شهود الليلة القمرية

رجلان شاحبان مرهقان، جلسا القرفصاء في ركن جانبي مهمل داخل أسوار مدينة نكدة، يبوح كل منهما بسره لصاحبه بعيداً عن عيون باردة تحملها رؤوس صغيرة زادتها الخوزات المعدنية حجماً، كبرتها الخوذات المعدنية.

كلاهما يهمس في أذن أخيه كلاماً خافتاً ممزوجاً بالحسرة والألم.. تبين منه أنهما على درجة من التعليم والثقافة، وأنهما ينتميان إلى مدرسة فكرية واحدة.

كان الرجلان يكتمان سراً كثيراً من أسرارهما، رغم أنهما أمضيا معاً منذ سنوات طويلة في كنس الممرات والساحات ومسح بلاط إدارة السجن وخدمة ضباطه.

قال الأشعث: تطوعت لتسجيل أحداث السجن والتاريخ لرجاله.

وقال الأغبر: دفعتني المشاركة الوجدانية خارج السجن لدخول بوابته دون إكراه، وأسجل يومياً في مذكراتي كل الصور والانفعالات شعراً ونثراً.

الأشعث: جريئة تلك النفوس التي ساعدتنا في الوصول إلى أهدافنا، ومباركة من الله.

الأغبر: استمرارنا بحاجة إلى مضاعفة الجهد والعمل بهدوء ودقة.

الأشعث: كيف تركت إخواننا؟

الأغبر: يبتسمون والصبح يبتسم.

الأشعث: ومتى أعدم الفوج الثاني؟

الأغبر: عند المغيب وهو أشد ابتساماً.

الأشعث: ماذا حل بهم؟

الأغبر: أحرقت عظامهم في مواقد البغاة، ورميت جماجمهم المهشمة تحت أغصان الشجرة المعمرة ذات الجذور المتفسخة.

الأشعث: قل قدّرت عددهم؟

الأغبر: لم تعد شواهد القبور تتسع لأسمائهم، فهي مسطورة في الألواح المرفوعة إلى السماء، وهم المحلقون دائماً نحو الأعلى بأجنحة من نور مثل أكف الضراعة.

الأشعث: كفاك حزناً يا أخي... الأغبر: لست وحدي الحزين، ولكن الحمائم اللاتي شهدن المجزرة ما زالت حزينة تبكي..

الأشعث: أنت تبكي؟..!

الأغبر: ويبكي الحمام ولكن بكائي مكتوم.. مكتوم مثل البركان الخامل..

الأشعث: إيه يا ليلة الإعدام الجماعي.. أيتها المظلمة مثل قلوب القتلة.. هل غسلت بوابات السجن؟

الأغبر: نعم.. وكشطت الأرض الصخرية والجدران الصماء كشطاً، لكن! لكن البقع الحمراء الملتصقة بالأرض، وقطرات الدم ما زالت تغلي.. تغلي ساخنة مثل الجمر الأحمر. الأشعث: إيه أيتها الأرض العطشى للدم، ألم ينضج ترابك الأرجواني المعطر بدم إخواني

هل شاهدت حسيناً..؟ كيف انتزعوا حسيناً من غرفته؟

الأغبر: نعم.. كانت زنزانته مثل التابوت الحجري.

وكان حسين يرقد فيها مثل الصقر الأزرق.

وكان ابن الحنفية طفلاً، يرقد في حجر العمة زينب.

فقتل حسين بين يدي السجان، وهو يرتل..

يرتل قرآناً كل حروف الألف بصفحته مثل مآذن بغداد، تغلي كلماته في صدر كالمرجل.

وتهز العمة، بين يديها طفلاً ظل يؤرق عمته دهراً.

من قتل أبي أيتها العمة؟؟!

الأشعث: آه من ليل الذكرى..

الأغبر: هل تبكي حسيناً أم تبكي الحسن البنا في عرس الشهداء.. يا أشعث؟

الأشعث: كلا.. لن أبكي بعد الآن ولكن.. الأغبر: هل ينسى الأطفال قطيع ذئاب هشم جماجم آبائهم في زنزانات الصحراء العربية؟

هل ينسون صوت أرامل ينشدن لأطفال أيتام، لحناً أزلياً مثل آذان الفجر؟!

يرسمن النون القرآنية للأطفال بإصبعهن مثل قباب سمرقند..

الأشعث: إيه يا ليلة الإعدام الجماعي.. لقد أفسدت على القمر هدوءه حتى ضن بالابتسامة، وخفتت أشعته الباردة، ورحل عن منازله المطلة على الصحراء حزيناً.

الأغبر: كانوا هم العاشقين، وكان القمر يحب العاشقين، وكانوا هم المحبين للأوطان، ولذلك أحبهم الله، وكانوا هم المتهمين بالخيانات دائماً، فرآهم الله وزاد حبه لهم في تلك الليلة القمرية الباردة.

وسوم: العدد 840