سجن انفرادي

عبد القادر كعبان

[email protected]

مللت الخروج من أحضان جدران بيتنا. فقدت شهيتي للأكل. أصبحت كسولة و مهملة. انطويت على نفسي. تملكت الحيرة أختي الكبرى فيما شاهدته من تغير تصرفاتي. أما أبي هو سبب حالتي الكئيبة بعينه. أتذكر بحزن شديد حينما سحبني من يدي و صرخ في وجهي أمام الملأ في الشارع الرئيسي. كنت واقفة في طابور المخبزة أنتظر دوري كالعادة لشراء أرغفة الخبز. لم أفهم شيئا. عدت الى البيت باكية. ضمتني أمي الى صدرها الحنون و قالت بنبرة خوف:

- كان عليك أن تضعي خمارا على رأسك قبل خروجك من المنزل..

أحسست حينئد أنني فتاة عاهرة لا لشيء لأن أنوثتي بدأت تتفجر و شكلي بدأ يتغير و غدا كل من حولي يلومني لمجرد أدنى خطوة أخطوها نحو باب بيتنا. شعرت كأنني أصبحت أعيش في سجن انفرادي. فكرت في أن أترك مقاعد الدراسة حتى أتفادى غضب أبي و صراخه المتكرر في وجه أمي المسكينة.

كثيرا ما كان يلعن حظه التعيس لأنه "أب البنات" و هو الذي لم يحظى بالولد الصالح على حد تعبيره. لطالما رأيته و أنا طفلة يبكي بين ذراعيها (أمي الحنون) و هو يقول:

- أنا مجرد رجل بائس عزيزتي.. غدا تكبر البنات و تتزوج و ترحل عن هذا البيت..

ردت هي الأخرى:

- ليس كل رحيل يخلف ألما لأب و أم.. رحيل البنات و زواجهن أسلم لهن حتى لا نعيش مقيدين بهذه الأمانة طول العمر عزيزي..

كان ينفس عن همومه بالبوح إليها بآلامه و آماله. هي الصاحبة و الحبيبة رغم كل المشاكل التي يعيشها ذلك البيت المتواضع. رغم عنفه الظاهري يظل أبي الزوج الحنون. حينما كان يتأخر عن موعده تظل أمي تائهة بين أرجاء المنزل. لا تهدأ حتى يعود و تقع عيناها عليه. هو الرجل الذي اختطفها كعروس حينما بلغت الثامنة عشرة من عمرها. اعترفت لي يوما أنها قبل الزواج لم تعرف معنى الحب الذي نشاهده في الأفلام و المسلسلات المصرية. و عندما فاتحها والدها بفكرة الزواج خرجت مسرعة من الغرفة و أقفلت على نفسها باب المطبخ. بالتأكيد كانت ملامح الفرح مرسومة على محياها.

ذات صباح تفاجأت أمي من قراري في عدم العودة الى مقاعد الدراسة. كررت على مسامعي هذه العبارة بنبرة غضب:

- أكيد.. أكيد ستندمين يوما على هذا القرار صغيرتي..

قلت بنبرة صارمة:

- قررت و انتهى الأمر..

صمتت برهة ثم قالت:

- بصراحة لا أوافقك.. المرأة اليوم بحاجة الى شهادة جامعية لتساند زوجها في هذه الحياة الصعبة..

قلت متأملة صفحة وجهها الحزين:

- يعيب على الفتاة اليوم أن تخرج من بيتها و قد برز نهداها و أضحى لها جسد ممشوق و مؤخرة تثير شهوة الرجال.. وظيفتها الوحيدة في الحياة تكوين أسرة و انجاب الأولاد كما هو حالك يا أمي..

رفعت رأسها و أجابت بثقة:

- نحن جيل و أنتم جيل آخر.. افهمي جيدا يا ابنتي أن الرجل لا يمكن أن يتسبب في طمس شخصيتك.. لكن قرارك هذا سيساعده على تفتيت طموحاتك المستقبلية..

انفجرت أختي في موجة ضحك هستيرية عندما علمت بقراري هذا. علقت ساخرة بأنني سأقبل بأي شاب سيتقدم لخطبتي لأتخلص من سجني. نصحتني أن أفكر مليا قبل اتخاذ أي قرار متهور و أن أتعامل مع هذه الحياة بمنطق الواقع. حينها أيقنت حقيقة أنني فتاة ساذجة لا تزال حبيسة جملة من العواطف حتما سيحاول استغلالها كل عابر سبيل.