هل يوجد نظام سياسي في الإسلام؟

العديد من الأطروحات التي بتنا نسمعها في أروقة بعض شباب الصحوة حول النظام السياسي في الإسلام تؤكد مدى تأثر هؤلاء الكرام بما يطرحه العلمانيون من أن السياسة لا دين ولا أخلاق لها .. وأنها نفعية براغماتية محضة تدور مع المصلحة حيث دارت .. وأن الإسلام ترك السياسة لأهلها .. وهنا لابد من طرح العديد من الأسئلة من واقع السيرة النبوية والتي هي النموذج المعياري الذي (يجب) علينا أن نقيس حركتنا الفردية الشخصية وحراكنا الجماعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي عليه، ومن هذه الاسئلة:

- هل ضبط النبي صلى الله عليه وسلم شؤون دولته الداخلية، بحيث كان يملك قوانين تمثل وزارات الدولة الحديثة، فقوانين للتعليم وأخرى للعمل وثالثة للأوقاف ورابعة للاقتصاد والمال وخامسة لشؤون المرأة والطفل وسادسة للثقافة والإعلام وسابعة للرياضة وثامنة للسياحة وتاسعة للأمن العام وعاشرة للقضاء وغيرها؟

- هل ضبط النبي صلى الله عليه وسلم شوؤن علاقاته الخارجية، بحيث كان يملك قوانين للصلح وأخرى للحرب وثالثة للهدنة ورابعة لرعايا دولته الملحقين في دول الجوار، ورعايا الآخرين الملحقين بدولة الإسلام، وخامسة للسفارات المنتشرة في كل مكان وغيرها.

وللاجابة على هذين السؤالين لابد من التأكيد على ما يأتي:

- لو أننا تخيلنا أنه لا إجابة شافية في حياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على هذين السؤالين لقصرنا حياة رسولنا الكريم على المسجد حصرياً، وهذا غير صحيح، فحياته حياة رجل قاد دعوة وحكم دولة.

- ألا يحتاج كل جانب مما سبق ذكره إلى فتاوى تفصيلية تظهر ما هو مباح حلال وما هو حرام منكر .. أم أنه لا علاقة للفتوى في عالم الرياضة والسياحة والإعلام والاقتصاد .. ولا علاقة لعالم العلاقات الخارجية بالفتوى؟

- من قال بأن مرحلة السيرة النبوية لا يقاس عليها باعتبار غياب البعد البشري وحضور جانب الوحي فقط فكلامه مغلوط؛ لأن الجانب البشري كان هو الأصل في العهد النبوي وإن كان محاطاً برعاية رسمية من الوحي، وذلك لاختصار وطي الزمن كي يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم في الفترة المقرر له فيها أن يحقق هذا الإنجاز العظيم.

ومن قال بغلبة الوحي أو حتى غيبته عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما أراد أن يتنصل من واجب الاقتداء بخاتم الأنبياء، باعتبار أنه عند (غلبته) ينفي بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وعند (غيبته) ينفي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

- ومما يتفق عليه العقلاء المنصفون أن هنالك ثمة مرونة وسعة في الشريعة الإسلامية تتيح التصرف والتغيير والتطوير (في المتغيرات) بل وارتكاب شيء من المحظورات (في الثوابت) عند الضرورات؛ كل ذلك في أحكام الدولة، وهذا ما جعل شكل الدولة الإسلامية زمن النبي صلى الله عليه وسلم تختلف عن شكلها زمن أبي بكر، وكذلك اختلفت في زمن عمر رضي الله عنهما، والاختلاف يتبع للمصلحة فيما لا يتجاوز حدود الشريعة وإطارها العام.

- ترى ماذا يقصد البعض عندما يقولون بأن السياسة تدور مع المصلحة فقط .. وهل الدين يتعارض مع تحقيق مصالح العباد، أم أن الشريعة جاءت لتحقيق تلك المصلحة بالنظر إلى حياة الإنسان الممتدة بين عالم الدنيا والآخرة، وليس فقط في حدود المصالح الآنية الدنيوية القصيرة، كما أن الشريعة قدمت مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، ومصلحة الأمة على مصلحة القطريات الضيقة دون إهمال للنفس والوطن.

