رسالة الجهاد

الإمام الشهيد حسن البنا

الإمام الشهيد حسن البنا

بسـم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المجاهدين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه ومن جاهد في سبيل الله وشريعته إلى يوم الدين.

الجهاد فريضة على كل مسلم

فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لامناص منها ولا مفر معها، ورغَبَ فيه أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحها سواهم، وجعل دماءهم الطاهرة الزكية عربون النصر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العقبى، وتوعَد المخلَفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات ووبَخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزياً لا يرفع إلا إن جاهدوا، وفي الآخرة عذاباً لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل أحد ذهباً، واعتبر القعود والفرار كبيرة من أعظم الكبائر وإحدى الموبقات المهلكات.   

ولست تجد نظاماً قديماً أو حديثاً دينياً أو مدنياً، عُني بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمة، وحشدها كلها صفاً واحداً للدفاع بكل قواها عن الحق، كما تجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم) فياضة بكل هذه المعاني السامية، داعية بأفصح عبارة وأوضح أسلوب إلى الجهاد والقتال والجندية وتقوية وسائل الدفاع والكفاح بكل أنواعها من برية وبحرية وغيرها على كل الأحوال والملابسات.

وسنورد لك طرفاً من ذلك على سبيل التمثيل لا على سبيل الاستقراء والحصر، وسوف لا نتناول شيئاً من الآيات والأحاديث بشرح أو تعليق طويل. فسترى في جزالة ألفاظها ونصاعة بيانها ووضوح معانيها وقوة الروحانية فيها ما يغنيك عن ذلك كله.

بعض آيات الجهاد في القرآن

 

فمن القرآن الكريم قوله تعالى:

1– (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 216.

ومعنى كُتب: فُرض, كما قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) في نفس السورة وبنفس العبارة والتركيب.

2– (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ, وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ, وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) آل عمران الآيات من 156 - 158.

 ومعنى ضربوا في الأرض: خرجوا فيها مجاهدين، وغُزَىً: غُزاة محاربين.

 وانظر إلى مقارنة المغفرة والرحمة للقتل أو الموت في سبيل الله في الآية الأولى، وإلى خلو الآية الثانية من ذلك لخلوها من معنى الجهاد، وفي الآية إشارة إلي أن الجبن من أخلاق الكافرين لا المؤمنين، فانظر كيف انعكست الآية.

3– (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ, فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) آل عمران 169- 175, فارجع إلى تمامها في المصحف.

4– (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) سورة النساء الآيات ابتداء من 71- 78, فارجع إليها في المصحف الكريم لترى كيف يحض الله المسلمين على الحذر, وممارسة القتال في جيوشٍ أو عصابات أو فرادى كما يقتضيه الحال, وكيف يُوبِخُ القاعدين والجبناء والمخلفين والنفعيين, وكيف يستثير الهمم لحماية الضعفاء وتخليص المظلومين, وكيف يقرن القتال بالصلاة والصوم ويبين أن مثلهما من أركان الإسلام, وكيف يفند شبهات المترددين ويشجع الخائفين أكبر تشجيع على خوض المعامع ومقابلة الموت بصدر رحب وجنان جريء, مبيناً لهم أن الموت سيدركهم لا محالة وأنهم إن ماتوا مجاهدين فسيعوضون عن الحياة أعظم العوض ولا يظلمون فتيلاً من نفقة أو تضحية.

5– سورة الأنفال كلها حَثُ على القتال وحض على الثبات فيه, وبيان لكثير من أحكامه, ولهذا اتخذها المسلمون الأولون نشيداً حربياً يتلونه إذا اشتد الكَربُ وحمي الوطيس, وحسبك منها قول الله تبارك وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ).

6– سورة التوبة وكلها كذلك حَثُ على القتال وبيان لأحكامه, وحسبك منها قول الله تبارك وتعالى في قتال المشركين الناكثين: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ, وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وقوله تبارك وتعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة.

ثم إعلان النفير العام في آيات داوية صارخة ختامها قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

ثم تنديد صارخ بموقف القاعدين الجبناء الأنذال, وحرمان لهم من شرف الجهاد أبد الآبدين في قوله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ, فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ, فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) الآيات.

