حديث الثلاثاء

Are you free this evening?

فوجئ عبيدة بهذا السؤال الغريب من صديقه (جون) مساء يوم الخميس .. هل أنت حر في هذا المساء ؟؟؟ فأجاب  بدون تردد: نعم أنا حر في كل المساءات الحالمة المقمرة , وإني بحال جيدة, وأشعر بنشاط متميز, فمع ... الجميل في (ميونخ) لاتُنسى لياليه , ولكن قل لي يا (جون) إلى أين المشوار ؟؟ فاليوم خميس, وموعدنا الأسبوعي المعتمد هو يوم الأحد . تبسم (جون)  ابتسامة تحمل في ثنايا تمايسها المعاني التي استراب منها عبيدة هذه المرة , واستدرك (جون) .. وأتم ابتسامته تلك بقوله : نرغب اليوم بالمشاركة في حفلة خاصة تعبر عن سعادتنا . وأتمنى لك ساعات أكثر إمتاعاً, وأوفر سعادة من سابقاتها , وأرجو أن تعود آخر الليل وأنت في غاية السرور , ولست بحاجة لإتمام السهرة مع الجيران . كاد عبيدة أن يتلعثم بكلامه , ولكنه صاغه بأسلوب لبق وحضاري : أشكرك يا (جون)  وأتمنى لك حظاً أكثر سعادة ومتعة.

وانطلقا بسيارة فارهة إلى حيث المشهد السعيد , لم يتردد عبيدة في طلب المكان , لعلمه بمثل هذه الأمكنة , ومافيها من كؤوس تدار بأنواع المرطبات والمشروبات, والموسيقى التي تبدأ هادئة , ثم تصطخب فيها الألحان , وأنواع الفتيات اللواتي لايعرفن غير العري والرقص وصيد الشباب . ودخلا صالة مارآها من قبل عبيدة , إنها أكثر من رائعة , تشهد بالحرية المطلقة , وبالثورة على التقاليد البالية للمجتمعات المحافظة, وتعج بالاستماع والاستمتاع , فلاقيود ولاضوابط ولامزاج إلا هذا الذي أفرزته الحضارة المتمردة على الفطرة , كتمرد هؤلاء الكاسيات العاريات على منهج الطهارة والسمو للمرأة , حين ألغين أثرهنَّ الإيجابي في صناعة الأجيال .. غلب عبيدة شعور بالنشوة , نشوة غير مبهمة , ولا تستعصي على من يرى مارآه , نشوة تهزُّ المشاعر السعيدة حتى لوكفتها أيادي الكدر والغربة بعض الأحيان , فالسعادة واللذة صنوان لايفترقان .. أجل يا(جون) إنها ليلة أكثر من ممتعة , أطلق فيها الحاضرون نشواتهم الثائرة من غير تردد.. الأقداح والموسيقا والمفاتن , وخطوات الاختلاط غير الموزونة . إنه سوق الملذة الحافل , لتحقيق وشراء الأحلام الجميلة مجاناً. وخرج الفتيان يترنحان آخر الليل , وعبيدة مازال في حلم ربيعي أكثر من جميل, وعند باب بيته ودّعه (جون) على أمل اللقاء يوم الأحد –كالعادة- وأمسك عبيدة بيده ,وقال : لم تقل لي ياصديقي عن سبب إقامة هذا الحفل البهيج. ردّ (جون) قائلاً : ألم تسمع أمس باغتيال الشيخ عزالدين البخاري على يد مجهول بعد صلاة العشاء !! سحب (جون) يده من يد عبيدة مودعاً, واختلط وقع الكلمات المرتعشة التي تفوّه بها (جون) مع ترنح النشوة في رأس عبيدة , ودخل غرفته وهو في حالة ذهول لم يعهدها من قبل .

وحاول أن ينام , ولكنه لايملك القدرة على الاستسلام للنوم , فليس له من القدرات النفسية الحية التي تؤهله إلى ذلك , دخلت أحلامه إلى سوق مزايدات ومساومات , وحاصرته ملذاته بعنف , فاضطر إلى الانكماش , ويصرخ في وجهه التائه وجه صاحبه (جون) : ألم تسمع باغتيال الشيخ عزالدين البخاري على يد مجهول بعد صلاة العشاء!!!..