- يتحدث البعض عن الانحراف الذي حصل فيما بعد عصر الخليفة عمر رضي الله عنه أو بعد الخلفاء الراشدين، وهنا لابد من التأكيد على سلامة المنهج السياسي المشتق من القرآن والسنة والمتمثل بنموذج السيرة النبوية الشريفة، وأن هذا المنهج الرائد لا يتحمل ذنوب سوء الممارسة والتطبيق له، فسلامة المنهج لا يعكرها سوء التطبيق، والشريعة خالدة صالحة لكل زمان ومكان، لمن أراد أن يقتدي ويأتسي ويتعلم.

- أن في النموذج الأول والمتمثل بالسيرة النبوية من الأخطاء والتحديات والأزمات والخصوصات ما يؤكد واقعيتها وابتعادها عن المثالية التي لا يطيقها البشر، فهي النموذج الأمثل في معالجة ذلك كله وليس في خلوها منه على الإطلاق.

- أن المقصود بالنموذج السياسي النبوي الأصيل؛ الإطار السياسي العام اللازم لكل زمان ومكان، وشيء من التفصيل المناسب لذاك الزمان والمكان.

- أن مما تعنيه السياسة في ديننا: إدارة شؤون الناس بما يبني ويحمي الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال) فإن وجدت حاكما مسلما في أي زمان ومكان يبذل قصارى جهده لحفظ هذه الضرورات ويسن من اللوائح والتعليمات ما يؤكد ذلك فهو مشمول بمسمى النظام السياسي الإسلامي، وإن حصل له شيء من التقصير مع ثبوت إرادته على التغيير فلا حرج عليه.

- أننا إذا كنا صادقين في عزمنا على الخضوع للشريعة، موقنين بأن فيها الحل لخلاصنا، فنحن أحوج ما نكون إلى إنزال النظام الإسلامي بعمومياته وما يمكن إنزاله من تفصيلاته على واقعنا الحاضر بما فيه من تناقضات، ومحاولة تكييف ما يمكن تكييفه والتدرج للوصول إلى الحالة الأقرب إلى ذاك النموذج الشريف.

- أنه مطلوب من ذوي التخصصات الحياتية المختلفة قراءة النصوص الشرعية قراءة واعية يستنبطون من خلالها منظومات الفكر المنسجم مع تلك التخصصات (الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشريعة).

- أننا نسأل وقد حيدنا النظام السياسي الإسلامي وجربنا أنظمة سياسية وضعية .. هل فعلا أفلحت تلك الأنظمة بجلب الأمن والسعادة والاستقرار للناس وهل وفرت لهم طريقا آمنا لعبور هذه الحياة إلى الحياة الآخرة بسلام.

- إننا إذا كنا نعتذر عن تطبيق الشريعة بهبوط وتدني مستوى البشرية عن ذاك المستوى الرفيع في العهد النبوي الشريف فإن من واجبنا أن نرتفع تدريجيا لبلوغ ذاك المستوى العالي لا أن نهبط بشريعتنا تضييعا وتمييعا إلى الحضيض .. وهكذا نسلك مسلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي ارتفع بقومه من الحضيض إلى ذاك المستوى الرفيع.

باختصار:

أن عجزنا عن تطبيق النظام السياسي الإسلامي لا يبيح لنا القول بعدم وجوده، والتشدق بضعفه وعجزه، فنحن العاجزون عن حمله، ولعل الله يبعث في الناس من يحمله ويرتفع به لتعود للأمة هيبتها ومكانتها، ومن قال بأنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة فكأنما يقول بأن ديننا همجي لا تنظيم فيه .. وأن السياسة قذرة لا أخلاق فيها.

وسوم: العدد 797