ثم إشادة بموقف المجاهدين وعلى رأسهم سيدهم الكريم صلى الله عليه وسلم وبيان أن هذه هي مهمته المطهرة وسنة أصحابه الغر الميامين في قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ, أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ثم بيعة بعد ذلك جامعة مانعة لا تدع عذراً لمعتذر في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

7– سورة القتال, وتصور كيف أن سورة بأكملها تسمى سورة القتال في كتاب الله الحكيم, وأن أساس الروح العسكرية كما يقولون أمران: الطاعة والنظام, وقد جمع الله هذا الأساس في آيتين من كتابه.

 فأما الطاعة ففي هذه السورة في قوله تعالى:

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ, طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ).

وأما النظام ففي سورة الصف في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ).

8- سورة الفتح, وهي أيضاً كلها في غزوة من غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي الإشادة بموقف رائع من مواقف الجهاد العزيز, تحت ظل الشجرة المباركة, حتى أعطيت بيعة الثبات والموت, فأثمرت السكينة والفتح فذلك قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً).

هذه يا أخي بعض المواضع التي ورد فيها ذكر الجهاد, وبيان فضله وحثَ المؤمنين عليه، وتبشير أهله بالثواب الجزيل والجزاء الجميل, وكتاب الله مملوء بمثلها فتصفَحه وتدبَرْ ما جاء فيه من هذا الباب, تر العجب العجيب, وتدهش لغفلة المسلمين عن اغتنام هذا الثواب.

وإليك بعض الأحاديث النبوية الشريفة في ذلك:

نماذج من الأحاديث النبوية في الجهاد

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم بأن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله, والذي نفسي بيده لوددت أني أُقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أُقتل ثم أحيا ثم أُقتل) رواه البخاري ومسلم. السرية: القطعة من الجيش لا يكون فيها القائد العام.

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة، واللونُ لونُ الدم، والريح ريح المسك) رواه البخاري ومسلم. الكَلْم: الجرح, ويكلم: يُجرح.

3- عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتالَ المشركين ليرينَ اللهُ ما أصنع. فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأَبرأُ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين. ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجدُ ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.

قال أنس: كنا نرى، أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) إلى آخر الآية. رواه البخاري. من دون أُحد: أي من جهة جبل أحد.

4– وعن أم حارثة بنت سراقة أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غَرْب - فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك، اجتهدت عليه في البكاء؟ قال: (يا أم حارثة إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى). أخرجه البخاري. السهم الغرب: الذي لا يُعرف راميه، اجتهدت عليه في البكاء: بكيت بكاءً شديداً.

فانظر يا أخي كيف كانت تُنسيهم الهموم والمصائب وتحملهم على الصبر عند المكاره.

5– وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف). أخرجه الشيخان وأبو داود.

6- وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا). رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. أي: له أجره.

7– وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شَبعهُ ورِيّهُ وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة) رواه البخاري. ومثل الفرس كل عدة في سبيل الله.

8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قيل: يا رسول الله ما يعدلُ الجهاد في سبيل الله؟ قال (لا تستطيعونه) قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول (لا تستطيعونه). ثم قال: (مثلُ المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله, لا يفتر من صيام ولا صلاة, حتى يرجع المجاهد). الستة إلا أبو داود.

9- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أُخبركم بخيرِ الناس وشر الناس؟ إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره أو على قدمه حتى يأتيه الموت, وإن من شر الناس رجلاً فاجراً يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه) رواه النسائي. لا يرعوي: أي لا ينكفُ ولا يتَعظُ ولا ينزجر.

10- وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنهُما قال: سمعت رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يقول: (عينان لا تَمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) رَوَاهُ التِّرمِذِيّ.

11- عن ابن أبي عميرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَأَنْ أُقتَل في سبيل الله أحبُ إلي من أن يكون لي أهل المَدَرِ والوبر) رواه النسائي أهل المدر والوبر: أي أهل الحواضر والبوادي.

12- وعن راشد بن سعد رضي الله عنه عن رجل من الصحابة أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما بالُ المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال: (كفاه ببارقة السيوف على رأسه فتنة) أخرجه النسائي.