زوبعة تعصف في حناياه ,تخطت قوة السُّكر والعربدة , ودمرت حصون الإغراء, ودقّت بعنف على بوابة قلبه الخلفية, فهزّت جوانحه هزاً , وأسمعته صوت جده الشيخ عبدالرحمن في آخر حديث له قبل سفرته إلى ألمانيا, كان صوتاً هادئاً صافياً وامتلكه استرخاء حاول أن يستغله عبيدة ليرحل بعيداً إلى عوالم النسيان ودنيا التجاهل .. ولكن.

كأنه نام , وكأن روح والده الشهيد عبدالله الذي تم اغتياله أيضاً على يد مجهول بعد صلاة الفجر , تحوم حوله وتعاقبه : هل حُرمت من الإعانة عندما أحسنت؟ وهل مُنعت من التقويم عندما أخطأت ألم يحذرك جدّك من الغرور , ومن وسوسة الشيطان؟ أما أنبأك أن نشوة الهوى فوّارة؟ وأن الخروج من بيئتك الطاهرة هو خروج إلى اللوثات التي ليس لها ضابط!! كم عدد الرسائل التي وصلتك من جدك وكان نصيبها الإهمال, هل حميتَ نفسك من شياطين الإنس والجن؟ هل كنت القيّم عليها والأمين على مسيرتها؟؟ ظل عبيدة يتقلب ذات اليمين وذات الشمال, ويتقلب على وجهه يريد الهروب من مرارة احتراق أنفاسه بنار التلوث المرعب لآماله في دنياه , ولصوت آخرته التي طالما سمع الحديث عنها مساء كل ثلاثاء من جده العالم العابد الداعية, ورأى بأم عينيه ابتلال لحية جده , بدموع الخوف والرجاء التي كانت تنساب رقراقة سخينة .. وكأنه استيقظ من نوم ليلة عجفاء , أو أنه ولد صباح هذا اليوم برصيد باهر من الوعي الذي باعه حين نزل من الطائرة في مطار أوروبي منذ ثلاث سنين . أين شهادة الدكتوراه التي وعد بها أمه وأخويه سعيد وإسماعيل , ودغدغ بها أحلام أختيه الصغيرتين عاتكة وفاطمة؟؟ إنه يمنيهم وهو مازال يراوح في أول فصل دراسي ماتخطى عتبة بابه المؤدّي إلى مغنى سهراته الماجنة مع (جون) وغيره من شباب وشابات النهضة المتحررة من كل القيم السماوية..  ويطرق عليه باب داره أحد إخوانه المسلمين الذين يدرسون مثله طلباً لشهادات الطب والتقنيات, ولكنّ هذا الأخ عاش في هذه البلدة على غير ماعاش عليه عبيدة, كان الفتى حريصاً على حضور كل محاضرة ولقاء في المركز الإسلامي , ولايفارق مسجدها إذا ماحان وقت صلاة الجماعة لسائر فروض اليوم والليلة , وينهض عبيدة متثاقلاً , ويفتح الباب, ويرحب بالزائر العربي الشرقي , ويجلسان على مائدة إفطار خفيفة أسرع في إعدادها عبيدة . ويرى هشام آثار ثقل الليلة العجفاء على وجه مضيفه , وهو يعلم بأن صاحبه هذا ليله غير نظيف , ووسائل المتعة عنده غير نظيفة أيضاً, ولكن لايُمنع من أن يستفز مشاعره فلعل وعسى!!! .. وانطلق هشام يتحدث : أسمعت ياعبيدة بمقتل الشيخ المجدد عزالدين ؟ وينظر إليه عبيدة نظرة قلق واضطراب , نظرة عميقة الغور, حفرت الأفق الرحيب الممتد من ميونخ إلى بلدتهما الآمنة المطمئنة في بساتين الشرق الإسلامي.. قال : نعم . سمعت ياهشام, ولكن يجب أن تسألني ممن عرفت؟ حدّق هشام في عين عبيدة , وقرأ فيهما رحيل قافلة الضعف والهوى , وراح هشام يحدث نفسه .. ولاعجب فهو ابن الشهيد عبدالله , وجده داعية البلدة, بل وشيخها ومرشدها وباب التوبة لم يوصد , وكم من مخطئ تاب , وأخبر عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه ينغمس في أنهار الجنة .. واستغرب عبيدة لسكوت ووجوم صاحبه هشام , فبادره قائلاً : مالك ياهشام لم تسألني ممن سمعت بنبأ استشهاد الشيخ يرحمه الله ؟! قال هشام وقد ازدادت دهشته : يرحمه الله .. أجل ممن سمعت ياعبيدة؟ ويأخذ عبيدة بالبكاء, ولم يستطع الحديث , ويقشعر جسد هشام ثائراً, بينما يهتز جسد عبيدة فرقاً من هول ماسمع ورأى .. ثم قال : لقد سمعت النبأ ياصديقي من ( جون) .. تعجب هشام .. وردد : من (جون) ؟؟ أجل ياأخي منه بالذات .. وراح يصف له ليلة الفرح والسرور التي أقامها الفرنجة يوم مقتل الشيخ عزالدين .. تنهد عبيدة , ووجهه وشَّاه الكدر المركب من الندم والحزن , واعتصرت فؤاده يدُ الضياع , وراح يستذكر الأيام ويقلب صفحاتها يوم رأى والده وهو مضرج بالدماء على باب المسجد , ويوم أصغى إلى جده بعد انصراف الناس ,وهو يشحن أحفاده من البنين والبنات بطاقات إيمانية , ويحذرهم من مسارب الشيطان , ويفجر فطرتهم الصافية, المليئة بالسنا المتلألئ والروح الفياضة بالنور, ويرسم أمام خطاهم المستقبلية المرتقى النبيل , والسعي الرشيد , وتلا عليهم من آيات ربهم , فكانت نهراً روحانياً ينساب من ينابيع الغيب الثرية , ليسقي نفوسهم من شهد السماء ( قد أفلح من زكاها) (9 الشمس) , وليحفظن بحفظ الله بها ( احفظ الله يحفظك ) .. اخضلت عينا هشام بالدموع , وقال : رحم الله أباك , ورحم الشيخ عزالدين البخاري , ففيه قوة وصبر وصمود الداعية الرباني , عاش وهو يقوِّم مااعوجّ من سلوك الناس , ويصلح ما فسد من آرائهم وأخلاقهم , بفعل الغارة المحمومة على المسلمين .. هز عبيدة رأسه قائلاً: وهذا سبب قتله على يد مجهول معلوم , وأردف هشام : حسبنا الله ونعم الوكيل , وإنا لله وإنا إليه راجعون.

