شمس

أدركتْ بعد ذلك أن الوحدة التي عاشتها، والأحلام التي أجَّلَتْها، والدموع التي ذرفتها ليال طويلة ، دموع الفقد والحسرة والحرمان ، وأمنياتها التي أبقتْها سرا بأعماقها خشيةَ أن يسخرَ منها أولئك الذين لم يصدقوا أن باستطاعتها تحدّي الظروف ، وبمقدورها أن تنجز وتصل  ، وتثبت لنفسها أولا ثم للحمقى الذين قللوا من قدراتها وشككوا بجداراتها،هاهي الآن صاحبة أشهر مطعم للمأكولات العربية في استوكهولم عاصمة السويدبعد توفيق الله سبحانه وتعالى ،استطاعت( شمس ) أن تحقق حلما لطالما استحال تحقيقه بحياة سلبتها الكثير بعد خسارات متتالية وعثرات وانكسارات احتاجت للكثير من الوقت لتتغلب عليها ، وتقف مرة بعد مرة لتكون ما تريد في قرية ريفية صغيرة نشأت شمس وسط عائلة متوسطة الحال بين ثلاث أخوات وأربعة إخوة لم تكمل تعليمها الدراسي بحكم عادات أهل الريف تركت المدرسة  -رغما عنها -بعد أن نجحت من الصف السادس الابتدائي على الرغم من ذكائِها ، وسرعة بديهتها إلاّ أن ذلك لم يشفع لها أمام مجتمع يجهل قيمة العلم ، بل ويئد الأحلام والطموح لدى مَن تسعى به همتُه إلى المعالي . لم يكن لديها الكثير لتقوم به من أعمال في منزل عائلتها البسيط كانت تساعد والدتها في أعمال البيت ثم تنزوي بغرفتها تقرأ ما تجده بمتناول يدها لتمضية بعض الوقت ،وقد استهوتها قصة ذلك الملك الذي رصد جائزة ثمينة لِمَن يبدع من رعيته بعمل جديد ، ونادى بذلك رسول الملك في الناس ، وحدد موعد الاجتماع في قصره المنيف . فاجتهد المبدعون في إنجاز أجمل مايمكنهم أن يقدموه في هذه المسابقة الملكية الغالية . وحضروا في الموعد المحدد ، وأخذ كل واحد منهم مكانه ، وأطل الملك عليهم بأبهته ، ونودي على أول الجالسين فجاء بعمله الفني البديع ثم عاد وجلس في مكانه ، ونادى على مَن كان في جانبه ، فأتى بعمل بهر به مَن شاهده ، وجاء الدورُ على مَن كان في جانبه ، فأقبل شاب وبيد لوحة كتبت عليها آيات من القرآن الكريم بخط جميل رائع ، فأعجب الملك بها ، وعاد الشاب إلى مكانه ، فأقبل مَن كان بجانبه ، ووقف بين يَدَي الملك وألقى قصيدة جزلة من عيون الشعر العربي الأصيل ، فأُعجب الملك بها أشد الإعجاب ، وعاد إلى مكانه ، وأقبل مَن كان يجلس إلى جانبه وهو يحمل وُريقات جمعت علم الفرائض بطريقة إبداعية ، فأُعجب الملك أيَّما إعجاب ، وعاد الشاب إلى مكانه ، وكانت تجلس إلى جانبه عجوز التزمت الهدوء ، فقال لها الملك وأنت ماعندك يا أمة الله ، قالت أنا أم هؤلاء الشباب الثلاثة الذين مثلوا بين يديك الكريمتين ياعالي المقام ، جئت أرى موقع أولادي في هذه المباراة ، وأتعرف على رأس مَن سيضع الملكُ إكليله الذهبي الثمين ، فقال الملك هنا انتهت المسابقة ، وقال لحامل التاج الذهبي ضع الإكيل على رأس هذه الماجدة التي ربَّت هؤلاء الشباب .أجل عاشت  شمس وهي تحلم بأن يكون لها أولاد ، وأن تراهم أهل مكانة الجتماعية كريمة ، ولطالما خطرت هذه القصة على بالهــا كثيرا .