وهذه من امتيازات الشهيد في الموقعة, وكم له من امتيازات كهذه ستأتي بعد.

13- وعن أبي هريرة رَضيَ اللهُ عَنهُ أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال: (ما يجد الشهيد من مَسِ القتل إلا كما يجدُ أحدكم من مس القَرْصةِ) رواه الترمذيُّ والنسائي والدارمي، وَقَال الترمذي: حديث حسن غريب. وهذا امتياز آخر للشهيد.

14- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا تبارك وتعالى من رجلٍ غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه, فعَلِمَ ما عليه، فرجع حتَّى أُريقَ دمه، فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبةً فيما عندي، وشفقةً ممَّا عندي حتى أريقَ دمه, أُشهدكم أني قد غفرتُ له)‏ أخرجه أبو داود. شفقة: خوفاً. أريق دمه: سال دمه.

15- وعن عبد الخير بن ثابت بن قيس بن شمَّاس عن أبيه عن جده قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها أمّ خلاد وهي متنقبة تسأل عن ابنٍ لها قتل في سبيل الله تعالى, فقال لها بعض أصحابه: جئتِ تسألين عن ابنك وأنت متنقبة؟ فقالت: إن أُرْزأ ابني فلن أُرْزأ حَيائي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ابنك له أجرُ شهيدين) أرزأ ابني: أفقده وأصاب فيه.

16- وعن سهل بن حُنيف رَضِيَ اللهُ عَنهُ أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال: (من سأل الله تعالى الشهادة بصدقٍ بَلّغهُ الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) رواه الخمسة إلا البخاري.

17- وعن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أنفق نفقة في سبيل الله تعالى كُتبت له بسبعمائة ضعف). رواه الترمذي وحسنه, والنسائي.

18- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: مر رجل من أصحاب رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم بشِعْبٍ فيه عُيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال لو اعتزلتُ الناس فأقمت في هذا الشعب، فذكر ذلك لرَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فقال: (لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اُغْزُوا في سبيل الله، مَنْ قاتل في سبيل الله فُواقَ ناقةٍ وجبت له الجنة) رواه الترمذي. عيينة: عين صغيرة تفيض بالماء.

19- وعن المقدامِ بنِ معدِ يكربَ قال: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم: (للشَّهيدِ عندَ اللهِ ستُ خصالٍ يُغفرُ لهُ في أوَّلِ دُفعةٍ، ويُرى مقعدهُ من الجنَّةِ، ويجارُ من عذابِ القبرِ، ويأمنُ من الفزعِ الأكبرِ، ويوضعُ على رأسهِ تاجُ الوقارِ الياقُوتةُ منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويزوَّجُ اثنتينِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويشفَّعُ في سبعينَ من أقربائهِ) رواه الترمذي وابن ماجه.

20- وعن أبي هُرَيرَةَ قال: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم: (من لقيَ اللهَ بغيرِ أثرٍ من جهادٍ لقيَ اللهَ وفيهِ ثُلمةٌ). رواه الترمذي وابن ماجه.

21- وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: قال رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: (من طلب الشهادة صادقاً أُعطيها ولو لم تُصِبهُ) رَوَاهُ مُسلِمٌ.

22– وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً في سَبيلِ اللهِ سُبْحَانَهُ، كَانَتْ كَأَلفِ لَيْلَةٍ، صِيَامَها وَقِيَامَها). رواه ابن ماجه.

23- وعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (غَزْوَةٌ في البَحْرِ مِثْلِ عَشْرِ غَزَوَاتٍ في البَرِّ. وِالَّذي يَسْدَرُ في البَحْرِ، كَالْمُتَشَحِّطِ في دَمِهِ، في سَبِيلِ اللهِ سُبْحَانَهُ) رواه ابن ماجه. يسدر: يميل ويهتز وترتج به السفينة.

وفيه الإشارة لغزو البحر ولفتِ نظر الأمة إلى وجوب العناية بحفظ سواحلها وتقوية أسطولها، ويقاس عليه الجو فيضاعف الله للغزاة في الجو في سبيله أضعافاً مضاعفة.