كانت أم عبيدة وأخوه سعيد يستعدان للحج هذا العام , وما هي إلاأيام وتنقلهم الطائرة إلى جدة , ومنها إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة , قام عبيدة ليعيد قراءة الرسالة التي لايعرف كيف حافظ عليها دون غيرها , وأخذ يقرأعلى هشام وصايا جده الشيخ عبدالرحمن , وكيف أوصى أمه أن تدعو له عند الملتزم وفي منى وغيرها من المشاعر المقدسة , أعاد الرسالة إلى مكانها وقال : أتعلم ياهشام أن التغيير عنصر إيجابي لنيل السعادة والمتعةالحقيقية ؟ إن جدي كان يؤكد دائماً أن التغيير يبدأ بالتوبة النصوح, والتوبة – يا أخي – تمسح صفحات السوء , وتجددها بالأعمال الصالحات والبر والرضا .. أليس كذلك ؟  أجاب هشام : بلى – والله – ياعبيدة . وهذه دعوة أبيك يرحمه الله , وهي بالذات دعوة جدك . ومن أجلها استشهد الشيخ عزالدين . هب عبيدة وكأنه انطلق من عقال قائلاً : إذن هيا .. قال هشام: إلى أين؟ إلى التوبة النصوح , وإلى بيت الله الحرام. وأسرع يعد الأوراق الرسمية ليكون من عداد حجاج هذا العام.

