من المستشفى (1-2-3)

سعيد مقدم أبو شروق - الأهواز

(1)

كنت قد طلبت من أبي أن لا يصوم وقد بلغ من العمر الخامسة والثمانين، وبان

الضعف في جسمه.

لكنه رد متسائلا وفي نبرته بعض الامتعاض:

لا أصوم؟! وهل فعلتها من قبل؟!

لقد لبثت عمرا أصوم وأصلي...

ثم واصل حديثه بعزم راسخ:

كلا، سأصوم كدأبي في السنين الخوالي.

وتذكر فقره فقال:

كنا في الضراء لا نملك سوى خبزة وتمرة، فنفطر بنصفها ونتسحر بنصفها الثاني.

أما اليوم والحمد لله لدينا ما يكفينا ويزيد، فما عذرنا؟!

قرأت له: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)، فالأجدر يا أبي أن لا تصوم.

فقال وفي محياه بسمة عربي مؤمن:

لكنني في صحة جيدة.

وعندما بلغنا العشرين من رمضان المبارك، زرتهما برفقة أم شروق، واقترحت

عليه أن يفطر العشر الأواخر ثم يصومها في الشتاء:

(ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر).

لكنه أصر على الاستمرار...

وفي اليوم الثالث والعشرين، وإذ لم يبق من موعد الإفطار سوى نصف ساعة،

كنت أقرأ القرآن، وإذا بنقالي يرن، وسمعت صوت والدتي تخنقه العبرة:

اسرع، فأبوك قد اعتقل لسانه.

فأسرعت، ورافقني أسامة، وجدناه جالسا والاصفرار يعلو وجهه.

نقلناه إلى المستشفى، كانت نوبة قلبية ...

من المستشفى (2)

أبي يستطيع أن يتحرك، وإن ساندناه يتمش، لكنه لا يستطيع التكلم، ولهذا

نقلوه إلى قسم العناية المخصصة للقلب (ccu).

أخبرت أبناءه بحالته التي بدأت تزداد سوءا، فجاء أبو جاسم وأبو عماد وأم

سلمان وأزواجهم وأبناؤهم من الأهواز.

وسكنا المستشفى نزوره كلما سمحوا لنا بزيارته.

وأنا في صالة الانتظار التي لا تخلو من الزوار ليلا ونهارا، كنت ألاحظ

المراجعين والمرضى، وقد ينبهني توجعهم أو شكاويهم أو صياحهم إن غفلت عنهم

لحظة.

وكنت أتألم مما أرى فأكبت ألمي وحزني، وهل لي من سبيل لأبثهما سوى الكتابة:

فوزية تبلغ من العمر الثانية والعشرين، لديها طفلان، أصيبت بالحمى، فأتى

بها زوجها إلى المستشفى على دراجة نارية، وجلبا الطفلين معهما.

وبعد أن عالجها الطبيب، رجعوا... لكنهم لم يصلوا بسلامة!

تلتف عباءة المرأة المسكينة بعجلة الدراجة بعد أن يفقد الرجل السيطرة

بسبب حفرة عرضت لهم، وتنقلب الدراجة، وتنكسر رجل فوزية.

وشوارع المحمرة معبدة، لكنها معبدة بالحفر والمطبات...مظلومة هذه المدينة

العربية، وأي ظلم!

تقول أم فوزية: إن الزوج مسكين، بل فقير؛ لا يكاد يشبع طفليه.

ولم يجلب زوجته إلى الطبيب إلا بعد أن يئس من شفائها من تلقاء نفسها، بل

لم يكن يملك مبلغ علاجها.

والآن، قد أمسى الجميع في حيرة، والعلاج يتطلب الكثير من المال!

وسرحت في أفكاري الخيالية:

دخلت المحمرة في شهر رمضان، اقترح البعض أن تقام مسابقة شعرية يسمونها

(مسابقة أمير البيان)، وأن تدعم هذه المسابقة المنطقة الحرة بالمليارات

لترويجها ولتجهيز إستوديو تصويرها، وأن يدعوا مقدما من جنوب لبنان، ثم

يدعوا الإعلامي الشهير جورج قرداحي ليزيدوها رونقا وشهرة.