24– وعن جَابِرَ بْنَ عِبْدِاللهِ رضي الله تعالى عنه يقُولُ: لَمَّا قُتِلَ عِبْدُاللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (يَا جَابِرُ! أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ لأَبِيكَ؟) قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: (مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَداً إِلاَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ, وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحاً, فَقَالَ: يَا عَبْدِي! تَمَنَّ عَلَيّ أُعْطِكَ, قَالَ: يَا رَبِّ! تُحْيِيِني فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيةً, قَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي (أَنَّهُمْ إِليْها لا يَرْجَعُونَ) قَالَ: يَا رَبِّ! فأَبْلِغْ مَنْ وِرِائي, فأَنْزِلَ اللهِ عزَّ وَجَلَّ هَذهِ الآيَةَ: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذيْنَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتاً.. الآيَةَ كُلَّهاَ). رواه ابن ماجه.

25- وعَنْ سَهْلِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قَال: (لأَنْ أُشَيِّعَ مُجَاهِداً فِي سَبِيلِ اللهِ فَأَكَفَّفهُ عَلَى رَحْلِهِ، غَدْوَةً أَوْ رَوْحَةً، أَحَبُّ إِليَّ مِنَ الْدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا). رواه ابن ماجه.

فأكففه على رحله: فأساعده عليه. غدوة: بالغدو وهو الصباح. روحة: بالرواح وهو المساء.

26– وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَفدُ الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر). رواه مسلم.

27– وعن أبي الدّرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يشفعُ الشهيدُ في سبعين من أهل بيته) رواه أبو الدرداء.

28- وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة  وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سَلَطَ الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم.

29– وعن أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض), قال عمير بن الحمام: بخٍ بخ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك: بخ بخ) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أنْ أكون من أهلها, قال: (فإنك من أهلها), فأخرج تمراتٍ من قرنهِ فجعل يأكل منهن, ثم قال: لئن أنا حَييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة, فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل) رواه مسلم.

 30- عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف من الروم حتى دخل عليهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأوَلونَ هذه الآية هذا التأويل؛ وإنما نزلت هذه الآية فينا معشرَ الأنصار لما أعزَ الله الإسلام وكثر ناصروه. قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلناه (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. رواه الترمذي

ولاحظ يا أخي أن أبا أيوب حين يقول هذا كان في سن كبيرة قد جاوزت الشباب والكهولة، ومع هذا فقلبه وروحه وإيمانه مثالٌ للفتوة القوية بتأييد الله وعزة الإسلام.

31- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ مات ولم يَغزُ ولم يحدث به نفسه، مات على شُعبةٍ من النفاق). رواه مسلم وأبو داود ونظائره كثيرة.

والأحاديث الشريفة في ذلك وأمثاله، وفي غزو البحر وتفضيله على غزو البر بمرات وفي غزو أهل الكتاب. كذلك، وفي تفصيل أحكام القتال, أكثر من أن يحيط به مجلد كبير, ونَدُلَك على كتاب (العبرة فيما ورد عن الله ورسوله في الغزو والجهاد والهجرة) للسيد حسن صديق خان وهو خاص بذلك البحث, وكتاب (مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام) وما جاء في كتب الحديث كلها في باب الجهاد ترى الكثير الطيب.

حكم الجهاد عند فقهاء الأمة

مرت بك الآيات الكريمة في فضل الجهاد، وأحب أن أنقل إليك طرفاً مما قاله فقهاء المذاهب، حتى المتأخرين منهم في أحكام الجهاد ووجوب الاستعداد، لتعلم إلى أي حد ضيعت الأمة الإسلامية أحكام دينها في قضية الجهاد بإجماع آراء المسلمين في كل عصر من أعصارهم فاسمع:

