إستراتيجية الأمن والاقتصاد والديمقراطية

ثلاثة عناوين كانت المحاور الضمنية للقاءات الرئيس الأميركي بايدن مع زعماء دول "مجموعة السبع" و"الناتو" وقادة الدول الأوروبية: الأمن والاقتصاد والمسألة الديمقراطية.

طبعًا، على سطح هذه اللقاءات كان الحديث عن جائحة كورونا وقضية المناخ والتعاون الثنائي، لكن الهدف الأساس لإدارة بايدن في هذه المرحلة هو حشد أصدقاء أميركا خلف الإستراتيجية الأميركية المقرّرة منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، والتي تعتبر الصين وروسيا هما الخصمان المنافسان لأميركا في هذا القرن الجديد، بعدما استطاعت الولايات المتحدة أن تجعل من القرن العشرين قرنًا أميركيًا في مجالاتٍ مختلفة.

فترتيب العلاقات مع حلفاء أميركا الأوروبيين وأعضاء "الناتو" هو أولية مهمّة لإدارة بايدن بعدما توتّرت هذه العلاقات في فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، نظراً لأهمّية دور الأوروبيين في سعي واشنطن لتقليص وتخفيض حجم نموّ الدورين الروسي والصيني على مستوى العالم بأسره، بما فيه مع بعض الدول الأوروبية. ولذلك، دفعت إدارة بايدن باتّجاه جعل القمم الأميركية الأوروبية الأخيرة وكأنّها وقفة تضامن مشتركة بين ضفّتيْ الأطلسي ضدّ سياسات وممارسات صينية وروسية.

فعنوان "الأمن" هو الحافز الآن لتعزيز دور "الناتو" في أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا الاتّحادية. وعنوان "الاقتصاد" هو خلف "المشروع الأخضر" وتطوير "البنى التحتية" لبايدن، إضافةً إلى ما جرى الحديث عنه في اللقاءات الأميركية الأوروبية الأخيرة من أهمّية مساعدة الدول النامية، بينما المستهدَف هو الصين وما تقوم به حكومة بكين في هذه الدول ومعها من مشاريع عمرانية وإعادة بناء البنى التحتية فيها، وبما بات يُعرف باسم "طريق الحرير الجديد".

أمّا عنوان "المسألة الديمقراطية" فهو سلاح قديم – جديد استخدمته الولايات المتّحدة في فترة الحرب الباردة مع "المعسكر الشيوعي" وتريد واشنطن إعادة استخدامه الآن في مواجهة الصين وروسيا من خلال التركيز على أنّ الاقتصاد الصيني ينمو ويتقدّم بشكلٍ سريع بسبب تسخير اليد العاملة الصينية دون احترام ومراعاة لحقوق الإنسان وشروط العمالة الصحّية من حيث الأعمار وساعات العمل وقيمة الأجور. وعلى الجانب الروسي، فإنّ "الديمقراطية" تطال الآن موسكو من خلال  ما يتمّ اتّهام الرئيس بوتين به من مسؤولية عن قتل معارضين له ومن تدخّلٍ في انتخابات دولٍ أخرى.

إنّ الإدارات الأميركية السابقة في حقبة القرن العشرين أقامت علاقاتٍ جيّدة جدًّا مع الصين إبّان "الحرب الباردة" لتعزيز الانقسام في "المعسكر الشيوعي" بين موسكو وبكين، أمّا في العقد الثاني من القرن الحالي فقد وضعت واشنطن الصين وروسيا في خانة المنافسين الأساسيين للقطب الأميركي ويجري التعامل معهما الآن بنظرة سلبية واحدة.

ثلاثون عامًا مضت على انهيار "المعسكر الشيوعي" الذي كانت روسيا تقوده لعقودٍ من الزمن، ولقد انتهى "حلف وارسو" مع نهاية "المعسكر الشيوعي"، لكن لم ينتهِ معه "حلف الناتو" الذي سقط مبرّر وجوده بسقوط الاتّحاد السوفييتي، بل على العكس، فقد تمدّد "الناتو" من أوروبا الغربية التي كانت ميدانه الأساسي إلى عدّة دول في شرق أوروبا تجاور روسيا الاتّحادية، وتحوّلت العاصمة البولندية وارسو إلى مركز مهمّ جدًّا لأنشطة "حلف الناتو" وخططه العسكرية.

