رواية فارس من حجر

صدر حديثا

رواية فارس من حجر

محمد الإحسايني

[email protected]

صدر حديثا عن "دار القرويين" بالدار البيضاء،رواية "فارس من حجر"، سادس عمل في المجال السردي لـ محمد الإحسايني.

الرواية من القطع المتوسط، 196 صفحة.وتتألف من  25  فصلاً. لوحة الغلاف من إنجاز الفنانة التشكيلية الأديبة نوال الغانم.

مقتطفات من الرواية:

ردد أمامي غير ما مرة؛ ونحن في طريقنا إلى مسقط رأسه:

- البلد الذي نخن ذاهبان إليه، لا يحتاج حقاً إلى نصوص وضعية تحكمه. استغربت ذلك:

- هل هناك في الأرض بلد لا تحكمه النصوص ؟!

أشار إلى قلاع متراكبة، ومتداخلة:

- الطبيعة أصلاً حبت البلد بجمالية خاصة، عصية على الفهم، وعلى واضعي النصوص الجافة.

قلت: "سوف أمارس هناك شغبي، وحلمي، وفوضويتي بامتياز، دون أي استهجان من أحد، إن سمحت الظروف بذلك". الأمر سهل. وبالنسبة إليه: سيطرت على عقله، وحواسه، نوستالجيا طفولة لا بداية لها ولا نهاية، ما فتئ يحدثني عنها بإعجاب؛ وحتى عند وصولنا:

- هذه القِبلة أجبرت المحتل، تحت قوة جمالها، على رسم قلاعها فوق أوراق النقود. أراني ورقة مالية قديمة من فئة مائة فرنك كان لا يزال يحتفظ بها. وزاد في حديثه، كأنه ينبه شخصاً آخر غيري:

- كتبوا أسفل الورقة النقدية بخط فاتن، تنبيهات سلطة مالية الدولة. ثم استطرد في كلام يبدو أنه محفوظ عن ظهر قلب:

- "من زور، أو حرف الأوراق المالية، سيعاقب بالقوانين الجاري بها العمل". ذلك مجمل وصفه، المتمثل في الجريمة والعقاب، والنظام المالي الجديد الذي طبقته الأوراق الحاكمة على المعدن الفضي النفيس !

علقتُ:

- سلطات الاحتلال قابلت بين مناظر الكصور والخط العربي المرونق على الورق، لم تجد في البلد بديلاً حضارياً لهما بالرغم من تخلف أهل القطر. سكت، ولم يعلق بشي. وقبيل الوصول، كان يسرد عليّ طرائف لا تصدق:

- ستشاهدين صخرة من بعيد، صخرة بيضاء منحوتة، وإذا رأيتِ الحجر من بعيد، تراءى لكِ فارساً مغواراً، شديد البأس، وإذا اقتربتِ منه تراءى لك مجرد كومة من الحجر تُشكل صخرة متعددة الجوانب.

فعلا، وجدت على مدخل الكصر، عندما وصلنا، فارساً من حجر، ملثم الوجه، يجلس القرفصاء طول الدهر، لا يغمض له جفن. استقبلنا أمغار، كبير الكصر، أمام تمثال الفارس الحجري مبدياً نصائحه إليّ بالذات:

- البسي العباءة النسائية يا ابنتي ! أحسست من نبرات صوته، أن هناك قوة هائلة مصممة على اختراق الأجساد، وتطويع الطبيعة؛ ولو في بدائيتها. وعندما رفع إليّ عينيه، كانتا لا تزالان تتقدان شباباً وإصراراً على العطاء، والإنجاب، بالرغم من أنه قد يتخطى الخمسين. إرادة أمغار متفوقة على إرادات كل الرجال حوله. ومن هنا، كان الرجال والنساء تحت جاذبيته. ولبضع دقائق، اكتشفتُ أنه بمجرد أن يأمر بشيء، إلا وينساب أمره في طريق التحقق ؛ ولا غرابة في ذلك؛ فقد استحوذت عليّ آنذاك، فكرة تماهي أمغار مع الفارس الحجري، وأنهما لا يختلفان بعضهما عن بعض، سوى أن الفارس الحجري لا يتحرك، بينما لا تزال الحيوية تدب في أوصال أمغار بغزارة. بين آونة وأخرى، كانت تنتابني قشعريرة، وكنت أتساءل:

- هل سأذوب وأنصهر في هذا الركام من الحجر، حتى تصبح لي قوة الملكات المحاربات ؟ بعض المدن تتحول إلى أكوام من حجر، في بضع ثوان إثر تغييرات جيولوجية، هذا بعض من ضريبة التطور الطبيعي المباغت ! يختلف الأمر، أثناء غارة حربية، بقصد العدوان؛ إذ يكون منحصرا في التأديب، أو الإذلال.

تجمع الأهالي حول كومة الحجر يخوضون في كلام مسهب حول زمن المسخ، زمن بوحمارة الكذاب. اندفع قوم من القرى المجاورة يصرخون، يصححون الرواية: "سوف يخرج بوحمارة الدجال عند اقتراب الساعة".

تزعم أمغار، ومعه أتباع ومريدون، رواية الخروج، ورواية بوحمارة. قال على مرأى ومسمع:

- المانع من خروج بوحمارة حالياً هو أنه منهمك في خياطة برذعة حماره. ثم أخذ يسرد علينا رواية الخروج بـ الأمازيغية، أدركت بموجبها أنه كلما أتم نسج برذعة حماره، كل مساء، عقد العزم على الخروج في صباح اليوم التالي، ولكن مساءاته لا تصنع صباحات، إذ ينسى في كل مساء، أن يضيف إلى عزمه عبارة إن شاء الله فتنتقض خياطة البرذعة، وهكذا إلى ما شاء الله... ما كاد أمغار ينهي حديثه، حتى تفرق الحشد في المسالك الحلزونية نحو القرى المجاورة، كأنْ لم يحدث شيء ما، وكأنما أمغار بدوره، لم ينبه ذاكرة، ولا أثار سؤالاً.

بهذا الحديث اللولبي، اللانهائي، سلب أمغار من أهل الكصر ومني بالذات، تلك الإرادة الحازمة التي يمكن أن يتحلى بها أي إنسان يبحث عن الحرية في عالم غامض. انتابني التساؤل، واعترتني الدهشة، أثناء الوصول إلى ذلك البلد الذي كان أحمد لا يزال يحدثني عنه حتى تلك اللحظة، ويحكي لي عن الكصور الرائعة التي يهش ساكنوها للضيف دون تراجع، ويهمسون أحلامهم لـ الشمس، والقمر، ولـ النجم المداري. وبغير ذلك؛ فهو إقليم نظيف ! لأن الشمس بمقدار ما تُلهم إنسانه بالشجاعة والإخلاص، بمقدار ما تذكي فيه روح الأناقة، والترفع.

لما داعبتني ومضة من وعي، تساءلتُ:

- "هل ينطق الحجر" ؟ أجابني صوت داخلي بصرامة:

- "نعم، الحجر يصيت إلى حد الوميض" !

قال لي ذاتُ الصوت:

- "على الحجر تسطر الأفراح والأتراح، الحجر ينطق".