الحرب غير المعلنة على الظاهرة الدينية

في غياب الإعلام المهني الذي يتسم بالحياد والموضوعية، تتداخل المفاهيم وتختلط الحقيقة بالوهم، ويصعب التمييز بين الحق والباطل على كافة الأصعدة.

ومن القضايا التي ستظل مثار لغط متواصل بسبب غياب الحياد والموضوعية عند إثارتها، مقولة «الإسلام السياسي» وتداعياتها. فهناك خلط مقصود بين ثلاث دوائر منفصلة يتم إدراجها جميعا ضمن هذا المفهوم. الأولى دائرة الإسلام كدين سماوي له رسالة وانتشار وأتباع في شتى أقطار الأرض.

والثانية التوجهات نحو العنف لدى بعض المحسوبين على هذا الدين وما يمارسه البعض من إرهاب أعمى. والثالثة الحركات الإسلامية التي تدعو لإقامة نظام سياسي مؤسس على الإسلام. ولكل من هذه الدوائر سماتها التي يفترض أن تكون واضحة في أذهان المهتمين بموضوع الإسلام وتجلياته خصوصا في نصف القرن الأخير. وبرغم تداخل هذه الدوائر إلا أن كلا منها يختلف عن الأخرى. هذا التداخل يسعى المغرضون، في دوائر الإعلام والسياسة، لتجاهله، فيطلقون ما يريدونه من توصيفات ومواقف إزائها، وفق ما تقتضيه مصالح الجهات المتصدية. وقد يظن البعض أن الاستهداف السلطوي في العالم الإسلامي او في الغرب انما يوجه ضد النزعات الإرهابية والمجموعات التي تمارس العنف، ولكن الحقيقة مختلفة. فربما كان الأمر كذلك قبل ثلاثة عقود مثلا، ولكنها تختلف اليوم تماما. فأصبحت الدوائر الثلاث للتصنيف تُستهدف بشكل مباشر لأسباب متباينة، ولكن الجهل ليس واحدا منها. فليس هناك سياسي كبير في دوائر التشريع أو الممارسة الغربية لا يدرك الفروق المذكورة، ولكن يتم تجاهل هذه الفروق ويتم التعامل مع الظاهرة الإسلامية بشكل عام بأساليب متشابهة. بل إن التشريعات التي تشهدها بعض الدول الأوروبية تؤكد أن المستهدف ليس الحركات ذات نزعات العنف او الإرهاب، بل حتى الممارسة الدينية التقليدية.

في الشهر الماضي حذّر مسؤولون كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس في فرنسا، عبر رسالة مشتركة، الحكومة والبرلمانيين من مخاطر مشروع قانون مثير للجدل ضد (الإسلام السياسي) يقوّض برأيهم حرية العبادة وتكوين الجمعيات. وكتب المسؤولون الدينيون: «نعبر اليوم علانية عن قلقنا بشأن مشروع قانون ترسيخ مبادئ الجمهورية» الذي يستهدف الإسلام السياسي. وحمل النص توقيع المطران إريك دي مولين بوفور، رئيس مجمع أساقفة فرنسا والقس فرنسوا كلافيرولي رئيس الاتحاد البروتستانتي في فرنسا والمتروبوليت الأرثوذكسي إيمانويل أداماكيس.

وشدد رجال الدين على «أن مشروع القانون قد يقوّض الحريات الأساسية وهي حرية العبادة وتكوين الجمعيات والتعليم وحتى حرية الرأي». وأضافوا أن «الدولة تتدخل في تحديد ما هو ديني» في بلد فصلت فيه الكنيسة عن الدولة منذ 1905، متسائلين «ما فائدة تعقيد حياة الجمعيات الدينية المنصوص عليها في قانون 1905؟». هؤلاء المسؤولون أدركوا ثلاث حقائق مهمة:

أولاها توجه الدولة العلمانية في عهد إيمانويل ماكرون نحو المزيد من العلمنة والتقليص من دور الدين في الحياة العامة.

ثانيها: إن مشروع القانون الذي بدا في ظاهره استهدافا لـ «الإسلام السياسي» انما يستهدف الدين في ممارساته العقيدية والعبادية، وليس موجها ضد المجموعات المنتمية لتيار العنف والتي تمارس الإرهاب فحسب. ثالثها: إن استهداف الإسلام كدين وممارسة عبادية واخلاقية انما هي نقطة البدء في مشروع يستهدف الظاهرة الدينية كلها بمصاديقها الدينية المتعددة. هذا الوعي يفترض أن يتجسد لدى علماء الدين والنشطاء المسلمين، لكي لا ينساقوا وراء مشاريع وقوانين في الغرب تستهدف أساسا الظاهرة الدينية والإيمان الذي تتقلص مساحته في الحياة العامة. وتعتبر فرنسا رائدة التصدي للظاهرة الدينية خصوصا الإسلامية منها، بمنع ارتداء الحجاب في المدارس والسعي للسيطرة على المساجد والسعي الدائم لـ «علمنتها».