وشهدت حقبة التسعينات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي سياساتٍ أميركية تتّصف بالهيمنة والتفرّد في قيادة العالم كلّه، وبالسعي لتطبيق مفهوم الإمبراطورية الواحدة المهيمنة على الكرة الأرضية بأكملها. وكانت حقبة التسعينات هي العصر الذهبي لسياسة الأحادية القطبية الأميركية في تزامنٍ مع الخلل الكبير الذي حدث في القيادة الروسية قبل تولّي الرئيس بوتين الحكم. 

لكنّ الدول الغربية، أو دول العالم الرأسمالي، أشبه بجسمٍ رأسه في الولايات المتحدة ودماغه في واشنطن، وحينما يحصل أي عطب في هذا الدماغ فإنّ الجسم كله ينعطب. وقد حدث ذلك اقتصاديًّا في العام 2008 حينما اهتزّ الاقتصاد الأوروبي بسبب الأزمة المالية في الولايات المتّحدة ونتائج الحروب على العراق وأفغانستان. ثمّ عانت أوروبا من أزماتٍ سياسية واجتماعية بسبب أيضًا ما كانت عليه واشنطن من أجندة ومن انتعاش للعنصرية والشعبوية في الولايات المتّحدة خلال فترة حكم دونالد ترامب. وحدث ذلك كلّه بينما ازدادت روسيا الاتّحادية والصين قوّةً وانتشارًا في قارّات الأرض وفي فضائها.

إنّ العالم شهد هبوطًا متدرّجًا لدور الإمبراطورية الأميركية مقابل تصاعدٍ ملحوظ لدور روسيا والصين، وما حدث ويحدث من توتّر وخلافات، بين الولايات المتحدة وكلٍّ من روسيا والصين، ليس بغيوم عابرة تصفو بعدها العلاقات بين هذه القوى الكبرى. لكن أيضًا، ما نشهده من أزمات سياسية بين هذه البلدان ليس بحربٍ باردة جديدة بين أقطاب دولية. ف"الحرب الباردة" في القرن العشرين قامت على تهديدات باستخدام السلاح النووي (كما حدث في أزمة صواريخ كوبا بمطلع الستّينات) وعلى حروب ساخنة مدمّرة في دول العالم الثالث في سياق التنافس على مواقع النفوذ، وهي حالات بعيدة كلّها الآن عن واقع الأزمات الراهنة بين واشنطن وكلٍّ من موسكو وبكين. فأولويّات روسيا والصين والولايات المتّحدة الآن هي مصالحهم المباشرة، إذ رغم التباين والخلافات القائمة حاليًّا بين عواصم الأقطاب الدولية الثلاثة، فإنّ جميعها يحرص على إبقاء الصراع بين حكوماتها مضبوطًا بسقفٍ محدّد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتّجاه.

ويبدو أنّ عناوين الإستراتيجية الأميركية (الأمن والاقتصاد والديمقراطية) في مواجهة الصين وروسيا هي أيضاً حاجة أميركية كعناوين أجندة داخلية لإدارة بايدن. فالولايات المتّحدة هي نفسها بحاجة الآن لتعزيز "الأمن" في الأراضي الأميركية، بعد التصاعد الخطير في حوادث القتل الجماعي والعشوائي في عدّة مدن أميركية وفوضى حمل السلاح واستخدامه. وأميركا تحتاج أيضًا إلى "اقتصاد" أفضل ممّا هي عليه الآن لكي تنجح في المنافسة مع الغزو الاقتصادي الصيني للعالم وحتّى داخل الأسواق الأميركية، وهذا ما تحدّث عنه الرئيس بايدن منذ أسابيع قليلة حينما أشار الى الفارق الكبير بين البنى التحتية الأميركية المتخلّفة وبين ما هو قائمٌ من تقدّمٍ في الصين، وعن الحاجة إلى خطّة من الكونغرس بمليارات الدولارات لإعادة إعمارها. أمّا "الديمقراطية" فهي حتمًا بحال أزمة الآن في الولايات المتحدة، بعد الذي حصل في مبنى الكونغرس في مطلع العام من اقتحام مؤيّدين للرئيس السابق ترامب لقاعات الكونغرس، ووجود أكثر من ثلث عدد الناخبين الأميركيين الذين لا يقبلون بنتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة ويردّدون ما يكرّره ترامب حتّى الآن من أنّه هو الفائز بهذه الانتخابات!. 

وسوم: العدد 934