تجاوزوا الحد: التنسيق الأمني في ظل الأبارتهايد الصهيوني

لم يحظَ تقرير "هيومن رايتس ووتش" المعنون "تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد"، على الرغم من أهميته البالغة، باهتمام كافٍ من السلطة الفلسطينية أو الفصائل والقوى السياسية، ولعل بريقه قد خفت وسط ضجيج الانتخابات الزائف الذي عصف بالساحة الفلسطينية أخيرا، بل ويمكن القول إن من أسباب عزوف السلطة الفلسطينية عن إيلاء التقرير الذي تجاوز عدد صفحاته المئتي صفحة التوصيات المتعلقة بالسلطة الفلسطينية ذاتها، من حيث مسارها السياسي أو طبيعة التنسيق الأمني مع نظام الأبارتهايد الصهيوني.

لم يكن تقرير المنظمة الحقوقية العالمية الأول من نوعه، منذ أن ألغت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بناءً على دعوة الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الأب، في خطابه في الأمم المتحدة عام 1991، قرارها رقم 3379 لعام 1975، أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية. كان هذا عقب حرب الخليج، وضمن التحضيرات لمؤتمر مدريد للسلام، وسط صمت النظام العربي الرسمي وقيادة منظمة التحرير المخجل، إذ أصدرت المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان تقارير عدة، لعل أبرزها تقرير غولدستون بشأن جدار العزل الصهيوني، والذي وضعته السلطة الفلسطينية في الأدراج عام 2009، وعجزت عن متابعته تحت ضغوط أميركية وصهيونية، بدعوى عرقلته مسيرة السلام؛ وتقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) عام 2017، وأعده اثنان من أبرز خبراء القانون الدولي، ريتشارد فولك وفرجينيا تلي، وبإشراف ريما خلف. وتناول بالتفصيل نظام الأبارتهايد الصهيوني باعتباره جريمة ضد الإنسانية. وقد سُحب التقرير من التداول بسبب الضغوط التي مارستها الإدارة الأميركية. ولكن حيث إن الشمس لا تُحجب بغربال، تتالت أمثال هذه التقارير والدراسات والبحوث التي تفضح حقيقة الكيان الصهيوني، وترافق ذلك مع نمو حركات المقاطعة BDS وانتشارها في العالم، بما فيها منظمات الشباب، والمؤسسات الأكاديمية في أوروبا والولايات المتحدة ذاتها. وفي هذا العام، صدر تقرير منظمة بتسيلم الإسرائيلية الذي تضمّن، للمرة الأولى، إشارات واضحة إلى نظام الأبارتهايد الصهيوني. كما صدر قبل أيام تقرير مؤسسة كارنيغي، وهي مؤسسة بحثية أميركية قريبة من مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة، ويتناول فشل المسار السياسي، وتضمن فقرات واضحة تنص على أن ما يجري في فلسطين هو نظام أبارتهايد.

ما يميز تقرير "هيومن راتس ووتش" أنه صدر عن مؤسسة دولية عريقة، مقرّها الرئيس في الولايات المتحدة، ولها نحو أربعين فرعًا في دول العالم. وقد حظي بتغطية واسعة في وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية، غير أن إدارة الرئيس بايدن تناولته بتعليقٍ خجول لا يمسّ جوهره، بقدر ما يتساءل عن دقة وصف هذه الممارسات بنظام أبارتهايد عنصري مكتمل الأركان. في حين اعتبرته منظمة بتسيلم يمثّل إنذارًا أخيرًا للحكومة الإسرائيلية.

يضيق المجال عن عرض التقرير كاملًا، حسبنا القول إنه، وعبر الملخص الذي يقدّمه وفصوله الخمسة وتوصياته الشاملة، يخلص إلى أن "الحكومة الإسرائيلية أظهرت نيتها في الحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي التي تسيطر عليها". و"اقترنت هذه النية بالقمع المنهجي للفلسطينيين، والأفعال اللاإنسانية ضدهم، وذلك يرقى إلى جريمة الفصل العنصري"، ويتهم التقرير السياسة الإسرائيلية "بالسعي وراء أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من الفلسطينيين".