لكن المنطقة الحرة رفضت وقالت:

ليس قبل أن نجعل هذه المدينة عامرة ميسورة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان،

من كارونها، ونخيلها، ومينائها، والنفط الذي يكاد أن يتدفق في كل شبر من

أراضي الأهواز... فلا ينبغي أن يمس أهلها نصب ولا لغوب.

وأعادني إلى عالمي الواقعي عويل امرأة ثكلى فقدت ابنها في حادث سير.

وفتحت عيني وأذني لأرى الحرمان والحزن والدموع، ولأسمع الأنين والتأوه والاستياء.

وركضت لأمسك هذه الأفكار الخيالية التي جعلتني سعيدا لدقائق قليلة، لكنها

أسرعت إلى باب المستشفى لتتبخر مع أحلامنا الكثيرة التي تتبدد كل يوم

ومنذ عقود.

من المستشفى (3)

مضى على أبي ثلاثة أيام في المستشفى، وبدل أن يتعافى ازدادت حالته سوءا،

حتى أصيب بجلطة دماغية أدخلته في غيبوبة.

حاولنا أن نتصبر، لكننا نتذكر حنانه وطيبة قلبه فتتغلب علينا العبرات...

وصرنا نزوره، نقلبه، نطيل النظر إلى الأجهزة التي تحيط به دون أن نعرف

منها شيئا سوى أنها تساعد قلبه في النبض، ونفسه في تعاقب زفيرها وشهيقها.

ونحمد لله على كل حال.

لم أخرج من عند أبي بعد عندما جاء ثلاثة شباب بشيخ عربي أصابته أزمة

قلبية فأودعوه في العناية الخاصة وتولوا عنه.

كان الثلاثة يتراطنون، بينما الشيخ لا يجيد الفارسية!

دفعني فضولي لأسأله عنهم، فقال إنهم أبناؤه!

ولم أطل الأسئلة الكثيرة التي كانت تجول في خاطري عن رطينهم وعن عربيته

نظرا لأزمته.

وكنت كلما أزور أبي، أجنح إلى هذا العجوز لأسأله إن كان يحتاج إلى أية

مساعدة، فكان يشكرني ويلوم أبناءه:

أينكم؟!

لماذا تركتموني هنا وغادرتم دون رجعة؟!

أهذا جزائي أيها العاقون؟!

ثم يكرر عتبه وشكواه بلغة فارسية عقيمة، وكأنهم أمامه!

وكنت أصبره وأنتحل الأعذار لهم رفقا بالرجل السقيم.

وبعد ثلاثة أيام وقد اجتاز أزمته القلبية، رخصه الطبيب؛ ولم يزره أحد!

وبقي الرجل جالسا على أحر من الجمر ينتظر أحد أبنائه!

اتصلت بهم الممرضة أكثر من مرة، ولم يجيبوا!

قال العجوز بصوت متهدج: أدري أنهم يتهربون من مصاريف المستشفى!

وبقي ينتظر يوما كاملا حتى طلبت مني الممرضة أن أتصل بهم من نقالي، لعلهم يجيبون.

وأجاب أحدهم، فأخبرته عن والده، لكنه لم يفهم من كلامي شيئا؛ فحولت

الجوال إلى الشيخ الضعيف ليتراطن مع ابنه العاق.

وجاؤوا بعد ساعات يتثاقلون في مشيهم، ورجعوا بأبيهم مكرهين.

وكنت أتساءل مع نفسي:

هل هناك علاقة بين اللغة الدخيلة وقساوة القلب؟!

هل ترك اللغة العربية يفقد المرء الحنان والبر والتذلل لوالديه؟!

ما رأيته اليوم جعلني أستيقن بوجود هذه العلاقة الوطيدة.

وسوم: العدد 792