أحزان في الربيع

حماد صبح

أول أبريل . أسالت السحب المطر وافرا مطلع  النهار قرابة ربع ساعة ، وجرت منه مسايل صغيرة بين شجرات الزيتون . مسح الأفق الغربي بنظرة متفحصة . السحب الداكنة ستار عريض متماسك سوى رقع نحل فيها ستارها فبدت السماء فضية مشوبة الأديم بلون دخاني. وحركت نسائم قوية شجيرات الرمان التي تصطف سياجا قصيرا ممتدا من الغرب إلى الشرق، وقد توهجت خضرة ورقها موشاة بحمرة هادئة، وبزغت في بعض غصونها كئوس النوار قانية الاحمرار  . مضى في الطريق . الجو دافىء دفئا محسوسا مريحا . إنه الربيع في نضارة حسنه  . عجب كيف يبدأ الناس أبريل بالكذب . كيف ينصرفون عن الجمال إلى السخائف والسفاسف ؟! أهو نزوعهم فطرة إلى الشر والقبح والزيف ، وعزوفهم عن الخير والجمال والصدق ؟! ماله وما لهذا التفلسف المفسد ؟! كل وما استحب . أخرج هاتفه من جيب سترته الداخلي ، والتقط صورة لحقل قمح تهيم  فوق صفحته أمواج من الزهر الأصفر ، وأتبعها بصورة أخرى لسرب طيور زقزاق صغير مندفعة شرقا بألوانها البيضاء والسوداء والرمادية ناثرة زقزقاتها السريعة . بين لحظة وأخرى تلحق به سيارة أجرة أو سيارة خاصة أو دراجة نارية . بعض سيارات الأجرة تنبهه إن كان يريد أن يركب ، فلا يهتم بتنبيهها . أخذ مطر ناعم يهمي مساتٍ رقيقة على وجهه . تتنامى متعته بمحالي الربيع على طرفي الطريق . يلتمع في وجدانه  بيت طرفة بن العبد :

"فسقى ديارك غير مفسدها * صوب الربيع وديمة تهمي " . هو ذا في صوب الربيع وديمة تهمي . استملح ما في شطر البيت الثاني من سلاسة  الإيقاع وانسيابه . لا فساد ولا مسيئات . من المطر ما يصنع المتاعب والمصاعب . اقترب من الجزء الأخير من الطريق الذي سيفضي به إلى رصيف شارع صلاح الدين . فجأة عاده ما أفسد عليه متعته . إنه سوء الإنسان ، إنه العدوان . صفت نفسه في جو الربيع والمطر الناعم البديع ، والآن أغامتها ذكرى حزن ودم ، وداخلها أذى مكدر . تفصله عن موضع الذكرى الدامية المحزنة مائتا متر تقريبا . في عدوان الصيف الماضي، قصفت طائرة استطلاع إسرائيلية دراجة نارية تقل ثلاثة شبان ، فقتل اثنان ونجا الثالث مصابا إصابة بترت إثرها ساقه اليمنى . رأى عصر يوم الجريمة التي حدثت ضحىً الخريطة التي رسمها الدم المتفجر داكنة الخطوط تشبه زيتا سكب على أسفلت الطريق . يستعيد الآن وجهي الشابين الشهيدين اللذين يعرفهما . تقتم نفسه ويشحب طربها وانشراحها، وينظر يمينه ، وينعطف في طريق يتفرع شمالا بين مزرعتي فلفل وباذنجان مستطيلتين . وما لبث أن نحا غربا في طريق يوازي الطريق الأول تناثرت على جانبي مدخله حفنة بيوت ظهرت بعد الانسحاب الإسرائيلي . يا للذكريات الدامية ! ما بالها تطارده وتفسد بهجة نفسه ؟ كأن البهجة توقظ نقيضها . قفزت إلى روحه ذكرى محزنة جديدة . قبل الانسحاب الإسرائيلي لم يكن مسموحا لأحد بالظهور في هذا المكان لقربه من مستوطنة كفار داروم . وكان شارع صلاح الدين مسيجا من جانبيه بأسلاك شائكة في هذا الجزء من مساره ، ولا يتحرك فيه إلا الجنود والمستوطنون الإسرائيليون . يوما ، انسل مقاوم إلى المكان تخفيه بعض الأشجار التي هجرها أهلها بعد ما منعهم الاحتلال من الوصول إليها، وأطلق النار على جيب إسرائيلي يسير في الشارع ، وفي اللحظة قدمت مجنزرة لنجدة الجيب ، فاستشهد المقاوم . وكانت شرقي المكان بعض بيوت لم يشملها النطاق الأمني للمستوطنة . حدث شاب من ساكنيها : "بعد توقف الرصاص والقذائف ، رأيت من شباك بيتنا كلبا يقفز من المجنزرة ، وبعد دقائق ، يا للصدمة المريعة ! رأيته يعود إليها حاملا رأس الشهيد . لن أنسى ذلك المنظر المرعب المحزن ما تردد نفسي في صدري" . وها هو المنظر الدامي المفجع يصدع روح صلاح بأعنف مما وصفه له يومئذ الشاب ، فتحتدم  قتامة وحزنا ، ويضمحل منها ما أشاعت فيها محالي الربيع من بهيج التأثرات والانفعالات . تنبئه ساعته أنه بقي ثلث ساعة على محاضرته حول " دور الشبكة العنكبوتية في إضعاف اللغة العربية " التي سيلقيها في إحدى المدارس الثانوية في فعاليات أسبوع المكتبة . ود لو كانت نفسه أكثر انبساطا وانشراحا ، وحدث نفسه : نحن في غزة لا تنسانا الأحزان حتى في الربيع .