1- قال صاحب (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) مقرراً أحكام الجهاد في مذهب الأحناف: (الجهاد في اللغة: بذل ما في الوُسعِ من القول والفعل، وفي الشريعة: قتل الكفار ونحوه من ضربهم ونهب أموالهم وهدم معابدهم وكسر أصنامهم، والمراد: الاجتهاد في تقوية الدين بنحو قتال الحربيين والذميين إذا نقضوا، والمرتدين الذين هم أخبث الكفار؛ للنقض بعد الإقرار والباغين.  بدءاً منا فرض كفاية، يعني يفرض علينا أن نبدأهم بالقتال بعد بلوغ الدعوة، وإن لم يقاتلونا، فيجب على الإمام أن يبعث سرية إلى دار الحرب كل سنة مرة أو مرتين وعلى الرعية إعانته وإذا قام به بعض سقط عن الباقين، فإذا لم تقع الكفاية بذلك البعض وجب على الأقرب فالأقرب، فإن لم تقع الكفاية إلا بجميع الناس فحينئذ صار فرضَ عينٍ كالصلاة، أما الفريضة فلقوله تعالى (فاقتلوا المشركين) ولقوله صلى الله عليه وسلم (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) وإن تركه الكلُ أثِمُوا.. إلى أن قال: فإن غلب العدو على بلد من بلاد الإسلام أو ناحية من نواحيها ففرض عين، فتخرجُ المرأة والعبد بلا إذن الزوج والمولى، وكذا يخرج الولد من غير إذن والديه، والغريم بغير إذن دائنه).

وفي كتاب البحر: (امرأة مسلمة سُبيت بالشرق وجبَ على أهل المغرب تخليصها ما لم تدخل حصونهم وحرزهم) 1 هـ..

 2- وقال صاحب ( بُلغة السالك لأقرب المسالك في مذهب الإمام مالك): (الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى كل سنة فرضُ كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقي، ويتعين (أي يصير فرض عين كالصلاة والصوم) بتعيين الإمام وبهجوم العدو على محلة قوم، فيتعين عليهم وعلى من بقربهم إن عجزوا، ويتعين على المرأة والرقيق مع هذه الحالة، ولو منعهم الولي والزوج والسيد ورب الدَين إنْ كان مديناً، ويتعين أيضاً بالنذر، وللوالدين المنع في فرض الكفاية فقط، وفك الأسير من الحربيين وإن لم يكن له مال يُفكُ منه فرضُ كفاية، وإن أتى على جميع أموال المسلمين) 1هـ.

3- وفي متن المنهاج للإمام النووي الشافعي: (كان الجهاد في عهد رسول الله فرض كفاية وقيل عين، وأما بعده فللكفار حالان:

 أحدهما: يكونون ببلادهم ففرض كفاية، إذا فعله مَنْ فيهم الكفايةُ من المسلمين سقط الحرج عن الباقين.

والثاني: يدخلون بلدةً لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن وإن أمكن تأهب لقتال وجب الممكن حتى على فقير وولد ومَدِين وعبدٍ بلا إذن).

4- وفي (المغني) لابن قدامه الحنبلي قال: (مسألة – والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين، ويتعين في ثلاثة مواضع:

 1-  إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حُرمَ على مَنْ حضر الانصراف ويتعين عليه المقام.

2-  إذا نزل الكفار ببلدة تَعَينَ على أهله قتالهم ودفعهم.

3- إذا استنفر الإمامُ قوماً لزمهم النفير معه.

  وأقل ما يفعل مرة كل عام.

قال أبو عبدالله (يعني الإمام أحمد بن حنبل): لا أعلم شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وغزوة البحر أفضل من غزوة البر.

قال أنس بن مالك: (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت أم حرام: فقلت: ما يُضحكُكَ يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عُرضوا عليَ غزاة في سبيل الله، يركبون ثَبَج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) متفق عليه. ومن تمام الحديث أن أم حرام سألت النبي أن يدعو الله لها لتكون من هؤلاء فدعا لها، فعمَرت حتى ركبت البحر في أسطول المسلمين الذي فتح جزيرة قبرص وماتت بها ودفنت فيها، وهناك مسجد ومشهدُ ينسب إليها رحمها الله ورضي الله عنها).

5- وقال في (المحلى) لابن حزم الظاهري: مسألة – والجهاد فرض على المسلمين، فإذا قام به من يدفع العدو ويغزوهم في عُقْرِ دارهم ويحمي ثغور المسلمين سقط فرضه عن الباقين، وإلا فلا، قال الله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (التوبة)، ولا يجوز إلا بإذن الوالدين إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرضٌ على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثاً لهم، أَذِنَ الأبوان أم لم يأذنا، إلا أن يُضَيَعا أو أحدهما بعده، فلا يحلُ له ترك من يضيع منها.