وتنطلق الطائرة في الفضاء الرحيب , وتقترب من بلاد الشرق , بلاد الهدى والإسلام , ويحرم بإزار ورداء وهو في الطائرة قائلاً : لبيك اللهم لبيك , فيشرق وجهه بنور التوبة , وتسبح روحه ببحر الرضا والقبول, وفي اليوم التالي كان عند الحجر الأسعد .. وتمر بضعة أيام ويقف الحجاج على صعيد عرفات يتضرعون ، يبكون , ويدعون , وتفاجأ أم عبيدة بابنها رافعاً يديه إلى السماء , ذاهلاً عما حوله , فصاحت : سعيد.. سعيد  أهو هو أخوك .. أخوك عبيدة.. نظر سعيد وقال : نعم ياأمي وتعانقا , والأم ماعادت قدماها تحملها فجلست على الصعيد المبارك , ليرمي عبيدة نفسه على قدميها باكياً مسلِّماً يرجوها أن تسامحه عما بدر منه وكان .

وتنقضي أيام الحج بيسر وسلام , وتعود الأسرة إلى مغاني بلادها, بعد أن شهدت المنافع , وأدت المشاعر, ونالت حظها الوافر من التربية والتزكية والمتع الروحية السامية, ورددت في تلك البقاع الطاهرة نشيد هذا الموسم الرباني , تعود الأسرة ويشاء الله أن يعود معها ابنها البار عبيدة من غير ميعاد, بعد أن زهق الباطل , وعفـر وجه الملذات الحرام بالتراب, وحطم كل أصنام الجاهلية المعاصرة, فهنا في مكة المكرمة دحر جيش أبرهة, ونكست أعلام المعتدين, وهنا نزل الوحي من السماء على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم , وهنا انشق القمر معجزة له دالة على صدق دعوته, وهنا زمزم إسماعيل طعام طعم وشفاء سقم , أجل تعود الأفراح إلى قلب أمٍّ كادت تفقد فلذتها في متاهات الضلال , ومستنقعات الفساد, وتحط الطائرة في مطار بلدتهم لتجد العائلة نفسها في بيتهم المجاور لبيت الله , المسجد الذي كان يؤم الناس فيه أبوعبيدة يرحمه الله , وأمّهم من قبله ومن بعده الشيخ عبدالرحمن الذي يتوق لرؤيته عبيدة بعد أن تاب وحج إلى بيت الله الحرام .. ولكن.. راعهم المنظر لأول وهلة.. إسماعيل وعاتكة وفاطمة عيونهم دامعة , ووجوههم شاحبة, وعناقهم لوالدتهم وأخويهم كان يعبِّر عن أكثر من مجرد عودة الحجاج , عناق امتزج بحرارة الدموع وسخونة الأنفاس ... فقد مات الجد قبل وصول الأسرة بثلاثة أيام فقط , أجل فإنا لله وإنا إليه راجعون , وتستقبل الأسرة الأقارب وسائر الناس الذين اختلط عليهم أمر التهنئة بالحج بأمر العزاء في الفقيد الغالي فقيد المدينة بأسرها,فقد كان الإمام والعالم والمرشد وصاحب اليد البيضاء لكل الناس .

وفي صباح يوم الثلاثاء , والأسرة مازالت في أساها على فقد جدها تجهش عاتكة بالبكاء ويكاد صوتها يخرج عن المألوف المشروع , وتهدئ أمها من روعها وتخفف من عارم مشاعرها المتوقدة , فهدأت ومسحت آثار الدموع وقالت : أعلم والله أن الموت حق , فلست بساخطة, ولكني أخشى أن يغلق هذا الباب ( وأشارت إلى الباب الذي يفتح على المسجد , وكان دخول والدها وجدها منه للإمامة والخطابة والحديث ) وأخشى أن يخلو مكان جدي بعد أبي يرحمهما الله , انتبه عبيدة , وكأن الكلام يعنيه بالذات, وانتفض انتفاضة فرسان المؤمنين وقال : لا ياأختي لا لن يغلق هذا الباب, ولن يخلو مكان الدعوة إلى الله , اطمئني .. أجل اطمئنوا جميعاً, اشرأبت الأعناق نحو عبيدة وكلها أمل أن يكون الأب والجد والوارث ودعوا له : اللهم اجعل يده بريئة , وقلبه طاهراً,وسلوكه قويماً , ولسانه ناطقاً بذكر الله والدعوة إليه, ابتسمت عاتكة وقالت : إذن سنستمع إلى حديثك كل يوم ثلاثاء كما كنا على عهد أبي وجدي , أجاب عبيدة : أجل ... بإذن الله.

وسوم: العدد 840