قصة واقعية 918

حكايتى بكل ما فيها من مرارة مازلت أتجرع كأسها حتى اليوم فأنا سيدة تعديت الخامسة والستين،

وأعيش فى إحدى قرى محافظة ساحلية وانتمى إلى أسرة عادية من أسر الأرياف حيث يرتبط الجَمِيع بعلاقات نسب ومصاهرة بين بعضهم

وكُنت الوحيدة بين أخواتى البنات التى تتمتع بقوة الشخصية والحضور والجرأة فى التعامل وتعلمت فى مدرسة متوسطة فى حين لم يلتحق أى فرد من أسرتى بالتعليم واكتفوا بالعمل فى المزارع والمصانع مثل الكثيرين من أقرانهم

وقد لاحظت وقتها شاباً من أسرة ثرية يحاول أن يتقرب إليَّ، وينظُر لى بإعجاب ثم جاءتنا والدته وخطبتنى له

وظللت الفرحة بيتنا وأثنى أهلى على أسرته ووصفوهم بأنهم مثال رائع للطيبة والكرم وحسن الأخلاق وعرفت أن خطيبى هو الابن الثانى لأبيه

حيث يكبره أخ واحد بعامين وأنه هو الذى يُدير ثروة أبيه من الأراضى الزراعية لما يتمتع به من القوة والحزم بعكس شقيقه الذى يغلب عليه الهدوء وعدم القدرة على مواجهة الآخرين.

وأقام والده لنا حفل زفاف كبيرا حضره أهل القرية والقرى المجاورة

أنجبت طفلاً جميلاً فانطلقت الزغاريد تُجَلجِل فى أرجَاء البيت وعلت الابتسامة وجه حماى وحماتي وصار إبنى هو شغلهما الشاغل

فاتح حماى شقيق زوجى فى مسألة الزواج الذى كان يؤجله باستمرار

وحدثتنى نفسى بأن أختار له العروس التى سوف يتزوجها على مزاجي

وصارحت زوجى بما يدور داخلي.

وقلت له: «أنت الذى تدير أملاك أبيك ومن حقك أن تنال فى النهاية هذا الارث. ثم يكون لأولادك من بعدك ولو تزوج أخوك وأنجب سيحصل على نصف الميراث

ومادام أنه لايُفكر فى الانجاب ووصلت الأمور إلى حد الضغط عليه من أجل الارتباط فسيوافق على من نختارها له»

فاقتنع زوجى بكلامى وسألنى عن الفتاة التى أرشحها له

فقلت له: «أنها ليست فتاة انها سيدة مطلقة لم تمكث مع زوجها سوى عام ونصف العام ثم طلقها لعدم الانجاب

مع أنها جميلة وتتمتع بالأخلاق الحميدة علاوة على روحها المرحة وهى تقترب فى صفاتها من صفات شقيقك وقد اخترتها بالذات حتى لا تنجب

وتكون تركة إبيك فى النهاية لأولادك فوافقنى على رأيى وتوليت مسئولية اقناع حماتى بالعروس المناسبة من وجهة نظرى دون أن أفصح عن سبب طلاقها

ولم يتوقف شقيق زوجى عند مسألة طلاقها، بل أبدى سعادته بهذا الاختيار ومازال رده يرن فى أذنى إذ قال فى نهاية جلستنا «توكلت على اللَّه» وخرج إلى المسجد لأداء صلاة العشاء،

وتم عقد القَرَان والزِّفاف وسط لقاء عائلى دون حفل كما جرت العادة مع من سبق لهن الزواج

وأحسست وقتها بنشوة الانتصار، وبأن خطتى للاستئثار بالميراث تمضى كما رسمتها

وعشنا معا حياة مستقرة لم يُعَكِر صفوها شىء ومرض حماى ثم رحل عن الحياة

ثم فوجئنا بما لم أتوقعه إذ حملت زوجته

وظهر عليها الحمل فأخذت أضرب كفاً بكف كيف تحمل وهى عاقِر فلقد كان السبب فى طلاقها هو عدم الانجاب وظللت اطمئن نفسى بأنه «حمل كاذب»

فلقد سمعت وقتها عن بعض الحالات حيث تعيش الزوجة وهم الحمل ثم تفاجأ فى النهاية بأنها ليست حاملا وأن الأمر كله لا يعدو كونه مجرد تهيؤات وخيالات.. نعم ظَننتُ ذلك

