة العسكرية - دمشق، 1992م.

9- "معجم متن اللغة". للشيخ أحمد رضا العاملي ت 1953م، ط 1، مكتبة دار الحياة - بيروت، 1958م.

10- "معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين". لعبد القادر عياش ت 1974م، ط1، دار الفكر- دمشق، 1985م.

11- "معجم النفائس الكبير". لنخبة مؤلفين بإشراف د. أحمد أبو حاقة، ط1، دار النفائس - بيروت، 1428هـ - 2007م.

12- "المعجم الوسيط". لنخبة مؤلفين ولغويين مصريين، ط2، "مجمع اللغة العربية"- القاهرة، 1392هـ - 1972م.

13- "من أعلام الإسلام". للشيخ عبد الوهاب سكر البابي، رحمه الله، ط 1؟ المكتبة العربية حلب، بدون تاريخ.

14- "المنهاج في القواعد والإعراب". للأستاذ محمد الأنطاكي ت 1986م، طبعة مصورة، دار التبليغ للنشر إستانبول - 1985م.

15- "الموسوعة العربية". لنخبة مؤلفين وباحثين سوريين، موضوع "جبلة"، لصفية عيد، وموضوع "حيفا" لبسام حميدة، على الشابكة.

16- "الوادي الأحمر: صفحات خالدات من سيرة الإمام عز الدين القسام". رواية، أ. عبد الله الطنطاوي، ط1، دار القلم - دمشق، 1425هـ - 2004م.

17- "معلوماتي الشخصية".

*ثانيا- مقالات ومواقع الشابكة:

18- موقع "إسلام أونلاين". فيه ترجمة ومقالة شاملة جيدة بعنوان: "الشيخ عز الدين القسام".

19- موقع "صيد الفوائد" موضوع "الشيخ عز الدين القسام: القصة كاملة"، للأستاذ فهد البيضاني، وهي ترجمة ضافية ورائعة للشيخ القسام، اختصرها من عدة كتب ومواقع.

20- "عز الدين القسام". موقع: "قصة الإسلام" للأستاذ راغب السرجاني.

21- "مجلة المجتمع" الكويتية، مقالة وترجمة فيها للدكتور. علي محمد الصلابي بعنوان: "المجاهد الشيخ عز الدين القسام (مسيرة ملهمة لأبطال المقاومة الفلسطينية، ولأبناء الأمة الإسلامية والعالَم)"، منشورة بتاريخ: 30/10/2023م.

22- "المكتبة الشاملة"- "المعجم الجامع في تراجم المعاصرين".

23- "موسوعة عريق". ترجمة مطولة ورائعة وشاملة وغنية له، مختصرة من كتب ومجلات، ومواقع عدة، عنوانها: "عز الدين القسام عالم مسلم ومجاهد ضد الانتدابين الفرنسي والبريطاني على الشام".

24- "موسوعة القرى الفلسطينية"، قرية "كفردان".

25- "ويكيبيديا- الموسوعة الحرة" بلدة "جنين".  

وسوم: العدد 1062