لحظة انسحاب...

السيد إبراهيم أحمد

السيد إبراهيم أحمد

[email protected]

ظهرت على شاشة التلفاز فجأة مذيعة شقراء تصطنع التجهم بينما كنت أتابع حلقة من مسلسل كوميدي معاد لتعلن انهيار برجيّ نيويورك العملاقين.. حتى قفزتُ في الهواء راقصًا ومصفقًا بينما كان أولادي ينظرون إليَّ في ذهول واستغراب، ثم توقفت بعد أن عدَّلت هندامي، وتابعت الأمر بجدية مفتعلة حينًا، وجادة حينًا أكثر..

 خرجنا لنتناول العشاء في أحد المطاعم التي يفضلها الأولاد، بناءً على نصيحة هامسة من زوجتي، في محاولة منها لإعادة الاتزان إلى شخصي الكريم في عيونهم، ولكي أفسر لهم ما حدث مني في نهار اليوم..

 انصرف الجرسون بعدما انتهى من صف الأطباق على المائدة، فبادرتهم بتبرير ما حدث مني بأسلوبٍ ودود لا يخلو من محاولة التأثير على عواطفهم وموقفهم حين أشرت بيدي إلى ناحية بعيدة:

ـــ كانت فرحتي انتصارًا لأطفال العراق وأفغانستان.

ولكن أكبرهم فاجأني:

ـــ وماذا عن أطفال أمريكا؟!

خرجت عن تمثيل شخصية الأب الهاديء المتفاهم، وكشرت عن أنيابي:

ـــ يتحملون ذنب ما جناه آبائهم في هذا الجرم..

 أكملوا طعامهم في هدوء، ولم يرفعوا أنظارهم من أطباقهم إليَّ كأنهم يتحاشونني .. وقد كان هذا دلالة منهم على عدم اقتناعهم بما قلت.. فالعنف لايولد إلا العنف.. على هذا ربيناهم ــ ببلاهتنا ــ أنا وأمهم..

 ........................................

 "يسقط يسقط حسني مبارك".. هكذا أطلت الحشود الهادرة بميدان التحرير تكاد تهجم علينا من شاشة التلفاز الذي أشارت إليه زوجتي صارخةً:

ـــ أدرك ابنك.. أنه مع من تطاردهم رصاصات وخراطيم مياه الشرطة.

هدأت من روعها، بينما رحت أحدق في وجوه الشباب الثائر:

ـــ يا ستي.. ليس هوَّ، فكلهم متشابهون ..

 انسحبتْ من أمامي وهيَّ تبكي رافضةً أن تكذبني، ولكن نظراتها تنطق بذلك..وعدت أنظر للتلفاز ليتأكد لي صدق إحساسها وكلامها.

 عاد الأولاد ليلاً إلى المنزل، وقد أنكروا في اصرار توجههم بل تواجدهم بالميدان، لكن أصدقائهم هناك ينتظرون بيان الرحيل، تعلقت نظراتي الوجلة بنظرات زوجتي والتي تؤكد ألا رحيل..

 مرت الأيام بطيئة خانقة، يظهر الأولاد أثنائها ويختفون.. بينما قلب أمهم يحس بوقع أقدامهم في الشوارع مع أقرانهم من الثوار، وعقلي لايرفض إحساسها؛ فغيابهم وحضورهم له أسبابه المقنعة والتي حرصوا على ألا يخرجوا عن جدولهم المعتاد إلا قليلا.

 تنفعل زوجتي وهيَّ تمرق أمامي من الغرفة المجاورة ثم تقف لتحجب شاشة التلفاز دون قصدٍ منها:

ـــ ولا أي ولد من أولادك يرد على مكالماتي، إما رنين أو مغلق.. فبماذا تفسر هذا؟!

ـــ أوكي.. ولكن ابتعدي عن الشاشة فسيظهر الرئيس بعد قليل.

 جلست وهيَ تتململ بجواري وعيوننا معلقة بشاشة التلفاز، بينما الرئيس لا يظهر، حتى أصابنا اليأس والإعياء.. وزوجتي لا تمل ولا تيأس من محاولاتها المتكررة الفاشلة، في الاتصال بالأولاد.. وأعرف يأسها وخوفها من زفراتها القلقة، لكننا لم نيأس من ظهور الرئيس..

 انسحبت من الغرفة لأعد لنفسي فنجانًا من القهوة في محاولة مني للهروب من قلقي ومن قلقها، وقتل الوقت القاتل أصلاً.. تناديني:

ـــ لِمَّ لمْ تطلب مني؟!

ـــ أأعد لك فنجانًا معي..

