صَباحُ التباهي

مصطفى حمزة

[email protected]

غرفة المدرسين تضمنا نحن السبعة : مِصْريّيْن وخمسة ًمن أقطار مختلفة . وكلٌ منّا يُثرثر - حين يُثرثر- بلهجة يُحاول أن يجعلها مفهومة من الآخرين ، ماعدايَ – طبعاً – أنا والمِصْريّيْن ؛ لأنّ لهجتينا مفهومتان إلى حدّ بعيد عند كلّ الإخوة العرب ، والفضلُ يعودُ إلى المسلسلات والأفلام ، والفنانين والفنانات ، نجّسَ اللهُ سرّهم !

 واليومَ كيفَ بدأت الثرثرة ، ما الذي أثارَ موضوعها ؟ لا أذكر ، ولا يهمّ .. فعبارة ٌواحدةٌ عابرة تكفي لإثارة ثرثراتٍ لا تتوقف إلاّ بقرع جرس ِبداية الحصّة !

 قالَ الأســتاذ "محمود" بنبرة مَنْ يُعَرّفُ بشــخصيّةٍ مُهمّــة، وهو يرشـُــف الشايَ ( الكُشَري) الصَعيديّ بتلذّذ :

- ابني "معتز" في جامعة العلوم بماليزيا يدرس هندسة الحاسوب. سيتخرّج فيها السنة القادمة إن شاء الله. هو اختار ماليزيا ، ولطالما كان يردّد – منذ كانَ في الثانوية - إعجابَه بما وصلت إليه ماليزيا من تقدّم عِلميّ ، وبما كان يسـمع عن المعيشـة فيها وعن شعبها الوَدودِ المُسالـِم. ( ربنا يسهّل ، ويخلص بقى ) .

 اعتدلَ الأستاذ "حُذيفة" في كُرسيّه ، وأطلق صوته هادِراً فينا كأنه يُخاطبُ مَنْ به صَمَمُ ! :

- "سمير" ابني أعْجَبَهُ نظامُ الســاعات بجامعات الأردن ؛ فاختار كليّة القانون بجامعة "اليرموك"في "إربد". سيتخرّج هذه السنة بإذن الله. يُفكّر بإكمال درساته العليا هناك .. يُحبُّ الأردن يا أخي .. ثم فجّرَ ضحكة اهتزّت لها جُدران الغرفة الأربعة !

 رفع الأستاذ "عبد القادر" رأسه عن مُصْحَفه الصغير ، والتقط دَوْرَه بسُرْعَة :

- ولكنّ ابني (مخلوف) متعلّق بهذا البلد ، نشأ فيه ولا يُطيق مفارقته . اختار جامعة الشارقة رغم أن الدراسة َالجامعية َعندنا في الجزائر أرخصُ ( بزّاف )! الحمدُ لله على كلّ حال ، ربّنا هو الرزّاقُ . سيتخرّج إن شاء الله السنة القادمة في كُليّة الفنون الجميلة والتصميم .. مُيولهُ فنيّة ، وهو موهوبٌ مِنْ صِغـَره .

 صوتي الخفيضُ جَعلهم يلتفِتونَ إليّ جَميعاً .. كنتُ كأنني أحَدّثُ نفسي :

 "عقبة" ابني كان زميلاً لأبنائكم كما تذكرون ، كانوا في شُعبة واحدة هُم الثلاثة ، وصَحِبَهُم من الصف الأول حتى حصلوا على الثانوية العامّة ، بعدَها غادر إلى سورية لأداء خِدْمَة الجيش الإلزاميّة . هكذا اختار هو .. أو اختارَ لهُ اللهُ سبحانه .. ثمّ لما قامت الثورة انشقّ مع الأحرار وتابع معهم سنة وسبعةَ شُهور ... تعلـّم منهم الكثير مِنَ الدروس ، والأعمال .. وفي يوم التخرّج كانَ مَعَ كتيبتهِ في مَعْركةٍ ملتهبة ، يُواجهُ أعتى وألدّ أعداء ِالدّين ! قالوا : إنّه وصديقَه ( أبو النور ) وحدَهما غَطّيا انسحابَ كتيبتهما كلّـِها مِنْ أرضِ المعركة ! وبعدَ بُطولة نادرة شَهِدتها العُيونُ والكاميراتُ ؛ نزلت شهادتـُهُ مِنَ السماء مُوَقّعة ًمن الله ، وتحْمِلـُها الملائكة ُ! سُبْحانَ الله ، لقدْ نالَ شهادتـَهُ قبلَ زملائِهِ ولـِداتِهِ : معتز وسمير ومخلوف !

نقّلتُ عَيْنيّ الدامعتيْن بيْنـَهُمْ ، كانوا جَميعاً صامِتِين يُنصِتونَ إليّ .. مع أن جَرَسَ الحِصّة لم يُقرعْ بَعْدُ !!