قبل أسبوعين أصدرت وزارة الزراعة الفرنسية مرسوما بموجب قرار صادر عن الحكومة، يقضي بحظر الذبح الحلال. هذا التطور يضاف لقرارات أخرى اولها منع الحجاب في المدارس بقانون صدر في العام 2004. وجاء في بيان صادر عن مساجد باريس وليون وإيفري أن إدارييها اجتمعوا لمناقشة تعميم وزارة الزراعة والأغذية الفرنسية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر، الخاص بذبح الدواجن. أن القرار رسالة سيئة للمجتمع المسلم «إذ سيحظر الذبح الحلال للدواجن اعتبارا من تموز/يوليو المقبل». وفي الشهر الماضي منعت سويسرا النقاب والبرقع في الأماكن العامة، إذ وافق السويسريون في استفتاء مُلزم بأغلبية ضئيلة على حظر النقاب وكل أشكال أغطية الوجه. وتم هذا الاستفتاء بناء على مقترح لليمين المتطرف رغم أن رؤية مسلمات منقبات يعد أمراً نادراً في البلاد. هذه الإجراءات ليست موجهة لـ «الإسلام السياسي» بل للممارسة الدينية الفردية. وقد بدأ حظر النقاب في الأماكن العامة بفرنسا، إذ كانت أوّل دولة أوروبية تحظر ارتداء البرقع والنقاب في الأماكن العامة. وتفادياً للاتهامات بالتمييز، لا يشير النص القانوني بشكل صريح إلى الحجاب الديني، وإنما جاء في صياغة مفتوحة: «لا يُسمح لأحد بارتداء قطعة ملابس تغطي الوجه في الأماكن العامة». وفي عام 2011 حذت بلجيكا حذو فرنسا ومنعت هي الأخرى النقاب في الأماكن العامة، كما لحقتهما في تطبيق هذا القرار كل من بلغاريا والدنمارك والنرويج وهولندا. أمّا ألمانيا فقد حظرت منذ عام 2017 النقاب عن الموظفات الحكوميات والجنديات اللاتي يجب أن تكون وجوههن مكشوفةً كلياً كجزء من واجباتهن.

هذه الإجراءات تتم تحت عنوان «التصدي للإسلام السياسي» ولكنها إجراءات ضد الالتزام الديني. هنا يتم الربط بين الالتزام الديني والتوجه نحو للعنف لدى بعض المجموعات الإرهابية. هذه المجموعات يفترض أن لا تصنف ضمن الحركات الإسلامية التقليدية التي كانت تعمل من أجل اقامة نظام إسلامي مؤسس على الحرية والعدالة، بديلا لانظمة القمع والاستبداد ا لمهيمنة على العالم العربي منذ عقود. ومن الممكن استيعاب أية إجراءات قانونية لمنع دعاة العنف والتطرف من مزاولة النشاط او استهداف الآخرين، فذلك ما لا يستقيم مع التوجه الإنساني للتعايش السلمي والسماح بالحريات العامة، ولا مع التوجيهات الإسلامية في القرآن الكريم التي تتيح للأفراد حرية التعبير والتجمع والمعتقد ولا تصادر ذلك الحق او تستهدف من يمارسه بالعنف أو الإرهاب. ولكن لا يمكن قبول أي مبرر لسلب حرية الافراد في اتباع الدين الذين يؤمنون به وحريتهم في ممارسته. كما يمكن استيعاب دوافع الغربيين لرفض مشروع الإسلام السياسي الذي تروجه مجموعات «الإسلام السياسي» لأن اطروحاته الفكرية والسياسية والاقتصادية مغايرة لاطروحات المشروع السياسي الغربي، بشرط ان يكون الرفض باساليب متحضرة لا تؤدي لاستهداف من يؤمن به ويعتبره مشروع حكم موازيا للمشروع الغربي. اما خلط التوجهات الثلاثة المذكورة في بوتقة واحدة وتصنيفها جميعا تحت عنوان «الإسلام السياسي» فهو تسطيح للفهم.

رموز «الإسلام السياسي» يدركون بوضوح مغزى الاستهداف الغربي لمشروع حكم مختلف عما لديه.

هذه الحرب ساهمت في التأثير على الذوق العربي والإسلامي العام تجاه قضاياعديدة. فقبل عقدين بدأ تراجع الدعم الشعبي لتجليات «الإسلام السياسي» نتيجة عوامل عديدة، الحرب الناعمة، القمع السلطوي للإسلاميين، صعود المجوعات المتطرفة والإرهابية وربطها عبثا بـ «الإسلام السياسي» تراجع أداء المجموعات الإسلامية التي وصلت الى الحكم في العراق والسودان والمغرب، والغياب التدريجي للرعيل الأول من رواد الصحوة الاول للصحوة الإسلامية. وساهم قمع ثورات الربيع العربي في ذلك ايضا. لكن القوى المعادية ربطت صعود الإسلام السياسي بتوسع دائرة الالتزام الديني، فتوسع اهتمامها تجاه الدين وبدأت تستهدف الالتزام باساليب شتى. وسيكون من نتائج ذلك ما يلي: اولا تصاعد الحرب الناعمة التي تستهدف الدين وسيكون لقوى الثورة المضادة دور أساسي في دعمها، ثانيها: انكماش (مؤقت) لظاهرة الالتزام الديني، ثالثا: تصاعد دعوات الإلحاد وموجته، رابعا: توسع الهيمنة الغربية والليبرالية على العالمين العربي والإسلامي. إنها دورة في المسار الإنساني المتغير بشكل طبيعي، حيث تصعد قوى وتتراجع أخرى، وتظهر فيه ظاهرة ثم تختفي.

وسوم: العدد 923