بإيجاز، يعتبر التقرير الفصل العنصري والاضطهاد جريمتين ضد الإنسانية، يعاقب عليهما القانون الدولي، وهي جرائم تُمارس ضد الفلسطينيين كلهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948، وضد الفلسطينيين الذين طُردوا من ديارهم وهُجّروا منها، ومُنعوا من العودة إليها، في حين يُباح ذلك لليهود. ويؤكد التقرير على عدم صحة الافتراض السائد أن الاحتلال الإسرائيلي وضع مؤقت، وأن من شأن عملية السلام أن تنهي الانتهاكات الإسرائيلية، فذلك يهدف إلى إخفاء الحقائق على الأرض، ليخلُص إلى أن المسؤولين الإسرائيليين قد ارتكبوا جريمتين ضد الإنسانية، ممثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد. وما يميز التقرير أيضًا أنه انتقل من وصف الواقع إلى إصدار الأحكام، ثم إلى تعداد الإجراءات التي على المجتمع الدولي اتخاذها في مواجهة هذه الجرائم، فيعدد نحو 13 نقطة على إسرائيل الالتزام بها، ويطالب المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق بشأن المتورّطين في هذه الجرائم. أما الأمم المتحدة فعليها إنشاء لجنة تحقيق دولية، ولجان متابعة، وعلى مجلس الأمن الدولي أن يتخذ قرارًا بأن تفرض الدول الأعضاء عقوباتٍ مثل منع السفر، وتجميد الأصول، ووضع قيود على مبيعات الأسلحة، وقيود على التجارة. كما يوجه نداءً إلى جميع الدول لتطبيق مثل تلك الإجراءات، وإدراج الجريمتين في القانون الجنائي الوطني بهدف التحقيق مع الأفراد المتورّطين ومقاضاتهم.

يوجه التقرير عناية خاصة إلى الولايات المتحدة، فيطلب من الرئيس الأميركي إصدار بيان رسمي يُعرب فيه عن قلقه من ارتكاب السلطات الإسرائيلية جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد. أما وزارات الخارجية والدفاع والخزانة فعليهم فرض شروط لبيع الأسلحة والمعدّات العسكرية لإسرائيل، وإصدار تقييم وتقرير علني بشأن استخدامها في ارتكاب تلك الجرائم، وفرض حظر على التأشيرات، وتجميد الأصول، وفق قانون ماغنيسكي الدولي للمساءلة في حقوق الإنسان، كما يطلب من الكونغرس الأميركي الطلبات ذاتها، ومراجعة عمل الحكومة حول ذلك، وثمّة بنود مشابهة موجهة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وبرلمانه.

وثمّة توصيتان تعنيان الفلسطينيين؛ أولاهما موجهة إلى منظمة التحرير، والثانية إلى السلطة الوطنية، وتعبران عن حالة متقدمة من فهم واقع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؛ فتدعو التوصية الأولى منظمة التحرير إلى تبني استراتيجية مناصرة تتمحور حول الإعمال الفوري لحقوق الإنسان الكاملة للفلسطينيين، بدلًا من استراتيجية تؤخر إعمال حقوق الإنسان لصالح نتيجة سياسية معينة. وتعتبر هذه التوصية وصفًا دقيقًا للمآل الذي وصل إليه وهم الحلول السياسية والمفاوضات في ظل نية إسرائيل الكاملة الاحتفاظ بالأرض الفلسطينية كلها، وبأقل عدد ممكن من السكان، ووهم فرضية أن هذا الاحتلال وضع مؤقت، كما ذكر التقرير، يمكن الخلاص منه عبر المفاوضات، ومحاولات التوصل إلى تسويةٍ سلمية، وهو ما بدأت به منظمة التحرير منذ برنامج النقاط العشر عام 1974، وتكرّس في اتفاق أوسلو لاحقًا، ولا تزال تدور في الدائرة ذاتها، وعيناها مغمضتان عن الحقائق التي تجري على الأرض. وهي مسألة تتعلق بفهم الحركة الصهيونية وأهدافها، واتباع الاستراتيجيات الكفيلة بالتحرّر منها، ولعل هذه إحدى النقاط المهمة التي لفت تقرير "إسكوا" عام 2017، النظر إليها، إذ اعتبر الخلاص من نظام الأبارتهايد والتمييز الصهيوني لا يتعلق بتعديل قانون من هنا أو هناك، وإنما بتفكيك البنية الصهيونية كاملة.