ـــ لا .. شربت قهوتي صباحًا..

 وقفت مع فنجاني استعرض مشهد الشوارع الحزينة الكئيبة الحائرة.. أدركت أني لا أستطيع التفكير..

ـــ تعالى .. أسرع .. لقد ظهر الريس.

 هرعت إلى الداخل، نسيت القهوة، سمعناه. بكينا.. نفس الوقت الضائع، والبطء الشديد، والشكل الباهت، البارد.. تذكرت قهوتي. أصبحت باردة.. لقد فات أوان شربها، مثلما فات أوان كل شيء..

 دق هاتفينا في وقتٍ واحد، نشوة النصر تبدو في نبراتهم، تهرع هيَّ إلى المطبخ؛ فقد وعدتهم بالاحتفال عند عودتهم بهذا النصر الكبير.. رغم البكاء المرير على هذا الأحمق الكبير في يومه الأخير.

 تظاهرنا معًا أمامهم بالابتهاج، وهنأناهم على نصرهم السريع، وكفاح جيلهم القصير، ليفاجئني أكبرهم:

ـــ لكنني مع هذا بكيت وأنا أسمع خطاب الرحيل!

 ربت على كتفه، وأمعنت في الإعلان عن الفرحة بينما دموعي كانت تقوم بدورها التاريخي في الانهمار، حتى ظنوها دموع الفرح.. حاولت الإنسحاب إلى غرفتي في هدوء، ولكنه جذبني برفق:

ـــ وأنت أيضًا بكيت يا أبي ، وكذلك أمي .. إنها العشرة، وهو الكبير..الأب..وإن كان رئيسًا، إذ كيف لابن أن يطالب بإسقاط أبيه؟!

ـــ ولكن يا بني الأب ظلم.

ـــ ولكنكما لم تعلمونا ما الذي نفعله مع الأب إذا ظلم؟!

 أصررت على الانسحاب، دخلت غرفتي. تكومت في سريري. فكرت فتكلمت بصوتٍ عالٍ دون أن أحس:

ـــ نعم.. هيَّ مأساتنا، علمناهم الطاعة ربما إلى حد الخنوع.. علمناهم الحوار، ولم نعلمهم المعارضة ولا الثورة ولو على أبسط الأشياء.. قهرنا عصيانهم، كبتنا بكاؤهم، تفننا في وأد أحلامهم، وزرعنا فيهم أحلامنا حتى صارت أحلامهم.. سخرنا من آرائهم، وطاردنا آمالهم حتى قبل أن ينطقوها..

 خرجت من غرفتي.. لاحظت زوجتي توتري، سارت نحوي.ينظرون إلينا. أوقفتها بجانبي:

ـــ لقد فعلنا معكم مثلما فعل مبارك، ولكنني لن أعذبكم بالانتظار الممل، والقرارات البطيئة.. فدعوني أعلن أمامكم بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن والدتكم أننا قررنا الرحيل عن حياتكم بأفكارنا، وتسلطنا.. ونحن مستعدون لأن تحاكمونا على أخطائنا معكم في الماضي.

 صفق الأولاد تصفيق حاد، بينما احتضنتني أمهم بعمقٍ ودفء، ثم انضموا فاحتضنونا معًا، ووعدانا وهم يضحكون بالتماس الرأفة عند النظر في قضيتنا، مع التأكيد لنا أنهم لن يكرروا ما فعلناه مع أولادهم.

 تحلقنا حول المائدة نتناول ما لذ وطاب مما صنعته زوجتي الماهرة بفنون الطعام بفضل الشيفات الذين يملأون قنوات التلفاز ليل نهار.. يناولني ابني الأوسط كوبًا من الماء المثلج:

ـــ صدقني يا أبي الشهيد ارتاح، بينما الأسئلة مازالت تدور برؤوسنا، هل ما فعلناه كان صوابًا؟ ألن يجد الندم لنفسه طريقًا في قلوبنا بعد مرور السنوات فنعترف بخطأ قيامنا بتلك الثورة؟

ثم أكمل الأصغر:

ـــ تقصد مثل ندم قتلة الرئيس السادات.. أو كما ندمت أنت يا أبي على فرحتك فيما بعد بانهيار البرجين؟!

 نظر جميعنا إلى جميعنا.. واصلت زوجتي انهماكها في توزيع أطباق الحلوى في اصطناع؛ لتهرب من المواجهة التي قد تفسد الليلة.. بينما امتدت يدي لتدير شريطًا لأغنية قديمة من فيلم قديم:

(احكي وقول ع الناي ..عيشة الفقير إزاي .. راح اللي راح ياعيني.. بس يا خوفي م اللي جاي)....