6- وقال الشوكانى في (السيل الجرار): الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتاباً وسنةً أكثر من أن تُكتب ها هنا، ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية،  فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف، وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه.

فها أنت ذا ترى من ذلك كله كيف أجمع أهل العلم مجتهدين ومُقلِدين، سلفيين وخلفيين، على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة الإسلامية لنشر الدعوة، وفرضُ عين لدفع هجوم الكفار عليها.

 والمسلمون الآن كما تعلمون مُستذلُون لغيرهم محكومون بالكفار قد دِيْستْ أرضُهم وانتهكت حرماتهم، وتحكم في شؤونهم خصومهم وتعطلت شعائر دينهم في ديارهم، فضلاً عن عجزهم عن نشر دعوتهم, فوجب وجوباً عينياً لا مناص منه أن يتجهز كل مسلم وأن ينطوي على نية الجهاد وإعداد العدة له حتى تحين الفرصة ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ولعل من تمام هذا البحث أن أذكر لك أن المسلمين في أي عصر من عصورهم، قبل هذا العصر المظلم الذي ماتت فيه نخوتهم، لم يتركوا الجهاد ولم يفرطوا فيه حتى علماؤهم والمتصوفة منهم والمحترفون وغيرهم، فكانوا جميعاً على أهبة الاستعداد، كان عبدالله بن المبارك الفقيه الزاهد متطوعاً في أكثر أوقاته بالجهاد، وكان عبد الواحد بن زيد الصوفي الزاهد كذلك، وكان شقيق البلاخي شيخ الصوفية في وقتها يحمل نفسه وتلامذته على الجهاد.

وكان البدر العيني شارح البخاري الفقيه المحدث يغزو سنة ويدرس العلم سنة ويحج سنة، وكان القاضي أسد بن الفرات المالكي أميراً  للبحر في وقته، وكان الإمام الشافعي يرمي عشرة ولا يخطئ، كذلك كان السلف رضوان الله عليهم، فأين نحن من هذا التاريخ؟

لمـاذا يقاتـل المسـلم؟

أتى على الناس حين من الدهر وهم يغمزون الإسلام بفرضية الجهاد وإباحة القتال، حتى تحققت الآيات الكريمة: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فصلت.

فهاهم الآن يعترفون بأن الاستعداد هو أضمن طريق للسلام فرض الله الجهاد على المسلمين لا أداة العدوان ولا وسيلة للمطامع الشخصية ولكن حماية للدعوة وضماناً للسلم وأداء للرسالة الكبرى التي حمل عبئها المسلمون، رسالة هداية الناس إلى الحق والعدل، وإن الإسلام كما فرض القتال شاد بالسلام فقال تبارك وتعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) الأنفال.

كان المسلم يخرج للقتال وفي نفسه أمر واحد أن يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، وقد فرض دينه عليه أن لا يخلط بهذا المقصد غاية أخرى، فحبُ الجاه عليه حرام، وحب الظهور عليه حرام، وحب المال عليه حرام، والغلول من الغنيمة عليه حرام، وقصدُ الغَلبِ بغير الحق عليه حرام. والحلال أمر واحد أن يقدم دمه وروحه فداء لعقيدته وهداية للناس.

عن الحارث بن مسلم بن الحارث، عن أبيه قال: (بعثنا رسول الله في سرية، فلما بلغنا المغار اسْتَحثثْتُ فرسي فسبقتُ أصحابي، فتلقاني أهل الحي بالرنين، فقلت لهم: قولوا لا إله إلا الله تُحَرزُوا، فقالوها، فلامني أصحابي وقالوا: حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله أخبروه بالذي صنعت، فدعاني فحسَنَ لي ما صنعتُ، ثم قال لي: (ألا إن الله تعالى قد كتب لك بكل إنسان كذا وكذا من الأجر، وقال: أما إني سأكتبُ لك بالوصاية بعدي، ففعل وختم عليه ودفعه إلي) أخرجه أبو داوود.

