أنا والأسئلة الأصعب ... والأحرج ..

منذ أيام طرح عليّ " عزيزٌ " السؤال الأصعب الذي واجهته في حياتي . قال هل يمكن أن ترسل رسالة لجيل الشباب المعاصر ، تتكلم فيها بسبع دقائق تحت عنوان : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت .."

" ولو استقبلت من أمري ما استدبرت " كلمة باقية مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما هي مروية عن عمر بن الخطاب ، وعن كثيرين من أولي الأحلام والنهى ..

استقبلت السؤال من السائل ، فوقع عليّ وقوع صخرة عظيمة على باب غاري الضيق فظللت أتلجلج فيه ، كيف أجيب ؟؟؟

وعدت إلى سني الحياة الأولى بكل تضاريسها ومحطاتها الكبرى، وديانها وهضابها ومنعرجاتها وانكساراتها ...

عدت إلى الإنساني منها ، وإلى الاجتماعي والثقافي والفكري ، وأنا إنسان أميز بين الثقافة والفكر ، فالثاني هو ابن الأولى وليس رديفا لها كما يردد عليّ الكثيرون ، عدت إلى الديني والمدني ، إلى النص والفهم ، إلى النمطي والسلوكي ، عدت إلى التابو الذي لم أستطع أن أقاربه حتى اليوم وهو خلط الناس بين الاحترام والتوقير وبين التقديس، وعدت إلى السياسي بكل أبعاده المثالية التي حلمنا بها والواقعية التي شجتنا فشجّتنا ، وعدت إلى الاقتصادي ومنعكساته وتداعياته ، وقيمة المال في حياة الناس ، وقد أُشربنا خطأ أن المال عند الناس لا يصغّر كبيرا ، ولا يكبر صغيرا . وعدت إلى العصبية التي ذموها لنا وهم يرضعونها أفانين ...وعدت .. وعدت .. ثم تساءلت ؛ كيف أرضى أن أصدم جيلا من الشباب اليافع بحقائق ما أدركتها إلا بعد السبعين ، وأنا اليوم أكرع كؤوس اليأس والندامة مترعة بالهم والحزن. ولولا شعاع أمل يربطني بالله لكنت اليوم في واد آخر .. ولكني على يقين أن الله لا يرضى لنا أن نكون مخادعين ولا مخدوعين .. وأستغفر الله أن نتلبس جلد الضحية، على غير نور من الله ولا برهان ...

 ولعله أكبر ذنب أذنبته في حياتي، حين أستقبل من أمري ما استدبرت أستحضره وأنا أقول : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ...

أأجيب على السؤال بغير الحق ، وذلك الذي أنفت منه منذ أربعين سنة ، أنا منذ أربعين سنة ، رجلٌ حَدثٌ ، أحدث الناس في مجالسهم بالحق الذي يكرهون .. فيميلون عني إلى الذين يحدثونهم بأخي الحق الذي إياه يشتهون ..

والآن أسألك يا ابن السبعين : كيف تقول للناس : لو استقبلت من أمري ما استدبرت بكل الصدق ، من غير تأول ، ولا اجتزاء ، ولا التفاف ، ولا تمويه ولا تجميل .. وكل ذلك درسناه وخبرناه ...

وهل تجدون معي أن في الصمت منجاة، وقرينك منهم يقول لك : إن الصدق مفسدة وأي مفسدة ؟؟؟!!! كان ذلك السؤال الأصعب الذي لم أجرؤ على الجواب عليه ، وما أظنني سأفعل ...

وسؤال آخر ألقي علي منذ أيام فأحرجني وأربكني ... وأجبت عليه ، ومازلت أحمل جوابي عبئا بين كتفي ...

وسألني : في أي إطار شاركت في الثورة ، وعلى أي مستوى ..؟؟؟؟

أطال صاحبي في شرح السؤال المربك، مما أعطاني فرصة لامتصاص الصدمة، ولإعادة ترتيب ذاتي، التي ضعضعها سؤاله ...، ولعلي أنصح من يسأل حين يوجه السؤال المربك ، أن لا يترك فرصة للمسئول المطلوب إحراجه ليلملم ذاته ..

وعدت إلى نفسي أسألها : في أي إطار شاركت في الثورة ؟؟؟ .. في أي إطار شاركت في الثورة وأنا الذي أحمل على كاهلي عبء انتماء عمره ستة عقود، كنت في خمسة منها مثل من يحمل الماء والحطب في أعراس الناس ..!!