أما السلطة الفلسطينية، فيطلب منها التقرير "إدراج الجرائم ضد الإنسانية، بما فيها جريمتا الاضطهاد والفصل العنصري، في القانون الجنائي الوطني"، و"وقف جميع أشكال التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي، والذي يساهم في تسهيل جرائم الفصل العنصري والاضطهاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة"... التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني ليس مقدسًا كما ورد في خطاب سابق للرئيس محمود عبّاس، بل هو مساهمة من السلطة في تسهيل الجرائم الصهيونية، بحسب تعبير "هيومن رايتس ووتش" التي تشخص، من خلال تقريرها وتوصياتها، الحالة الفلسطينية بدقة متناهية، فهي إذ تنتقد بوضوح المسار السياسي الحالي، وتدعو إلى مسار بديل، فإنها ترى أن التنسيق الأمني يسهل الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ويقدّم عونًا لها. تؤكد الملاحظتان بوضوح أن السلطة الفلسطينية، بوضعها الحالي، تشكل ظلًا للاحتلال والممارسات الصهيونية، وتقدّم لها غطاءً يتناقض مع نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه. ومن ناحية أخرى، يمكن إحالة توصيات التقريرين السابقين أيضًا إلى النظام العربي الرسمي الذي يصر على المسار السياسي ذاته، فيقدّم غطاء لتكريس واقع الاحتلال على الأرض، بالاستمرار في تقديم وعود بحلول واهية، كما أن دولا عربية تشارك في ارتكاب الجريمة، بحسب القانون الدولي، بنقلها التطبيع الذي هو جريمة بحد ذاته إلى سقف أعلى، هو التحالف والتعاون الأمني مع العدو الصهيوني.

يؤكد تقرير "هيومن رايتس ووتش" على صحة التحليل الذي تناوله باحثون ومفكرون فلسطينيون عديدون بشأن ضرورة مراجعة الاستراتيجية الفلسطينية الحالية، واستبدالها بأخرى قائمة على أن هذه المرحلة ليست مرحلة طرح حلول، وأن الحلقة المركزية للنضال الفلسطيني في هذه المرحلة هي النضال ضد نظام الأبارتهايد الصهيوني الذي يشمل الأرض الفلسطينية كلها والشعب الفلسطيني كله، بمن فيه فلسطينيو الشتات المحرومون من حق العودة، وأن الحل النهائي للقضية الفلسطينية يتمثل في تفكيك الصهيونية، وإعادة حقوق الشعب الفلسطيني كاملة على أرضه كلها، وتتضمن هذه الاستراتيجية أساليب مختلفة من النضال، بحكم اختلاف الظروف التي يقع ضمنها الشعب الفلسطيني.

الشعب الفلسطيني بحاجة إلى مشروع وطني يستنهض هممه، ويحرّر بلاده، ويعيد حقوقه. والعدو الصهيوني أضعف مما نتخيل، وعلينا أن نذكر أن الولايات المتحدة كانت الدولة الأخيرة التي قاطعت النظام العنصري في جنوب أفريقيا. ولعلنا أمام نهاية مرحلة تم فيها بيعنا الوهم، وأمام بداية مرحلة تتقدّم بها أكثر نحو فلسطين حرة وكاملة.

وسوم: العدد 927