وعن شداد بن الهادي رضي الله عنه: أن رجلاً من الأعراب جاء فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه، فكانت غزاة غنم فيها النبي صلى الله علية وسلم شيئاً فقسم وقسم له. فقال: ما هذا: فقال: قسمتُه لك. فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى ههناـ  وأشار بيده حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة. قال: إنْ تَصدُق الله يَصدُقك. فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم محمولاً قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه, ثم كُفِنَ في جُبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه. فكان مما ظهر من صلاته: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً وأنا شهيد على ذلك). أخرجه النسائي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عَرَضاً من الدنيا فقال: لا أجرَ له. فأعادها عليه ثلاثاً كل ذلك يقول: لا أجر له، أخرجه أبو داود.

وعن أبي موسى قال: (سئل رسول الله عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حَمِيةً ويقاتل رِياء أيُ ذلك في سبيل الله؟

قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، أخرجه الخمسة.

وأنت إذا قرأت وقائع الصحابة رضوان الله عليهم ومسالكهم في البلاد التي فتحوها، رأيت مبلغ عزوفهم عن المطامع والأهواء وانصرافهم لغايتهم الأساسية الأصلية، وهي إرشاد الخلق إلى الحق حتى تكون كلمة الله هي العليا، ورأيت مبلغ الخطأ في اتهامهم رضوان الله عليهم بأنهم إنما كانوا يريدون الغلب على الشعوب والاستبداد بالأمم والحصول على الأرزاق.   

الرحمة في الجهاد الإسلامي

لما كانت الغاية في الجهاد الإسلامي أنبل الغايات، كانت وسيلته كذلك أفضل الوسائل فقد حرم الله العدوان، فقال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة), وأمر بالعدل حتى مع الخصوم فقال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة), وأرشد المسلمين إلى منتهى الرحمة.

فهم حينما يقاتلون لا يعتدون ولا يفجرون ولا يمثلون ولا يسرقون ولا ينتهبون الأموال، ولا ينتهكون الحرمات ولا يتقدمون بالأذى، فهم في حربهم خير محاربين، كما أنهم في سِلْمهم أفضل مسالمين.

عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: (اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا مَنْ كفر بالله، أغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً) رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه) أخرجه الشيخان.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أَعَفُ الناس قِتْلةً أهلُ الإيمان) أخرجه أبو داود.

وعن عبدالله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهب والمُثْلة) أخرجه البخاري.

كما ورد النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ والإجهاز على الجرحى وإهاجة الرهبان والمنعزلين ومَنْ لا يقاتل من الآمنين، فأين هذه الرحمة من غارات المتمدينين الخانقة وفظائعهم الشنيعة؟ وأين قانونهم الدولي من هذا العدل الرباني الشامل؟  

اللهم فقه المسلمين في دينهم وأنقذ العالم من هذه الظلمات بأنوار الإسلام.

ما يلحق بالجهاد

شاع بين كثير من المسلمين أن قتال العدو هو الجهاد الأصغر وأن هناك جهاداً أكبر هو جهاد النفس، وكثير منهم يستدل لذلك بما يروى: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد القلب أو جهاد النفس).

وبعضهم يحاول بهذا أن يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له ونية الجهاد والأخذ في سبيله.. فأما هذا الأثر فليس بحديث على الصحيح، قال أمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر في "تسديد القوس": هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عبلة.

وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر، ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر، على أنه لو صح فليس يعطي أبداً الانصراف عن الجهاد والاستعداد لإنقاذ بلاد المسلمين وَردِ عاديةِ أهل الكفر عنها، وإنما يكون معناه وجوب مجاهدة النفس حتى تخلص لله في كل عملها، فليعلم. وهناك أمور تلحق بالجهاد منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد جاء في الحديث: (إن من أعظم الجهاد كلمة حقٍ عند سلطان جائر).

ولكن شيئاً منها لا يوجب لصاحبه الشهادةَ الكبرى وثوابَ المجاهدين إلا أن يَقتل أو يقتل في سبيل الله.

خـاتمـة

أيهـا الإخـوان: إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يَهبُ لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة, وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة.

واعلموا أن الموت لابد منه وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيداً قول الله تبارك وتعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران).

فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة, رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله.

حسن البنا