كان والدها حاد الطباع صعب المراس وكانت والدتها قليلة الحيلة لا تناقشه في قراراته بل تطيعه ولا تجادله قط ، طالما أنها لا تستطيع أن تغير رأيه فهي تسلم للأمر الواقع على مضض . تزوجت شمس من ابن عمها زواجا قسريا فهي في الحقيقة لم توافق أو ترفض هذا الزواج ، فلطالما كان الخيار والاختيار للعائلة تلك الأخيرة تفصّل وتقرر ، وشمس ترتدي الاختيارات بصمت دون أي اعتراض . فهي على ثقة أن عائلتها تختار لها الأفضل على طريقتهم وبحسب رؤيتهم . مضت سنوات عاشت فيها  حياة روتينية رتيبة كان أقصى إنجازاتها إنجاب الأطفال وأهمها تلبية طلبات زوج حاد الطباع . صبرت على تصرفاته ،  وصابرت لكنَّ جديدا في سلوكه لم يتغيّر . كانت تقضي وقتها بين أطفالها الخمسة ، أنجبت ثلاثة صبيان وبنتين تحملت الكثير من الإهانات من أجل عيون أبنائها ,كانت تعمل كالآلة ببيت تُشاركها فيه عائلة زوجها الكبيرة ،  تطبخ وتنظف وتستقبل الضيوف دون أي تذمر مبتسمة –حتى بوجه من آذوها وما أكثرهم – راضية بما قسمه الله لها كما لو أن الحياة تكرر نفسها, والتاريخ يعيد نفسه ! مثلما عاشت والدتها حياتها عاشت هي ذات الحياة بذات الملامح ولكن باختلاف بسيط في الشخصيات أرغمت من جديد على تكرار ذات الأحداث . حين تقدم عريسان أخوان لبنتيها ، كانت تعلم أن هذا الزواج ربما سيكون مصيره الفشل ، وكان بودها إبطال هذا الزواج ، لاسيما وأنَّ ابنتيها ستسافران بعيدا حيث يعمل زوجاهما ,إلاّ أنهم أتموه . وصبرت تخفي دموعها عن ابنتيها بل كانت تؤكد لهما أن الزواج ستر للمرأة ، وسنة الحياة . وأنه نصيبها وقسمتها في هذه الحياة .

