رجل اسمه مدينة

لا تصدقني يا سيدي المحرر، فأنا لا أكتب القصص ولا أنسج من مخيلتي الأساطير، إنما أروي الحقيقة ولا أجرؤ على روايتها كاملة لأنها مرة.

فاسمع قصتي:

وفتحت عيني فجأة، ونظرت فيما حولي لأجد نفسي ملقى على أرض صخرية رطبة تكاد جدرانها تحشرني، ويكاد سقفها المنخفض يضغط على صدري، وتنفست بعمق هواءً منبعثاً من شقوق نافذة حديدية تمدني بشعاع خافت من الضوء البارد،

وتحسست جسدي بصعوبة، يبدو أن إحدى يدي مصابة بكسور وتشوهات وأن كدمات كثيرة وقروحاً وسحجات تملأ مساحة كبيرة من جسدي وأن بقعاً من الدم متجمدة فوق قميصي.

لم يكن إدراكي في تلك اللحظة لعنصر الزمان كبير الأهمية، نسيت التاريخ الهجري والميلادي ولا أدري اسم اليوم وتاريخه، وبدأت أنسى كل شيء حتى كدت أنسى اسمي وأسماء أطفالي لأنني كنت أدرب نفسي على النسيان.

وبدأت أسمع ما حولي، كانت أذني هي العضو السليم الباقي، رغم أنها كانت معلقة على رأس قد داسته أحذية عسكرية وركلته عشرات المرات، فكاد ينفصل عن جسدي، وشعرت بدوار جعلني ألتصق بالأرض التي حاولت التخلص منها.

نعم لقد خضعت للتحقيق لكني لا أذكر صورة هؤلاء المحققين عندما وضعوني في الكيس الأسود، وانهالوا على ضرباً ولكماً.

كنت لا أفرق بين طعم العصا وطعم السوط، كما لم يفرقوا بين ضرب الصدر والإليتين.

عندما أرادوا أن ينتزعوا مني الاعترافات بالقوة كانوا يصبون على الشتائم واللعنات، وما لم يذكره القاموس من كلمات البذاءة، مطعمة كلها بحرف القاف.

ما زلت أسمع وقع أقدام مجموعة من هؤلاء تقترب من باب زنزانتي لتفتحه في رعونة وعنف وتلقي فوق جثتي رجلاً متوسط القامة ممتلئ الجسم، خفيف شعر اللحية في حالة غيبوبة وشلل تام.

ويوصد الباب بمفتاح كبير وسلسلة معدنية مع اللعنات والقسم بعدم إخراجنا حتى الموت.

أخي: خفف عنك بعض ما تعانيه من آلام وهدئ من روعك، واصبر على ما أصابك.

وأخذت قطعة من قميصي الممزق لأمسح بها بعض الجروح الغائرة فوق حاجبيه وأقطع نزيف الدم الذي حسبته رعافاً، وحاولت أن أتعرف على شخصية هذا الرجل الصابر الذي أنهكه التعذيب دون جدوى ولم أذكر سوى اسم مدينته التي حاول الغادرون ذات يوم تدميرها.

إنه يهذي من شدة الحرارة، يتكلم بعبارات غير مفهومة عن الدين والسياسة والحرية، ورفعت جسدي المحطم وقبضت يدي السليمة على نافذة الباب الصدئ، وصحت بأعلى صوتي أطلب إسعاف المسكين ونقله إلى طبيب فلم يجيبني إلا الصدى لقد أنستني أوجاعه آلامي.

جلست على الأرض حزيناً، ووضعت رأسه في حجري أبلل رأسه بقطرات من الماء علها تخفف عنه بعض الحمى التي تستعر في جسده، وأدعو له بكل مشاعري. وما لبثت عيناي أن انفجرتا بالدموع تبكي بعد أن أجابهما الصدى إلا مجيب مراراً.

ويفتح الرجل فمه ليودعني بكلمات قليلة، ويلتقط أنفاسه الأخيرة، وعلى شفتيه ابتسامة يمزجها بالشهادتين، ثم انطفأ كما ينطفئ السراج، وبرد جسده وأخذ يتجمد بسرعة.

كنت أتوقع أن يأتي الرجال فيحملوه إلى بلده ليصلى عليه في مسجد حيه ويدفن في مقابر عائلته، ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل، ولما رفضوا نقله خارج الزنزانة شددت أثوابه إلى جسده، وربطت لحييه، وأغمضت عينيه، ووجهته نحو اتجاه أظنه القبلة، وصليت عليه صلاة الجنازة قاعداً، ودعوت الله أن ينقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ويرحمنا إذا ما صرنا إليه.

وجلست إلى جواره وقد نعم بالشهادة مع سيد الشهداء، أنظر إلى وجهه الطافح بالبشر وهو يرى مقعده من الجنة، وتمر الساعات ببطء ويرفض السجانون نقله خشية انفضاح جريمتهم، ثم تمر الأيام بسرعة، وجثة أخي المسجى في الزنزانة إلى جانبي، تفوح منه رائحة العطر والابتسامة لا تفارق ثغره.

ويأتي الأمر بنقلي إلى سجن جديد فأفارق رجلاً لا أذكر اسمه إنما أذكر مدينته التي حاول الغادرون ذات يوم تدميرها.

فهل تصدق يا سيدي المحرر أنني رويت القصة كاملة.

وسوم: العدد 845