الندوة

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

ساعة الحائط المعلقة في قاعة الاجتماعات متوقفة  عقاربها منذ زمن  عن الدوران و لم تجد  بعد من يضع بطارية صغيرة تعيد لقلبها الخفقان. يقترب الموعد المخصص للندوة اللغوية في قسم الدراسات العليا في جامعة ما فيحتشد في تلك القاعة عشرات من طلبة متشوقين لسماع المحاضرين و مناقشتهم في بعض هموم اللغة، سيما و أن بعضهم قد حقق سمعة كبيرة و اعتبروا من أعلام اللغة و مفكريها . يتأمل الطلاب قسمات المحاضرين و حركاتهم و هم يتهيئون على المنصة ، و يتفقد أحد الفنيين  الميكروفونات و بعد خشخشة  هدأت الجموع وبدأ أكبر المحاضرين سناً و هو من الأساتذة الأجلاء حديثه قائلاً:

" سنتحدث عن آفاق التعليم العالي و نعرج على مشكلاته و نتحسس طموحات طلبته الأعزاء....". بدأت المحاضرة بداية موفقة ثم  لا ندري ما حدث ، فقد اخذ الأستاذ باستخدام لغة متصنعة متقعرة  ، و أخذ يكثر من السجع والطباق و الجناس و التورية. ربما كانت كلمته مرتجلة حيث أنه لم يكن أمامه أية أوراق  يستعين بها.  تداخلت الأفكار و بدأ ينتقل من فكرة لأخرى و تناول العولمة و المصطلح و العقل و النقل والأصالة والتراث و اختلطت الأمور فلم يستوعب صاحبنا ماهية حديثه و إلى أي شيء من مقاصده! سأل صديقه الجالس بجواره : هل تفهم شيئاً؟ اقسم أنه لا يفهم مغزى حديثه و أومأ إليه بالتزام الصمت فنحن في حضرة الكسائي أو أحد أتباع الأصمعي أو الحريري ، و لا تنسى أن للأستاذ خلفية فلسفية !

تنفسنا الصعداء عندما أشار أستاذ آخر إلى أن  نافذة النقاش قد فتحت .رفع صاحبي إصبعاً في الهواء طالباً الإذن بالمداخلة.

-       ما لفت انتباهي – أعزائي الأساتذة المبجلين – عندما تصفحت عناوين رسائل الدكتوراه التي تحتضنها رفوف المكتبة عدم مواكبتها لروح العصر و التحديات الماثلة أمام لغتنا العربية ، فهل يعقل أن تحمل  إحدى الرسائل عنواناً مثل  حرف الجر "حتّى " مع احترامي الشديد لدور هذا الحرف و إخوانه؟! أليس الأجدر بنا أن نتناول التحديات الكبيرة في عصر العولمة الثقافية ؟ كيف لنا أن نواكب تطور اللغات الحية الأخرى ؟

-       ارتعشت أنامل الأستاذ الكبير لهول ما سمع و كاد يفقد صوابه ، و بدأ يوجه جام غضبه على صاحبي كأنه قنبلة موقوتة قائلاً..."لا أعرف كيف سمحت لنفسك بالدخول في هذا المعترك والتطاول على قامة حرف الجر" حتى" ؟ لا  أدري كيف طاوعتك نفسك بالخوض في أمر جلل كهذا و أنت تعتلي الدرجات الأولى من سلّم الدراسات العليا؟ وأضاف" أنصحك يا بنيّ بأن تتريث قبل الغوص في متاهات لا تعرف نهاياتها و لا تدرك أبعادها ، انك لم تمتلك ناصية البيان بعد ، و كما يقول المثل العربي " زببت قبل أن تحصرم !".

كان رد الأستاذ  الكبير بمثابة صفعة على وجه الطالب فآثر  الانسحاب  - من هول الصدمة قبل أن تغرق القاعة في ضحكات مجلجلة عند سماعهم بالمثل - خرج  صاحبي  من القاعة كمن ارتكب خطيئة التساؤل و أقسم أن لا يحضر ندوة فكرية أبداً.