وعندما انطلقت الثورة شعر القوم الذين حولي برشدهم ، أنها ثورتهم ، وأنني لا أصلح في هذه المرحلة حتى لحمل الماء والحطب؛ فحمل الماء والحطب في هذه المرحلة شرف لا يليق إلا بهم ..

هي كما قدروا مرحلة كما فرش العباءات وانتفاش الريش ، واحمرار العُرف؛ فُزويت وانزويت ، وطُويت فانطويتُ ، وأقصيتُ فانقصيت .. وهذا يسمونه في علم اللغة الفعل المطاوع .... وربما أطاوع في مثل طوي وأقصي وزوي .. ولكنني لا أطاوع أبدا في فعل مثل : كسر وانكسر ..

وقال لي الملازم الأول في الشعبة السياسية في حلب أحمد الحريري ، بعد ثلاث جلسات مصاولات تحت التهديد والوعيد : أعلم أنك صاحب حق في البعثة الجامعية، ولا أحد يتقدم عليك في هذا الحق ، وأنا أعدك بها، ولكن شرطي عليها أن تحلق لحيتك ، أو هذا الشعر عن وجهك كما قال !! ومع تعلقي بأمل هذه المنحة ، وحاجتي إليها ، وحلمي بها ، قلت لا .. قال سأترك لك أسبوعا حتى تفكر ، ومد يده لي بورقة فيها موعد معه بعد أسبوع .. قال أراك الأسبوع القادم بدون لحية ، وتأخذ حقك ، وحتى لو أردتُ لا أستطيع أن أمنحك إياه وأنت بهذه اللحية ...قلت : لا ، ولاحاجة لي بالموعد ..

 وعندما كنا طلابا في الجامعة ، وكانت العادة أن طلاب السنة الثانية يحصلون على تكليفات بساعات إضافية ، يتبلغون بأجورها أثناء دراستهم ، وكان في حلب مفتشان للغة العربية فريد جحا .. وحسن الخطيب .. وكان الثاني أسوأ من الأول وأشر مكانا ... مرت السنة الثانية ولم أحظ بتكليف كما حظي به كل زملائي ، وكانت تلك خصوصية ، وطويت تعففا وتكرما على خصاصة ...

ثم صرت إلى السنة الثالثة ، ولم أحظ بتكليف أيضا ، مع كوني في كل أعوام دراستي من الأوائل المشهود لهم بالتقدم ، حتى كنت أحظى بالمكافأة التي تقدم للطلاب المتفوقين .. ومع ذلك حظيت بالرفض مرة أخرى

أحفظني الأمر وأحرجني وقررت أن أطالب بحقي، دون أن أكسر كبريائي، فذهبت إلى فريد جحا ، وقلت له : أنا فلان .. في الصف الثالث، ترتيبي في النجاح هو كذا ..، يسألني الناس : لماذا لم تحصل على تكليف ؟؟ وجئت أرجوك أن تعينني على جواب ..

فمد يدا يابسة إلى أوراق التكليف ، وكتب لي تكليفا على كره بست ساعات!! وكان من زملائي الراسبين في النحو والأدب من يستمتع 18 ساعة عمل !!!

أقول وأكثر من تضرر من انتشار المصابيح الكهربائية أصحاب مصانع الفوانيس ولمبات الكاز .. أيها الناس أطفئوا مصابيحكم .

وسألني الرجل : في أي إطار شاركت في الثورة؟؟؟ فبلعت ريقي وقلت : شاركت في الثورة فردا .. مثل أي ثائر خرج من مصنعه أو من حقله أو من حيّه أو من واديه ..

وقال على أي مستوى ؟؟؟

قلت على المستوى الشعوري؛ أصلي وأدعو وأتعاطف متمنيا ومتألما .. وأنثر على طريق هذا وذاك بعض ما يصح في عقلي من أفكار !!!

تابعت المشهد طوال السنوات العشر يوما بيوم وحدثا بحدث، أوضح ما أظنه غامضا، أعلق على ما أظنه يحتاج إلى تعليق ، أسبق إلى قول يتهيب بعض الناس من تحمل مسئوليته ..

أصرخ بين يدي كل هاوية لئلا يهوي فيها من ما زلت أحب .. فإذا أصر وهوى ، علمت أنه لا يجدي البكاء ولا النحيب ..

وسألني ، وما زلت أدور ، وأين تكون في الغد ؟؟؟؟؟

قلت أمران : أطاوع في أفعال كثيرة إلا الانكسار ... وهذا طبع قديم وأما في منعرج اللوى فبعد أن أقمت فيه أربعين سنة .. فعاهد الله أن لا أكون ، ولعل هذا الكسب الجديد ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 919