مية نار

عصام الدين محمد أحمد

أمسكت الكوب ،شفطت بقا ؛ إنه كركدية سكره قليل ؛ طعمه لاذع ، نظرت إلى وجهه :

يا ليتنى ما نظرت !

وجهه لا ينم إلا عن البلاهة !

قل: البلاهة تدل على وجهه .

أداعبه :

ألم تكبر بعد ؟

لخبطت الولد الشغال عند أشرف الطعمجى ؛ساهيته وسرقت الكوب .

فى ذهنى فكرة ، أرضها هو ، فلم لا أتأكد ؟

ولد ناعم وطرى، على غير عادة الصعايدة ،وتصرفاته ناعسة لافتة ، فككت أزرار قميصه ،وهو يستسلم كالحمل الوديع ، كشفت ذراعه الأيسر ؛أرض محروثة بمياه النار ؛شقوق وشعاب ودوامات ،بسرعة أنزلت كم القميص علىلوحة التقزز:

ما هذا يا مجنون ؟

أجاب وأمارات السرور تلبس سحنته :

رسمها الذى كان !

ينده عليه فرج صاحب المطعم :

تعال يا كلب .

يغادرنى وعلى شفتيه مئات الكلمات ،تستحضرنى ذاكرة منتشية:

(أعدو خلفها فى دروب المدينة ،من ملكة الجامع إلى كنيسة أبى سيفين مخترقا درب القفاصين ،جميلة هى فى تقصعها ،شعورها المسترسلة تحفز شباب المدينة على الهفهفة خلفها،دنوت منها ،حاذيتها ،تهامست الأيادى ،دخلنا بيتا لا أعرفه ولكنها قد تعرفه !

وفى بئر السلم ترنمت بكلمات وآهات وتذمرات وصلوات ، فى عينيها نمور وبثور،ولحظتها تداخلت الهواجس:

خطباء الفضيلة ومغامرات الفتيان ، أهازيج مبتورة المعانى عن الجسدوالجنس والشـبق .)

هل ثانية،يسند بيده اليمنى صينية طعام مرتكنة فوق كتفه ،أطباق بها آثار طعام ولقيمات خبز مبتورة ومهتومة ،يدلق البقايا فى البرميل الضخم المتبل بروائح العفن،والمطعم عبارة عن طاولة كبيرة ،تحيط بها المصاطب الأسمنتية،متكدسة بالرواد ،صنوف الطعام محدودة ومكررة؛ملوخية؛بامية مهروكة؛شربة،أرز؛وأخيرا طبيخ أحمر،الجوع كافر يدفعنى لنهش الخبز والطبيخ دون تأفف؛الكثيرون من الزبائن يمخضون ويتفلون أثناءتناولهم الطعام،وربما أصبح هذا المشهد من مشهيات الأكل،لا تتقزز الآن،ولا تلفظ الأوراق جانبا،ففى عينيك كلماتى تتماوج فلا تحرمنى من متعة العوم !

يحضر طبق نايب اللحم، يقعد بجوارى ،يقول بخجل:

 لا تظن أننى معتوه ،أوولى من أولياء الحفر على اللحم ،وتذكر أننى زدت لك النايبزيادة منتقاة ،أنغمس  فى جز العيش ،أعصر ليمونة كبيرة فى طبق الشوربة ، أتجرع السائل المالح الممتزج بالدهن ،يتكلم ويتكلم وعقلى تائه فى الأستحلاب والهضم :

ترتدى الجينز المحزق وبلوزة من الحرير الأبيض،تذهب إلى الدرس فى مدخل المدينة الغربى ،بتدبير منها أتبعها أينما ذهبت ،ألتمس معسول الكلام والعواطف ،تتباهى بجرجرتى خلفها أمام زميلاتها ،أنحرفنا عن الطريقالمفروض أجتيازه ،أسفل جميزة عتيقة تقول :

تزوجنى .

أرد متأثرا برومانسية اللقاء :

سأختصر سنوات الدراسة وأسافر للخارج للعمل والتحويش ،كلها سنوات قليلة وأتزوجك .أختلس منها قبلة ،تبتر الحوار الذى لا طائل منه ،أدركت أن الخوف يتفصدها ، فأضفت :

 فى الصيف سأسافر إلى سوق روض الفرج .

ينطق حروفا منفلتة لا يجمعها رابط،أتشاغل عنه بتصفح صورها الثابتة فى مجال رؤيتى :

تهرول لأمى ، تعرض عليها ثمن دبلتين للخطوبة ،تعتقد أمى أن مثل هذه الفتاة رخيصة ،ربما تكون أمى قد طردتها ،لا أدرى ماذا حدث؟

من خال إلى خال،ومن عمل إلى عمل؛ولم تعهد جيوبى المال ،بنطلون وقميص وسروال داخلى محصلة الشيل والحطوالعرق والكرامة الهاربة،وفى ليلة شتاء أحترقت ، تفحمت، أمتزجت خلاياها المنصهرة ببلاط الشتاء ..

تنهمر الدموع من مقلتى ، يكتنفنى حال القاتل فيهتز جسدى مرتبكا،لا شئ يسرى عنى سوى الأنصات ، مازال يحكى :

ذهبت إلى أبيها فأعطانى عشرة جنيهات ، وقال أشتر لك حذاء جديدا ، ومن يومها يقبرنى الصمت ، وتغلفنى حلكة الليالى .

يسرح فى ملكوته ، يردد بآلية:

أحببت وما نلت سوى العته .

أنوب عنه مكملا:

تقصد الجنون ؛ألم ترهذه الخرائطوالتعرجات على جسدك ؟

ياعم الدنيا كرباج الغلبان .

لماذا تحب يا معتوه ؟

فى الذهاب والرواح تشاغلنى ، تتخلف عن زميلاتها فى مدرسة التجارة لتلفتنى إليها ؛أنجذبت ويا ليتنى ما أنحرفت إليها!

حينما تحب المرأة فلا شئ يحول دون أرادتها.

الأمور كانت ماشية تمام التمام ،ولكن حينما ظهر عريس وعريس تبدلت الأحوال.

تقرع الطبول ، ترزع الدفوف ، تردد الجوقة ساخطة :

على المزاد يا (بيايعين).

أغادره ويغادرنى ،أخرجت من جيبى الدفتر ،دققت الحسابات ، عددت فلوس الفواتير للمرة العاشرة ،أشعر الآن  أنك مللت القراءة لأننى مللت الكتابة .

وسوم: العدد 800