ولكن شهور الحمل مرت بشكل عادى، ووضعت زوجة شقيق زوجى توءمين جميلين

وانجبت ولدين فى بطن واحدة وعنفنى زوجى على صنيعى فالحق أننى التى ضغطت عليه لاقناع شقيقه بقبول هذه الزيجة للهدف الذى كنت أسعى إليه

لكنه بانجاب الولدين أصبح سراباً كما أننى لم يكُن لدى وقتها سوى ابنى الوحيد الذى لم اُنجِب سِواه

وكبر الوَلَدَان وكلما شاهدتهما أمامى يمر برأسى شريط الذكريات وما كنت أرتب له بعد رحيل الكبار حين تصبح الأرض كلها ملكاً لأولادي

ثم توالى انجابها البنين والبنات فانجبت ولداً ثالثاً وبنتين

فى حين توقف انجابى تماماً ، وأدركت أننى سوف أجنى ما صنعت وأن من يتخيل أنه قادر على أن يفعل ما يريد واهم

فالقادر هو اللَّه ونحن البشر مهما فعلنا فلن نُغَـير قدره سبحانه وتعالي.

ودارت السنون وصار الأولاد شباباً وأصبحت أخاف على إبنى من كل خطوة يخطوها فأتتبعه وأسأل عليه

وكان لدينا جرار زراعي، يعمل عليه فى أرضنا الزراعية فى أيام الأجازات الدراسية وذات يوم أخذ الجرار

وذهب فى طريقه إلى الحقل فصدمته سيارة نقل مسرعة فى أحد المنحَنَيات فأطاحت به بعيدا لعشرات الأمتار

وجاءنا الخبر المُفجِع فأسرعنا به إلى المستشفى المركزى القريب منا

ثم الى مستشفى شهير بالقاهرة وظل فى العناية المركزة ثلاثة أيام ثم صعدت روحه إلى بارئها

ودارت بى الأرض وغبت عن الوعي،

وأخضعُونى للفحص الطبي وشخصُوا حالتى بأنها صدمة عصبية شديدة

وتلقيت علاجاً استمر مدة طويلة، ولما أفَقت وجدت زوجى قعيداً بعد اصابته بجلطة فى المُخ ورأيت شقِيقه الى جواره يبكى بمرارة أما أبناؤه

فلم يغادروا حجرتنا. ولازمونا ليلاً ونهاراً

ولم أسمع منهم سوى كلمتى «أبي» و«أمي» وهم ينادوننا أنا وزوجي وبعد أسابيع قليلة مات زوجى ولم أجد بجوارى سوى أبناء شقيقه الذين حاولت أن أمنع وجودهم فى الحياة

بالحيلة الدنيئة التى دبرتها له للزواج من عاقر،

فإذا باللَّه عز وجل يخلف ظني، ويحدث ما حدث وافقد ابنى الوحيد ليؤول كل شىء إلى أولاد شقيق زوجي الذين صاروا أولادى بالفعل بعد كل ما صنعُوه لي.

ولقد أرَاد اللَّه أن أعيِش لأرى كل من حولى يرحلون من الدنيا واحداً بعد الآخر لكى أنَال العقاب الذى استحقه فى الدنيا

فلقد رحل شقيق زوجى وبكيته كثيراً ثم رحلت زوجته

وكُنت إلى جوارها فى اللحظات الأخيرة وكان مشهد رحيلها مؤثرا فى نفسى الى حد لا استطيع وصفه إذ امتلأ وجهها نوراً

وكانت تتمتم قائلة «الحَمدُ للَّه». وكررتها كثيرا وكانما كانت ترى مقعدها فى الجنة

نعم واللَّه يا سيدي: سمعتها وهى تؤكد شُكرَها لِـرَبها وأدركت أنها تُشاهد جزاء نقاء سريرتها وقُربها مِن الخَالِق العَظِيم.

وإننى أعيش الآن بين أبنائى أقصد أبناء شقيق زوجى الراحل.. وأنا بالنسبة لهم بمنزِلة الأُم

بل لا يتَخِذُون خُطوة واحِدة فى حياتهم إلا بعد استشارتي

وكلما جاءنى أحدهم ضاحكاً مناديا يا أمي أقول فى نفسى «حكمتك يا ربِّ»..

إنه سبحانه وتعالى علام الغيوب وقد أراد لى أن تعلم الدَّرس البليغ بأن اللَّه يفعل ما يشاء وان المَكرُ السَّيئ لا يحِيق إلا بأهلِه.

منقول عن السيدة دعاءعبدالحميد طنطاوي

وسوم: العدد 918