فولاذ وشتات

وئام البدعيش\ سوريا

[email protected]

إلتقت عينينا بعناق حار, غابت هي وغبت أنا. لم نعد نرى، وكأن الشوق صنع أغشية على عينينا. هذه المرة الأولى التي أعانقها دون أن تلمس يدي يديها أو تغوص روحي بروحها وتمتزج. حاولت أن أزرع أصابعي عبر الشبك الفولاذي. أصابعي كبيرة فقد أصابها الشوق, وثقوبهم صغيرة فقد أصابها الحقد. حاولت روحي أن تنزع نفسها عني وتذهب, فعلقت بين هذه الثقوب اللعينة, فقد كان شوقي لها أسمك وأكثر كثافة من هذه الثقوب...

في اللحظات القليلة التي كنا نلتقي, كنت أحاول جاهداً أن اسمع ما تقول, ولكن لم أكن أفلح. فقد كان الحاجزان بعيدين عن بعض, وبينهما آلاف العيون والأفواه والآهات, التي تسرق الكلام من فم المتكلم وتحورة إلى كلام غير مفهوم, فقد كان هناك أناس وشوق وبكاء وكلام كبير, أكبر بكثير من اللحظات الزيارة القصيرة.

حاولت بما أملك من عيون وفهم, أن أفسر حركة الشفاه, أعدت عرضها عدة مرات في ذهني, وبعد الإعادة بشكل البطيء والسريع. استنتجت بعض الأمور وتوقعت بعضها الآخر.

" حبيبي وكلت لك محامي وقد وعدنا خير ان شاء الله ". الصراحة هي لم تقل ان شاء الله, أو بالأحرى لم أرها تحرك شفاهها على هذا النحو, ولكن أنا زدت الكلام كلاماً لكي يتحول كلامها إلى دعاء....

مرت السنين, عناق مفرط, فولاذ عنيد, حركة شفاه, ودعاء ......

في السنين الأخيرة لم تأتي, حاولت المستحيل لكي أعرف شيئاً عنها, غرست أذناي في الإسمنت والأبواب, حفظت كل همهمة للسجان, وكل كلام يقوله أو لا يقوله, حفظت حركة رجلية, حفظت حركات الزائرين, صوت العصافير, صوت الريح. أصخت السمع لدبيب النمل لعله يوصل لي معلومة عنها. لا دبيب دب ولا معلومة أنزلت الستار عن بالي المشغول وصدري المحترق, الزمن بدونها لا يملك عقارب, يزحف زحفاً, كأفعى رقطاء على قطعة زجاج...

لعنت الزمن, لعنت نفسي, لعنت الفولاذ. لعنت دبيب النمل, صوت الريح, لعنت كل شيء, لقد احترقت وذبت تحولت إلى رماد, أخذ الهواء ينفخني بفمه الذي كان على شكل نافذة صغيرة في أعلى الحائط, يذريني على وجهة المساجين والبؤساء....

- أمل صغير أعاد ذرّاتي وخلاياي, أمل صغير أعاد دمي ونبضي وشرايين الحياة إلى كياني. فقد قيل لي بأني سأخرج لعدم توفر الأدلة اللازمة, وعدم توفر قاضِ لينظر في القضية منذ زمن بعيد, وقد ذهبت قضيتي في النسيان, وجلّ من لا ينسى....

جمعت أجزائي وخرجت, كان الأمل يتسلقني كنبتة الفاصولياء الخرافية, ذهبت إلى منزلها فور خروجي وكلي لهفة وشوق وحياة. بحثت عنها, وأخيراً وجدتها .... وجدتها في الحديقة. عندما التقت عينانا, وقد كسا عيني العمر والسنين والتجاعيد, وكسى عينيها الكحل والصبا على غير ما كنت أتوقع, ركضت إليها بلهفتي, بتعبي. بشوقي, بخلاياي, بنبضي الذي لم يعد يقاس, مددت يدي لألمسها ومددت روحي معها, مدت يدها هي أيضاً على ما أذكر, وقبل أن تتلامس أيدينا وشوقنا المتراكم.. ظهر فجأة بيننا حاجز من الإسمنت المقوى لعن الله الإسمنت والفولاذ, وأخذت أجهش بالبكاء والعويل, أنزوي على نفسي, أتكأ على نفسي على ما تبقى منها. أخذت يداي بشكل لا إرادي تنبش الإسمنت, أظافري تحولت إلى مخالب وصوتي تحول إلى عويل وجواح.

كنت أحاول أن أخرجها, أن احضنها, أن اموت معها مرة تلو مرة, فقد ماتت وهي تنتظرني شوقاً, وأنا متُ, فهذه الحياة المرّة اشبعتني مرارة وألم, ذقتها بألاف الأشكال والأوجه ....

فبعد أن عصفت بي سنين السجن وأخرجتني جثة هامدة, أخرج لأجدها في سجنها الأخير وملاذها الأخير. نبشت ما استطعت من الإسمنت اللعين كما كان فولاذهم الحقير, إلى أن تحولت يداي إلى أعمدة من الأسمنت, وصدري إلى لوح, وقلبي إلى شاهد, وأخذت الرياح تذريني إلى الشتات .......