يتراءى لشمس أنها تعيش مسلسل عذاب في حياتها. مضت الأيام وتتالت السنوات ، كبر الصبيان وصاروا شبابا خالد في الثانوية العامة وطلال في الصف الثاني الثانوي وعلي في المرحلة المتوسطة .لم تُصَلِّ شمسٌ إلاّ وأنهت صلاتها بالدعاء لأبنائها ، أن يكونوا خير عوض لها بهذه الحياة , لكنّ الحياة تضيّق في كل مرة خناقها على أنفاسها . اتقدت الحرب في بلدها لتبتلع الأخضر واليابس وليزداد الوضع سوءا بعد أن أصيب زوجها بإصابات بالغة إثر اشتباكات وقعت بمكان عمله . لم تكن المشافي تستوعب أعداد المصابين الهائلة . ولم تكن مجهزة بالمعدات التي تستوعب الجرحى في تلك الأيام , فقدت شمس زوجها بعد أن فارق الحياة متأثرا بجراحه ، لتثقل المسؤولية كاهلها . كثرت موجات النزوح واللجوء تلك كانت الحلول المؤقتة لتلك الأزمة وللنجاة من موت محتم . كان لابد من خوض معارك الحياة بقلب جلد ، استودعت خالد وطلال في رحلة الموت كما يسمونها مع تجّار الحرب لم تمتلك الكثير من الخيارات فاستخارت الله فكانت رؤيتها بمغادرتهم إلى بلاد الغربة .  بقيت تقاوم هي وعلي وتتنقل من نزوح إلى آخر منتظرة فرجا لا علم لها بملامحه ! استطاع خالد وطلال متابعة دراستهما في السويد رغم كل الصعوبات التي واجهاها ، وبعد أن منحت سلطات الهجرة السويدية جميع اللاجئين إقامة دائمة استطاع خالد بعد فترة جلب والدته وأخيه علي ليلتئم شمل العائلة من جديد . التقت بابنتيها بعد سنوات غربة طويلة وحمدت الله الذي جازى صبرها خير الجزاء,كانت ابنتاهـا سعيدتين مع زوجيهما  ، وبقيتا فترة ثم عادتا إلى مكان عمل زوجيهما . طوت شمس فجرا معتما متطلعة إلى شروق نور فجر مشرق يبدد ظلمة الليالي الطويلة ، وتمضي الأيام السعيدة على عجل بعد أن تعلمت اللغة الانكليزية بل وأتقنتها التفتت إلى مشروع صغير بدأ بصناعة بعض الحلويات والمعجنات العربية وتسويقها إلى أن استطاعت فتح مطعمها الخاص بها ، ثم أمدَّها أبناؤُهـا ببعض المال ، وبارك الله لهــا بعملها الجديد في هذا المطعم الصغير ، حيثُ كان قبلةَ محبي الطعام اللذيذ في بلد وجد أهلُه أنواع المأكولات الجديدة . وكان شمل الأسرة يلتئم كل يوم جمعة ،ذلك لعمل الأولاد في نفس المدينة ، وأما ابنتاها فكانتا تحضران كل ستة أشهر لظروف عمل زوجيهما . هذه السنة الثالثة من عمر غربة الأسرة عن وطنها الحبيب . وما أسرع مرور الأيام ، وما أجمل الشكر لله عزَّ وجلَّ على توفيقه ، وعلى رزقه الذي شمل أفراد هذه الأسرة ، ذات يوم كلمت البنتان أمهما بأنهما سيحضران في الأسبوع القادم ، ولكن الأم بعد أن رحبَّت بقدومهما أشدَّ الترحيب ، قالت لهما ، أجِّلا قدومكما إلى بداية العام الجديد ، وليكن وصولكما يوم الجمعة الموافق لأول يوم من أيام السنة الجديدة ، أجابتا بالقبول ، فهما يعلمان أن أمهما حكيمة عاقلة لاتبرم أمرا إلا وفيه المصلحة والخير لجميع أفراد الأسرة .

قبل اليوم المحدد لزيارة ابنتيها مع زوجيهما وأولادهما ، كانت الاستعدادات قد اكتملت لافتتاح : 

( مطعم شمس للمأكولات الشرقية )

 في أرقى شوارع استوكهولم عاصمة السويد ، وحيث ستوزع المأكولات مجانا على الحاضرين ،وستنال شمس : ( شهادة التقدير لصاحبة المطعم المثالي ) من مدير بلدية العاصمة ، للتميز المشاهَد في أنواع الوجبات ونظافتها وحسن تسويقها . وتحضر البنتان ومعهما زوجاهما وأولادهما ، ويستقبلهم إخوتُهم في البيت ، ليتجهوا جميعا إلى موقع المطعم الجديد ، مطعم شمس للمأكولات الشرقية ، وتُفاجأ البنتان بوجود هذا الحشد من الناس ، وبسعة المطعم ، والترتيب الجميل ، والطاولات

التي وُضعت عليها الأطعمة والحلويات ترحيبا بالزوار وبالحاضرين ...

فغمرتهما فرحة غامرة كادت تفقدهما وعيهما، الحمد لله ثم الحمد لله على ستره وتوفيقه ، وعانقتا أمهما ودموع الفرح تجري فياضة ، تغسل أوجاع الليالي التي أشرق فجرها بأنوار السعادة ، وهو ينطق بالشكر لله رب العالمين .

وسوم: العدد 886